عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

لجريان البراءة الشرعية أيضا وذلك لأنّ عمدة ما توهم كونه مانعا عن جريان البراءة العقلية أمران الأوّل لزوم تحصيل الغرض المردّد ترتبه على الأقل والأكثر الثاني أنّ الأقل المعلوم وجوبه على كلّ تقدير هو الطبيعة المردّدة بين الاطلاق والتقييد فكلّ من الاطلاق والتقييد مشكوك فيه فلا ينحل العلم الإجمالي لتوقفه على اثبات الاطلاق فما لم يثبت الاطلاق كان العلم الإجمالي باقيا على حاله وعليه يكون الشك في سقوط التكليف باتيان الأقل لا في ثبوته فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال دون البراءة ومن الظاهر أنّ كلا من هذين الوجهين لو تم لكان مانعا عن الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا.

أمّا الوجه الأوّل فلأنّ الغرض الواصل بالعلم الإجمالي لو لزم تحصيله على كلّ تقدير كما هو المفروض فلا ينفع الرجوع إلى مثل حديث الرفع مع الشك في حصول الغرض باتيان الأقل إذ غاية ما يدلّ عليه حديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة الشرعية هو رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهر أو من المعلوم أنّ رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهرا لا يدلّ على كون الغرض مترتبا على الأقل إلى أن قال وأمّا الوجه الثاني فلأنّ جريان البراءة عن الأكثر أي عن تقييد الأقل بانضمام الأجزاء مشكوك فيها لا يثبت تعلّق التكليف بالأقل على نحو الاطلاق إلّا على القول بالأصل المثبت لما ذكرناه مرارا من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت هو تقابل التضاد إذ الاطلاق بحسب مقام الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة بنحو السريان واللابشرط القسمي والتقييد عبارة عن لحاظها بشرط شيء والطبيعة الملحوظة بنحو لا بشرط مضادة مع الطبيعة الملحوظة بشرط شيء ومع كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد لا يمكن اثبات الاطلاق بنفي التقييد ومعه لا ينحل العلم الإجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط فلا تجري البراءة النقلية كما لا تجري البراءة العقلية (١).

واجيب عن الوجه الأوّل المذكور في مصباح الاصول أوّلا بالنقض بموارد الشبهات

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٣٨ ـ ٤٤١.

٢٠١

البدوية فإنّ أدلة البراءة (الشرعية) لو كانت تؤمن من ناحية التكليف فقط دون الغرض فاحتمال الغرض في موارد الشبهة البدوية لا مؤمن عنه سوى البراءة العقلية على القول بها وهذا معناه أنّ البراءة الشرعية في الشبهات البدوية بحاجة إلى ضم البراءة العقلية دائما فيلزم لغويتها إلى أن قال وثانيا بالحلّ وهو أنّ التكاليف تنجيزا أو تعذيرا إنّما تلحظ بمعناها الحرفي وبما هي حافظة لما ورائها من المبادي والأغراض إذ بقطع النظر عن ذلك لا تكون إلّا اعتبارات جوفاء لا معنى للتنجيز أو التعذير عنها فالبراءة الشرعية الجارية عن التكليف المشكوك تؤمن بالدلالة العرفية المطابقية عن روح التكليف وجوهره وهو الغرض من ورائه انتهى موضع الحاجة (١).

واجيب عن الوجه الثاني المذكور في مصباح الاصول بما في تهذيب الاصول من أنّ الأجزاء كلها في رتبة واحدة وليس بعضها جزءا وبعضها شرطا لبعض بل الأمر دائر بين تعلّق التكليف بالأقل أي المركب المنحل إليه أو الأكثر (٢).

ولعلّ إليه يؤول ما في تسديد الاصول من أنّه لو تعلّق الأمر بالأكثر لكان مشكوك الجزئية في عرض سائر الأجزاء من مقومات المركب ويتعلّق الأمر بمجموع الأجزاء الذي هو عبارة أخرى عن المركب لا أنّ الأمر يتعلّق بالأقل ويكون المشكوك الجزئية قيدا له حتّى يكون من باب المطلق والمقيّد (٣) وعليه فاثبات وجوب الأقل لا يحتاج إلى اثبات الاطلاق بأصالة عدم التقييد بل وجوب الأقل بناء على الانحلال كما عرفت مقطوع وإنّما الشك في الزائد فيمكن رفعه بأصالة عدم وجوب المشكوك جزءا نعم بناء على عدم الانحلال كما ذهب إليه صاحب الكفاية لا يجري أصالة عدم وجوب الأكثر لمعارضتها مع أصالة عدم وجوب الأقل ولكنّ تجري أصالة عدم الجزئية وممّا ذكرناه ينقدح أنّه لا وقع للايراد على صاحب الكفاية في اختياره جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى جزئية

__________________

(١) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٤٥.

(٢) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٢٩.

(٣) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٢٩.

٢٠٢

المشكوك إلّا ما يقال من ان الجزئية من الامور الانتزاعية النسبية ولا تدخل تحت الجعل التشريعي القانوني حتّى يصحّ رفعها بل الذي يقع تحت الجعل هو الوجوب والطلب والمفروض أنّ رفع وجوب الأكثر معارض مع رفع وجوب الأقل بناء على عدم الانحلال كما ذهب إليه صاحب الكفاية.

ويمكن الجواب عنه بأنّ الجزئية والشرطية وإن لم تكونا مجعولتين ابتداء ولكنهما من توابع جعل الوجوب والطلب ولا مانع من تحقّق الجزئية والشرطية واقعا بتبع الطلب ووجوب المركب أو المشروط وعليه فيمكن رفع فعليتهما ظاهرا عند الشك فيهما ببركة حديث الرفع كما نقول بذلك في المانعية أيضا.

إلّا أنّ مقتضى كون الجزئية الشرطية والمانعية تابعة للوجوب والطلب ان الرفع ينتهي إلى الوجوب والطلب مع أنّ صاحب الكفاية لم يقل بالبراءة بالنسبة إلى الوجوب والطلب لتوهم المعارضة بين رفع وجوب الأكثر مع رفع وجوب الأقل فالتفصيل المذكور في الكفاية بين البراءة العقلية وبين البراءة الشرعية بعد ما اختاره من عدم الانحلال محلّ تأمل بل منع كما لا يخفى.

بقي هنا إشكال آخر وهو أنّ ارتفاع الأمر الانتزاعي يكون برفع منشأ انتزاعه وهو وجوب الأكثر ومعه لا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه وهو الأقل.

واجيب عنه بأجوبة منها ما أشار إليه صاحب الكفاية حيث قال نعم وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه إلّا انّ نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء إليها نسبة الاستثناء وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلّا مع الجهل بها (مع نسيانها) كما لا يخفى (١).

وتوضيح ذلك كما في تسديد الاصول أنّ المولى قد بيّن جميع أجزاء المركب حتّى الجزء المشكوك أيضا لو كان جزءا وحينئذ فإن كان في نفس الأمر لا جزئية للمشكوك لما كان

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٣٥ ـ ٢٣٨.

٢٠٣

شك في أنّ الأقل هو المأمور به وإن كان قد بيّن جزئيته في دليل لم نقف عليه بعد الفحص اللازم فحيث إنّ هذا الدليل باطلاقه شامل للعالم والجاهل فحديث الرفع يحكم بنفي وجوبه أو جزئيته بالنسبة إلى الجاهل ويكون هذا الحديث مقدما على ذلك الدليل الواقعي ، موجبا لاختصاص مفاده بخصوص العالم به ولا محالة يكون الحديث بمنزلة استثناء وتقييد بالنسبة إلى دليل الجزئية ويكون مقتضى الجمع بين أدلة سائر الأجزاء أنّ الصلاة مثلا للجاهل بجزئية السورة هي خصوص الفاقد أعني اللابشرط عن السورة غاية الأمر أنّ هذا الرفع والنفي تنزيلي ادعائي ظاهري تحفظا على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وهو لا يضرّ بما نحن بصدده إذ مآله أنّه يعامل المكلّف معاملة من تعلّق وظيفته وأمره واقعا باللابشرط عن المشكوك وهو كاف لما نحن بصدده.

فالحاصل أنّا نعلم تفصيلا بتعلق الأمر بالأقل إلّا انّ هذا العلم التفصيلي نتيجة علم اجمالي فإنّه نعلم أنّه لو لم يكن المشكوك جزءا في نفس الأمر فالأمر الواقعي تعلّق بالأقل وإن كان جزءا بحسب الواقع فبعد تقييد إطلاق دليل جزئيته فلا محالة كأنه ليس جزءا للجاهل ويتعلّق الأمر بما عداه (١) وعليه فهذا الاشكال مندفع بالجواب المذكور وكيف كان فتحصّل إلى حد الآن أنّ المختار في الأقل والأكثر الارتباطيين هي البراءة سواء كانت عقلية أو شرعية وهي تجري في الجزء الزائد المشكوك ويحكم بوجوب الأقل ولا تفكيك بين البراءتين.

ودعوى : أنّ البراءة لا تجري مع الأصل المحرز وفي المقام يجري الاستصحاب فإنّ الواجب مردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع إذ التكليف لو كان متعلقا بالأقل فهو مرتفع بالاتيان به ولو كان متعلقا بالأكثر فهو بعد الاتيان بالأقل باق يقينا وعليه فبعد الاتيان بالأقل نشك في سقوط أصل التكليف المتيقن ثبوته قبل الاتيان به فيستصحب بقاءه على نحو القسم الثاني من استصحاب الكلي وبعد جريان هذا الاستصحاب والحكم

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٠٤

ببقاء التكليف يحكم العقل باتيان الأكثر تحصيلا للعلم بالفراغ ولا مجال للبراءة.

مندفعة : بما في مصباح الاصول من أنّ الرجوع إلى القسم الثاني من استصحاب الكلي إنّما هو فيما إذا كان الفرد الحادث مرددا بين المرتفع والباقي وأمّا لو كان أحد الفردين متيقنا والآخر مشكوكا فيه فيجري الأصل بلا معارض فلا يصل النوبة إلى استصحاب الكلي كما إذا كان المكلّف محدثا بالحدث الأصغر ثمّ احتمل عروض الجنابة له بخروج بلل يحتمل كونه منيا ففي مثل ذلك لا معنى للرجوع إلى استصحاب الكلي بعد الوضوء لأنّ الحدث الأصغر كان متيقنا إنّما الشك في انقلابه إلى الأكبر فتجري أصالة عدم حدوث الأكبر وبضم هذا الأصل إلى الوجدان يحرز الفرد الحادث وأنّه الاصغر فلم يبق مجال لجريان استصحاب الكلي (١). وبعبارة اخرى حدوث وجوب الأقل معلوم ولا مجال للاستصحاب فيه وإنّما يجري الاستصحاب في عدم حدوث وجوب الأكثر.

اللهمّ إلّا أن يقال : فمع جريان استصحاب عدم حدوث وجوب الأكثر لا مجال للبراءة لأنّ الاستصحاب أصل محرز إلّا أن يقال لا مانع منه لأنّ الاصول متوافقة وأدلة اعتبار الاصول لا تمنع عن جريان المتوافقة بل تختص منعها بالمتخالفة فتدبّر.

هذا كلّه حال الأصل العقلي والشرعي بالنسبة إلى الأقل والأكثر الارتباطيين من الواجبات التوصلية.

وأما الأقل والأكثر الارتباطيين من الواجبات التعبدية فمحصّل القول فيها أنّها كالتوصليات من حيث جريان البراءة في القيود والتفصيل في ذلك أنّه إن قلنا بامكان اخذ قصد القربة في المأمور به وعلمنا بأخذه فيه فقصد القربة يصير حينئذ كالأجزاء المعلومة في لزوم اتيانها فيجب الاتيان بالأقل متقربا إلى الله تعالى.

وإن شككنا في أخذه وعدمه بعد امكان أخذه فهو كسائر الأجزاء المشكوكة يجري فيه أصالة البراءة وإن قلنا بعدم امكان اخذ قصد القربة في المأمور به وكونه من الأغراض

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٤٤٤.

٢٠٥

المترتبة على الأمر فقد قال في الدرر بأنّ تنجزه حينئذ تابع لتنجز الأمر إذ لا يعقل عدم تنجز الأمر الذي هو سبب لتنجز الغرض وتنجزه فكما أنّ العقل يحكم في الشبهات البدوية بعدم تنجز الغرض المترتب على الأمر على المكلّف كذلك هنا على القول بالبراءة (أي يحكم بعدم تنجز الغرض في مورد البراءة وهو الأكثر عند الشك في الأقل والأكثر فلا يجب الاتيان بالأكثر في التعبديات أيضا إذ لا موجب له كما لا يخفى).

نعم لو كان التكليف متعلقا بالأقل يجب على المكلّف امتثاله على نحو يسقط به الغرض إذ الحجة قد قامت عليه والمفروض أنّه يأتي بالأقل المعلوم بقصد الاطاعة لا بأغراض أخر (١).

مقصوده من قوله والمفروض أنّه يأتي الخ أنّ مع الاتيان بالأقل وتحركه بأمر المولى فقد حصل الحسن الفاعلي فإن صادف الأقل مع المأمور به بالامر النفسي الواقعي صارت عبادة وإلّا كان ما أتى به انقيادا محضا فلا مجال للقول بالاحتياط في التعبديات بدعوى أنّ قصد التقرب ممّا يكون معتبرا في التعبدي بالشبهة إما بنحو الدرج في المأمور به أو بنحو الدخل في الغرض وعلى كلّ حال تكون له العهدة والواجب الغيري لا يصحّ التقرّب به إلّا توصلا إلى الواجب النفسي وأمّا به مستقلا فقد قرر في محله أنّه غير صالح لافادة هذا فلاجل احراز هذا الأمر المبين الثابت في العهدة لا محيص عن الاحتياط باتيان الأكثر والمقيّد في التعبديات.

وذلك لما عرفت من جريان البراءة بالنسبة إلى قصد القربة والأكثر المشكوك وكفاية الاتيان بالأقل بداعي الأمر به في تحقّق العبادة عند المصادفة وفي تحقّق الانقياد عند الخطأ ولا حاجة إلى الاتيان بالأكثر قال شيخنا الاستاذ الاراكي قدس‌سره وبالجملة فمن حيث القيود والأجزاء الخارجية حال التعبدي كالتوصلي في جريان أصالة البراءة العقلية عن الزائد المشكوك فيه ومن حيث الأمر الباطني الخاصّ بباب التعبدي فهو ليس إلّا الانقياد والحسن الفاعلي والعبد إذا احتمل أمر المولى في مورد نفسيا وصار احتمال وجوده داعيا له كفى هذا في

__________________

(١) الدرر / ص ٤٧٨.

٢٠٦

حسنه الفاعلي (١).

والتحقيق أنّ قصد القربة باتيان الأقل حاصلا سواء كان الواجب في الواقع هو الأقل أم الأكثر لتعلق الأمر بكل جزء فلا مورد للانقياد حتّى يقال أنّه اطاعة أو انقياد فلا تغفل هذا كلّه هو الجهة الاولى في جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين من الأجزاء الخارجية وأمّا الجهة الثانية فهي كما تلي :

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية

الجهة الثانية في جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء التحليلية وهي على أقسام.

القسم الأوّل : أن يكون ما احتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطية موجودا مستقلا في الخارج كالتستر بالنسبة إلى الصلاة والحكم فيه هو البراءة كما عرفتها في الشك في الأجزاء عقلا ونقلا والكلام فيه هو الكلام في الأجزاء حرفا بحرف ولا نطيل بالاعادة.

القسم الثاني : أن يكون ما احتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطية متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجي كالايمان في الرقبة المؤمنة ولم يكن من مقومات المأمور به ففي هذه الصورة ربّما يقال إنّه ليس ممّا يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدمة فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

وأجاب عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ الانصاف عدم خلو المذكور عن النظر فإنّه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البراءة من العقل والنقل لأنّ المنفي فيها الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما

__________________

(١) أصول الفقه / ج ٣ ، ص ٧٠٦.

٢٠٧

في التكليف المطلق وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج (١).

ودعوى : أنّ كلّ مورد تكون الخصوصية المشكوكة فيه راجعة إلى نفس متعلّق التكليف بحيث توجب سعة التكليف وزيادته عرفا ودقة كانت مجرى البراءة شرعا لأنّها تقبل انبساط التكليف فالشك فيها يكون الشك في تكليف زائد مع وجود قدر متيقن في البين هو ذات المقيّد فيتحقّق الانحلال المدعى وذلك نظير الطهارة مع الصلاة فإنّ الصلاة مع الطهارة والصلاة بدونها بنظر العرف من الأقل والأكثر فالصلاة مع الطهارة صلاة وزيادة وترك الطهارة واتيان الصلاة بدونها يكون ايجادا للفرد الناقص دقة وعرفا.

أمّا إذا كانت الخصوصية المشكوكة غير راجعة إلى متعلّق التكليف بل إلى موضوع المتعلّق بنحو لا يستلزم وجودها زيادة في المتعلّق ولا فقدها نقصا فيه وذلك نظير عتق الرقبة المؤمنة فإنّ ايمان الرقبة أو عدم ايمانها لا يلازم زيادة في العتق أو نقصا بل نفس العتق على كلا التقديرين بنحو واحد لا اختلاف فيه فالشك فيها لا يكون مجرى البراءة إذ لا يتصور الانبساط هاهنا إذ لا يكون المتعلّق مقيّدا بتلك الخصوصية إذ هي ليست من خصوصياته المضيقة له وبالجملة لا متيقن في البين في متعلّق التكليف يشار إليه ويقال إنّه معلوم الوجوب والشك في الزائد عليه بل الفعل بدون الخصوصية مباين للفعل المنضم للخصوصية فلا يتحقّق الانحلال.

فالحق هو التفصيل بين الصورتين في مقام الانحلال المبني على القول بانبساط الوجوب هذا ولكنك عرفت اننا في غنى عن الالتزام بالانحلال الحقيقي في حكم الشرع كي نضطر إلى التفصيل بين قسمي الشروط ولنا فيما سلكناه من طريق الانحلال الحكمي المبني على التبعيض في التنجيز غنى وكفاية فإنّه يوصلنا إلى المطلوب وقد عرفت أنّ الحال فيه لا يختلف بين قسمي الشروط إذ الشك في كلا القسمين شك في اعتبار خصوصية زائدة لم

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٨٥.

٢٠٨

يقم عليها المنجز فيكون موردا للبراءة العقلية والشرعية بمعنى عدم ايجاب الاحتياط شرعا من الجهة المشكوكة (١).

مندفعة : بأنّ متعلّق التكليف وإن لم يتقيد ابتداء بالخصوصية المشكوكة ولكنّ يكتسب التقيد باضافته إلى موضوع مقيد فيصح حينئذ أن يشك في كون المتعلّق ذا سعة أو لا ومع اكتساب التقيد والتضيق من المضاف إليه يصحّ الانحلال المبني على القول بانبساط الوجوب أيضا وعليه فالشك في الاشتراط يرجع إلى الشك في وجوب هذا التقيد بنفس الوجوب الشخصي النفسي الاستقلالي المنبسط على المشروط ومع هذا الشك يصحّ الأخذ بالبراءة العقلية والنقلية ولقد أفاد وأجاد الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال والتحقيق هو جريان البراءة عن وجوب الشرط سواء كان شرطا لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة أو شرطا لمتعلق المتعلّق كاشتراط الايمان في عتق الرقبة لأنّ مرجع الشرطية إلى تقيد الواجب بقيد زائد وانبساط الأمر على التقيد كما تقدم في محله فالشك فيها شك في الأمر بالتقيد المذكور زائدا على الأمر بذات المقيّد وهو من الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ ما يدخل في العهدة إلى أن قال فتجري البراءة عنه (٢).

القسم الثالث : أن يكون ما احتمل دخله في الواجب بمنزلة الفصل بالنسبة إلى الجنس أو بمنزلة الخصوصية بالنسبة إلى الخاصّ ونحوهما ممّا ليس له منشأ انتزاع مغاير بحسب الوجود الخارجي ويكون من مقومات المأمور به.

ففي هذه الصورة ربّما يقال بعدم جريان البراءة لعدم الأقل والأكثر بحسب الوجود الخارجي إذ الجنس لا يوجد بدون فصل وهكذا الخاصّ لا يوجد بدون خصوصية فالأمر يدور بين أن يكون الجنس متميزا بفصل معين أو بفصل ما من فصوله أو أن يكون الخاصّ متميزا بخصوصية معينة أو بخصوصية ما من الخصوصيات وهذا من موارد دوران الأمر بين

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٢) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٥٢.

٢٠٩

التعيين والتخيير لا من موارد الدوران بين الأقل والأكثر.

يمكن أن يقال : إنّ العبرة في الأحكام بعالم تعلّق الوجوب وعالم الجعل وهو عالم التحليل وفي هذا العالم يمكن الافتراق حتّى بين الجنس والفصل وذات الخاصّ والخصوصية بالتحليل العقلي كما نقول في تعريف الإنسان أنّه مركب من الحيونة والنطق مع أنّ مقتضى المقابلة هو أن لا يكون النطق داخلا في الحيونة وليس ذلك إلّا لكون الملحوظ في طرف الجنس ماهية مبهمة وبهذا الاعتبار يدور الأمر بين الأقل والأكثر ولا يضره الاتحاد الخارجي لأنّ الخارج ظرف السقوط لا الثبوت وعليه فدعوى عدم جريان البراءة في المتحد الخارجي كالجنس والفصل ونحوهما بدعوى عدم كونه من الأقل والأكثر ممنوعة لكفاية التحليل العقلي الذهني بعد وضوح كون الذهن ظرف الثبوت لا الخارج كما لا يخفى ولذا قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره تجري البراءة في الجميع على وزان واحد من غير فرق بينما له منشأ انتزاع مغاير وما ليس له كذلك لأنّ الموضوع ينحل عند العقل إلى معلوم ومشكوك (١).

فإذا شككنا في أنّ المولى أمر باتيان الحيوان أو أمر باتيان الفرس مثلا فالموضوع في الخارج وإن لم يكن منحلا ولكنّه لا يوجب اشكالا بعد ما عرفت من أنّ الميزان هو الانحلال عند الذهن وعالم الجعل والوجوب لا في الخارج وفي عالم الجعل وتعلّق الوجوب يدور الأمر بين الأقل والأكثر لأنّ عروض الوجوب لذات الجنس ولو بنحو الابهام كالحيوان معلوم وإنّما شك في عروض الوجوب للزائد عليه فيجري البراءة في المشكوك ويحكم بكفاية الذات من دون حاجة إلى ضم ضميمة لأنّ تصور الجنس بنحو الاهمال يكفي في تحقّق المعلوم والمشكوك لا يقال إنّ المبهم لا يكون مورد تعلّق الحكم لأنّا نقول لا مانع منه ألا ترى أنّ الشبح الذي لا نعلم أنّه حيوان أو إنسان يتعلّق به الحكم كحرمة التعرض بالنسبة إليه كما يصحّ إسناد الرؤية إليه أيضا بقولنا رأينا الشبح من بعيد فدعوى عدم تعلّق الحكم

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٦.

٢١٠

بالمبهم كما ترى.

ولكنّ الذي يظهر من الكفاية أنّه ذهب إلى عدم جريان البراءة عند دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه وبين الخاصّ كالانسان وعامه كالحيوان بدعوى أنّ الأجزاء التحليلية لا تكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا فالصلاة مثلا في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين المشروط وغيره دون دوران الأمر بين الخاصّ وغيره لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته وليس كذلك خصوصية الخاصّ فإنّها إنّما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ فيكون الدوران بينه وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين فتأمل جيدا (١).

وفيه : أنّ التباين في الأفراد الخارجية لا يضر بعد ما عرفت من أنّ العبرة بعالم الجعل والوجوب إذ المتعلّق للجعل والوجوب في هذا العالم هو العناوين والماهيات ومن المعلوم أنّ عنوان الحيوان أو الحيوان المشروط بشيء من انواعه من قبيل الأقل والأكثر وهكذا عنوان الصلاة أو الصلاة المشروطة بشيء من قبيل الأقل والأكثر.

والقدر المتيقن من عالم الجعل والوجوب هو تعلّق الأمر والوجوب بعنوان الجنس أو العنوان المطلق واشتراطه بنوع أو بخصوصية مشكوك فيجري فيه البراءة العقلية قال شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره الواجب يدور أمره بين المطلق والمقيّد وحيث إنّ الجامع وهو الطبيعة المهملة عين المقيّد والمطلق في الوجود والوجوب فالوجوب المضاف إليهما مضاف إليها حقيقة فالطبيعة المهملة معلوم الوجوب سواء كان الواجب مطلقا أو مقيّدا ومقتضى البراءة هو عدم وجوب الزائد على الطبيعة المهملة.

ودعوى : أنّ عينية الطبيعة المهملة مع المقيّد لا أصل لها إذ الحصّة الموجودة من الطبيعة

__________________

(١) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

٢١١

ليست عين الوجود بل متحدة به اتحاد اللامتحصل مع المتحصل فالجامع بين الحصص أولى بأن لا يكون عين الوجود فالوجود المضاف إلى الحصة مضاف إليها بالعرض كما أنّ الوجود المضاف إلى الجامع بواسطة حصته يكون عرضيا بالأولوية والوجوب كالوجود مضاف إلى الحصة عرضا فضلا عن الجامع وعليه فلا علم بوجوب الجامع إلّا بالمعنى الأعم من ما بالذات وما بالعرض.

مندفعة : بامكان منع عرضية إسناد الوجوب أو الوجود إلى الحصة بل إلى الجامع عند العرف وإن سلمنا ذلك بالدقة العقلية بل هما يسندان اليهما حقيقة وعليه فالطبيعة المهملة معلوم الوجوب والزائد عليها مشكوك فيجري فيه البراءة.

لا يقال : لا تجري البراءة في مثل الجنس والنوع من جهة عدم تحقّق ملاك الأقل والأكثر فيه حتّى بحسب التحليل العقلي فإنّ مناط كون الشبهة من الأقل والأكثر هو أن يكون الأقل على نحو يكون بذاته وحصته الخاصة سوى حدّه الاقلية محفوظا في ضمن الأكثر نظير الكليات المشككة المحفوظة ضعيفها بذاته لا بحدّ ضعفه في ضمن شديدها ومن الواضح عدم صدق المناط المزبور في مفروض البحث فإنّه بعد تحصص الطبيعي في المتواطيات بالضرورة إلى حصص متعددة وآباء كذلك بعدد الأفراد بحيث كان المتحقق في ضمن كلّ فرد حصة وأب خاصّ من الطبيعي المطلق غير الحصة والاب المتحقق في ضمن فرد آخر كالحيوانية الموجودة في ضمن الإنسان بالقياس إلى الحيوانية الموجودة في ضمن نوع آخر كالبقر والغنم وكالانسانية المتحققة في ضمن زيد بالقياس إلى الانسانية المتحققة في ضمن بكر وخالد فلا محالة في فرض الدوران بين وجوب اكرام مطلق الإنسان أو خصوص زيد لا يكاد يكون الطبيعي المطلق بما هو جامع الحصص والآباء القابل للانطباق على حصة أخرى محفوظا في ضمن زيد كي يمكن دعوى العلم بوجوبه على أي حال لأن ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصة الخاصة من الطبيعي ومع تغاير هذه الحصة مع الحصة الأخرى المحفوظة في ضمن فرد آخر كيف يمكن دعوى اندراج فرض البحث في الأقل والأكثر ولو بحسب التحليل.

٢١٢

بل الأمر في أمثال هذه الموارد ينتهي إلى العلم الإجمالي إما بوجوب هذه الحصة الخاصة وحرمة ترك الاتيان بها مطلقا وإما بوجوب حصة أخرى غيرها المشمولة لاطلاق الطبيعي وحرمة تركها في ظرف ترك الحصة الخاصة.

وفي مثله بعد عدم انطباق أحد التركين على الآخر وعدم قدر متيقن في البين في مشموليته للوجوب النفسي الأعم من الاستقلالي والضمني يرجع الأمر إلى المتباينين فيجب فيه الاحتياط باطعام خصوص زيد لأنّ بإطعامه يقطع بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين بخلاف صورة إطعام غير زيد فإنّه لا يقطع بحصول الفراغ ولا يؤمن العقوبة على ترك اطعام زيد (١)

لأنّا نقول : أوّلا : بالنقض بالمطلق والمشروط مع أنّ الطبيعي لا يكون محفوظا في ضمن المشروط الخاصّ بناء على ما ذكره في الجنس والفصل فكما أنّ العقل يحكم بالبراءة إذا شك في اشتراط شيء في المطلق كذلك يحكم به إذا شك في اشتراط شيء خاصّ في الجنس من دون فرق بينهما.

وثانيا : بأنّ الجنس مندمج في النوع بنحو الإجمال إذ لا يخلو نوع من الجنس وبهذا الاعتبار يصحّ أن يقال عند التحليل في الذهن الثاني يكون ذات الجنس بما هو ماهية جامعة بين أنواع الجنس تمام الموضوع للوجوب وإنّما الشك في تقيده بنوع خاصّ وعليه فملاك الأقل والأكثر من كون الأقل في ضمن الأكثر موجود فيه ومعه يجري البراءة في القيد المشكوك ودعوى التباين بالنسبة إلى الجنس والنوع مع أنّه لا نوع بدون الجنس غريب جدا لأنّ التغاير بينهما بالإجمال والتفصيل فلا يلحق الشك في هذا المقام بباب المتباينين.

والسرّ فيه بعد ما عرفت من أنّ عالم الذهن هو ظرف ثبوت الأحكام أنّ الجنس في هذا العالم بما هو ماهية جامعة تمام الموضوع وهو كالمطلق قابل للانطباق على موارد قيوده لوجود الجهة الجامعة فيها والمباينة مختصة بالخصوصيات ولا تمنع تلك الخصوصيات عن صدق

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٩٧.

٢١٣

الجنس على مصاديقه من الأنواع نعم لو أخذ الجنس مع خصوصيات نوع خاصّ صار متباينا مع الجنس المأخوذ في نوع آخر كتباين كلّ نوع مع نوع آخر ولكنّه خلاف المفروض في المقام بل هو خلاف الفرض في المطلق والمشروط وإلّا فلا مجال للبراءة فيه أيضا كما لا يخفى.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الكلى الطبيعي مع أفراده فإنّه عند التحليل الذهني موجود مع كلّ فرد لاشتراك أفراده في الطبيعي ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال إنّ التحقيق أنّ الكلي الطبيعي موجود في الخارج بنعت الكثرة لا بنعت التباين فإنّ الطبيعي لما لم يكن في حدّ ذاته واحدا ولا كثيرا فلا محالة يكون مع الواحد واحدا ومع الكثير كثيرا فيكون الطبيعي موجودا مع كلّ فرد بتمام ذاته ويكون متكثرا بتكثر الأفراد فزيد إنسان وعمرو إنسان وبكر إنسان لا أنّهم متباينات في الانسانية بل متكثرات فيها وإنّما التباين من لحوق عوارض مصنفه ومشخصه كما لا يخفى.

والتباين في الخصوصيات لا يجعل الماهية المتحدة مع كلّ فرد وخصوصية متباينة مع الأخرى فإنّ الإنسان بحكم كونه ماهية بلا شرط شيء غير مرهون بالوحدة والكثرة وهو مع الكثير كثير فهو بتمام حقيقته متحد مع كلّ خصوصية فالإنسان متكثر غير متباين في الكثرة (١).

وبالجملة فمع عدم التباين بين الطبيعي وأفراده أو بين الجنس وأنواعه لا مجال لانكار الأقل والأكثر لأنّ الأقل وهو الجنس أو الطبيعي معلوم وإنّما الشك في خصوصية نوع أو فرد كما لا يخفى وعليه فينحل العلم الإجمالي إلى المعلوم والمشكوك ويجري البراءة في المشكوك فلا تغفل.

وبعبارة أخرى كما قال الشهيد الصدر قدس‌سره ان التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٣٤٧.

٢١٤

ولكنّ بنحو اللف والإجمال وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرد إجمالية اللحاظ وتفصيليته إلى أن قال فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقل والأكثر حقيقة بلحاظ الوجوب بالمقدار الداخل في العهدة وليست من الدوران بين المتباينين لأنّ تباين المفهومين إنّما هو بالإجمال والتفصيل وهما من خصوصيات اللحاظ وحدوده التي لا تدخل في العهدة وإنّما يدخل فيها ذات الملحوظ وهو مردد بين الأقل وهو الجنس أو الأكثر وهو النوع (١).

بقي شيء وهو أنّ المحكي عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره هو التفصيل بين ما كان من قبيل الشرط والمشروط فحكمه بحسب البراءة الشرعية حكم ما إذا تردد الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء دون البراءة العقلية فإنّ الظاهر عدم جريانها في المقام وإن قلنا بجريانها في الأقل والأكثر من الأجزاء. لأن الانحلال المتوهم فيه لا يكاد يتوهم هاهنا حيث إنّ التكليف لو كان متعلقا بالمشروط واقعا لما كان إلّا متعلقا به بما هو لا بجزءين أحدهما ذات المشروط والآخر تقيده بالشرط فإنّ الثاني ليس ممّا يصحّ أن يكلف به الأمر لعدم ما يكون بحذائه خارجا وذلك واضح فليس يصحّ أن يقال إنّ التكليف بذات المشروط معلوم تفصيلا والتكليف بتقيده بالشرط مشكوك بدوا فتدبّر جيدا ولا تغفل. وبين ما كان من قبيل العام والخاصّ أو الجنس والنوع فحكمه بحسب الأصل العقلي حكم القسم الاول (أي دوران الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء الخارجية).

فان قلنا بجريان البراءة العقلية فيه لقلنا به هاهنا لأنّ النوع في التحليل العقلي مركب من الجنس والفصل وحيث ان نظر العقل متّبع في الانحلال والبراءة العقلية فلا محالة تجري فيما يتركب بنظره من جزءين وهذا واضح وأما بحسب الأصل النقلي فكذلك ظاهرا لأنّ الترديد بين الجنس والنوع وإن كان من قبيل الترديد بين المتباينين عرفا وكان خصوصية الخاصّ منتزعة من نفس الخاصّ.

__________________

(١) مباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٢١٥

وبعبارة أخرى كان التكليف على فرض تعلقه بالنوع متعلّق به بما هو أمر بسيط في عالم الذهن والتصور بحيث لم يكن الآمر إلّا لاحظا له بما هو أمر بسيط من غير أجزائه التحليلية بل من غير علم بها في بعض الأحيان.

إلّا انّه بعد اللتيا والتي يكون الإرادة على النوع مشكوكة وعلى الجنس معلومة والملاك في جريان حديث الرفع ليس إلّا الشك في الإرادة الواقعية النفس الأمرية وإن شئت مزيد بيان نقول إنّ الفصل وإن لم يكن من أجزاء النوع عرفا بل كان الجنس بنظره مباينا للنوع لا من أجزائه إلّا أنه لا نريد اجراء البراءة في الجزء المشكوك اعني خصوصية الفصل ليقال إنّه ليس جزءا لنوع عرفا.

بل نقول إنّ تعلّق الإرادة بالنوع والخاصّ مشكوك فالأصل عدمه ولا يعارضه البراءة في الجنس لعدم جريانها فيه حيث إنّ تعلّق الإرادة به معلوم بأحد الوجهين وكيف كان فالظاهر أنّ هذا القسم مثل القسمين المتقدمين أي الأقل والأكثر في الأجزاء وبحسب الشرط والمشروط في الأصل النقلي فتدبّر (١).

ولا يخفى عليك أوّلا : أنّ التفصيل بين البراءة العقلية والشرعية فيما إذا كان التكليف من قبيل الشرط والمشروط بدعوى عدم صحة التكليف بشيء ليس ما بحذائه شيء خارجا لا وجه له لصحّة التكليف بالشيء ولو لم يكن ما بحذائه شيء خارجا لإمكان الاتيان به ولو مع المشروط ومع الصحّة فيدور الأمر بين التكليف بذات المشروط والتكليف به مع الشرط والتكليف بذات المشروط معلوم تفصيلا والتكليف بالشرط مشكوك فيجري في المشكوك البراءة مطلقا عقلية كانت أو شرعية. وثانيا : ان دعوى كونهما من قبيل الترديد بين المتباينين عرفا مندفعة بأنّه لو سلمنا ذلك في بعض الموارد كالانسان والحيوان فليس كذلك في سائر الموارد إذ مثل الحيوان والفرس ليسا عندهم من قبيل المتباينين فلو دار الأمر في الاطعام بينهما فلا مناص عن البراءة كما دار الأمر بين مطلق اللون واللون الابيض لأنّ

__________________

(١) المحاضرات لسيدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره / ج ٢ ، ص ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٢١٦

جميع هذه الموارد من قبيل الأقل والأكثر.

فتحصّل أنّه لا فرق في جريان البراءة بين الشرط والمشروط وبين الجنس والنوع وكلّ ذلك لانحلال المعلوم بالإجمال إلى المعلوم بالتفصيل والمشكوك ولو في الذهن الثاني وعليه فتجري البراءة في الأجزاء التحليلية كما تجري في الأجزاء الخارجية فتدبّر جيدا.

٢١٧
٢١٨

الخلاصة :

في الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف وامكان الاحتياط ودوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

ومحلّ الكلام فيما إذا كان الأقل متعلقا للتكليف بنحو لا بشرط المقسمى بحيث لا يضره الأكثر.

وأمّا إذا كان الأقل مأخوذا في التكليف بنحو بشرط لا حتّى يضرّه الاتيان بالأكثر كما في دوران الأمر بين القصر والاتمام فهو خارج عن محلّ الكلام لكون الدوران فيه حينئذ من قبيل الدوران بين المتباينين.

وإذا عرفت ذلك لا يخفى عليك أنّه وقع الكلام في أنّ الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ملحق بالشك في التكليف حتّى يجرى البراءة في وجوب الأكثر أو ملحق بالشك في المكلّف به حتّى يكون موردا لقاعدة الاحتياط.

وتحقيق الكلام في جهات :

الجهة الاولى : في جريان البراءة في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر من الأجزاء الخارجية والمشهور عدم وجوب الاحتياط في الأجزاء الخارجية وهو المختار وقد ذكر لجريان البراءة العقلية وجوه.

الوجه الأول للبراءة العقلية : هو الانحلال بالعلم التفصيلي بمطلوبية الأقل استقلالا أو في ضمن الأكثر.

٢١٩

وتوضيح هذا الوجه أنّ الأقل واجب يقينا بالوجوب الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقل فيكون الأقل واجبا بالوجوب الاستقلالي ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر فيكون الأقل واجبا بالوجوب الضمني لأنّ التكليف بالمركب ينحلّ إلى التكليف بكل واحد من الأجزاء وينبسط التكليف الواحد المتعلّق بالمركب إلى التكاليف متعددة متعلقة بكل واحد من الأجزاء ولذا لا يكون الآتي بكل جزء مكلّفا باتيانه ثانيا لسقوط التكليف المتعلّق به بل الآتى بكل جزء يكون مكلّفا باتيان جزء آخر بعده لكون التكليف متعلقا بكل جزء مشروطا بلحوق الجزء التالي بنحو الشرط المتأخر.

أورد عليه مناقشات

منها أنّه لو اقتصرنا على الأقل نشك في حصول غرض المولى.

اجيب عنه بأنّه إن كان الغرض بنفسه متعلقا للتكليف وكان بسيطا يجب على المكلّف احراز حصوله والاتيان بما يكون محصلا له لأنّ المكلّف به وهو الغرض معلوم والشك في محصله ولا اشكال في هذه الصورة في وجوب الاحتياط وإن كان الغرض مردّدا بين الأقل والأكثر فلا يجب إلّا الأقل لأنّ الأكثر لم يقم عليه الدليل فيجرى فيه البراءة كما تجرى في أصل التكليف.

وأمّا إن كان التكليف متعلقا بالفعل المأمور به فلا يجب على العبد إلّا الاتيان بما امر المولى به وأمّا كون المأمور به وافيا بغرض المولى فهو من وظائف المولى لا من وظائف العبد.

ومنها : أنّ ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتباينين بعينه موجود هنا وهو أنّ المقتضى وهو تعلّق الوجوب الواقعى بالأمر الواقعى المردّد بين الأقل والأكثر موجود والجهل التفصيلى به لا يصلح مانعا لا عن المأمور به ولا عن توجه الأمر.

واجيب عنه بالفرق بينهما وهو انحلال العلم الإجمالي في المقام دون المتباينين بالتقريب المذكور.

٢٢٠