عمدة الأصول - ج ٦

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: ولي عصر (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٣

الفقدان ونحوهما كافيا لاكتفى بإراقة أحدهما وأوجب الوضوء وغير ذلك من الأخبار فالحكم في المقام يستفاد من هذه الروايات كما هو المحكي عن سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره لعدم الفرق عند العرف بين الامتثال وبين خروجه عن مورد الابتلاء أو حدوث الاضطرار فتدبّر جيدا فالأظهر هو وجوب الاحتياط في الباقي من الأطراف عند حدوث الاضطرار بالنسبة إلى طرف معين أو خروجه عن محلّ الابتلاء أو وقوع الامتثال بالنسبة إلى طرف معين بعد العلم الإجمالي بالتكليف بناء على المشهور من عدم اطلاق أدلّة البراءة لموارد العلم الإجمالي فلا تغفل.

ورابعها : هي أن يكون الاضطرار بعد التكليف وقبل العلم به كما إذا اضطر إلى شرب أحد المائعين مثلا ثمّ علم بأنّ احدهما كان نجسا قبل الاضطرار فهل الاعتبار بسبق التكليف على الاضطرار فيحكم بالتنجيز ووجوب الاحتياط أو بالعلم الحادث بعد الاضطرار فيحكم بعدم التنجيز وبعدم وجوب الاحتياط لكون الاضطرار قبل العلم بالتكليف على الفرض.

ذهب في مصباح الاصول إلى الثاني واستدلّ له بأنّ المانع من جريان الأصل هو العلم الإجمالي بالتكليف لا التكليف بواقعيته ولو لم يعلم به المكلّف أصلا فهو حين الاضطرار إمّا قاطع بعدم التكليف فلا يحتاج إلى اجراء الأصل بل لا يمكن وإمّا شاك فيه فلا مانع من جريانه في الطرفين لعدم المعارضة لعدم العلم بالتكليف على الفرض والعلم الإجمالي الحادث بعد الاضطرار ممّا لا أثر له لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه ولا يوجب حدوث التكليف فيه لكون الاضطرار رافعا له.

واستشكل فيه بأنّ التكليف الواقعي وإن لم يكن مانعا من جريان الأصل إلّا أنّه بعد العلم به تترتب آثاره من حين حدوث التكليف لا من حين العلم به كما هو الحال في العلم التفصيلي فإنّه لو علمنا بأنّ الماء الذي اغتسلنا به للجنابة قبل أسبوع مثلا كان نجسا يجب ترتيب آثار نجاسة الماء المذكور من حين نجاسته لا من حين العلم بها فيجب الاتيان بقضاء

١٠١

الصلوات التي اتينا بها مع هذا الغسل وكذا سائر الآثار المترتبة شرعا على نجاسة الماء المذكور.

ففي المقام أيضا لا مناص من ترتيب آثار التكليف من حين حدوثه لا من حين انكشافه وحينئذ لما كان حدوث التكليف قبل الاضطرار فلا بد من اعتبار وجوده قبله ولو كان منكشفا بعده وعليه فبعد طرو الاضطرار نشك في سقوط هذا التكليف الثابت قبل الاضطرار لأجل الاضطرار لأنّه لو كان في الطرف المضطر إليه فقد سقط بالاضطرار ولو كان في الطرف الآخر كان باقيا لا محالة فيرجع إلى استصحاب بقاء التكليف أو قاعدة الاشتغال ولا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف غير المضطر إليه.

ويمكن الجواب عنه بأنّ البحث يكون في الحكم التكليفي لا الوضعي والعلم بعد حدوث الاضطرار بالتكليف لا يوجب فعلية التكليف لا قبل حدوث الاضطرار لأنّ المفروض أنّ المكلّف في تلك الحال إمّا قاطع بعدم التكليف أو شاك في التكليف ومع القطع بالعدم لا معنى لفعلية التكليف في تلك الحال ومع الشك كان مورد جريان البراءة لعدم علمه بالتكليف في تلك الحال ولا بعد حدوث الاضطرار إلى المعين فإنّه مع العلم بأنّ الطرف المضطر إليه كان محكوما بالتكليف لا يبقى التكليف المذكور فعليا بالنسبة إليه لأنّه حال العلم مضطر إليه فمع عدم العلم بالتكليف الفعلي في الطرف الذي حدث الاضطرار فيه لا قبل الاضطرار ولا بعده فلا مانع من جريان البراءة في الطرف الآخر لاحتمال التكليف في هذا الطرف ولا مجال للاستصحاب أو قاعدة الاشتغال إذ لا علم بالحكم الفعلي لا قبل الاضطرار ولا بعده حتّى يستصحب أو يجري فيه قاعدة الاشتغال.

قال السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره والجواب عن هذه الشبهة أنّ المقام ليس مجرى للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال فإنّ الاستصحاب أو القاعدة إنّما يجريان فيما إذا كانت الاصول في أطراف العلم الإجمالي ساقطة بالمعارضة كما في الشك في بقاء الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء فإنّ الأصل في كلّ منهما معارض بالأصل الجاري في الآخر وبعد

١٠٢

تساقطهما يرجع إلى الاستصحاب ويحكم ببقاء الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر.

وهذا بخلاف ما إذا كان الأصل جاريا في بعض الأطراف بلا معارض كما في المقام فإنّ التكليف في الطرف المضطر إليه معلوم الانتفاء بالوجدان فلا معنى لجريان الأصل فيه وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه فليس لنا علم بالتكليف وشك في سقوطه حتّى نحكم ببقائه للاستصحاب أو القاعدة الاشتغال (١).

هذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار بعد العلم بالتكليف فإنّ التكليف فيه معلوم الحدوث ومشكوك الارتفاع فيجوز الحكم فيه ببقائه للاستصحاب أو لقاعدة الاشتغال.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الصور المذكورة في الاضطرار تجري في فقدان المعين من الأطراف أو خروجه عن محلّ الابتلاء أو الإكراه عليه وذلك لشمول ما ذكر في صور الاضطرار إلى المعين لصور هذه الموارد أيضا حرفا بحرف فلا حاجة إلى الاطالة.

المقام الثاني : فيما إذا كان الاضطرار إلى غير معيّن. ذهب الشيخ في هذا المقام إلى وجوب الاجتناب عن الباقي وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي معللا بأنّ العلم حاصل بحرمة واحد من أمور لو علم حرمته تفصيلا وجب الاجتناب عنه.

والترخيص في بعضها على البدل موجب لاكتفاء الآمر بالاجتناب عن الباقي فإن قلت ترخيص ترك بعض المقدمات دليل على عدم ارادة الاجتناب عن الحرام الواقعي ولا تكليف بما عداه فلا مقتضى لوجوب الاجتناب عن الباقي.

قلت المقدمة العلمية مقدمة للعلم واللازم من الترخيص فيها عدم وجوب تحصيل العلم لا عدم وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي رأسا.

وحيث إنّ الحاكم بوجوب تحصيل العلم هو العقل بملاحظة تعلّق الطلب الموجب للعقاب على المخالفة الحاصلة في ترك هذا الذي رخّص في تركه فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلقا بالواقع على ما هو عليه.

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

١٠٣

وحاصله ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخّص الشارع في امتثاله منه وهو ترك باقي المحتملات.

وهذا نظير جميع الطرق الشرعية المجعولة للتكاليف الواقعية ومرجعه إلى القناعة عن الواقع ببعض محتملاته معينا كما في الأخذ بالحالة السابقة في الاستصحاب أو مخيّرا كما في موارد التخيير الخ (١).

وعليه فالترخيص في بعض الأطراف لا ينافي التكليف الفعلي الواقعي المعلوم بالإجمال لأنّه ليس ترخيص فيه بل هو ترخيص في طريق امتثاله وهو المقدمة العلمية وهي وجوب الاحتياط الّذي يكون مقتضى العلم الإجمالي.

أورد عليه في الكفاية بأنّ الترخيص في بعض الأطراف ينافي العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير ومع عدم اجتماع الترخيص في بعض الأطراف مع العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير لا يبقى إلّا احتمال التكليف في غير مختار المكلّف لرفع اضطراره وهو منفي بالأصل (٢).

يمكن أن يقال : كما في نهاية الدراية بأنّ الوجه في عدم منع الاضطرار إلى غير المعين عن تنجيز العلم الإجمالي أنّ الاضطرار ليس إلى شرب النجس ولو على سبيل الاحتمال أو احتمال الانطباق عند فعلية الارتكاب لا عند فعلية الاضطرار فهو غير مضطر إلى الحرام قطعا ومتعلّق التكليف بما هو مقدور فعلا وتركا لا أنّ أحدهما المردّد حرام وأحدهما المردّد مضطر إليه ليقال بأنّ نسبة الاضطرار إلى الحرام وغيره على حدّ سواء بل معنى الاضطرار إلى أحدهما أنّه لا يقدر على تركهما معا مع القدرة على فعل كلّ منهما وتركه في نفسه.

وعليه فشرائط تنجز الخطاب الواقعي من العلم به والقدرة على متعلقه موجودة فيؤثر العلم أثره وإنّما المكلّف يعجز عن الموافقة القطعية دون الامتثال بالكلية فيكون معذورا عقلا فيما هو عاجز عنه لا في غيره مع ثبوت مقتضيه (٣).

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) الكفاية / ج ٢ ، ص ٢١٦.

(٣) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٤٩.

١٠٤

فالحرام وهو شرب النجس لا يكون مورد الاضطرار حتّى لا يمكن التكليف الفعلي فيه بل مورد الاضطرار هو ترك جميع أطراف المعلوم بالإجمال فيكتفي بترك أحدهما لرفع الاضطرار باختيار الطرف الآخر ويكون معذورا في عدم الموافقة القطعية وبعبارة أخرى كما أفاد السيّد المحقّق الخوئي قدس‌سره أنّ الاضطرار لم يتعلّق بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته به وإنّما تعلّق بالجامع بينه وبين الحلال على الفرض فالجامع هو المضطر إليه وأحدهما مع الخصوصية هو الحرام فما هو المضطر إليه ليس بحرام وما هو حرام ليس بمضطر إليه فلا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالإجمال لأجل الاضطرار إلى الجامع كما لو أضطر إلى شرب أحد الماءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعين فهل يتوهم رفع الحرمة عن الحرام المعلوم تفصيلا لأجل الاضطرار إلى الجامع والمقام من هذا القبيل لعدم الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي من هذه الجهة وهذا أعني تعلّق الاضطرار بالجامع هو الفارق بين هذا المقام والمقام السابق فإنّ الاضطرار هناك كان متعلقا بأحدهما المعين وهو رافع للحرمة على تقدير ثبوتها مع قطع النظر عن الاضطرار بخلاف المقام فإنّ الاضطرار فيه لم يتعلّق إلّا بالجامع والاضطرار إلى أحد الأمرين من الحرام أو الحلال لا يوجب رفع الحرمة عن الحرام غاية الأمر أنّ وجوب الموافقة القطعية ممّا لا يمكن الالتزام به بعد الاضطرار إلى الجامع لأنّ الموافقة القطعية إنّما تحصل بالاجتناب عنهما معا وهو طرح لأدلة الاضطرار ويكون نظير الاجتناب عما أضطر إليه معينا وتبقى حرمة المخالفة القطعية بارتكابهما معا على حالها إذ لا موجب لرفع اليد عنها بعد التمكن منها كما هو المفروض (١).

ونحو ذلك في تهذيب الاصول وغيره هذا.

ولكن ذهب المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في أخير كلامه إلى عدم وجوب الاحتياط حيث قال لأنّ المعذورية في ارتكاب أحدهما ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

١٠٥

الواقع على حاله حتّى يحرم المخالفة القطعية فإنّ ضمّ غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا على الواقع والمانع من تنجز التكليف هو الاضطرار لا اختيار ما يرتكبه في مقام الاضطرار حتّى يعقل التكليف المتوسط المصطلح عليه عند بعضهم تبعا للشيخ الأعظم قدس‌سره بداهة أنّه مأذون في الارتكاب سواء ارتكب أم لا إلى أن قال : وممّا ذكرنا تبين أنّه لا وجه للالتزام بالتوسط في التكليف بحيث يكون باقيا على تقدير ارتكاب غير الحرام وساقطا على تقدير ارتكاب الحرام فإنّ لزوم الالتزام به فيما إذا قام الدليل على ارتفاع الحرمة بارتكاب متعلقها فحينئذ يعلم منه بانضمامه إلى دليل الحرمة اختصاصها بمن لم يرتكب متعلقها مع أنّه ليس كذلك بل الترخيص شرعا أو عقلا يدور مدار الاضطرار المشفوع بالجهل بالحرام تطبيقا فمن أوّل الأمر يجوز له ارتكاب أيّ واحد كان سواء ارتكب أم لا يرتكب.

ونفس جواز الارتكاب وإن صادف الواقع مناف عقلا لفعلية الحرمة واستحقاق العقاب على المخالفة عند المصادفة فتدبّر جيدا (١).

ودعوى : الفرق بين الترخيص بسبب عنوان واقعي كالاضطرار وبين الترخيص بسبب عنوان ظاهري كالجهل بالحرام أو الواجب والحكم الواقعي مرتفع في الأوّل دون الثاني ألا ترى أنّ وجوب الاستقبال في الصلاة لا يرتفع عند الجهل بالقبلة مع تجويز الاستقبال إلى أحد الأطراف لضيق الوقت ونحوه وليس ذلك لكون سبب الترخيص هو الجهل وهو من العناوين الظاهرية والمقام من قبيل الثاني لأنّ الترخيص من ناحية الجهل لا من ناحية الاضطرار إذ الاضطرار إلى الحرام الواقعي وإنّما نشأ الاضطرار في طول الجهل بالحرام الواقعي.

مندفعة : بما مرّ من أنّ الترخيص يدور مدار الاضطرار المشفوع بالجهل بالحرام تطبيقا فإنّه يقتضي جواز ارتكاب أيّ طرف يشاء فالعنوان الواقعي وهو الاضطرار سبب

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٥٠.

١٠٦

الترخيص المعلق لا العنوان الظاهري وإن كان مشفوعا به وليس الاضطرار في طول الجهل بالحرام الواقعي بل يكون في عرض الحرام الواقعي عند كونه سابقا على التكليف ومقارنا معه كما لا يخفى. فلا يقاس المقام بمورد اشتباه القبلة فإنّ الجهل بها في طول الأمر بالقبلة وبالجملة فنفس الترخيص المذكور مع احتمال المصادفة للحرام لا يجتمع مع الحرمة الفعلية على كلّ تقدير إذ لا حرمة فعلية في طرف يصادف الواقع وعليه فالطرف المقابل يكون مشكوك الحرمة بالشك البدوي فلا مانع من جريان أصل البراءة فيه وممّا ذكر يظهر ما في كلام الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال لا منافاة بين التكليف الواقعي مع الاضطراري التخييري (١) فإنّ الحكم بالتخيير مع احتمال المصادفة للحرام يتنافيان ولا يجتمعان نعم يختص ذلك بما إذا كان الاضطرار سابقا على التكليف أو مقارنا معه أو كان التكليف في الواقع قبل حدوث الاضطرار ولكنّ العلم به يحصل بعد الاضطرار في مدة لم يتمكن من الاتيان به فإنّ مع الاضطرار في هذه الصور لا علم بالتكليف الفعلي كما فصلناه في الاضطرار إلى المعين وأمّا إذا كان حدوث الاضطرار بعد العلم بالتكليف ومضي مدة يمكن الامتثال فيها فحكمه وجوب الاحتياط لما مرّ في الاضطرار إلى المعين من أنّ المعلوم بالإجمال يدور حينئذ بين الطويل والقصير حيث يعلم المكلّف بتكليف فعلي على كلّ تقدير في هذا الطرف إلى زمان حدوث الاضطرار أو في الطرف المقابل حتّى الآن ومقتضى العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير هو وجوب الاحتياط في طرف لم يضطر إلى اتيانه كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّ حكم الاضطرار إلى غير المعين كحكم الاضطرار إلى المعين في التفصيل بين الصور فلا يجب الاحتياط فيما إذا كان الاضطرار سابقا على التكليف أو كان مقارنا مع التكليف أو كان العلم بالتكليف بعد حدوث الاضطرار وإن كان التكليف في الواقع سابقا عليه ولكنّ لم يتمكن من الامتثال في المدة الفاصلة بخلاف ما إذا كان حدوث الاضطرار بعد تعلّق التكليف والعلم به ومضي مدة يتمكن فيها من الامتثال إذ الحكم في هذه الصورة هو

__________________

(١) المباحث الحجج / ج ٢ ، ص ٢٧٥.

١٠٧

وجوب الاحتياط للعلم الإجمالي بتعلق تكليف فعلي على كلّ تقدير قبل حدوث الاضطرار من دون فرق بين أن يكون الاضطرار إلى المعين أو إلى غير المعين فلا تغفل.

وقد يفصّل بين مسلك العلية التامة فيسقط العلم الإجمالي عن المنجزية لأنّ الاضطرار إلى أحد الأمرين يستلزم الترخيص في أحدهما وهو يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز لعدم اجتماع الترخيص مع الحرمة المنجزة وعليه فلا يكون العلم متعلقا بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير.

وبين مسلك الاقتضاء فيبقى العلم الإجمالي مع التنجيز بالنسبة إلى الطرف الآخر حيث لا مانع من الترخيص الظاهري في بعض الأطراف (١).

وفيه : أنّه لا فرق بين المسلكين عند كون الاضطرار سابقا أو مقارنا أو ملحقا بالمقارنة في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز فإنّ الترخيص مع الاضطرار إلى أحد الأمرين لا يجتمع مع التكليف الفعلي على كلّ تقدير فلا تنجيز سواء كان علم الإجمالي علة للتنجيز أم مقتضيا له كما لا فرق بينهما أيضا لو كان الاضطرار حادثا بعد العلم بالتكليف في عدم سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ووجوب الاحتياط بالنسبة إلى طرف آخر سواء كان الاضطرار إلى المعين أو إلى غير المعين وسواء كان العلم الإجمالي علة أو مقتضيا فلا تغفل.

التنبيه الرابع : في اشتراط كون الأطراف مورد الابتلاء في التنجيز وعدمه. ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى أنّه لو كان ارتكاب الواحد المعين من أطراف المعلوم بالإجمال ممكنا عقلا ولكنّ المكلّف أجنبي عنه وغير مبتلى به بحسب حاله كما إذا تردد النجس بين إنائه وبين إناء آخر لا دخل للمكلف فيه أصلا فإنّ التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكن عقلا غير منجّز.

ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلّف الابتلاء به.

__________________

(١) منتقى الاصول / ج ٥ ، ص ١١٤ ـ ١١٥.

١٠٨

نعم يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّدا بقوله إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو بملك أو اباحة فاجتنب عنه.

والحاصل : أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصة بحكم العقل والعرف بمن يعدّ مبتلى بالواقعة المنهي عنها ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجنا إلّا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه فلا حاجة إلى نهيه (١) حاصله أنّه كما أنّ القدرة العقلية لها مدخلية في حسن الخطاب فكذلك القدرة العادية المتوقفة على كونه مورد الابتلاء لها مدخلية في حسن الخطاب فلا يكفي في حسن الخطاب مجرد القدرة العقلية والامكان العقلي بدون وجود القدرة العادية المذكورة وتبعه في الكفاية حيث قال لما كان النهي عن الشيء إنّما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داع آخر كان الابتلاء بجميع الأطراف ممّا لا بدّ منه في تأثير العلم فإنّه بدونه لا علم بتكليف فعلي لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به.

والملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال (٢).

ومن المعلوم أنّ الداعي مع خروج المورد عن محلّ الابتلاء لا ينقدح في النفس بالنسبة إلى الخارج عن محلّ الابتلاء بحسب المتعارف.

أورد عليه في نهاية الدراية بأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إذا كان بحيث يمتنع عادة فعله وتركه فليس هناك شرط زائد على القدرة المعتبرة في التكاليف البعثية والزجرية عقلا وإذا كان بحيث لا يمتنع عادة بل يمكن تحصيله بأسبابه فيمكن توجه الداعي إليه فهو محلّ الكلام إذ لو اعتبر الابتلاء به فعلا كان ذلك شرطا زائدا على القدرة إلى أن قال :

__________________

(١) فرائد الاصول / ص ٢٥١ ، ط قديم.

(٢) راجع الكفاية / ج ٢ ، ص ٢١٨ ـ ٢٣٣.

١٠٩

فحينئذ نقول إن كان التكليف الحقيقي البعثي أو الزجري جعل ما يدعو إلى الفعل أو الترك بالفعل فمع وجود الداعي إلى الفعل أو الترك أو عدم الداعي في نفسه إلى الترك (١) يكون مستحيلا.

وأمّا إذا كان التكليف الحقيقي جعل ما يمكن أن يكون داعيا بحيث لو انقاد العبد له لانقدح الداعي في نفسه بدعوة البعث أو الزجر فيفعل أو يترك بسبب جعل الداعي.

فهذه الصفة محفوظة سواء كان للمكلف داع إلى الفعل كما في التوصلي الذي يأتي به بداعي هواه أو داع إلى تركه كما في العاصي أو لم يكن له داع إلى الفعل من قبل نفسه كما في ما نحن فيه وعليه فمجرد كونه متروكا بعدم الابتلاء أو كونه ممّا لا شغل له به لا يرجع إلى محصل إلّا إذا اريد منه عدم الداعي إلى فعله ومجرد عدم الداعي لا يمنع من جعل ما يمكن أن يكون داعيا لأنّه يمنع عن جعل الداعي إلى الترك بالفعل لا بالامكان فإنّه يكفيه امكان حصول الداعي له إلى الفعل ليمنع عنه الداعي إلى الترك من قبل المولى ولذا يصحّ جعل الداعي بالنسبة إلى العاصي مع كونه بحيث لا داعي له إلى الفعل بل كان له الداعي إلى الخلاف بل إذا كان عدم الداعي فعلا مانعا من توجه النهي الحقيقي فلازمه عدم صحة النهي مع الدخول في محلّ الابتلاء إذا لم يكن له داع إلى شربه مثلا مع أنّه ليس كذلك جزما بل التحقيق أنّ حقيقة التكليف الصادر من المولى المتعلّق بالفعل الاختياري لا يعقل أن يكون إلّا جعل الداعي بالامكان لا بمعنى البعث الخارجي الموجب لصدور الفعل منه قهرا فإنّه خلف إذ المفروض تعلّق التكليف بالفعل الاختياري فلا شأن له إلّا الدعوة الموجبة لانقداح الإرادة في نفس المكلّف لكنه لا بحيث يوجب اضطراره إلى ارادة الفعل أيضا لانّه وإن لم يكن منافيا لتعلق التكليف بالفعل الاختياري لفرض توسط الإرادة بين التكليف وفعل المكلّف إلّا أنّه خلاف المعهود من التكاليف الشرعية حيث إنّه ليس فيها الاضطرار حتّى بهذا المعنى بل تمام حقيقته جعل ما يمكن أن يكون داعيا ويصلح أن يكون باعثا ولا معنى للامكان إلّا الذاتي

__________________

(١) يوضحه قوله بعد اسطر أو لم يكن له داع إلى الفعل من قبل نفسه كما في نحن فيه الخ.

١١٠

والوقوعي فيجتمع مع الامتناع بالغير أي بسبب حصول العلة فعلا أو تركا من قبل نفس المكلّف فإنّ الامتناع بسبب العلة مع عدم امتناع عدم العلة يجامع الامكان الذاتي والوقوعي ولا يعقل الامكان بالغير حتّى ينافي الامتناع بالغير.

ومن جميع ما ذكرناه تبيّن أنّ الدخول في محلّ الابتلاء مع فرض تحقّق القدرة بدونه لا دليل عليه ولا معنى لاستهجان العرفي لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف وليس الكلام في الخطاب بما هو خطاب حتّى يتوهم ارتباطه بنظر العرف (١).

حاصله هو كفاية القدرة العقلية والامكان الذاتي أو الامكان الوقوعي في صحة الخطابات سواء كانت مورد الابتلاء أو لم تكن وهو كما ترى وذلك لأنّ جعل ما يمكن أن يكون داعيا ويصلح أن يكون باعثا فيما لا يبتلي به المكلّف أصلا مستهجن أيضا وإن أمكن الابتلاء به عقلا بالامكان الذاتي أو الوقوعي ودعوى عدم الارتباط بين الاستهجان العرفي وحقيقة التكليف مع أنّ الأوامر والنواهي من الإرادات التشريعية التي لا تنقدح إلّا بعد حصول مباديها لا وجه لها قال سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره في الجواب عما ذكره المحقّق الاصفهاني قدس‌سره إنّ هذا ضعيف فإنّ كفاية الامكان الذاتي في هذا الباب غريب فإنّ خطاب من لا ينبعث عن أمر المولى خطابا حقيقيا مستهجن جدا فإنّ الإرادة التشريعية لا تنقدح إلّا بعد حصول مباديها وقس عليه الخطاب القانوني فإنّ مقنن الحكم لو وقف على أنّ ما يشرعه لا يكاد يعمل به أصلا ولا ينبعث منه أحد صار جعله وتقنينه مستهجنا جدا وإن جاز الإمكان الذاتي أو الوقوعي (٢).

وبالجملة يعتبر في حسن الخطاب مضافا إلى القدرة العقلية وجود القدرة العادية وهي امكان تعارف مساس المكلفين به فحقيقة التكليف وإن كان هو بمعنى جعل ما يمكن أن يكون داعيا لا بمعنى البعث الفعلي الخارجي ولكنّ لا يكتفي فيه بالامكان الذاتي بل اللازم

__________________

(١) نهاية الدراية / ج ٢ ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٢) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٧٩.

١١١

مضافا إلى الامكان الذاتي والقدرة العقلية هو أن يكون كذلك بالامكان العرفي وهو لا يكون في غير المبتلى به كما لا يخفى. ولذلك يستهجن الخطاب البعثي أو الزجري المطلق عند العرف بما لا ابتلاء للمكلف به أصلا وإن أمكن فعله بالامكان الذاتي أو الوقوعي نعم تقييد الخطاب فيما لا ابتلاء به بصورة الابتلاء يرفع الاستهجان في بعض الموارد.

ولقد أفاد وأجاد في نهاية الأفكار حيث قال في بيان جملة من موارد عدم تأثير العلم الإجمالي في التكليف الفعلي بالاجتناب أصلا لرجوع الشك في أصل التكليف لا في المكلّف به وكذا إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محلّ ابتلاء المكلّف بمثابة يوجب خروجه عن تحت القدرة إمّا عقلا أو عادة بنحو يعدّ المكلّف أجنبيا عن العمل عرفا وغير متمكن منه وهذا على الأوّل واضح لامتناع تعلّق الإرادة الفعلية على نحو التنجيز بما لا يقدر عليه المكلّف وكذا على الثاني فإنّه وإن لم يكن مانعا عن أصل تمشي الإرادة عقلا ولكنّه مانع عرفا عن حسن توجيه الخطاب لاستهجان الخطاب البعثي نحو الفعل أو الترك عند العرف بما يعدّ المكلّف أجنبيا عنه إلّا بنحو الاشتراط بفرض ابتلائه وتمكنه العادي منه.

بل قد يكون بعد الوصول إلى الشيء لبعد المقدمات بمثابة يوجب استهجانه ولو بنحو التقييد والاشتراط كأن يقال لعامي بليد إذا صرت مجتهدا يجب عليك التسهيل في الفتوى أو لدهقان فقير إذا صرت سلطانا فلا تظلم رعيتك حيث إنّه وإن أمكن عقلا بلوغ ذلك البليد إلى مرتبة الاجتهاد وكذا الدهقان الفقير إلى مرتبة الملوكية على خلاف ما تقتضيه العادة إلّا أنّ بعد المقدمات يوجب عرفا استهجان الخطاب المزبور ولو بنحو الاشتراط (١).

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين أن يكون حقيقة التكليف البعثي أو الزجري هي جعل ما يدعو إلى الفعل أو الترك بالفعل أو جعل ما يمكن أن يكون داعيا فإنّ كليهما ممنوعان بعد عدم الابتلاء عادة وذلك لأنّه لا يحسن الخطاب والبعث ولو كان بمعنى جعل ما يمكن أن يكون داعيا فيما لا ابتلاء به عادة لعدم وجود أثر لهذا الجعل عند العقلاء وإن لم يكن تكليفا بالمحال

__________________

(١) نهاية الأفكار / ج ٣ ، ص ٣٣٨.

١١٢

فلا تغفل.

ثمّ إنّه لا تفاوت أيضا في الاستهجان بين أن يكون الخطاب المنجز شخصيا أو قانونيا لأنّ الخطابات الكلية القانونية تنحلّ إلى خطابات بعدد المكلفين بحيث يكون كلّ مكلف مخصوص بخطاب خاصّ به وتكليف مستقل متوجه إليه لأنّ القضايا في الخطابات القانونية تكون حقيقيه لا طبيعية ومقتضى كون القضايا حقيقية هو الانحلال بالنحو المذكور وعليه فيكون الخطاب المنجّز بالنسبة إلى ما لا ابتلاء به ولو بايّ عنوان من العناوين مستهجنا كما في الخطابات الشخصية فلا وجه للتفصيل.

وممّا ذكر ينقدح ما في تهذيب الاصول حيث قال التحقيق في المقام أن يقال إنّه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلية المتوجهة إلى عامّة المكلفين والخطاب الشخصي إلى آحادهم فإنّ الخطاب الشخصي إلى خصوص العاجز وغير المتمكن عادة أو عقلا ممّا لا يصحّ كما اوضحناه ولكنّ الخطاب الكلي إلى المكلفين المختلفين حسب الحالات والعوارض ممّا لا استهجان فيه وبالجملة استهجان الخطاب الخاصّ غير استهجان الخطاب الكلي فإنّ ملاك الاستهجان في الأوّل ما إذا كان المخاطب غير متمكن والثاني فيما إذا كان العموم أو الغالب الذي يكون غيره كالمعدوم غير متمكن عادة أو مصروفة عنه دواعيهم.

والحاصل : أنّ التكاليف الشرعية ليست إلّا كالقوانين العرفية المجعولة لحفظ الاجتماع وتنظيم الأمور فكما أنّه ليس فيها خطابات ودعايات بل هو بما هو خطاب واحد متعلّق بعنوان عام حجة على عامة المكلفين فكذلك ما نجده في الشرع من الخطابات المتعلقة بالمؤمنين أو الناس فليس هنا إلّا خطاب واحد قانوني يعمّ الجميع.

وإن شئت قلت إنّ ما هو الموضوع في دائرة التشريع هو عنوان المؤمنين أو الناس فلو قال يا أيّها الناس اجتنبوا عن الخمر أو يجب عليكم الفعل الكذائي فليس الموضوع إلّا الناس أعمّ من العاجز والقادر والجاهل والعالم ولأجل ذلك يكون الحكم فعليّا في حقّ الجميع. غير أنّ العجز والجهل عذر عقلي عن تنجيز التكليف والملاك لصحّة هذا الخطاب

١١٣

وعدم استهجانه صلوحه لبعث عدد معتد به من المكلفين فالاستهجان بالنسبة إلى الخطاب العام إنّما يلزم لو علم المتكلم لعدم تأثير ذلك الخطاب العام في كلّ المكلفين وأمّا مع احتمال التأثير في عدد معتد به غير مضبوط تحت عنوان خاصّ فلا محيص عن الخطاب العمومي ولا استهجان فيه أصلا كما أنّ الأمر كذلك في القوانين العرفية العامة وبما ذكرنا يظهر الكلام في الخارج عن محلّ الابتلاء والقول بأنّ خطاب العاجز والجاهل وغير المبتلى بمورد التكليف قبيح أو غير ممكن صحيح لو كان الخطاب شخصيا وأمّا إذا كان بصورة التقنين فيكفي في خطاب الجميع كون عدد معتد به من المكلفين واجدا ما ذكرنا من الشرائط وأمّا الفاقد لها فهو معذور عقلا مع فعلية التكليف كالعجز والجهل.

وبالجملة ليس هنا إلّا ارادة واحدة تشريعية متعلقة بخطاب واحد وليس الموضوع إلّا أحد العناوين العامة من دون أن يقيد بقيد أصلا والخطاب بما هو خطاب وحداني متعلّق بعنوان عامّ حجة على الجميع والملاك في صحة الخطاب ما عرفت والحكم فعلي مطلقا من دون أن يصير الحكم فعليا تارة وانشائيا أخرى أو مريدا في حالة وغير مريد في حالة أخرى.

وما أوضحناه هو حال القوانين الدارجة في العالم والاسلام لم يتخذ مسلكا غيرها ولم يطرق بابا سوى ما يطرقه العقلاء من الناس إلى أن قال :

إن اريد من الانحلال كون كلّ خطاب خطابات بعدد المكلفين حتّى يكون كلّ مكلف مخصوصا بخطاب خاصّ به وتكليف مستقل متوجه إليه فهو ضروري البطلان فإنّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) خطاب واحد لعموم المؤمنين فالخطاب واحد والمخاطب كثير كما أنّ الأخبار بأنّ كلّ نار حارة أخبار واحد والمخبر عنه كثير فلو قال أحد كلّ نار باردة فلم يكذب إلّا كذبا واحدا لا أكاذيب متعددة حسب أفراد النار فلو قال لا تقربوا الزنا فهو خطاب واحد متوجه إلى كلّ مكلف ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة والمكلّف تمام الموضوع لتوجه الخطاب إليه وهذا الخطاب الوحداني يكون حجة على كلّ

١١٤

مكلف من غير انشاء تكاليف مستقلّة أو توجه خطابات عديدة.

لست أقول إنّ المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلفين فإنّه ضروري الفساد بل أقول إنّ الخطاب واحد والانشاء واحد والمنشأ هو حرمة الزنا على كلّ مكلف من غير توجه خطاب خاصّ أو تكليف مستقل إلى كلّ واحد ولا استهجان في هذا الخطاب العمومي إذا كان المكلّف في بعض الأحوال أو بالنسبة إلى بعض غير متمكن عقلا أو عادة فالخمر حرام على كلّ أحد تمكن من شربها أو لا وليس جعل الحرمة لغير المتمكن بالخصوص حتّى يقال إنّه يستهجن الخطاب فليس للمولى إلّا خطاب واحد لعنوان واحد وهو حجة على الناس كلهم ولا إشكال في عدم استهجان الخطاب العمومي فكما لا إشكال في أنّ التكاليف الشرعية ليست مقيدة بالقدرة والعلم كما سيوافيك بيانه فكذلك غير مقيدة بالدخول في محلّ الابتلاء (١).

وذلك لما عرفت من عدم الفرق بين الخطابات الشخصية والخطابات القانونية في استهجان الخطاب وتنجيزه عند عدم كون المورد من موارد الابتلاء لأنّ الأحكام القانونية وإن كانت انشاء واحدا ولكنّها تنحلّ بحكم العقل إلى خطابات مستقلة بعدد المكلفين ووحدة الانشاء لا تنافي انحلاله إلى المتعدد لاحتواء الوحدة لكثرة أو لاندراج الكثرة في الوحدة والمدرك للكثرة وإن كان هو العقل ولكنّ المدرك بالفتح هو الحكم الشرعي لأنّ العقل بالتحليل المذكور يحكم بأنّ الخطابات الشرعية متعددة بعدد المكلفين ولا يقاس الأحكام القانونية بالإخبار عن القضايا الكلية كقولهم كلّ نار باردة أو كلّ نار حارة ويقال كما أنّ الأخبار فيها ليس إلّا واحدا وإن كان المخبر عنه كثيرا فكذلك في الأحكام القانونية يكون الخطاب واحدا وإن كان المخاطب كثيرا وإلّا لزم الكذب بلا نهاية فيما إذا كان الأخبار كذبا.

والوجه في عدم صحة القياس المذكور أنّ المقنن أراد بالارادة التشريعية عند المخاطبة مع

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٨٠ ـ ٢٨٢.

١١٥

عموم الناس فعل شيء أو تركه من جميع الآحاد ولا مقصد له إلّا ذلك وهو قرينة على أنّ خطابه وإن كان واحدا ولكنّه منحلّ إلى خطابات عديدة بعدد المكلفين على نحو القضايا الحقيقية.

هذا بخلاف الأخبار فإنّه لا يكون قصده منه إلّا الأخبار عن القضية الكلية والعقل وإن حكم فيه أيضا بالتحليل ولكنّ لا يحكم بتعدد الأخبار ولذا لا يكون الكذب فيه إلّا كذبا واحدا.

ودعوى : أنّ الانحلال ممنوع لعدم صحة خطاب العصاة والكفار بالاصول والفروع فإنّ خطاب من لا ينبعث قبيح أو غير ممكن فإنّ الإرادة الجزمية لا تحصل في لوح النفس إلّا بعد حصول مبادي قبلها التي منها احتمال حصول المراد والمفروض القطع بعدم حصوله (١).

مندفعة : بأنّ الداعي في الخطابات إن كان هو الانبعاث أو الانزجار الفعلي كان الأمر كذلك ولكنّ عرفت أنّ الداعي هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا ويصلح أن يكون باعثا وهو أمر يجتمع مع العصيان أو الكفر لعدم منافاة بين الامكان الذاتي أو الوقوعي مع الامتناع بالغير فالممتنع بالغير في عين كونه ممتنعا بالغير يكون ممكنا بالامكان الذاتي أو الوقوعي والغرض من خطاب العصاة والكفار هو اتمام الحجة عليهم فلا استحالة ولا قبح في خطاب من لا ينبعث بالكفر أو العصيان.

فتحصّل : أنّ القضايا إذا كانت حقيقية كان مقتضاها هو الانحلال ومع الانحلال لزم أن يكون كلّ فرد من أفرادها مورد الابتلاء وإلّا كان الخطاب بالنسبة إليه مستهجنا كالخطابات الشخصية.

ولا منافاة بين استهجان الخطاب في موارد الخروج عن مورد الابتلاء وصحته في غيره من موارد الابتلاء كما أنّ الأمر كذلك في الخطابات القانونية.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن قلنا بعدم شمول الخطاب اصلا أو بشموله وعدم تنجيزه وإن

__________________

(١) تهذيب الاصول / ج ٢ ، ص ٢٨٢.

١١٦

كان الأظهر هو الأوّل لعدم فائدة في شمول الخطاب للخارج عن مورد الابتلاء كما لا يشمل من لا قدرة له عقلا ودعوى الشمول وعذرية العجز أو الخروج عن مورد الابتلاء كما ترى.

وربما يقال إنّ جعل القانون على عنوان مطلق أو عام شامل لأيّ خمر كانت مثلا فلا استهجان فيه اصلا وذلك أنّ المطلق أو العام لا تعرض له إلّا لما يحكي عنه عنوان المطلق والعام ولا يتعرض للخصوصيات المكتنفة بالأفراد أصلا فإذا قال «حرمت عليكم الخمر أو كلّ خمر» فإنّما جعل هذا الحكم القانوني على طبيعة الخمر أو افرادها بما أنّها خمر أو مصداق للخمر لا نظر إلى أية خصوصية لا تخلو ـ لا محالة ـ الأفراد عنها فلا يرى الحاكم ولا المقنن خصوصيات الفرد أصلا بل حكمه وقانونه يجري ويتعلّق بالخمر بما أنّها خمر.

وحينئذ فالخمر القريبة من المكلّف الموجودة في بيته خمر فلا محالة أنّها حرام بما أنّها خمر وكذلك الخمر البعيدة عنه كلّ البعد أيضا خمر فهي أيضا حرام لشمول قوله عزوجل «حرّمت عليكم الخمر» لها أيضا وإذا راجعنا وجداننا لا نرى أيّ استهجان في شمول العموم ولا حاجة إلى ايراد تخصيص في الخطابات الفعلية القانونية أصلا هذا (١).

وأنت خبير بأنّ الحكم الفعلي من جميع الجهات بالنسبة إلى ما لا ابتلاء به يكون مستهجنا سواء كان ذلك بالخطاب الشخصي أو بالخطاب القانوني المنحلّ إلى الأفراد ومن جملتها ما لا ابتلاء به ولا فرق في ذلك بين أن تكون الخصوصيات المكتنفة بالأفراد مورد التعرض أو لم يكن إذ طلب ترك ذات فرد لا يكون مورد الابتلاء مستهجن لأنّ ذات الفرد المذكور خارج عن حيطة اختياره ولا فرق فيه بين أن يكون الخصوصيات الفردية مورد نظر الحاكم أو لا يكون فإنّ الملاك هو ذات الفرد فإذا لم يكن مورد الابتلاء استهجن الخطاب كما لا يخفى.

لا يقال : ليس الغرض من الأوامر والنواهي الشرعية مجرد تحقّق الفعل والترك خارجا كما في الأوامر والنواهي العرفية فإنّ غرضهم من الأمر بشيء ليس إلّا تحقّق الفعل خارجا كما أنّ غرضهم من النهي عن شيء لا يكون إلّا انتفاء هذا الشيء خارجا وحينئذ كان الأمر

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢١١.

١١٧

بشيء حاصل بنفسه عادة لغوا وطلبا للحاصل لا محالة وكذا النهي عن شيء متروك بنفسه لغو مستهجن بشهادة الوجدان.

وهذا بخلاف الأوامر والنواهي الشرعية فإنّ الغرض منها ليس مجرد تحقّق الفعل والترك خارجا بل الغرض صدور الفعل استنادا إلى أمر المولى وكون الترك مستندا إلى نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفساني كما اشير إليه بقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) ولا فرق في هذه الجهة بين التعبدي والتوصلي لما ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي من أنّ الغرض من الأمر والنهي في كليهما هو الاستناد في الأفعال والتروك إلى أمر المولى ونهيه بحيث يكون العبد متحركا تكوينا بتحريكه التشريعي وساكنا كذلك بتوقيفه التشريعي ليحصل لهم بذلك الترقي والتكميل النفساني إنّما الفرق بينهما في أنّ الملاك أيّ المصلحة في متعلّق الأمر والمفسدة في متعلّق النهي لو توقف حصوله على قصد القربة فهو تعبدي وإلّا فهو توصلي ومع كون الغرض من التكليف الشرعي هو الفعل المستند إلى أمر المولى والترك المستند إلى نهيه لا مجرد الفعل والترك لا قبح في الأمر بشيء حاصل عادة بنفسه ولا في النهي عن شيء متروك بنفسه إذ ليس الغرض مجرد الفعل والترك حتّى يكون الأمر والنهي لغوا وطلبا للحاصل.

ويشهد بذلك وقوع الأمر في الشريعة المقدسة بأشياء تكون حاصلة بنفسها عادة كحفظ النفس والانفاق على الأولاد والزوجة وكذا وقوع النهي عن أشياء متروكة بنفسها كالزنا بالأمهات وأكل القاذورات ونحو ذلك ممّا هو كثير جدا (١).

لأنّا نقول : أوّلا : إنّ قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) لا إطلاق له بالنسبة إلى التوصليات خصوصا النواهي التي تكون خارجة عن محلّ الابتلاء لأنّ موضوعه هو الأوامر.

وثانيا : أنّ الغرض لزم أن يكون متناسبا مع الخطاب فإذا كان الخطاب خطابا الزاميا

__________________

(١) مصباح الاصول / ج ٢ ، ص ٣٩٥.

١١٨

فاللازم أن يكون الغرض منه لزوميا وعليه فالغرض الراجح لا يصلح لأن يكون غرضا للخطابات الإلزامية والغرض المذكور وهو استناد الفعل أو الترك إلى أمره ونهيه من الأغراض الراجعة لا اللزومية.

وثالثا : أنّ الفعل والترك الاختياريين لزم أن يكونا مورد الابتلاء حتّى يمكن استنادهما إلى الفاعل أو التارك وإلّا فمع عدم كونهما مورد الابتلاء لا يكون عدم الصدور إلّا من باب السالبة بانتفاء الموضوع فلا يصلح للاستناد حتّى يتركه لله تعالى.

فتحصّل : أنّ شرط حسن الخطاب أو تنجيزه هو كون متعلقه مورد الابتلاء وعليه فمع عدم احراز هذا الشرط في بعض أطراف المعلوم بالإجمال لا علم بالخطاب المنجّز ومعه يجري البراءة في طرف آخر يكون مورد الابتلاء كما لا يخفى.

وإن أبيت عن استهجان ذلك وقلت مقتضى العلم الإجمالي هو لزوم الاحتياط لتعارض الأصول في الأطراف فلقائل أن يقول إنّا رفعنا اليد عن أدلة البراءة العامة في أطراف المعلوم بالإجمال من ناحية الأدلة الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط وتلك الأدلة منصرفة عن موارد الخروج عن محلّ الابتلاء وعليه فمقتضى تمامية أدلة البراءة الشرعية في أطراف المعلوم بالإجمال هو المنع عن تأثير العلم الإجمالي لعدم وجود رافع بالنسبة إليه.

هذا مضافا إلى روايات خاصّة في المقام تدلّ على عدم وجوب الاحتياط عند خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

منها صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم قال فقال ما الإبل إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه الحديث (١). بتقريب دلالتها كما في تسديد الأصول أنّ مورد شبهته وسرّ سؤاله ليس أنّ السلطان لا يحق له التصرف في الصدقات لكونه جائرا غاصبا للولاية بل كان

__________________

(١) الوسائل / الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٥.

١١٩

الجواز من هذه الناحية مفروغا عنه.

وإنّما وقع في شبهة الحرمة واحتمالها لعلمه بأنّهم يأخذون من الناس أزيد ممّا وجب عليهم ويحتمل أن يكون منطبقا على ما يشتري هو منهم فهو يعلم بوجود الحرام في ما بأيديهم اجمالا إلّا أنّه ليس مورد ابتلائه إلّا خصوص بعض أطراف هذا العلم وهو ما يريد شراءه منهم وحينئذ فتجويز شرائه ولا سيما بقوله لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه دليل واضح على جريان أصالة الحلية في الطرف الذي يكون محلّ الابتلاء كما هو واضح (١).

ومنها : صحيحة معاوية ابن وهب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال اشتر منه (٢).

والتقريب فيه كالتقريب السابق.

ومنها موثقة إسحاق بن عمار قال سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم قال يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحدا (٣) ، لا يقال إنّ مقتضى قوله ما لم يعلم أنّه ظلم هو لزوم الاجتناب عن مورد العلم الإجمالي لأنّا نقول إنّ قوله المذكور يدلّ على جواز اشتراء الشيء ما لم يعلم أنّ المشترى ظلم فيه وفي المقام يكون كذلك لأنّ الشيء الذي أخذه المشتري لا يعلم بأنّه ظلم فيه.

ومنها : صحيحة أبي بصير قال سألت أحدهما عليهما‌السلام عن شراء الخيانة والسرقة قال لا إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره فأمّا السرقة بعينها فلا إلّا أن يكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك (٤) وقد حمل قوله «إلّا أن يكون من متاع السلطان» على حاصل الأرض المفتوحة عنوة أو على مال الإمام كالأنفال ممّا فيه رخصة للشيعة فيها وكيف كان يكفي قوله «إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره» للدلالة على جواز الشراء في أطراف المعلوم بالإجمال

__________________

(١) تسديد الاصول / ج ٢ ، ص ٢١٣.

(٢) الوسائل / الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب ، ح ٤.

(٣) الوسائل / الباب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.

(٤) الوسائل / الباب ١ من أبواب عقد البيع ، ح ٤.

١٢٠