حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

(باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتلها غما من أجل (أَلَّا يَكُونُوا) أي أهل مكة (مُؤْمِنِينَ) (٣) ولعل هنا للإشفاق ، أي أشفق عليها بتخفيف هذا الغم (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ) بمعنى المضارع أي تظل أي تدوم (أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) فيؤمنون ، ولما وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو لأربابها جمعت الصفة منه جمع العقلاء (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) قرآن (مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) صفة كاشفة (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥) (فَقَدْ كَذَّبُوا) به (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا) عواقب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٦) (أَوَلَمْ يَرَوْا) ينظروا (إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها) أي كثيرا (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (٧) نوع حسن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دلالة على كمال قدرته تعالى (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ

____________________________________

قوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والباخع من بخع من باب نفع : قتل نفسه من وجد أو غيظ. قوله : (ولعل هنا للاشفاق) أي فالترجي بمعنى الأمر ، والمعنى ارحم نفسك وارأف بها. قوله : (أي أشفق عليها) بقطع الهمزة من الرباعي وبوصلها من الثلاثى ، والأول إن تعدى بمن كان بمعنى الخوف ، وإن تعدى بعلى كان بمعنى الرحمة والرفق. قوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ) الخ ، هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان حقيقة أمرهم ، والمعنى لا تحزن على عدم إيمانهم ، فإننا لو شئنا إيمانهم لأنزلنا عليهم معجزة تأخذ بقلوبهم ، فيؤمنون قهرا عليهم ، ولكن سبق في علمنا شقاؤهم ، فعدم إيمانهم منا لا منهم ، فأرح نفسك من التعب القائم بها ، و (إِنْ) حرف شرط ، و (نَشَأْ) فعل الشرط ، و (نُنَزِّلْ) جوابه.

قوله : (آيَةً) أي معجزة تخوفهم ، كرفع الجبل فوق رؤوسهم ، كما وقع لبني إسرائيل. قوله : (بمعنى المضارع) أشار بذلك إلى أن قوله : (فَظَلَّتْ) مستأنف ، ويصح أن يكون معطوفا على (نُنَزِّلْ) ، فهو في محل جزم. قوله : (ولما وصفت الأعناق بالخضوع) الخ ، دفع بذلك ما يقال : كيف جمع الأعناق بجمع العقلاء؟ فأجاب : بأنه لما ناسب الخضوع لها ، وهو وصف العقلاء ، جميعها بالياء والنون كقوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، وإلا فكان مقتضى الظاهر أن يقول خاضعة ، وهناك أجوبة أخر ، منها أن المراد بالأعناق الرؤساء ، ومنها أن لفظ الأعناق مقحم والأصل فظلوا لها خاضعين ، ومنها غير ذلك. قوله : (مِنْ ذِكْرٍ مِنْ) زائدة ، وقوله : (مِنَ الرَّحْمنِ مِنْ) ابتدائية. قوله : (صفة كاشفة) أي لأنه فهم من قوله : (يَأْتِيهِمْ) ، لأن التعبير بالفعل يفيد التجدد والحدوث. قوله : (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي غير متأملين. قوله : (عواقب) أي وعبر عنها بالأنباء ، لأن القرآن أخبر عنها ، والمراد ننزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) أي إلى عجائبها ، والهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، والتقدير أغفلوا ولم ينظروا إلى الأرض الخ ، وهذا بيان للأدلة التي تحدث في الأرض وقتا بعد وقت ، تدل على أنه منفرد بالألوهية ، ومع ذلك استمر أكثرهم على الكفر. قوله : (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها كَمْ) في محل نصب مفعول لأنبتنا ، و (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) تمييز لها. قوله : (نوع حسن) أي كثير النفع. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) الخ ، قد ذكرت هذه الآية في هذه السورة ثمان مرات. قوله : (في علم الله) هذا مبني على أصالة (كانَ) ، وقوله : (وكان قال سيبويه) الخ ، توجيه ثان فكان المناسب أن يقول : وقال

٨١

مُؤْمِنِينَ) (٨) في علم الله ، وكان قال سيبويه زائدة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) ذو العزة ينتقم من الكافرين (الرَّحِيمُ) (٩) يرحم المؤمنين (وَ) اذكر يا محمد لقومك (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) ليلة رأى النار والشجرة (أَنِ) أي بأن (ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) رسولا (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) معه ظلموا أنفسهم بالكفر بالله وبني إسرائيل باستعبادهم (أَلا) الهمزة للاستفهام الإنكاري (يَتَّقُونَ) (١١) الله بطاعته فيوحدونه (قالَ) موسى (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (١٢) (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من

____________________________________

سيبويه كان زائدة. قوله : (ذو العزة) أي الهيبة والجلال. قوله : (ينتقم من الكافرين) أي بمظهر عزته الذي هو القهر والغلبة ، وقوله : (يرحم المؤمنين) أي بمظهر رحمته.

قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) الخ ، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص : أولها قصة موسى وهارون ، ثانيها قصة إبراهيم ، ثالثها قصة نوح ، رابعها قصة هود ، خامسها قصة صالح ، سادسها قصة لوط ، سابعها قصة شعيب ، وتقدم حكمة ذكر تلك القصص ، أن بها تكون الحجة على الكافرين ، والزيادة في علم المؤمنين ، ولذا كان المؤمن من هذه الأمة أسعد السعداء ، وكافرها أشقى الأشقياء ، وحكمة التكرار الزيادة في إيمان المؤمن ، وقطع حجة الكافر ، والظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (اذكر) ، وليس المراد به ذكر وقت المناداة ، بل المراد ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت. قوله : (ليلة رأى النار والشجرة) أي رأى النار موقدة في الشجرة الخضراء ، وليس هذا مبدأ ما وقع في المناداة ، وإنما هو ما فصل في سورة طه من قوله تعالى : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) إلى قوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى).

قوله : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يصح أن تكون (أَنِ) مصدرية كما مشى عليه المفسر ، أو مفسرة لتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه ، وكان النداء بكلام نفسي ، سمعه من جميع جهاته بجميع أجزائه من غير واسطة. قوله : (رسولا) حال من فاعل (ائْتِ). قوله : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل من القوم الظالمين ، وقوله : (معه) أي فرعون ، وهذا قد فهم بالأولى لأنه رأس الضلال. قوله : (وبني إسرائيل) معطوف على (أنفسهم) ، والتقدير وظلموا بني إسرائيل. قوله : (باستعبادهم) أي معاملتهم إياهم معاملة العبيد في استخدامهم في الأعمال الشاقة والصنائع الخسيسة نحو أربعمائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين. قوله : (للاستفهام الإنكاري) المناسب أن يقول للاستفهام التعجبي ، لأن المعنى على الإنكار فاسد ، لأنه للنفي ، ومدخولها نفي ، ونفي النفي إثبات ، فيصير المعنى أنهم اتقوا الله وليس كذلك ، ويصح أن تكون ألا للعرض.

قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ) الخ ، اعتذار من موسى لإظهار العجز عن الأمر الذي كلفه ، وقد أتى بثلاثة أعذار ، كل واحد منها مرتب على ما قبله. قوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) هما بالرفع على الاستئناف ، أو عطف على خبر إن عند السبع ، وقرىء شذوذا بنصهما عطفا على مدخول أن ، والمقصود من هذا الاعتذار ، الإعانة على هذا الأمر المهم ، بشرح الصدر ، وطلق اللسان ، وإرسال أخيه ، والأمن من القتل ، وقد دل على ذلك قوله في سورة طه (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً

٨٢

تكذيبهم لي (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بأداء الرسالة للعقدة التي فيه (فَأَرْسِلْ إِلى) أخي (هارُونَ) (١٣) معي (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) بقتل القبطي منهم (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (١٤) به (قالَ) تعالى (كَلَّا) أي لا يقتلونك (فَاذْهَبا) أي أنت وأخوك ، ففيه تغليب الحاضر على الغائب (بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥) ما تقولون وما يقال لكم ، أجريا مجرى الجماعة (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا) أي كلّا منا (رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦) إليك (أَنْ) أي بأن (أَرْسِلْ مَعَنا) إلى الشام (بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧) فأتياه فقالا له ما ذكر (قالَ) فرعون لموسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) في منازلنا (وَلِيداً) صغيرا قريبا من الولادة بعد فطامه (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (١٨) ثلاثين سنة

____________________________________

مِنْ لِسانِي) الآيات. قوله : (للعقدة التي فيه) أي الثقل الحاصل بسبب وضع الجمرة عليه وهو صغير ، حين نتف لحية فرعون ، فاغتم لذلك وهم بقتله ، فأشارت عليه زوجته أن يمتحنه ، فقدم له تمرة وجمرة ، فأخذ الجمرة بتحويل جبريل يده فوضعها على لسانه ، فحصل فيه ثقل في النطق.

قوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي وكان في مصر ، فأتاه جبريل بالرسالة على حين غفلة ، فموسى جاءته الرسالة من ربه بلا واسطة جبريل ، وإن كان حاضرا ، وهارون جاءته الرسالة في ذلك الوقت أيضا بواسطة جبريل. قوله : (معي) أي ليكون معينا لي ، وهو بمعنى قوله في سورة القصص (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي). قوله : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) أي في زعمهم. قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي فيفوت المقصود من الإرسال. قوله : (فيه تغليب الحاضر على الغائب) أي بالنسبة لموسى ، وإلا فهما حاضران بالنسبة لله تعالى ، لكن سمع موسى الخطاب من الله بلا واسطة ، وهارون سمعه بواسطة جبريل. قوله : (بِآياتِنا) جمع الآيات مع أنهما اثنان العصا واليد ، باعتبار ما اشتملت العصا عليه من الآيات له. قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) أي معية خاصة بالعون والنصر. قوله : (أجريا مجرى الجماعة) أي تعظيما لهما. قوله : (أي كلا منا) قدر ذلك لتحصل المطابقة بين اسم إن وخبرها ، الذي هو الرسول حيث أفرده.

قوله : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي خلصهم وأطلقهم. قوله : (فأتياه) الخ ، أشار بذلك إلى أن قوله : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ) الخ ، مرتب على محذوف ، روي أنهما لما انطلقا إلى فرعون ، لم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البواب على فرعون وقال له : ههنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال له فرعون : ائذن له لعلنا نضحك معه ، فدخلا عليه فوجداه قد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها ، فخاف خدامها أن تبطش بموسى وهارون ، فأسرعوا اليهما وأسرعت السباع إلى موسى وهارون ، فأقبلت تلحس أقدامهما ، وتلصق خدودها بفخذيهما فعجب فرعون من ذلك فقال : ما أنتما؟ قالا : إنا رسول رب العالمين ، فعرف موسى ، لأنه نشأ في بيته فقال : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الخ ، فامتن عليه أولا بنعمة التربية ، وثانيا بعدم مؤخذاته بما وقع منه من قتل القبطي. قوله : (قريبا من الولادة) قصده بذلك دفع ما ورد على الآية ، بأن الوليد يطلق على المولود حال ولادته ، وليس مرادا هنا ، فإنه كان زمن الرضاع عند أمه ، ثم أخذه فرعون بعد الفطام ، والأولى إبقاء الآية على ظاهرها ، لأن موسى وإن كان عند أمه ، إلا أنه تحت نظر فرعون ، فهو في تربيته من حين ولادته.

٨٣

يلبس من ملابس فرعون ويركب من مراكبه وكان يسمى ابنه (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) هي قتله القبطي (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١٩) الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد (قالَ) موسى (فَعَلْتُها إِذاً) أي حينئذ (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٠) عما آتاني بعدها من العلم والرسالة (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) علما (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) أصله تمن بها عليّ (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢) بيان لتلك ، أي اتخذتهم عبيدا ولم تستعبدني ، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم ، وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار (قالَ فِرْعَوْنُ) لموسى (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣) الذي قلت إنك رسوله ، أي أيّ شيء هو؟ ولما لم يكن سبيل للخلق إلى معرفة حقيقته تعالى وإنما يعرفونه بصفاته أجابه موسى عليه الصلاة والسّلام ببعضها (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢٤) بأنه تعالى خالقه فآمنوا به وحده (قالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه (أَلا

____________________________________

قوله : (مِنْ عُمُرِكَ) حال من سنين ، لأنه نعت نكرة قدم عليها. قوله : (وعدم الاستعباد) أي اتخاذك لي عبدا مثل بني إسرائيل. قوله : (حينئذ) هذا حل معنى لا حل اعراب ، وهي حرف جواب فقط ، وقيل حرف جواب وجزاء. قوله : (عما آتاني الله بعدها) الخ ، أي فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة لوم ؛ لعدم التكليف حينئذ ، أو المعنى من المخطئين لا من المتعمدين. قوله : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) في ذلك رد لما وبخه به فرعون ، وهو القتل بغير حق ، فكأنه قال : فكيف تدعي الرسالة ، وقد حصل منك ما يقدح في تلك الدعوى؟ فأجابه موسى بأنه قتله قبل أن تأتيه الرسالة ، ثم أتته بعد ذلك.

قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) مبتدأ وخبر ، وقوله : (تَمُنُّها) صفة لنعمة ، و (أَنْ عَبَّدْتَ) الخ ، عطف بيان موضح للمبتدأ ، كما قاله المفسر. قوله : (أصله تمن بها علي) أي فحذف الجار فاتصل الضمير ، فهو من باب الحذف والايصال. قوله : (ولم تستعبدني) أي فلا منة لك علي في عدم استعبادك إياي ، لأن استعبادك غيري ظلم ، وقد نجاني الله منه. قوله : (وقدر بعضهم) أي وهو الأخفش. قوله : (أول الكلام) أي والأصل أو تلك نعمة ، الخ. قوله : (للإنكار) أي وهو بمعنى النفي. قوله : (أي أي شيء هو) أي وذلك لأن ما يسأل بها عن الحقيقة. والمعنى أي جنس هو من أجناس الموجودات. قوله : (وَما بَيْنَهُمَا) أي جنس السماوات والأرض ، فاندفع ما قيل : لم ثني الضمير مع أن مرجعه جمع؟.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي محققين أن الله تعالى هو الخالق لها. قوله : (من أشراف قومه) أي وكانوا خمسمائة لابسين الأساور ، ولم يكن يلبسها إلا السلاطين على عادة الملوك. قوله : (الذي لم يطابق السؤال) أي لأن ما يسأل بها عن الحقيقة ، وقد أجابه بالصفات التي يسأل عنها بأي ، والعدول عن المطابقة ، لأن السؤال عن الحقيقة عبث وسفه لاستحالته. قوله : (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) إنما ذكر ذلك لأن نفوسهم أقرب الأشياء اليهم. قوله : (وهذا) أي الجواب. قوله : (ولذلك) أي لشدة غيظه. قوله : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ) سماه رسولا استهزاء ، وأضافه إلى المخاطبين استنكافا من نسبته له.

٨٤

تَسْتَمِعُونَ) (٢٥) جوابه الذي لم يطابق السؤال (قالَ) موسى (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦) وهذا وإن كان داخلا فيما قبله يغيظ فرعون ولذلك (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) (قالَ) موسى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) أنه كذلك فآمنوا به وحده (قالَ) فرعون لموسى (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٩) كان سجنه شديدا يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا (قالَ) له موسى (أَوَلَوْ) أي أتفعل ذلك ولو (جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٣٠) أي برهان بين على رسالتي (قالَ) فرعون له (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١) فيه (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢) حية عظيمة (وَنَزَعَ يَدَهُ) أخرجها من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) ذات شعاع (لِلنَّاظِرِينَ) (٣٣) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (قالَ) فرعون (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣٤) فائق في علم السحر (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٣٥) (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخر أمرهما (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٣٦) جامعين (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧) يفضل موسى في علم السحر (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣٨) وهو وقت الضحى من يوم الزينة (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) (٣٩) (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) (٤٠) الاستفهام للحث على الاجتماع ، والترجي على تقدير غلبتهم ليستمروا على دينهم فلا يتبعوا موسى (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين (لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ

____________________________________

قوله : (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) أي فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ، ويذهب بها من المغرب. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن كان لكم عقل ، وفيه رد لقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قوله : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي) الخ ، عدول عن الحاجة إلى التهديد ، لقصر حجته وجهله وعدم استقامته ، روي أنه فزع من موسى فزعا شديدا ، حتى كان اللعين لا يمسك بوله. قوله : (أي أتفعل ذلك) أشار إلى أن الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف. قوله : (قالَ فَأْتِ بِهِ) إنما أمر فرعون بالإتيان به ، لظنه أنه يقدر على معارضته.

قوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي من جيبه ، قيل لما رأى فرعون الآية الأولى قال : هل لك غيرها؟ فأخرج يده فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق. قوله : (من الأدمة) أي السمرة. قوله : (حَوْلَهُ) ظرف في محل الحال. قوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) لما رأى تلك الآيات الباهرة ، خاف على قومه أن يتبعوه ، فتنزل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستقلا بالرأي والتدبير ، وأراد تنفيرهم عن موسى عليه‌السلام. قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي أي شيء تأمرونني به. قوله : (يَأْتُوكَ) مجزوم في جواب الأمر. قوله : (يفضل موسى) أي يفوقه ويزيد عليه. قوله : (من يوم الزينة)

٨٥

الْغالِبِينَ) (٤١) (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً) أي حينئذ (لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٢) (قالَ لَهُمْ مُوسى) بعد ما قالوا له إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤٣) فالأمر فيه للإذن بتقديم إلقائهم توسلا به إلى إظهار الحق (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) (٤٤) (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) بحذف إحدى التاءين من الأصل تبتلغ (ما يَأْفِكُونَ) (٤٥) يقلبونه بتمويههم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦) (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٧) (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨) لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر (قالَ) فرعون (آمَنْتُمْ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا (لَهُ) لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ) أنا (لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فعلمكم شيئا منه وغلبكم بآخر (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينالكم مني (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٩) (قالُوا لا ضَيْرَ) لا ضرر علينا في ذلك

____________________________________

كان يوم عيد لهم ، وقيل كان يوم سوق. قوله : (والترجي على تقدير غلبتهم) أي الترجي على فرض الغلبة المقتضية للاتباع. قوله : (على الوجهين) أي تحقيقها وتسهيل الثانية ، وكان عليه أن يقول وتركه ، أي ترك الإدخال على الوجهين ، فتكون القراءات أربعا. قوله : (لَأَجْراً) أي أجرة وجعلا.

قوله : (قالَ نَعَمْ) أي لكم الأجرة على عملكم السحر. وزادهم بقوله : (وَإِنَّكُمْ إِذاً) الخ قوله : (فالأمر فيه) جواب عما يقال : كيف يأمرهم بفعل السحر ، مع أنه لا يجوز الأمر به ، لأن الأمر به رضا ، والرضا بالكفر كفر ، وحاصل الجواب : أن الممتنع الأمر به في حال كونه مستحسنا له ، وأما الأمر به للتوسل لإبطاله ، فليس فيه استحسان ولا رضا ، بل هو الممدوح شرعا. قوله : (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) أي نقسم ونحلف بعزة فرعون ، وأقسموا لفرط اعتقادهم في أنفسهم أنهم غالبون. قوله : (من الأصل) أي أصل الصيغة. قوله : (يقلبونه) أي يغيرونه عن حاله الأول من الجمادية ، إلى كونه حية تسعى. قوله : (بتمويههم) الباء سببية.

قوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ) أي خروا وسقطوا ساجدين لما رأوا من باهر المعجزة ، فلم يتمالكوا أنفسهم. قوله : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بدل مما قبله للتوضيح وللإشعار ، بأن سبب إيمانهم ، ما أجراه الله على يد موسى وهارون. قوله : (وإبدال الثانية ألفا) صوابه الثالثة لأنها هي المنقلبة ألفا ، وترك قراءة أخرى ، وهي حذف الأولى من الهمزتين وقلب الثانية ألفا. قوله : (فعلمكم شيئا منه وغلبكم بآخر) أي أخفاه منكم ، وأراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه ، لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا على بصيرة وظهور حق.

قوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) حاصله أنهم لما آمنوا بأجمعهم ، اشتد خوف فرعون على باقي قومه من دخولهم في الايمان ، فنفر الباقي بقوله : (لَأُقَطِّعَنَ) الخ. قوله : (إِنَّا إِلى رَبِّنا

٨٦

(إِنَّا إِلى رَبِّنا) بعد موتنا بأي وجه كان (مُنْقَلِبُونَ) (٥٠) راجعون في الآخرة (إِنَّا نَطْمَعُ) نرجو (أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ) أي بأن (كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١) في زماننا (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد سنين أقامها بينهم يدعوهم بآيات الله إلى الحق فلم يزيدوا إلا عتوّا (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) بني إسرائيل ، وفي قراءة بكسر النون ووصل همزة أسرى من سرى لغة في أسرى أي سر بهم ليلا إلى البحر (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢) يتبعكم فرعون وجنوده فيلجون وراءكم البحر فأنجيكم وأغرقهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين أخبر بسيرهم (فِي الْمَدائِنِ) قيل كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية (حاشِرِينَ) (٥٣) جامعين الجيش قائلا (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ) طائفة (قَلِيلُونَ) (٥٤) قيل كانوا

____________________________________

مُنْقَلِبُونَ) تعليل لنفي الضمير ، وهل فعل بهم ما توعدهم به خلاف ، ولم يرد في القرآن ما يدل على أنه فعل. قوله : (في زماننا) أي من أتباع فرعون ، فلا ينافي أن بني إسرائيل سبقوهم بالايمان.

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) يحتمل أن يكون بتكليم الله له ، أو على لسان جبريل. قوله : (بعد سنين) أي ثلاثين ، وذلك أن موسى مكث في مصر أولا ثلاثين ، وفي مدين عشر سنين ، ثم لما رجع إلى مصر ثانيا ، مكث يدعوهم إلى الله ثلاثين سنة ، ثم أغرق الله فرعون وقومه ، وعاش بعد ذلك خمسين سنة ، فجملة عمره مائة وعشرون سنة. قوله : (بآيات الله) أي باقي التسع ، لأن موسى افتتحهم أولا بالعصا واليد فلم يؤمنوا ، فجاءهم بالسنين المجدبة ، ثم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس على أموالهم ، فلم يفد فيهم ذلك ، وقد سبق ذلك مفصلا في الأعراف.

قوله : (بِعِبادِي) الإضافة للتشريف ، والمعنى سر بعبادي المختصين برحمتي ، وإلا فالكل من حيث الخلق عباده. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (أي سر بهم ليلا) تفسير لكل من القراءتين. قوله : (إلى البحر) أي بحر القلزم ، فخرج موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل في آخر الليل ، فترك طريق الشام على يساره وتوجه جهة البحر ، فكان الرجل من بني إسرائيل يراجعه في ذلك فيقول : هكذا أمرني ربي ، فلما أصبح فرعون ، وعلم بسير موسى ببني إسرائيل ، خرج في أثرهم ، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه الجيوش.

قوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) علة للأمر بالسير. قوله : (حين أخبر بسيرهم) روي أن قوم موسى قالوا لجماعة فرعون : إن لنا في هذه الليلة عيدا ، ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر ، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم. قوله : (ومقدمة جيشه) الخ ، أي وجملة جيشه ألف ألف وستمائة. قوله : (فاعلون ما يغيظنا) أي حيث خالفوا ديننا ، وطمسوا على أموالنا ، وقتلوا أبكارنا ، لما روي أن الله أمر الملائكة أن يقتلوا أبكار القبط ، وأوحى إلى موسى أن يجمع بني إسرائيل ، كل أربعة أبيات في بيت ، ثم يذبحوا أولاد الضأن ، ويلطخوا أبوابهم بدمائها لتميز الملائكة بيوت بني إسرائيل من بيوت القبط ، فدخلت الملائكة فقتلت أبكارهم ، فأصبحوا مشغولين بموتاهم ، وهذا هو سبب تأخر فرعون وقومه عن موسى وقومه.

٨٧

ستمائة ألف وسبعين ألفا ومقدمة جيشه سبعمائة ألف فقللهم بالنظر إلى كثرة جيشه (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) (٥٥) فاعلون ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) (٥٦) متيقظون وفي قراءة حاذرون مستعدون ، قال تعالى (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه (مِنْ جَنَّاتٍ) بساتين كانت على جانبي النيل (وَعُيُونٍ) (٥٧) أنهار جارية في الدور من النيل (وَكُنُوزٍ) أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوزا لأنه لم يعط حق الله منها (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٥٨) مجلس حسن للأمراء والوزراء يحفه أتباعهم (كَذلِكَ) أي إخراجنا كما وصفنا (وَأَوْرَثْناها بَنِي

____________________________________

قوله : (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي من عادتنا الحذر والحزم في الأمور. قوله : (وفي قراءة) الخ ، أي وهي سبعية أيضا بمعنى الأولى ، وقيل الحذر المتيقظ ، والحاذر الخائف. قوله : (كانت على جانبي النيل) أي من أسوان إلى رشيد ، قال كعب الأحبار : أربعة أنهار من الجنة وضعها الله تعالى في الدنيا : سيحان وجيجان والنيل والفرات ، فسيحان نهر الماء في الجنة ، وجيجان نهر اللبن في الجنة ، والنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة. قوله : (أموال ظاهرة) هذا أحد قولين ، وقيل المراد بالكنوز الأموال التي تحت الأرض وخصها بالذكر ، لأن ما فوق الأرض انطمس ، وحينئذ فتسميتها كنوزا ظاهرا. قوله : (مجلس حسن للأمراء والوزراء) قيل كان إذا قعد على سريره ، وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب ، يجلس عليها الاشراف من قومه والامراء وعليهم قبة الديباج مرصعة بالذهب ، وقيل المقام الكريم المنابر ، وكانت ألف منبر لألف جبار ، يعظمون عليها فرعون وملكه. قوله : (إخراجنا كما وصفنا) أشار بذلك إلى أن قوله : (كَذلِكَ) خبر لمحذوف.

قوله : (وَأَوْرَثْناها) أي الجنات والعيون والكنوز ، وقيل المراد أورثنا بني إسرائيل ما استعاروه من حلي آل فرعون ، والأحسن أن يراد ما هو أعم ، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه ، وملكوا مشارق الأرض ومغاربها. قوله : (وقت شروق الشمس) أي يوم الملاقاة ، وليس المراد أنهم أدركوا بني إسرائيل يوم خروجهم ، لأنهم تأخروا عنهم ، حتى جمعوا جيوشهم ودفنوا موتاهم. قوله : (أي لن يدركونا) أشار بذلك إلى أن كلا للنفي. والمعنى لا سبيل لهم علينا ، لأن الله وعدنا بالخلاص منهم.

قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) الخ ، قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر ، هاج البحر فصار يرمي بموج كالجبال ، فصار بنو إسرائيل يقولون : أين أمرت ، فرعون من خلفنا والبحر أمامنا ، وموسى يقول : ههنا ، فأوحى الله اليه أن اضرب بعصاك البحر ، فإذا الرجال واقف على فرسه ، ولم يبتل سرجه ولا لبده. قوله : (اثني عشر فرقا) أي قطعة بعدد أسباط بني إسرائيل. قوله : (بينها مسالك) أي بين الاثني عشر فرقا. قوله : (على هيئته) أي وهي انفلاقه اثنتي عشرة فرقة. قوله : (وحزقيل) المذكور في قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الخ ، وقوله : (ومريم بنت ناموسي) أي كانت عجوزا تعيش من العمر نحو سبعمائة سنة. قوله : (التي دلت على عظام يوسف عليه‌السلام) أي وسبب ذلك : أن الله أمر

٨٨

إِسْرائِيلَ) (٥٩) بعد إغراق فرعون وقومه (فَأَتْبَعُوهُمْ) لحقوهم (مُشْرِقِينَ) (٦٠) وقت شروق الشمس (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي رأى كل منهما الآخر (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) يدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا به (قالَ) موسى (كَلَّا) أي لن يدركونا (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بنصره (سَيَهْدِينِ) (٦٢) طريق النجاة قال تعالى (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه (فَانْفَلَقَ) فانشق اثني عشر فرقا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) الجبل الضخم بينها مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب ولا لبده (وَأَزْلَفْنا) قربنا (ثَمَ) هناك (الْآخَرِينَ) (٦٤) فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) (٦٥) بإخراجهم من البحر على هيئته المذكورة (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٦٦) فرعون وقومه بإطباق البحر عليهم لما تم دخولهم في البحر وخروج بني إسرائيل منه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي إغراق فرعون وقومه (لَآيَةً) عبرة لمن بعدهم (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٦٧) بالله لم يؤمن منهم غير آسية امرأة فرعون وحزقيل مؤمن آل فرعون ومريم بنت ناموسي التي دلت على عظام يوسف عليه‌السلام (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) فانتقم من الكافرين بإغراقهم (الرَّحِيمُ) (٦٨) بالمؤمنين فأنجاهم من الغرق (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي كفار مكة (نَبَأَ) خبر (إِبْراهِيمَ) (٦٩) ويبدل منه (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما

____________________________________

موسى بأخذ يوسف معه إلى الشام حين خروجه من مصر ، فسأل عن قبره فلم يعرف إذ ذاك ، فدلته عليه هذه العجوز ، بعد أن ضمن لها موسى على الله الجنة ، وكان يوسف قد دفن في قعر بحر النيل ، فحفر عليه موسى وأخرجه وذهب به إلى الشام.

ـ فائدة ـ قال قيس بن حجاج : لما فتحت مصر ، أتى أهلها إلى سيدنا عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر القبط ، فقالوا : أيها الأمير ، إن لنيلنا هذا سنة وعادة لا يجري إلا بها ، فقال لهم : وما ذاك؟ فقالوا : إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر ، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، أرضينا أبويها وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو : هذا لا يكون في الإسلام ، وإن الإسلام ليهدم ما قبله ، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى ، لا يجري قليلا ولا كثيرا وهموا بالجلاء ، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص ، كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعلمه بالقصة ، فكتب إليه عمر بن الخطاب : إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وإني بعثت اليك بطاقة في داخل كتابي ، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي ، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص ، أخذ البطاقة ففتحها ، فإذا فيها من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر ، أما بعد ، فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك ، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك ، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم ، فأصبحوا وقد زاد في تلك الليلة ستة عشر ذراعا ، وقطع الله تلك السيرة من تلك السنة.

قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) عطف على (اذكر) العامل في قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) الخ ، عطف قصة على قصة. قوله : (أي كفار مكة) خصهم بالذكر لأنهم الحاضرون وقت نزول الآية ،

٨٩

تَعْبُدُونَ) (٧٠) (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً) صرحوا بالفعل ليعطفوا عليه (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (٧١) أي نقيم نهارا على عبادتها ، زادوه في الجواب افتخارا به (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ) حين (تَدْعُونَ) (٧٢) (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إن عبدتموهم (أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) كم إن لم تعبدوهم (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٧٤) أي مثل فعلنا (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) (٧٥) (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) (٧٦) (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) لا أعبدهم (إِلَّا) لكن (رَبَّ الْعالَمِينَ.) (٧٧) فإني أعبده (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) إلى الدين (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (٧٩) (وَإِذا

____________________________________

وإلا فهو خطاب لهم ولمن بعدهم إلى يوم القيامة. قوله : (ويبدل منه) أي بدل مفصل من مجمل. قوله : (ما تَعْبُدُونَ ما) اسم استفهام معمول لتعبدون ، والمعنى ما هذا الذي تعبدونه ، أي ما حقيقته. قوله : (صرحوا بالفعل) الخ ، جواب عما يقال : كان القياس أن يقولوا أصناما كقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) فأجاب بأنهم صرحوا بالفعل ، ليعطفوا عليه ما فيه الافتخار. قوله : (أي نقيم نهارا على عبادتها) هذا معنى نظل الأصلي ، ولكن مقتضى الافتخار ، أن يكون معناها ندوم على عبادتها ليلا ونهارا. قوله : (زادوه) أي قوله : (فَنَظَلُ) الخ.

قوله : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) أتى بالمضارع إشارة إلى أن هذا الوصف مستمر وثابت في الأصنام في الماضي والحال والاستقبال ، ولا بد من محذوف هنا ، دل عليه قوله : (إِذْ تَدْعُونَ) تقديره هل يسمعون دعاءكم؟ قوله : (إِذْ تَدْعُونَ إِذْ) هنا بمعنى إذا ، استحضارا للحال الماضية وحكاية لها تبكيتا عليهم. قوله : (قالُوا بَلْ وَجَدْنا) الخ ، هذا الجواب يفيد تسليم ما قاله إبراهيم ، وإنما اعتذروا عن ذلك بالتقليد ، فلما لم يجدوا مخلصا غيره احتجوا به. قوله : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أتأملتم فعلكم أو أبصرتم ما كنتم تعبدونه. قوله : (وَآباؤُكُمُ) عطف على الضمير في (تَعْبُدُونَ) وهو ضمير رفع متصل ، فلذا فصل بالضمير المنفصل ، قال ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

قوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أسند العداوة لنفسه تعريضا بهم ، وهو أبلغ في النصيحة من التصريح بأن يقول فإنهم عدو لكم ، إن قلت : كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي لا تعقل؟ أجيب بأجوبة منها : أن المعنى عدو لي يوم القيامة إن عبدتهم في الدنيا ، ومنها أن الكلام على حذف مضاف ؛ أي فإن أصحابهم عدو لي ، ومنها أن الكلام على القلب أي فإني عدو لهم. قوله : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أشار المفسر بقوله : (لكن) إلى أن الاستثناء منقطع ، والمعنى لكن رب العالمين ليس بعدوي ، بل هو وليي في الدنيا والآخرة. قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) نعت لرب العالمين ، أو بدل أو عطف بيان أو خبر لمحذوف ، وما بعده عطف عليه. قوله : (فَهُوَ يَهْدِينِ) أتى بالفاء هنا ، وفي قوله : (يَشْفِينِ) لترتب الهداية على الخلق والشفاء على المرض ، بخلاف الإطعام والإسقاء ، فليس بينهما ترتب ، وأتى بثم في جانب الاحياء ، لبعد زمنه عن زمن الموت ، لأن المراد به الاحياء في الآخرة. قوله : (إلى الدين) أي وغيره من مصالح دنياي وآخرتي ، وإنما خص الدين ، لأن المقام للرد ولأنه أهم.

٩٠

مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠) (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) (٨١) (وَالَّذِي أَطْمَعُ) أرجو (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) أي الجزاء (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) علما (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٨٣) النبيين (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) ثناء حسنا (فِي الْآخِرِينَ) (٨٤) الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) (٨٥) أي ممن يعطاها (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) بأن تتوب عليه فتغفر له وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله كما ذكر في سورة براءة (وَلا تُخْزِنِي) تفضحني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (٨٧) أي الناس ، قال تعالى فيه (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (٨٨) أحدا

____________________________________

قوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي في الدنيا والآخرة. قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض لنفسه ، وإن كان الكل من الله تأدبا كما قال تعالى : (بيدك الخير) ولم يقل الشر ، وقال الخضر : (فأردت أن أعيبها) ، وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما). قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ) عبر بالطمع المفيد عدم الأخذ في الأسباب ، مع أنها حاصلة منه لعدم اعتماده عليها. قوله : (أَنْ يَغْفِرَ لِي) ذكر ذلك تواضعا وتعليما للأمة ، وإلا فهو معصوم من الخطايا. قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) لما ذكر تلك الأوصاف قوي رجاؤه في ربه ، فطلب منه معالي الأمور ، وخير الدنيا والآخرة. قوله : (علما) أي زيادة فيه. قوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي في العمل أو في درجات الجنة.

قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) من اضافة الموصوف للصفة ، أي ذكرا حسنا ، من باب تسمية الشيء باسم آلته. قوله : (الذين يأتون بعدي) وقد أجابه الله تعالى ، فما من أمة من الأمم ، إلا وهي تحييه وتثني عليه بخير ، سيما هذه الأمة المحمدية خصوصا في المؤمنين منهم ، فإنهم يذكرونه بخير في كل تشهد ، وإنما طلب ذلك لينتفع به هو ، وينتفع به المثني ، لكن بشرط الإيمان ، وأما حديث : «من أحب قوما حشر معهم وإن لم يعمل بعملهم» فمعناه : إذا اشتركوا معهم في الإيمان وإن لم يصلوا لمقامهم.

قوله : (مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي مندرجا فيهم ومن جملتهم ، واضافة جنة للنعيم من اضافة المحل إلى الحال فيه ، فالمراد مطلق الجنة لا خصوص الدار المسماة بذلك ، وقد أجابه الله في جميع دعواته ، سوى الدعاء بالغفران لأبيه. قوله : (بأن تتوب عليه) الخ ، ظاهره أن هذا الدعاء صدر من إبراهيم وأبوه حي ، ولكن ينافيه قوله : (وهذا قبل أن يتبين له) فإن التبين المذكور ، إنما حصل بموته كافرا ، وحينئذ فلا يصح جعله قيدا للدعاء له في حياته بالتوفيق للإيمان ، وإنما يصح لو كان المراد الدعاء له بمغفرة الذنوب على حالته التي هو عليها. وأجيب : بأنه لا مانع أن الله أعلم إبراهيم بموت أبيه كافرا وهو حي ، فقد صح ما قاله المفسر. قوله : (وهذا) أي الدعاء له بما ذكر. قوله : (كما ذكر في سورة براءة) أي قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ). لآية. قوله : (تفضحني) أي تكشف عيوبي بين خلقك ، وهذا تواضع منه أو بالنظر للتجويز العقلي ، فإن تعذيب المطيع جائز عقلا لا شرعا. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) الخ ، من كلام الله تعالى ، ويصح أن يكون من كلام إبراهيم ، فيكون بدلا من يوم قبله. قوله : (لكن) (مَنْ أَتَى اللهَ) الخ ؛ أشار المفسر بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، ولكن ينافيه تقديره أحدا ، فتحصل أن الاستثناء ، إما منقطع إن جعل من قوله : (مالٌ وَلا بَنُونَ) ويكون

٩١

(إِلَّا) لكن (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩) من الشرك والنفاق وهو قلب المؤمن فإنه ينفعه ذلك (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) قربت (لِلْمُتَّقِينَ) (٩٠) فيرونها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أظهرت (لِلْغاوِينَ) (٩١) الكافرين (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) (٩٢) (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره من الأصنام (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (٩٣) بدفعه عن أنفسهم لا (فَكُبْكِبُوا) ألقوا (فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) (٩٤) (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس (أَجْمَعُونَ) (٩٥) (قالُوا) أي الغاوون (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) (٩٦) مع معبوديهم (تَاللهِ إِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنه (كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٩٧) بيّن (إِذْ) حيث (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٩٨) في العبادة (وَما أَضَلَّنا) عن الهدى (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٩٩) أي الشياطين أو أولونا الذين اقتدينا بهم (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (١٠٠) كما للمؤمنين من الملائكة والنبيين والمؤمنين (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١) أي يهمه أمرنا (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٢)

____________________________________

المعنى (لكن) (مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فإنه ينتفع ، أو متصل أن جعل من المفعول الذي قدره المفسر ، والتقدير لا ينفع المال والبنون أحدا إلا الذي أتى الله بقلب سليم ، فإنه ينفعه المال والبنون. قوله : (وهو قلب المؤمن) أي فينتفع بالمال الذي أنفقه في الخير والولد الصالح بدعائه له لما في الحديث : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

قوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي بحيث يشاهدونها في الموقف ويعرفون ما فيها ، فتحصل لهم البهجة والسرور ، وعبر بالماضي لتحقق الحصول. قوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي جعلت لهم بارزة ظاهرة ، بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع العذاب ، فتحصل لهم المساءة والأحزان ، ويوقنون بأنهم مواقعوها ، ولا يجدون عنها مصرفا.

قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ) أي على سبيل التوبيخ. قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَيْنَ) خبر مقدم ، و (ما) مبتدأ مؤخر ، و (كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) صلة ما والعائد محذوف تقديره تعبدونه ، وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) حال. قوله : (ألقوا) أي مرة بعد أخرى ، لأن الكبكبة تكرير الكب ، وهو الإلقاء على الوجه ، كأن من ألقي في النار ، ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها. قوله : (الْغاوُونَ) عطف على ضمير كبكبوا ، وسوغه الفصل بالجار والمجرور وضمير الفصل. قوله : (ومن أطاعه) عطف تفسير. قوله : (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) الجملة حالية ، ومقول القول (تَاللهِ) الخ. قوله : (واسمها محذوف) الخ ، قد يقال إنها في الآية مهملة ، فلا اسم لها ولا خبر لوجود اللام ، قال ابن مالك : وخففت إن فقل العمل الخ.

قوله : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ) ظرف لكونهم في ضلال مبين. قوله : (أو أولونا) أي السابقون علينا ، وهو جمع أول. قوله : (من الملائكة والنبيين) الخ ، فالشفعاء تكثر للمؤمنين لما ورد : لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة. قوله : (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أفرد الصديق وجمع الشفعاء ، لكثرة الشفعاء في العادة ، وقلة

٩٢

لو هنا للتمني ، ونكون جوابه (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من قصة إبراهيم وقومه (لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٠٣) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤) (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٠٥) بتكذيبهم له لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل وتأنيث قوم باعتبار معناه وتذكيره باعتبار لفظه (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) نسبا (نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٠٦) الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٠٧) على تبليغ ما أرسلت به (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٠٨) فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغه (مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (أَجْرِيَ) أي ثوابي (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠٩) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١١٠) كرره تأكيدا (قالُوا أَنُؤْمِنُ) نصدّق (لَكَ) لقولك (وَاتَّبَعَكَ) وفي قراءة وأتباعك جمع تابع مبتدأ (الْأَرْذَلُونَ) (١١١) السفلة كالحاكة والأساكفة (قالَ وَما عِلْمِي) أي علم لي (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١٢)

____________________________________

الصديق والحميم القريب من قولهم حامة فلان أي خاصته أو الخالص ، ويؤيده قول المفسر (أي يهمه أمرنا) ، وقوله : (يهمه) بضم أوله وكسر ثانية ، وبفتح أوله وضم ثانيه. قوله : (ونكون جوابه) أي فهو منصوب في جواب التمني. قوله : (لَآيَةً) أي عظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر ، فإنها على أحسن ترتيب.

قوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بل لم يؤمن منهم إلا لوط ابن أخيه ، وسارة زوجته ، كما تقدم في سورة الأنبياء. قوله : (بتكذيبهم له) جواب عما يقال : لم جمع المرسلين ، مع أنهم إنما كذبوا رسولا واحدا وهو نوح؟ فأجاب : بأن تكذيبهم له تكذيب للباقي ، فالجمع على حقيقته ، وقوله : (أو لأنه) الخ ، جواب ثان ، وعليه فالجمع مجاز. قوله : (وتأنيث قوم) أي تأنيث الفعل المسند اليه ، وقوله : (باعتبار) معناه أي وهو الأمة والجماعة. قوله : (وتذكيره) أي تذكير الضمير العائد عليه في قوله : (إِذْ قالَ لَهُمْ) ولا مفهوم لقوم ، بل كل اسم جمع أو جمع تكسير لمذكر أو لمؤنث كذلك. قوله : (نسبا) أي لا في الدين. قوله : (نُوحٌ) تقدم أن اسمه عبد الغفار أو يشكر ، ونوح لقبه. قوله : (أَلا تَتَّقُونَ أَلا) للعرض. قوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) إنما أخبر بذلك ليتبع ، وليس قصده الافتخار. قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه.

قوله : (مِنْ أَجْرٍ مِنْ) زائدة في المفعول ، أي أجرة وجعلا. قوله : (كرره تأكيدا) أي وحسن ذلك كون الأول مرتبا على الرسالة والأمانة ، والثاني على عدم سؤاله أجرا منهم.

قوله : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) الخ ، هذا من سخافة عقولهم وفساد رأيهم ، حيث جعلوا اتباع الفقراء مانعا من ايمانهم ، وأشاروا بذلك إلى أن اتباعهم ليس خالصا لوجه الله ، بل هو طمع في أن ينالهم شيء من الدنيا. قوله : (وفي قراءة) ظاهرة أنها سبعية وليس كذلك بل هي عشرية ، والمعتمد جواز القراءة بها. قوله : (وأتباعك) مبتدأ ، وخبره (الْأَرْذَلُونَ) جمع أرذل ، كالأكبرون جمع أكبر. قوله : (السفلة) المراد بهم الفقراء والضعفاء ، وسبب مبادرتهم للإيمان قلة عوائقهم ، كالرياسة والغنى ، فإن ذلك موجب للأنفة عن الاتباع.

قوله : (قالَ وَما عِلْمِي) يحتمل أن تكون (ما) استفهامية ، واليه يشير المفسر بقوله : (أي علم لي)

٩٣

(إِنْ) ما (حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) فيجازيهم (لَوْ تَشْعُرُونَ) (١١٣) تعلمون ذلك ما عبّدتموهم (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٤) (إِنْ) ما (أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١١٥) بيّن الإنذار (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) عما تقول لنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١١٦) بالحجارة أو بالشتم (قالَ) نوح (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) (١١٧) (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي احكم (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٨) قال تعالى (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١١٩) المملوء من الناس والحيوان (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بعد إنجائهم (الْباقِينَ) (١٢٠) من قومه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٢١) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢) (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) (١٢٣) (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٢٤) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٢٥) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٢٦) (وَما

____________________________________

ويحتمل أن تكون نافية. قوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لم أكلف العلم بعقائدهم الباطنية ، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان. قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ) أي حساب بواطنهم. قوله : (ما عبدتموهم) قدره إشارة إلى أن (لَوْ) شرطية حذف جوابها. قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) جواب لما فهمه من طلبهم طرد الضعفاء ، وهذا كما سألت قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرد الموالي والفقراء ، كما تقدم في سبب نزول قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ). قوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي للمكلفين أعزاء وغيرهم ، فكيف يليق مني طرد الفقراء؟.

قوله : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أي تترك ما أنت عليه من معارضتنا. قوله : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) إنما قال ذلك تمهيدا للدعاء عليهم كأنه قال : إنهم أعرضوا عن دينك وتوحيدك ، فأنا أدعو عليهم لأجل ذلك ، والمعنى أنهم استمروا على تكذيبي وأصروا عليه ، بعد ما كررت عليهم الدعوة ، وسيأتي تفصيل ذلك في سورة نوح في قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) الخ ، قوله : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) من الفتاحة بالضم والكسر وهي الحكومة ، أي احكم بيننا بما يستحقه كل منا. قوله : (وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) آثر الإيمان إشارة إلى أنهم خالصون في الاتباع ، وكان من معه من المؤمنين ثمانين ، أربعون من الرجال وأربعون من النساء ، على أحد أقوال تقدمت.

قوله : (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بالطوفان ، حيث التقى ماء السماء على ماء الأرض. قوله : (الْباقِينَ) (من قومه) أي صغارا وكبارا ، فالهلاك الدنيوي عمّ الكبار والصغار والبهائم ، وأما في الآخرة فالخلود في النار مخصوص بمن مات كافرا بعد البلوغ ، وأما صبيانهم بل وصبيان المشركين ، من أول الدنيا إلى آخرها ، فيدخلون الجنة بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ) اسم أبي قبيلة هود الأعلى ، سميت القبيلة باسمه ، فالمراد كذبت القبيلة المنسوبة لعاد ، وقوله : (الْمُرْسَلِينَ) المراد هود ، وإنما جمع لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الجميع ، لاشتراك الكل في المجيء بالتوحيد. قوله : (أَخُوهُمْ) أي من النسب لما تقدم أنه من ذرية عاد ، وكان هود تاجرا جميل الصورة يشبه آدم ، وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة. قوله : (أَلا

٩٤

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢٧) (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) مكان مرتفع (آيَةً) بناء علما للمارّة (تَعْبَثُونَ) (١٢٨) بمن يمر بكم وتسخرون منهم ، والجملة حال من ضمير تبنون (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) للماء تحت الأرض (لَعَلَّكُمْ) كأنكم (تَخْلُدُونَ) (١٢٩) فيها لا تموتون (وَإِذا بَطَشْتُمْ) بضرب أو قتل (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (١٣٠) من غير رأفة (فَاتَّقُوا اللهَ) في ذلك (وَأَطِيعُونِ) (١٣١) فيما أمرتكم به (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أنعم عليكم (بِما تَعْلَمُونَ) (١٣٢) (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) (١٣٣) (وَجَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) (١٣٤) أنهار (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥) في الدنيا والآخرة إن عصيتموني (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا) مستو عندنا

____________________________________

تَتَّقُونَ أَلا) أداة عرض ، وهو الطلب بلين ورفق ، تأليفا لقلوب المجرمين لعلهم يهتدون. قوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل لعرضه التقوى عليهم ، والمعنى إني لكم رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم أمين ، لا أزيد ولا أنقص.

قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) تقريع على قوله : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) فحيث كنت رسولا أمينا ، فالواجب عليكم تقوى الله وطاعتي ، فطاعته من حيث كونه رسولا من عند الله لا من حيث ذاته ، ولذا لم يقل : ألا تتقون وتطيعوني. قوله : (مِنْ أَجْرٍ) أي جعل وأجرة على رسالتي. قوله : (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأنه المرسل لي الغني المغني.

قوله : (أَتَبْنُونَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وهو شروع في توبيخهم على أمور ثلاثة ، كل واحد منها مناف للتقوى : البناء للبعث ، واتخاذ المصانع ، والتجبر. قوله : (بِكُلِّ رِيعٍ) بكسر الراء ويقال بفتحها ، هو المكان المرتفع. قوله : (علما للمارة) أي كالعلم في الارتفاع. قوله : (بمن يمر بكم) الخ ، هذا أحد أوجه في تفسير متعلق البعث ، وقيل : (تَعْبَثُونَ) بالبناء لظنهم أن المارة يحتاجون إلى البناء ليهتدوا به في الأسفار ، مع أنهم يستغنون عنه بالنجوم ، وقيل المعنى تبنون بروج الحمام لتعبثوا بها ، وقيل المعنى تبنون بنيانا يجتمعون فيه للعبث ، وكل صحيح واقع منهم. قوله : (مَصانِعَ) جمع مصنعة بفتح الميم مع فتح النون أو ضمها ، وهو الحوض والبركة تحت الأرض كالصهاريج. قوله : (كأنكم) فسر لعل بكان بدليل القراءة الشاذة كأنكم تخلدون ، والأولى إبقاء لعل على بابها من الترجي ، ويكون المعنى : راجين أن تخلدوا في الدنيا بسبب عملكم عمل من يرجو ذلك ، لأن مجيء لعل بمعنى كأن لم يرد.

قوله : (وَإِذا بَطَشْتُمْ) أي فعلتم فعل الجبارين من الضرب بالسياط والقتل بالسيف. قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) (في ذلك) أي فيما تقدم من الأمور الثلاثة. قوله : (الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أي أعطاكم المدد وهو النعم. قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) بدل مما قبله بدل مفصل من مجمل. قوله : (وَبَنِينَ) أي ذرية. قوله : (وَجَنَّاتٍ) جمع جنة.

قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي إن دمتم على مخالفتي ، ولم تشكروا هذه النعم بعد بعثني. قوله : (في الدنيا) أي بالريح العقيم ، وقوله : (وفي الآخرة) أي بالخلود في النار. قوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ

٩٥

(أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) (١٣٦) أصلا أي لا نرعوي لوعظك (إِنْ) ما (هذا) الذي خوّفتنا به (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (١٣٧) أي اختلاقهم وكذبهم ، وفي قراءة بضم الخاء واللام ، أي ما هذا الذي نحن عليه من أن لا بعث إلا خلق الأولين أي طبيعتهم وعادتهم (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١٣٨) (فَكَذَّبُوهُ) بالعذاب (فَأَهْلَكْناهُمْ) في الدنيا بالريح (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٤٠) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (١٤١) (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٤٢) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٤٣) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٤٤) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٤٥) (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا) من الخير (آمِنِينَ) (١٤٦) (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٤٧) (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها

____________________________________

الْواعِظِينَ) هذا أبلغ من أن يقولوا أو لم تعظ ، لأن المعنى سواء علينا أوعظت ، بأن كنت من أهل الوعظ ، أم لم تكن أصلا من أهله ، بأن كنت أميا مثلنا ولست نبيا. قوله : (أي لا نرعوي لوعظك) أي لا نرتدع ولا ننكف له. قوله : (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) أي من تقدموا قبلك كشيث ونوح ، فإنهم كانوا يختلقون أمورا فاقتديت بهم ، فاسم الإشارة على هذه القراءة ، راجع لما خوفهم به. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا ، وعليها فاسم الإشارة عائد على معتقدهم ، وهو عدم البعث. قوله : (أي طبيعتهم وعادتهم) أي عادة الأولين من قبلنا ، أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ، ولا بعث ولا حساب.

قوله : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي على ما فعلناه من الأعمال. قوله : (فَكَذَّبُوهُ) أي استمروا على تكذيبه. قوله : (بالريح) أي الصرصر ، وكانت باردة شديدة الصوت لا ماء فيها ، وسلطت عليهم سبع ليال وثمانية أيام ، أولها من صبح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وكانت في أواخر الشتاء ، وسيأتي بسطها في سورة الحاقة. قوله : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بل أقلهم كانوا مع هود في حظيرة تنسم عليهم ريح لينة ، حتى مضت تلك المدة ، فأخذهم وهاجروا من تلك الأرض إلى مكة. قوله : (الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره. قوله : (الرَّحِيمُ) أي المنعم على عباده بدقائق النعم. قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) اسم أبي قبيلة صالح الأعلى ، سميت القبيلة باسمه ، وتسمى أيضا عادا الثانية ، وهم ذرية من آمن من قوم هود. قوله : (الْمُرْسَلِينَ) المراد بهم صالح ، وتقدم وجه التعبير بالجمع. قوله : (أَخُوهُمْ) أي في النسب ، لاجتماعهم معه في الأب الأعلى ، وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة ، وبينه وبين هود مائة سنة. قوله : (أَلا تَتَّقُونَ) تقدم أن (أَلا) أداة عرض كما في قول الشاعر :

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك فما راء كمن سمعا

وحكمة التعبير أولا بالعرض ، تأليف قلوبهم للتوحيد بالكلام اللين ، لقصر عقلهم وجهلهم. قوله : (أَتُتْرَكُونَ) الاستفهام إنكاري توبيخي ، وما اسم موصول بيّنها المفسر بقوله : (من الخيرات) وهنا اسم إشارة للمكان القريب ، والمراد دار الدنيا ، والمعنى أتظنون أنكم تتركون في الدنيا متمتعين بأنواع النعم والشهوات ، آمنين من كل مكروه ، ولا تمتحنون بأوامر ونواه ، ولا تحاسبون على شيء فيها؟ لا تظنوا

٩٦

هَضِيمٌ) (١٤٨) لطيف لين (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (١٤٩) بطرين وفي قراءة فارهين حاذقين (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٥٠) فيما أمرتكم به (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) (١٥١) (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢) بطاعة الله (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (١٥٣) الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقلهم (ما أَنْتَ) أيضا (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٥٤) في رسالتك (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) نصيب من الماء (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥) (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥٦) بعظم العذاب (فَعَقَرُوها) أي عقرها بعضهم برضاهم (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) (١٥٧) على عقرها (فَأَخَذَهُمُ

____________________________________

ذلك ، بل الواجب عليكم ترك الفاني والاشتغال بالباقي. قوله : (فِي جَنَّاتٍ) بدل من قوله : (هاهُنا) بإعادة الجار. قوله : (وَنَخْلٍ) هو اسم جنس جمعي ، واحده نخلة ، يذكر ويؤنث ، وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقا. قوله : (طَلْعُها) هو ثمرها في أول ما يطلع كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو ، وبعده الا غريض ، ويسمى خلالا ثم البلح ثم الزهو ثم البسر ثم الرطب ثم التمر ، يجمعها قولك : طاب زبرت ، فأطوار النخيل سبعة كأطوار الإنسان ، ولذا ورد في الحديث : «أكرموا عماتكم النخل» ، وأفرد النخل بالذكر لفضله على سائر الأشجار.

قوله : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي لطول أعماركم ، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم ، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف. قوله : (بطرين) أي لنعم ربكم. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (حاذقين) أي ماهرين في العمل. قوله : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الإسناد مجازي في النسبة ، والأصل لا تطيعوا المسرفين في أمرهم. قوله : (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) صفة للمسرفين. قوله : (وَلا يُصْلِحُونَ) دفع بذلك ما يتوهم أنه يقع منهم الاصلاح في بعض الأوقات. قوله : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي فكيف تدعي أنك رسول إلينا.

قوله : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ) الإشارة اليها بعد أن خرجت من الصخرة بدعائه كما طلبوا ، عن أبي موسى الأشعري قال : رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعا في ستين ذراعا. قوله : (لَها شِرْبٌ) الخ ، أمرهم صالح بأمرين : الأول قوله : (لَها شِرْبٌ) والثاني قوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ). قوله : (نصيب من الماء) أي فهي تشرب منه يوما ، وأنتم تشربون منه يوما ، لا تزاحمكم ولا تزاحموها ، وفي يومها تشربون من لبنها.

قوله : (فَعَقَرُوها) أي يوم الثلاثاء ، وأخذهم العذاب يوم السبت ، وقد جعل لهم علامة على نزول العذاب بهم ، وهو أنهم في اليوم الأول تصفر وجوههم ، ثم تحمر في اليوم الثاني ، ثم تسود في اليوم الثالث. قوله : (أي عقرها بعضهم) أي وهو قدار ، وكان قصيرا أزرق ، وكان ابن زنا ، ضربها في ساقيها بالسيف. قال السدي وغيره : أوحى الله إلى صالح ، أن قومك سيعقرون ناقتك ، فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل ، فقال لهم صالح : إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ، ويكون هلاككم على يديه ، فقالوا : لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه ، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر ، فذبحوا أبناءهم ، ثم للعاشر فأبى أن يذبح ابنه ، وكان لم يولد له قبل ذلك ، فكان ابن العاشر أزرق أحمر ، فنبت نباتا سريعا ،

٩٧

الْعَذابُ) الموعود به فهلكوا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٥٨) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩) (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٦٠) (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) (١٦١) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٦٢) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٦٣) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٤) (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) (١٦٥) أي من الناس (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أقبالهن (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (١٦٦) متجاوزون الحلال إلى الحرام (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن إنكارك علينا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) (١٦٧) من بلدتنا (قالَ) لوط (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (١٦٨) المبغضين (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (١٦٩) أي من عذابه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) (١٧٠) (إِلَّا عَجُوزاً) امرأته (فِي

____________________________________

فكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا ، وغضب التسعة على صالح ، لأنه كان سببا لقتلهم أبناءهم ، فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ، فقالوا : نخرج إلى سفر فيرى الناس سفرنا ، فنكمن في غار ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده ، أتيناه فقتلناه ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ، فيصدقون ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر ، وكان صالح لا ينام في القرية ، بل كان ينام في المسجد ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ، فلما دخلوا الغار ، أرادوا أن يخرجوا ، فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فرأى ذلك ناس ممن كان قد اطلع على ذلك ، فصاحوا في القرية : يا عباد الله ، أما رضي صالح أنه أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم ، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.

قوله : (نادِمِينَ) (على عقرها) إن قلت : لم لم يرفع عنهم العذاب بسبب ندمهم؟ أجيب : بأن ندمهم لخوف نزول العذاب فقط ، لا توبة منهم. قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) حكمة ختم كل قصة في هذه السورة بهذين الاسمين ، إشارة إلى أن العذاب النازل بالكفار ، لا يغادر منهم أحدا ، والرحمة الحاصلة للمؤمنين ، لا تغادر منهم أحدا ، فكل من مظهر الاسمين ظهر في مستحقه.

قوله : (أَخُوهُمْ لُوطٌ) أي في البلد بسبب السكنى والمجاورة لا في النسب ، لأنه ابن أخي إبراهيم عليهما‌السلام ، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل ، فنزل إبراهيم الخليل من أرض الشام ، ولوط بسدوم وقراها. قوله : (الذُّكْرانَ) جمع ذكر ، أي أدبارهم. قوله : (أي الناس) وكذا غيرهم من الحيوانات الغير العاقلة ، فهذه الخصلة القبيحة ، لم تكن في أحد قبل قوم لوط ، ثم لما خسف بهم تنوسيت ، حتى ظهرت في هذه الأمة المحمدية ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله : (ما خَلَقَ لَكُمْ) أي أحل وأباح. قوله : (أي أقبالهن) أي لأنه محل نبات البذر ، قال تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). قوله : (عادُونَ) أي متعدون. قوله : (مِنَ الْقالِينَ) متعلق المحذوف خبر إن أي لقال من القالين ، و (الْقالِينَ) صفته ، و (لِعَمَلِكُمْ) متعلق بالخبر المحذوف ، ولا يصح أن يجعل قوله : (مِنَ الْقالِينَ) خبر إن ، فيكون عاملا في (لِعَمَلِكُمْ) يلزم عليه تقديم معمول الصلة على الموصول وهو أل ، مع أنه لا يجوز. قوله : (أي من عذابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، لأن بقاءه على ظاهره بعيد لعصمته منه ، فطلب النجاة منه تحصيل للحاصل. قوله : (وَأَهْلَهُ) أي بنتيه وزوجته المؤمنة قوله :

٩٨

الْغابِرِينَ) (١٧١) الباقين أهلكناها (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) (١٧٢) أهلكناهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) حجارة من جملة الإهلاك (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٣) مطرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٤) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥) (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وفي قراءة بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء هي غيضة شجر قرب مدين (الْمُرْسَلِينَ) (١٧٦) (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) لم يقل أخوهم لأنه لم يكن منهم (أَلا تَتَّقُونَ) (١٧٧) (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٧٨) (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١٧٩) (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٠) (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أتموه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) (١٨١) الناقصين (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (١٨٢) الميزان السوي (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لا تنقصوهم من

____________________________________

(الباقين) أي في العذاب ، قيل تبعت لوطا ثم التفتت لقومها فنزل عليها حجر ، وقيل لم تتبعه بل بقيت فخسف بها مع قومها. قوله : (أهلكناهم) أي بقلب قراهم حتى جعل عاليها سافلها. قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على من منهم خارج القرى ، لسفر أو غيره. قوله : (مطرهم) هذا هو المخصوص بالذم.

قوله : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هذه آخر القصص التي ذكرت في هذه السورة على سبيل الاختصار ، وقد وقع لفظ الأيكة في أربع مواضع في القرآن ، في الحجر ، وق ، وهنا ، وص ، فالأوليان بأل مع الجر لا غير ، والأخريان يقرآن بالوجهين. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بحذف الهمزة) أي الثانية ، وقوله : (على اللام) أي لام التعريف ، وأما الهمزة الأولى فقد حذفت للاستغناء عنها ، بتحريك اللام لأنها همزة وصل ، أتى بها للتوصل للنطق بالساكن ، وفي كلام المفسر نظر ، لأنه يقتضي أن اللام الموجودة لام التعريف وحينئذ فلا يصح قوله : (وفتح الهاء) لأن المقرون بأل يجر بالكسرة وقع فيه نقل أم لا ، قال ابن مالك :

وجر بالفتحة ما لا ينصرف

ما لم يضف أويك بعد أل ردف

فالمناسب أن يقول : وفي قراءة بوزن ليلة ، ليفيد أن اللام من بنية الكلمة وحركتها أصلية ، وحينئذ فجره بالفتحة ظاهر للعلمية والتأنيث باعتبار البقعة إن كان هذا اللفظ عربيا ، وللعلمية والعجمة إن كان أعجميا. قوله : (وفتح الهاء) في بعض النسخ وفتح التاء وهي أوضح. قوله : (هي غيضة شجر) بفتح الغين وبالضاد المعجمة ، أي مكان فيه شجر ملتف بعضه على بعض ، وكان شجرهم الدوم. قوله : (قرب مدين) هي قرية شعيب ، سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام. قوله : (الْمُرْسَلِينَ) المراد به شعيب ، وفي جمعه ما علمت ، وقد أرسل شعيب أيضا لأهل مدين ، لكن أهل مدين اهلكوا بالصيحة ، وأصحاب الأيكة اهلكوا بعذاب يوم الظلة. قوله : (لأنه لم يكن منهم) أي بل كان من مدين ، قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً). قوله : (الناقصين) أي لحقوق الناس.

قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي فكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ومن جملة بخسهم أنهم ينقصون الدراهم والدنانير. قوله : (وغيره) أي كقطع

٩٩

حقهم شيئا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (١٨٣) بالقتل وغيره من عثي بكسر المثلثة أفسد ، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ) الخليقة (الْأَوَّلِينَ) (١٨٤) (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) (١٨٥) (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنه (نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (١٨٦) (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) بسكون السين وفتحها قطعة (مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٨٧) في رسالتك (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨٨) فيجازيكم به (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) هي سحابة أظلتهم بعد حر شديد أصابهم فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٨٩) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٩٠) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١) (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣) جبريل (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤) (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥) بيّن وفي قراءة بتشديد نزل ونصب الروح والفاعل الله (وَإِنَّهُ) أي ذكر القرآن المنزل على محمد

____________________________________

الطريق. قوله : (لمعنى عاملها) أي ولفظهما مختلف. قوله : (وَالْجِبِلَّةَ) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، أي الجماعة والأمم المتقدمة الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة ، كأنها الجبال قوة وصلابة ، وهذه قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بضم الجيم والباء وتشديد اللام ، وبفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء. قوله : (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أتى بالواو هنا دون قصة صالح مبالغة في تكذيبه ، لأنه عند دخول الواو ، يكون كل من الأمرين التسحير والبشرية مقصودا بخلاف تركها ، فلم يقصد إلا التسحير والثاني دليل له. قوله : (مخففة من الثقيلة) المناسب أن يقول مهملة لا عمل لها ، لأن المكسورة إذا خففت قل عملها ، والأولى حمل القرآن على الكثير. قوله : (بسكون السين وفتحها) قراءتان سبعيتان.

قوله : (فَكَذَّبُوهُ) استمروا على تكذيبه. قوله : (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) روي أن الله تعالى فتح عليهم بابا من أبواب جهنم ، وأرسل عليهم حرا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، فأنضجهم الحر فخرجوا ، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم ، فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة ، فنادى بعضهم بعضا ، فلما اجتمعوا تحت سحابة ، ألهبها الله عليهم نارا ، ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي ، فصاروا رمادا ، وهذا العذاب الذي حل بهم ، هو الذي طلبوه تهكما بشعيب بقولهم : فأسقط علينا كسفا من السماء. قوله : (أصابهم) أي سبعة أيام ، ثم لجوا إلى السحابة بعد السبعة الأيام. قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) شروع في مدح القرآن ومن أنزله والمنزل عليه ، والمعنى أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى ، ليس بشعر ولا بسحر ولا كهانة كما يزعمون.

قوله : (نَزَلَ بِهِ) الباء للملابسة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال كأنه قال : نزل في حال ملابسة له على حد خرج زيد بثيابه. قوله : (عَلى قَلْبِكَ) خصه بالذكر لأنه سلطان الأعضاء ، فكل شيء وصل للقلب وصل لسائر الأعضاء ، ففي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، ألا وهي القلب» ، فحيث نزل على قلبه ، فقد تمكن من سائر بدنه ، فلا يطرأ عليه بعد ذلك نسيان ،

١٠٠