حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

أولاد الجن ، عن يمين الميدان وشماله (فَلَمَّا جاءَ) الرسول بالهدية ومعه أتباعه (سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من الدنيا (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (٣٦) لفخركم بزخارف الدنيا (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) بما أتيت به من الهدية (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ) طاقة (لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) من بلدهم سبأ ، سميت باسم أبي قبيلتهم (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧) أي إن لم يأتوني مسلمين ، فلما رجع إليها الرسول بالهدية ، جعلت سريرها داخل سبعة أبواب داخل قصرها ، وقصرها داخل سبعة قصور ، وأغلقت الأبواب ، وجعلت عليها حرسا ، وتجهزت إلى المسير إلى سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثني عشر ألف قيل ، مع كل قيل ألوف كثيرة ، إلى أن قربت منه على فرسخ شعر بها (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ) في الهمزتين ما تقدم (يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣٨) منقادين طائعين فلي أخذه قبل ذلك لا بعده (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) هو القوي الشديد (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) الذي تجلس

____________________________________

ساعدها ، والغلام يصبه على ظاهره ، فميّز بين الغلمان والجواري ، ثم رد سليمان الهدية كما أخبر الله عنه ب قوله : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) الخ.

قوله : (قالَ أَتُمِدُّونَنِ) الخ ، استفهام إنكاري وتوبيخ ، أي لا ينبغي لكم ذلك. قوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) حال ثانية مؤكدة للأولى. قوله : (أي إن لم يأتوني مسلمين) أفاد بذلك أن يمين سليمان معلق على عدم إتيانهم مسلمين. قوله : (داخل سبعة أبواب) صوابه أبيات ، وقد تقدم أنه داخل سبعة أبيات ، فيكون حينئذ في داخل أربعة عشر نبيا. قوله : (حرسا) بفتحتين جمع حارس. قوله : (قيل) بفتح القاف أي ملك ، سمي بذلك لأنه ينفذ ما يقول. قوله : (إلى أن قربت منه) أي من سليمان. قوله : (شعر بها) أي علم ، وذلك أنه خرج يوما فجلس على سريره فسمع وهجا قريبا منه فقال : ما هذا؟ قالوا : بلقيس قد نزلت هنا بهذا المكان ، وكانت على مسيرة فرسخ من سليمان.

قوله : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) الخطاب لكل من عنده من الجن والإنس وغيرهما. قوله : (ما تقدم) أي من التحقيق أو قلب الثانية واوا. قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) أي وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس ، وعرشها في سبإ ، وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين. قوله : (فلي أخذه قبل ذلك) أي قبل إتيانهم مسلمين ، لأنهم حربيون حينئذ. قوله : (لا بعده) أي لأن إسلامهم يعصم ما لهم ، وهذا بحسب الظاهر ، وأما باطن الأمر فقصده أن يبهر عقلها بالأمور المستغربة لتزيد إيمانا. قوله : (عِفْرِيتٌ) بكسر العين وقرىء شذوذا بفتحها. قوله : (وهو القوي) أي وكان مثل الجبل ، يضع قدمه عند منتهى طرفه ، وكان اسمه ذكوان وقيل صخر.

قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يحتمل أنه فعل مضارع ، أصله أأتى بهمزتين أبدلت الثانية ألفا ، ويحتمل أنه إسم فاعل كضارب وقائم. قوله : (مِنْ مَقامِكَ) أي مجلسك. قوله : (أسرع من ذلك) أي لأن المقصود الإتيان به قبل أن تقدم هي ، والحال أن بين قدومها مسيرة ساعة ونصف ، ومجلسه من الغداة إلى نصف

١٢١

فيه للقضاء ، وهو من الغداة إلى نصف النهار (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌ) أي على حمله (أَمِينٌ) (٣٩) أي على ما فيه من الجواهر وغيرها ، قال سليمان : أريد أسرع من ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المنزل وهو آصف بن برخيا كان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعا به أجاب (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) إذا نظرت به إلى شيء فقال له انظر إلى السماء فنظر إليها ثم رد بطرفه فوجده موضوعا بين يديه ، ففي نظره إلى السماء دعا آصف بالاسم الأعظم أن يأتي الله به فحصل بأن جرى تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا) أي ساكنا (عِنْدَهُ قالَ هذا) أي الإتيان لي به (مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي) ليختبرني (أَأَشْكُرُ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه (أَمْ أَكْفُرُ) النعمة (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي لأجلها لأن ثواب شكره له (وَمَنْ كَفَرَ) النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره (كَرِيمٌ) (٤٠) بالإفضال على من يكفرها (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي غيروه إلى

____________________________________

النهار. قوله : (عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أي وهو التوراة. قوله : (وهو آصف بن برخيا) بالمد والقصر ، وكان وزير سليمان وقيل كاتبه ، وكان من أولياء الله تعالى ، وقيل الذي عنده علم من الكتاب هو جبريل ، وقيل الخضر ، وقيل ملك آخر ، وقيل سليمان نفسه ، وعلى هذا فالخطاب في قوله أنا آتيك للعفريت ، وما مشى عليه المفسر هو المشهور. قوله : (كان صديقا) أي مبالغا في الصدق مع الله ومع عباده. قوله : (طَرْفُكَ) هو بالسكون البصر. قوله : (قال) أي آصف ، وقوله أي لسليمان. قوله : (دعا بالاسم الأعظم) قيل كان الدعاء الذي دعا به : يا ذا الجلال والإكرام ، وقيل يا حي يا قيوم ، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء ، إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قوله : (بأن جرى تحت الأرض) أي بحمل الملائكة له لأمر الله لهم بذلك. قوله : (أي ساكنا) أي غير متحرك ، كأنه وضع من قبل بزمن متسع ، وليس المراد مطلق الاستقرار والحصول ، وإلا كان واجب الحذف ، لأن الظرف يكون مستقرا ، وعلى ما ذكره المفسر فالظرف لغو عامله خاص مذكور فتدبر.

قوله : (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي إحسانه إليّ. قوله : (وإدخال ألف) الخ ، أي فالقراءات أربع سبعيات ، وبقيت خامسة وهي إدخال ألف بين المحققين. قوله : (لأن ثواب شكره له) أي لأن الشكر سبب في زيادة النعم ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). قوله : (بالإفضال على من يكفرها) أي فلا يقطع نعمه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة. قوله : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) معطوف في المعنى على قوله : (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) وكلاهما مرتب على قوله : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ). قوله : (إلى حالة تنكره إذا رأته) أي فالتنكير إبهام الشيء ، بحيث لا يعرف ضد التعريف ، ومنه النكرة والمعرفة في اصطلاح النحويين. قوله : (نَنْظُرْ) هو جواب الأمر. قوله : (قصد بذلك) الخ ، أشار بذلك إلى حكمة التغيير. قوله : (لما قيل إن فيه شيئا) أي نقصا ، والقائل له : ما ذكر الجن ، وقالوا له : إن رجليها كرجلي حمار ، وقالوا له أيضا : إن في ساقيها شعرا لأنهم ظنوا أنه يتزوجها ، فكرهوا ذلك لئلا تفشي له أسرار الجن ، ولئلا يأتي منها أولا فيخلفوه في استخدام الجن فيدوم عليهم الذل.

١٢٢

حال تنكره إذا رأته (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفته (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (٤١) إلى معرفة ما يغير عليهم ، قصد بذلك اختبار عقلها لما قيل له إن فيه شيئا فغيروه بزيادة أو نقص أو غير ذلك (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي أمثل هذا عرشك (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي فعرفته وشبهت عليهم كما شبهوا عليها إذ لم يقل أهذا عرشك ، ولو قيل هذا ، قالت نعم ، قال سليمان لما رأى لها معرفة وعلما (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢) (وَصَدَّها) عن عبادة الله (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣) (قِيلَ لَهَا) أيضا (ادْخُلِي الصَّرْحَ) هو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب جار فيه سمك اصطنعه سليمان لما قيل له إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) من الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها)

____________________________________

قوله : (قِيلَ) (لها) القائل سليمان أو مأموره. قوله : (أَهكَذا عَرْشُكِ) الهمزة للاستفهام ، والهاء للتنبيه ، والكاف حرف جر ، وذا اسم إشارة مجرور بها والجار والمجرور خبر مقدم ، و (عَرْشُكِ) مبتدأ مؤخر ، وفصل بين ها للتنبيه واسم الإشارة بحرف الجر وهو الكاف اعتناء بالتنبيه ، وكان مقتضاه أن يقال : أكهذا عرشك. قوله : (أي أمثل هذا) أشار بذلك إلى أن الكاف اسم بمعنى مثل ، وقولهم لا يفصل بين ها للتنبيه واسم الإشارة بشيء من حروف الجر إلا بالكاف معناه ولو صورة ، وإن كانت في المعنى اسما بمعنى مثل. قوله : (وشبهت عليهم) الخ ، أي فأتت بهذه العبارة مشاكلة لكلام سليمان ، والمشاكلة الإتيان بمثل الكلام السابق وإن لم يتحد الكلامان كقوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ). قوله : (قال سليمان) أي تحدثا بنعمة الله.

قوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) أي العلم بالله وصفاته من قبل أن تؤتى هي العلم بما ذكر ، وكنا مسلمين من قبل أن تسلم ، فنحن أسبق منها علما وإسلاما. قوله : (وَصَدَّها) أي منعها ، وقوله : (ما كانَتْ) فاعل صد ، والمعنى منعها عن عبادة الله الذي كانت تعبد من دون الله وهو الشمس. قوله : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) بكسر إن في قراءة العامة استئناف ، وقرىء شذوذا بفتحها على إسقاط حرف التعليل. قوله : (قِيلَ لَهَا) (أيضا) أي كما قيل نكروا لها عرشها. قوله : (هو سطح) وقيل الصرح القصر أو صحن الدار. قوله : (من زجاج أبيض) أي وهو المسمى بالبلور. قوله : (اصطنعه سليمان) أي أمر الشياطين به ، فحفروا حفيرة كالصهريج ، وأجروا فيها الماء ، ووضعوا فيها سمكا وضفدعا وغيرهما من حيوانات البحر ، وجعلوا سقفها زجاجا شفافا ، فصار الماء وما فيه يرى من هذا الزجاج ، فمن لم يكن عالما به ، يظن أنه ماء مكشوف يخاض فيه مع أنه ليس كذلك. قوله : (لما قيل له) القائل ذلك الجن. قوله : (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي أبصرته. قوله : (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) أي على عادة من أراد خوض الماء ، قيل لما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق ، فلما لم يكن لها بد من امتثال الأمر ، سلمت وكشفت عن ساقيها. قوله : (لتخوضه) أي لأجل أن تصل إلى سليمان. قوله : (فرأى ساقيها) إلخ ، أي فلما علم ذلك صرف بصره عنها. قوله : (مُمَرَّدٌ) صفة أولى لصرح ، وقوله : (مِنْ قَوارِيرَ) صفة ثانية جمع

١٢٣

لتخوضه وكان سليمان على سريره في صدر الصرح فرأى ساقيها وقدميها حسانا (قالَ) لها (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) مملس (مِنْ قَوارِيرَ) أي زجاج ودعاها إلى الإسلام (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادة غيرك (وَأَسْلَمْتُ) كائنة (مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤) وأراد تزوجها فكره شعر ساقيها فعملت له الشياطين النورة فأزالته بها ، فتزوجها وأحبها وأقرها على ملكها ، وكان يزورها في كل شهر مرة ؛ ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان ، روي أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، فسبحان من لا انقضاء لدوام

____________________________________

قارورة. قوله : (مملس) ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم الشعر به. قوله : (بعبادة غيرك) أي وهو الشمس. قوله : (مَعَ سُلَيْمانَ) حال من التاء في (أَسْلَمْتُ) كما أشار لذلك بقوله : (كائنة) والمعنى أسلمت حالة كوني مصاحبة له في الدين ، ولا يصح أن يكون متعلقا بأسلمت ، لأنه يوهم أنها متحدة معه في الإسلام في زمن واحد. قوله : (فعملت له الشياطين النورة) أي بعد أن سأل الإنس عما يزيل الشعر ، فقالوا له : يحلق بالموسى ، فقالت : لم يمس الحديد جسمي ، فكره سليمان الموسى وقال إنها تقطع ساقيها ، فسأل الجن فقالوا لا ندري ، فسأل الشياطين فقالوا : نحتال لك حتى يكون جسدها كالفضة البيضاء ، فاتخذوا النورة والحمام ، فكانت النورة والحمام من يومئذ. قوله : (فتزوجها) أي وولدت منه ولدا وسمته داود ، ومات في حياة أبيه ، وبقيت معه إلى أن مات وهذا أحد قولين ، وقيل إنها لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك حتى أزوجك إياه ، فقالت : ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال ، وقد كان لي من قومي الملك والسلطان؟ قال : نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله ، قالت : إن كان ولا بد ، فزوجني ذا تبع ملك همدان ، فزوجها إياه وذهب بها إلى اليمن ، وملك زوجها ذا تبع على اليمن ، ودعا سليمان زوبعة ملك الجن وقال له : اعمل لذي تبع ما استعملك فيه ، فلم يزل يعمل له ما أراد ، إلى أن مات سليمان ، وحال الحول ولم يعلم الجن موته ، فأقبل رجل منهم حتى بلغ جوف اليمن وقال بأعلى صوته : يا معشر الجن ، إن سليمان قد مات فارفعوا أيديكم ، فرفعوا أيديهم وتفرقوا. قوله : (وأقرها على ملكها) أي وأمر الجن فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها في الارتفاع والحسن. قوله : (ويقيم عندها ثلاثة أيام) أي وكان يبكر من الشام إلى اليمن ، ومن اليمن إلى الشام. قوله : (روي أنه ملك) أي أعطي الملك. قوله : (فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه) أي فما سواه يفنى ، وهو الباقي بلا زوال ، قال العارف :

ما آدم في الكون وما إبليس

ما ملك سليمان وما بلقيس

الكل إشارة وأنت المعنى

يا من هو للقلوب مغناطيس

فالأكوان جميعها إشارات دالة على المقصود بالذات وهو الواحد القهار.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) شروع في القصة الرابعة من هذه السورة ، وثمود اسم لقبيلة صالح سميت باسم أبي القبيلة ، فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وتسمى عاد الثانية ، وأما عاد الأولى فهم قوم هود. قوله : (أَخاهُمْ صالِحاً) أي في النسب لأنه من أولاد ثمود الذي هو أبو القبيلة ، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة. قوله :

١٢٤

ملكه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) من القبيلة (صالِحاً أَنِ) أي بأن (اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) (٤٥) في الدين فريق مؤمنون من حين إرساله إليهم وفريق كافرون (قالَ) للمكذبين (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعذاب قبل الرحمة حيث قلتم إن كان ما أتيتنا به حقا فائتنا بالعذاب (لَوْ لا) هلا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) من الشرك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٦) فلا تعذبون (قالُوا اطَّيَّرْنا) أصله تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل ، أي تشاءمنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي المؤمنين حيث قحطوا المطر وجاعوا (قالَ طائِرُكُمْ) شؤمكم (عِنْدَ اللهِ) أتاكم به (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) تختبرون بالخير والشر (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) مدينة ثمود (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي رجال (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي منها قرضهم

____________________________________

(أي بأن) (اعْبُدُوا اللهَ) أشار بذلك إلى أن أن مصدرية ، وحرف الجر محذوف ، ويصح أن تكون مفسرة لوجود ضابطها ، وهو تقدم جملة فيها القول دون حروفه. قوله : (وحدوه) أي اعتقدوا أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له في شيء منها. قوله : (فَإِذا هُمْ) إذا فجائية ، والمعنى فتفاجأ إرساله تفرقهم واختصامهم ، فآمن فريق وكفر فريق ، وتقدم حكاية اختصام الفريقين في سورة الأعراف في قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) الخ. قوله : (فريق مؤمنون) جمع وصف الفريق مراعاة لمعناه. قوله : (من حين إرساله) أي وبعد ظهور المعجزات.

قوله : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) أي لأي شيء تستعجلون بالعذاب وتطلبونه لأنفسكم ولا تطلبون الرحمة؟ ويصح أن يراد بالسيئة والحسنة أسباب العذاب وأسباب الرحمة ، والمعنى لم تؤخرون الإيمان الذي هو سبب في الرحمة ، وتقدمون الكفر الذي هو سبب العذاب؟ قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن لو لا تحضيضية. قوله : (من الشرك) أي بأن تتركوا الشرك وتؤمنوا. قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الترجي في كلام الله بمنزلة التحقيق ، لأنه صادر من قادر عالم بالعواقب لا يخلف وعده. قوله : (أدغمت التاء في الطاء) أي بعد قلبها طاء. قوله : (واجتلبت همزة الوصل) ، أي للتوصل للنطق بالساكن. قوله : (أي تشاء منا) أي أصابنا الشؤم وهو الضيق والشدة. قوله : (حيث قحطوا المطر) أي حبس عنهم.

قوله : (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي جزاء عملكم من عند الله عاملكم به ، فالشؤم وصفكم لا وصفي ، وسمي طائرا لأنه يأتي الظالم بغتة وسرعة كنزول الطائر. قوله : (تُفْتَنُونَ) أتى بالخطاب مراعاة لتقدم الضمير وهو الراجح ، ويجوز مراعاة الاسم الظاهر فيؤتى بالغيبة فيقال مثلا : نحن قوم نقرأ ويقرأون. قوله : (تختبرون بالخير والشر) أي لتعلموا أن ما أصابكم من خير فمن الله ، وما أصابكم من شر فبما كسبت أيديكم. قوله : (مدينة ثمود) أي وهو الحجر ، وتقدم أنه واد بين الشام والمدينة.

قوله : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) الرهط ما دون العشرة من الرجال ، والنفر ما دون السبعة إلى الثلاثة. قوله : (أي رجال) دفع بذلك ما يقال : إن تمييز التسعة جمع مجرور ، فكيف يؤتى به مفردا؟ فأجاب بأنه وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى ، وهؤلاء التسعة هم الذين قتلوا أولادهم حين أخبرهم صالح أن مولودا

١٢٥

الدنانير والدراهم (وَلا يُصْلِحُونَ) (٤٨) بالطاعة (قالُوا) أي بعضهم لبعض (تَقاسَمُوا) أي احلفوا (بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ) بالنون والتاء وضم التاء الثانية (وَأَهْلَهُ) أي من آمن به أي نقتلهم ليلا (ثُمَّ لَنَقُولَنَ) بالنون والتاء وضم اللام الثانية (لِوَلِيِّهِ) أي ولي دمه (ما شَهِدْنا) حضرنا (مَهْلِكَ أَهْلِهِ) بضم الميم وفتحها أي إهلاكهم أو هلاكهم فلا ندري من قتلهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٤٩) (وَمَكَرُوا) في ذلك (مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) أي جازيناهم بتعجيل عقوبتهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أهلكناهم (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١)

____________________________________

يولد في شهرهم هذا ، يكون عقر الناقة على يديه ، فقتل التسعة أولادهم وأبى العاشر أن يقتل ابنه ، فعاش ذلك الولد ونبت نباتا سريعا ، فكان إذا مر بالتسعة حزنوا على قتل أولادهم ، فسول لهم الشيطان أن يجتمعوا في غار ، فإذا جاء الليل خرجوا إلى صالح وقتلوه ، وتقدم أنهم اجتمعوا في الغار ، فأرادوا أن يخرجوا منه ، فسقط عليهم الغار فقتلهم ، وعقر الناقة ولد العاشر وهو قدار بن سالف ، وقيل إنهم جاءوا ليلا لقتله شاهرين سيوفهم ، فرمتهم الملائكة بالأحجار كما أفاده المفسر. قوله : (أي احلفوا) أشار بذلك إلى أن قوله : (تَقاسَمُوا) فعل أمر ، أي قال بعضهم لبعض : احلفوا على كذا. قوله : (بالنون) مع فتح التاء وقوله : (والتاء) كان المناسب أن يقول بالتاء ، لأن ضم التاء لا يكون إلا على قراءة التاء ، فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي من آمن به) أي وسيأتي أنهم أربعة آلاف. قوله : (بالنون) أي مع فتح اللام ، وقوله : (والتاء) أي فقراءة النون هنا ، مع قراءة النون في الذي قبله ، وقراءة التاء مع التاء ، فهما قراءتان فقط. قوله : (أي ولي دمه) أي دم من قتل صالح ومن معه. قوله : (مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي أهل ولي الدم الذي يقوم عند موت صالح وأقار به المؤمنين به. قوله : (بضم الميم) أي مع فتح اللام ، وقوله : (وفتحها) أي مع فتح اللام وكسرها ، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله : (أي إهلاكهم) راجع للضم لأنه من الرباعي. قوله : (وهلاكهم) راجع للفتح بوجهيه لأنه من الثلاثي. قوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي ونحلف إنا لصادقون ، أو المعنى والحال وإنا لصادقون فيما قلنا. قوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً) أي أرادوا إخفاء ما بيتوا عليه من قبل صالح وأهله. قوله : (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي أهلكناهم من حيث لا يشعرون ، وهو من باب المشاكلة ، نظير قول الشاعر :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

وإلا فحقيقة المكر مستحيلة على الله تعالى ، لأنه التحيل على الغدر ، وهو من صفات العاجز ، والعجز على الله محال. قوله : (فَانْظُرْ) أي تأمل وتفكر. قوله : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بكسر إن على الاستئناف ، وفتحها على أنه خبر لمحذوف ، أي وهي تدميرنا إياهم ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (أو برمي الملائكة) أو للتنويع ، أي أن عذابه نوعان موزعان عليهم ، رمي الحجارة على التسعة بسبب تبييتهم على قتل صالح وأهله ، والصيحة على غيرهم بسبب عقر الناقة ، ولو قال المفسر : أهلكناهم برمي الملائكة الحجارة وقومهم أجمعين بصيحة جبريل لكان أوضح. قوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) مبتدأ وخبر أي ديارهم.

١٢٦

بصيحة جبريل أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) أي خالية ونصبه على الحال والعامل فيها معنى الإشارة (بِما ظَلَمُوا) بظلمهم ، أي كفرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لعبرة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥٢) قدرتنا فيتعظون (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بصالح وهم أربعة آلاف (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣) الشرك (وَلُوطاً) منصوبا باذكر مقدرا قبله ويبدل منه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي اللواط (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٥٤) أي يبصر بعضكم بعضا انهما كافي المعصية (أَإِنَّكُمْ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥) عاقبة فعلكم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أهله (مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٥٦) من أدبار الرجال (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) جعلناها بتقديرنا (مِنَ الْغابِرِينَ) (٥٧) الباقين في العذاب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) هو حجارة السجيل أهلكتهم (فَساءَ) بئس (مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) بالعذاب

____________________________________

قوله : (بظلمهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية والباء سببية. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من إهلاكهم.

قوله : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي من الهلاك ، فخرج صالح بهم إلى حضرموت ، فلما دخلها مات صالح ، فسميت تلك البلدة بذلك ، ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضوراء. قوله : (وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي يدومون على اتقاء الشرك بأن لم يرتدوا. قوله : (ويبدل منه) أي بدل اشتمال ، والمراد ذكر القول لا ذكر وقته. قوله : (لِقَوْمِهِ) أي من حيث إرساله إليهم وإقامته عندهم وإلا فهو في الأصل أرض بابل ، فلما قدم مع عمه إبراهيم إلى الشام ، نزل إبراهيم بفلسطين ، ونزل لوط بسذوم. قوله : (يبصر بعضكم بعضا) أشار بذلك إلى أن المراد الإبصار بالعين ، وقيل المراد إبصار القلب ، ويكون المعنى وتعلمون أنها قبيحة. قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه فالقراءات أربع سبعيات.

قوله : (لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أشار بذلك إلى أنهم أساءوا من الطرفين في الفعل والترك ، وقوله : (شَهْوَةً) مفعول لأجله. قوله : (عاقبة فعلكم) أي وهي العذاب الذي نزل بهم. قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) خبر (كانَ) مقدم ، وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) اسمها مؤخر. قوله : (آلَ لُوطٍ) المراد هو وأهله وهم بنتاه وزوجته المؤمنة. قوله : (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) الإضافة للجنس ، لأنه تقدم أن قراهم كانت خمسة وأعظمها سذوم. قوله : (يَتَطَهَّرُونَ) أي يتنزهون وقالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي فخرج لوط بأهله من أرضهم ، وطوى الله له الأرض حتى نجا ، ووصل إلى إبراهيم. قوله : (الباقين في العذاب) أي الذي حل بهم ، وهو أن جبريل اقتلع مدائنهم ثم قلبها فهلك جميع من فيها ، قيل كان فيها أربعة آلاف ألف.

قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على من كان في ذلك الوقت خارجا عن المدائن لسفر أو غيره. قوله : (هو حجارة السجيل) أي الطين المحروق. قوله : (مطرهم) هو المخصوص بالذم. قوله : (قُلِ الْحَمْدُ

١٢٧

مطرهم (قُلِ) يا محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هلاك كفار الأمم الخالية (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) هم (آللهُ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه (خَيْرٌ) لمن يعبده (أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩) بالتاء والياء أي أهل مكة به أي الآلهة خير لعابديها (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا) فيه التفات من الغيبة إلى التكلم (بِهِ حَدائِقَ) جمع حديقة ، وهو البستان المحوط (ذاتَ بَهْجَةٍ) حسن (ما كانَ

____________________________________

لِلَّهِ) لما تمم سبحانه وتعالى القصص ، أمر رسوله بحمده والسّلام على المصطفين ، شكرا له على نصرة أهل الحق والإيمان ، وقطع دابر أهل الكفر والطغيان ، وتمهيدا لما يذكر من أدلة التوحيد التي أقامها ردا على المشركين ، والسر في ذلك ، إنصات العاقل وإصغاؤه ليدخل في زمرة من سلم الله عليهم.

قوله : (وَسَلامٌ) أي أمان. قوله : (الَّذِينَ اصْطَفى) قيل هم الأنبياء والرسل ، وقيل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل مؤمنو هذه الأمة ، وقيل كان مؤمن من مبدإ الدنيا إلى منتهاها ، ومعنى اصطفى اختارهم أزلا لخدمته وطاعته في الدنيا ، ولجنته ونعيمه في الآخرة ، فالأصل اصطفاه الله للعبد ، فلولا اصطفاؤه له ، ما وفق العبد لخدمة ربه ، ومن هذا قولهم : لو لا السابقة ما كانت اللاحقة. قوله : (بتحقيق الهمزتين) الخ ، ظاهر المفسر أن القراءات أربع وهو سبق قلم ، والصواب أن هنا قراءتين فقط ، تسهيل الثانية مقصورة ، وإبدالها ألفا ممدودة مدا لازما ، وتقدم أن هذين الوجهين يجريان في خمسة مواضع في القرآن غير هذا ، اثنان في الأنعام (آلذَّكَرَيْنِ) في الموضعين ، وثلاثة في يونس (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ آلْآنَ) في الموضعين.

قوله : (خَيْرٌ) خبر لفظ الجلالة ، وهو إما اسم تفضيل باعتبار زعم الكفار ، أو صفة لا تفضيل فيها ، والكلام على حذف مضاف ، والتقدير أتوحيد الله خير لمن عبده ، أم الأصنام خير لمن عبدها ، فهو تهكم بالمشركين ، لأنهم اختاروا عبادة الأصنام على عبادة الله ، والاختيار للشيء لا يكون إلا لخير ومنفعة ، ولا خير في عبادتها. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأها يقول : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم». قوله : (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أم هذه متصلة عاطفة على لفظ الجلالة لوجود المعادل ، وهو تقدم همزة الاستفهام بخلاف أم الآتية ، فهي منقطعة تفسر ببل وهمزة الاستفهام إنكاري. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي أهل مكة) تفسير للواو في يشركون. قوله : (أي الآلهة) تفسير لما ، والمعنى أم الآلهة التي يشركونها به خير لعابديها.

قوله : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) القراءة السبعية بإدغام إحدى الميمين في الأخرى ، وأم منقطعة ، ومن خلق مبتدأ خبره محذوف تقديره (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقرىء شذوذا بتخفيف ، فتكون من موصولة دخلت عليها همزة الاستفهام. قوله : (فيه الالتفات) أي وحكمته اختصاصه سبحانه وتعالى هو المنبت للأشجار والزرع لا غيره ، وخلقها مختلفة الألوان والطعوم ، مع كونها تسقى بماء واحد. قوله : (وهو البستان المحوط) أي المجعول عليه حائط لعزته. قوله : (ذاتَ بَهْجَةٍ) صفة لحدائق ، وأفرد لكونه جمع كثرة لما لا يعقل.

١٢٨

لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) لعدم قدرتكم عليه (أَإِلهٌ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين في مواضعه السبعة (مَعَ اللهِ) أعانه على ذلك ، أي ليس معه إله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠) يشركون بالله غيره (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) لا تميد بأهلها (وَجَعَلَ خِلالَها) فيما بينهما (أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جبالا أثبت بها الأرض (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) بين العذب والملح لا يختلط أحدهما بالآخر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١) توحيده (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) المكروب الذي مسه الضر (إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) عنه وعن غيره (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) الإضافة بمعنى في ، أي يخلف كل قرن القرن الذي قبله (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢) تتعظون بالفوقانية والتحتانية وفيه إدغام التاء في الذال وما زائدة لتقليل القليل (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) يرشدكم إلى مقاصدكم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وبالنجوم ليلا وبعلامات الأرض نهارا

____________________________________

قوله : (ما كانَ لَكُمْ) أي لا ينبغي لأنكم عاجزون عن إخراج النبات ، وإن كنتم قادرين على السقي والغرس ظاهرا. قوله : (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي فضلا عن ثمارها وأشكالها. قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه ، فالقراءات أربع سبعيات. قوله : (في مواضعه السبعة) أي مواضع اجتماع الهمزتين المفتوحة ثم المكسورة ، وهي لفظ إله خمس مرات ، وأئذا ، وأئنا. قوله : (أي ليس معه إله) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري ، وكذا يقال فيما بعده. قوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) إضراب انتقالي من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم.

قوله : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرا للإنسان والدواب ، لا تتحرك بما على ظهرها. قوله : (فيما بينها) أشار بذلك إلى أن قوله : (خِلالَها) ظرف لجعل وتكون بمعنى خلق ، ويصح أن تكون بمعنى صير ، و (خِلالَها) مفعول ثان. قوله : (حاجِزاً) أي معنويا غير مشاهد. قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وكفرهم تقليد ، والأقل يعلم الأدلة ، وكفرهم عناد. قوله : (الْمُضْطَرَّ) هو اسم مفعول ، وهذه الطاء أصلها تاء الافتعال ، قلبت طاء لوقوعها إثر حرف الإطباق وهو الضاد.

قوله : (إِذا دَعاهُ) أشار بذلك إلى أن إجابة المضطر متوقفة على دعائه ، فلا ينبغي لمن كان مضطرا ترك الدعاء ، بل يدعو ، والله يجيبه على حسب ما أراد سبحانه وتعالى ، لأن الله أرأف على العبد من نفسه ، فالعاقل إذا دعا الله يسلم في الإجابة لمراد الله. قوله : (الإضافة بمعنى في) أي فالمعنى يجعلكم خلفاء في الأرض. قوله : (وفيه إدغام التاء في الذال) أي بعد قلبها دالا فذالا ، وهذا على كل من القراءتين. قوله : (وما زائدة لتقليل القليل) أي فالمراد تأكيد القلة. قوله : (وبعلامات الأرض) أي كالجبال. قوله : (أي قدام المطر) أي أمامه. قوله : (وإن لم يعترفوا بالإعادة) أشار بذلك إلى سؤال وارد حاصله : كيف يقال لهم (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) مع أنهم منكرون للإعادة؟ وأشار إلى جوابه بقوله : لقيام البراهين عليها وإيضاحه ، أن يقال إنهم معترفون بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإعادة ظاهرة قوية ، وحينئذ فصاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في إنكار الإعادة ، بل ذلك محض جحود.

١٢٩

(وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدام المطر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣) به غيره (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) في الأرحام من نطفة (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الموت وإن لم تعترفوا بالإعادة لقيام البراهين عليها (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي لا يفعل شيئا مما ذكر إلا الله ولا إله معه (قُلْ) يا محمد (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤) أن معي إلها فعل شيئا مما ذكر. وسألوه عن وقت قيام الساعة فنزل (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والناس (الْغَيْبَ) أي ما غاب عنهم (إِلَّا) لكن (اللهُ) يعلمه (وَما يَشْعُرُونَ) أي كفار مكة كغيرهم (أَيَّانَ) وقت (يُبْعَثُونَ) (٦٥) (بَلِ) بمعنى هل (ادَّارَكَ) بوزن أكرم ، وفي قراءة أخرى ادارك بتشديد الدال وأصله تدارك أبدلت التاء دالا وأدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل ، أي بلغ ولحق أو تتابع وتلاحق (عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي بها حتى سألوا عن وقت مجيئها ليس الأمر كذلك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) من عمى القلب وهو أبلغ مما قبله ، والأصل عميون استثقلت الضمة

____________________________________

قوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبكيتهم ، إثر قيام الأدلة على أنه لا يستحق العبادة غيره. قوله : (أن معي إلها) الأوضح أن يقول : أن مع الله إلها لأن النبي مأمور بهذا القول ، وهو لا يقول لهم : إن كنتم صادقين أن معي إلها. قوله : (وسألوه) أي المشركون. قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ) فاعل (يَعْلَمُ) والجار والمجرور صلتها ، و (الْغَيْبَ) مفعول به ، و (إِلَّا) أداة استثناء ، ولفظ الجلالة مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله : (يعلمه) والتقدير لا يعلم الذي ثبت في السماوات كالملائكة ، والأرض كالإنس ، الغيب لكن الله هو الذي يعلمه. قوله : (من الملائكة والناس) بيان لمن في السماوات والأرض على سبيل اللف والنشر المرتب. قوله : (لكن) (اللهُ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، ولا يصح جعله متصلا لإيهامه أن الله من جملة من في السماوات والأرض وهو محال. قوله : (وقت) (يُبْعَثُونَ) تفسير لأيان ، والمناسب تفسيرها بمتى ، لأن (أَيَّانَ) ظرف متضمن معنى همزة الاستفهام ومتى كذلك بخلاف لفظ وقت. قوله : (بمعنى هل) أي التي للاستفهام الإنكاري. قوله : (أي بلغ ولحق) راجع للقراءة الأولى ، وقوله : (أو تتابع) راجع للثانية ، والمعنى هل بلغ علمهم في الآخرة ، أو تتابع علمهم الآخرة ، حتى سألوا عن وقت مجيء السّاعة؟ ليس عندهم علم بذلك ، بل ولا إثبات ، حتى يسألوا عن وقت السّاعة ، فسؤالهم محض تعنت وعناد.

قوله : (فِي شَكٍّ مِنْها) أي الآخرة. قوله : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي عندهم جزم بعدمها لعدم إدراكهم دلائلها. قوله : (بعد حذف كسرتها) أي وسقطت الياء لوقوعها ساكنة إثر ضمة. قوله : (أيضا) أي كما قالوا ما تقدم. قوله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً) كان فعل ماض ناقص وأنا اسمها ، و (تُراباً) خبرها ، و (آباؤُنا) معطوف على اسم كان ، وسوغه الفصل بخبرها ، قوله : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) وعد فعل ماض ، ونا نائب الفاعل مفعول أول ، و (هذا) مفعول ثان ، و (نَحْنُ) تأكيد لنا ، و (آباؤُنا) عطف على

١٣٠

على الياء فنقلت إلى الميم بعد حذف كسرتها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أيضا في إنكار البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) من القبور (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ) ما (هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) جمع أسطورة بالضم أي ما سطر من الكذب (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦٩) بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالعذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٧١) فيه (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ) قرب (لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) فحصل لهم القتل ببدر وباقي العذاب يأتيهم بعد الموت (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ومنه تأخير العذاب عن الكفار (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧٣) فالكفار لا يشكرون تأخير العذاب لإنكارهم وقوعه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تخفيه (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) بألسنتهم (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الهاء للمبالغة أي شيء في غاية الخفاء على الناس (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) بيّن هو اللوح المحفوظ ومكنون علمه تعالى ومنه تعذيب الكفار (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الموجودين في زمان نبينا

____________________________________

المفعول الأول ، وسوغه الفصل بالمفعول الثاني والضمير المنفصل ، والمعنى لقد وعدنا محمد بالبعث ، كما وعد من قبله آباءنا به ، فلو كان حقا لحصل.

قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أمر تهديد لهم ، إشارة إلى أنهم إن لم يرجعوا ، نزل بهم ما نزل بمن قبلهم. قوله : (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي لتعتبروا بهم فتنزجروا عن قبائحكم. قوله : (بإنكارهم) أي المجرمين. قوله : (بالعذاب) أي الدنيوي ، لأنه هو المشاهد آثاره. قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي لا تغتم على عدم إيمانهم فيما مضى ، ولا تخف من مكرهم في المستقبل ، فالحزن غم لما مضى ، والخوف غم لما يستقبل. قوله : (وَلا تَكُنْ) بثبوت النون هنا وهو الأصل ، وقد حذفت من هذا المضارع في القرآن في عشرين موضعا ، تسعة مبدوءة بالتاء ، وثمانية بالياء ، واثنان بالنون ، وواحد بالهمزة وهو حذف غير لازم ، قال ابن مالك :

ومن مضارع لكان منجزم

تحذف نون وهو حذف ما التزم

قوله : (فِي ضَيْقٍ) بفتح الصاد وكسرها ، قراءتان سبعيتان أي حرج. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب للنبي ومن معه من المؤمنين. قوله : (قُلْ عَسى) الخ ، الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق. قوله : (القتل ببدر) أي وغيره ، وهذا هو العذاب المعجل. قوله : (وباقي العذاب) الخ ، أي هو العذاب المؤجل. قوله : (ومنه) أي الفضل. قوله : (لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي فالتأخير ليس لخفاء حالهم عليهم. قوله : (الهاء للمبالغة) أي كرواية وعلامة ، وسماها هاء باعتبار الوقف ، ولو قال التاء لكان أسهل ، وقيل إنها كالتاء الداخلة على المصادر ، ونحو العاقبة والعافية ، ونظيرها الذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات. قوله : (ومكنون علمه) الواو بمعنى أو ، لأنه تفسير ثان ، فتسميته كتابا على سبيل

١٣١

(أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) أي ببيان ما ذكر على وجهه الرافع للاختلاف بينهم لو أخذوا به وأسلموا (وَإِنَّهُ لَهُدىً) من الضلالة (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) من العذاب (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) كغيرهم يوم القيامة (بِحُكْمِهِ) أي عدله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب (الْعَلِيمُ) (٧٨) بما يحكم به فلا يمكن أحدا مخالفته كما خالف الكفار في الدنيا أنبياءه (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩) أي الدين البيّن ، فالعاقبة لك بالنصر على الكفار ، ثم ضرب أمثالا لهم بالموتى وبالصم وبالعمي فقال (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية بينها وبين الياء (وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٨٠) (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ) ما (تُسْمِعُ) سماع إفهام وقبول (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) القرآن (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١) مخلصون بتوحيد الله (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حق العذاب أن ينزل بهم في جملة الكفار (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) أي تكلم الموجودين حين خروجها بالعربية تقول لهم من جملة كلامها عنا

____________________________________

الاستعارة التصريحية ، حيث شبه بالكتاب كالسجل الذي يضبط الحوادث ويحصيها ولا يشذ عنه شيء منها. قوله : (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي فقد نص بالتصريح على الأكثر ، فلا ينافي قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، ومن جملته اختلافهم في شأن المسيح ، وتفرقهم فيه فرقا كثيرة ، فوقع بينهم التباغض ، حتى لعن بعضهم بعضا. قوله : (أي عدله) دفع بذلك ما يقال إن القضاء مرادف للحكم فينحل ، المعنى يقضي بقضائه أو يحكم بحكمه فأجاب بأن المراد بالحكم العدل. قوله : (فلا يمكن أحدا مخالفته) الخ ، تفريع على العزيز ، فكان المناسب تقديمه بلصقه. قوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) الخ ، تفريع على كونه عزيزا عليما ، أي فإذا ثبتت له هذه الأوصاف فالواجب على كل شخص تفويض الأمور إليه والثقة به. قوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) علة للتوكل وكذا قوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى). قوله : (بينها وبين الياء) أي فتقرأ متوسطة بين الهمزة والياء والقراءتان سبعيتان. قوله : (مُدْبِرِينَ) أي معرضين. قوله : (بِهادِي الْعُمْيِ) ضمنه معنى الصرف فعداه بعن. قوله : (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي من سبق في علم الله أنه يكون مؤمنا ومن هنا قولهم لو لا السابقة ما كانت اللاحقة. قوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ) أي قرب وقوعه ، وإنما عبر بالماضي لحصوله في علم الله ، لأن الماضي والحال والاستقبال في علم الله واحد لإحاطته بها ، والمراد بالقول : مواعيد القرآن بالفضائح والخزي والعذاب الدائم وغير ذلك للكفار. قوله : (حق العذاب) تفسير لوقع والمعنى قرب نزوله بهم. قوله : (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) أي وهي الجساسة ، ورد في الحديث : «أن طولها ستون ذراعا بذراع آدم عليه‌السلام ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب» وروي أن لها أربع قوائم ، ولها زغب وريش وجناحان ، وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن إبل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرة ، وذنب كبش ، وخف بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه‌السلام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : فيها كل لون ما بين قرنيها فرسخ للراكب وعن علي رضي الله عنه : أنها تخرج بعد ثلاثة أيام والناس ينظرون ، فلا يخرج كل يوم إلا ثلثها. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل من أين تخرج

١٣٢

(أَنَّ النَّاسَ) أي كفار مكة ، وعلى قراءة فتح همزة أن تقدر الباء بعد تكلمهم (كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢) أي لا يؤمنون بالقرآن المشتمل على البعث والحساب والعقاب ، وبخروجها ينقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يؤمن كافر كما أوحى الله إلى نوح (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) وهم رؤساؤهم المتبوعون (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٨٣) أي يجمعون يرد آخرهم إلى أولهم ثم يساقون (حَتَّى إِذا

____________________________________

الدابة ، فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى ، يعني المسجد الحرام. وروي أنها تخرج ثلاث خرجات ، تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهرا طويلا ، فبينما الناس في أعظم المساجد حرمة على الله تعالى وأكرمها ، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن ، حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد. وقيل تخرج من الصفا لما روي : بينما عيسى عليه‌السلام يطوف بالبيت معه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم ، أي تتحرك تحرك القنديل ، وتنشق الصفا مما يلي المسعى ، فتخرج الدابة من الصفا ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسّلام ، فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا ، فتنكت نكتة بيضاء ، فتفشو حتى يضيء بها وجهه ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه ، فتفشو النكتة حتى يسود بها وجهه ، وتكتب بين عينيه كافر ، ثم تقول لهم : أنت يا فلان من أهل الجنة وأنت يا فلان من أهل النار ، وروي أن أول الآيات خروجا ، طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها ، واختلف أيضا في تعيين هذه الدابة فقيل : هي فصيل ناقة صالح ، وهو أصح الأقوال ، فإنه لما عقرت أمه هرب ، فانفتح له حجر فدخل في جوفه ، ثم انطبق عليه الحجر ، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عزوجل ، وقيل غير ذلك. قوله : (تقول لهم) تفسير لتكلمهم. قوله : (عنا) متعلق بمحذوف ، أي حال كونها حاكية وناقلة لما تقول : (عنا) بأن تقول : قال الله : (أَنَّ النَّاسَ) الخ. قوله : (أي كفار مكة) المناسب حمل الناس على الموجودين وقت خروجها من الكفار. قوله : (وعلى قراءة فتح همزة أن تقدر الباء) أي للتعددية أو للسببية ، وأما على قراءة الكسر ، فهو مستأنف من كلامه تعالى تقوله الدابة على سبيل الحكاية والنقل ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (ينقطع الأمر بالمعروف الخ) أي لعدم إفادة ذلك ، لأنه في ذات الوقت يظهر المؤمن والكافر عيانا بوسم الدابة ، فمن وسمته بالكفر لا يمكن تغييره ، فحينئذ لا ينفع أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، ووجد في بعض النسخ ، ولا يبقى منيب ولا تائب ولا يؤمن كافر ، أي لا يوجد في هذا الوقت من يتوب إلى الله أي يرجع إليه ، ولا تقبل توبة تائب من العصاة ولا إيمان كافر.

قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ) أي الحشر الخاص بهم للعذاب ، بعد انفضاض الحشر العام لجميع الخلق. قوله : (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ) تبعيضية ، وقوله : (مِمَّنْ يُكَذِّبُ) بيانية للفوج. قوله : (فَوْجاً) الفوج في الأصل الجماعة المارة المسرعة ، ثم أطلق على الجماعة مطلقا. قوله : (رؤساؤهم) أي كأبي جهل وأبيّ بن خلف وفرعون وقارون والنمروذ وغيرهم من رؤساء الضلال ، فكل رؤساء زمن نحشرهم على حدة. قوله : (يرد آخرهم إلى أولهم) المناسب أن يقول : يرد أولهم على آخرهم ، أي يحبس أولهم ويوقف حتى يأتي آخرهم ، ويجتمعون حتى يساقون.

١٣٣

جاؤُ) مكان الحساب (قالَ) تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ) أنبيائي (بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا) من جهة تكذيبكم (بِها عِلْماً أَمَّا) فيه إدغام ما الاستفهامية (ذا) موصول أي ما الذي (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤) بما أمرتم به (وَوَقَعَ الْقَوْلُ) حق العذاب (عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) أي أشركوا (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (٨٥) إذ لا حجة لهم (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا) خلقنا (اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) كغيرهم (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) بمعنى يبصر فيه ليتصرفوا فيه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦) خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان بخلاف الكافرين (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) القرن النفخة الأولى من إسرافيل (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي خافوا

____________________________________

قوله : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والمعنى أنكرتموها وجحدتموها. قوله : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) الجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ ، والمعنى أنكرتموها من غير فهمها وتأملها ، فهم مؤاخذون بالجهل والكفر. قوله : (أَمَّا ذا) أم منقطعة بمعنى بل ، وما اسم استفهام أدغمت ميم أم في ما ، فقوله : (فيه إدغام ما الاستفهامية) أي الإدغام فيها. قوله : (حق العذاب) أي نزل بهم وهو كنهم في النار. قوله : (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي بحجة واعتذار. قوله : (أَلَمْ يَرَوْا) أي يعلموا. قوله : (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ) أي مظلما بدلالة قوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) عليه كما حذف ليتصرفوا فيه من قوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) بدلالة قوله : (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) عليه ، ففي الآية احتباك. قوله : (بمعنى يبصر فيه) أي فالإسناد مجازي من الإسناد إلى الزمان. قوله : (ليتصرفوا فيه) أي بالسعي في مصالحهم. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الجعل المذكور. قوله : (دلالات على قدرته تعالى) أي من حيث اختلاف الليل والنهار والظلمة.

قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) معطوف على قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً). قوله : (النفخة الأولى) أي وتسمى نفخة الصعق ، ونفخة الفزع فعبر عنها بالفزع ، وفي سورة الزمر بالصعق ، قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الخ ، فعند حصولها يموت كل حي ما عدا ما استثنى ، وأما النفخة الثانية فعندها يحيا كل من كان ميتا ، فالنفخة اثنتان وبينهما أربعون سنة ، وقيل إنها ثلاث : نفخة الزلزلة وذلك حين تسير الجبال وترتج الأرض بأهلها ، ونفخة الموت ، ونفخة الإحياء ، والقول الأول هو المشهور ، والصحيح في الصور أنه قرن من نور خلقه الله وأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ، ينتظر متى يؤمر بالنفخة ، وعظم كل دائرة فيه كعرض السماء والأرض ، ويسمى بالبوق في لغة اليمن. قوله : (من إسرافيل) أي وهو أحد الرؤساء الأربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.

قوله : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من كل من كان حيا في ذلك الوقت. قوله : (أي خافوا الخوف المفضي إلى الموت) أي استمر بهم الخوف إلى أن ماتوا به. قوله : (والتعبير بالماضي) الخ ، جواب عما يقال : إن الفزع مستقبل فلم عبر بالماضي؟ فأجاب بأنه لتحققه نزل منزلة الواقع ، لأن الماضي والحال والاستقبال بالنسبة لعلمه تعالى واحد ، لتعلق العلم به. قوله : (أي جبريل) الخ ، أي فهؤلاء الأربعة لا يموتون عند النفخة الأولى ، بخلاف باقي الملائكة ، وإنما يموتون بين النفختين ، ويحيون قبل

١٣٤

الخوف المفضي إلى الموت ، كما في آية أخرى (فَصَعِقَ) أو التعبير فيه بالماضي لتحقق وقوعه (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وعن ابن عباس : هم الشهداء إذ هم أحياء عند ربهم يرزقون (وَكُلٌ) تنوينه عوض عن المضاف إليه أي وكلهم بعد إحيائهم يوم القيامة (أَتَوْهُ) بصيغة الفعل واسم الفاعل (داخِرِينَ) (٨٧) صاغرين والتعبير في الإتيان بالماضي لتحقق وقوعه (وَتَرَى الْجِبالَ) تبصرها وقت النفخة (تَحْسَبُها) تظنها (جامِدَةً) واقفة مكانها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) المطر إذا ضربته الريح ، أي تسير سيره حتى تقع على الأرض فتستوي بها مبسوسة ، ثم تصير كالعهن ، ثم تصير هباء منثورا (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله ، أي صنع الله ذلك صنعا (الَّذِي أَتْقَنَ) أحكم (كُلَّ شَيْءٍ) صنعه (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) بالياء والتاء أي أعداؤه من المعصية وأولياؤه من الطاعة (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ)

____________________________________

الثانية. قوله : (وعن ابن عباس هم الشهداء) وقيل أهل الجنة من الحور العين والولدان وخزنة الجنة والنار ، وقيل : موسى ، وقيل جميع الأنبياء. قوله : (إذ هم أحياء) أي حياة برزخية لا تزول ولا تحول ، ولكن ليست كحياة الدنيا. قوله : (أي كلهم) أي المخلوقات من صعق ومن لم يصعق. قوله : (بصيغة الفعل) أي الماضي ، فيقرأ بفتح الهمزة مقصورة وتاء مفتوحة وواو ساكنة. قوله : (واسم الفاعل) أي فيقرأ بعد الهمزة وضم التاء وسكون الواو ، وأصله آتون له ، حذفت باللام للتخفيف والنون للإضافة ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (صاغرين) أي أذلاء لهيبة الله تعالى ، فيشمل الطائع والعاصي ، وليس المراد ذل المعاصي ، والمعنى أن إسرافيل حين ينفخ في الصور النفخة الثانية التي بها يكون إحياء الخلق ، يأتي كل إنسان ذليلا لهيبة الله تعالى.

قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ) عطف على قوله : (يُنْفَخُ). قوله : (وقت النفخة) أي الثانية ، لأن تبديل الأرض وتسيير الجبال وتسوية الأرض ، إنما يكون بعد النفخة الثانية ، كما يشهد به قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الآية ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) الآية. قوله : (لعظمها) أي وذلك لأن الأجرام الكبار ، إذا تحركت مرة واحدة ، لا تكاد تبصر حركتها. قوله : (المطر) الصواب إبقاء اللفظ على ظاهره ، لأن تفسير السحاب بالمطر لم يقله أحد ، ولعل الباء سقطت من قلم المصنف ، والأصل من السحاب بالمطر. قوله : (حتى تقع) أي الجبال على الأرض. قوله : (مبسوسة) أي مفتتة كالرمل السائل. قوله : (كالعهن) أي الصوف المنفوش. قوله : (مؤكد لمضمون الجملة قبله) أي لأن ما تقدم من نفخ الصور وتسيير الجبال وغير ذلك ، إنما هو من صنع الله لا غيره.

قوله : (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي وضعه في محله على أكمل حالاته. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي لا إله إلا الله) إنما حمله على هذا التفسير ذكر المقابل ، لأن الكب في النار ليس بمطلق سيئة ، بل إنما يكون بالكفر وهو يقابل الإيمان ، وحينئذ فأل في الحسنة للعهد ، أي الحسنة المعهودة وهي كلمة التوحيد ، وقيل الحسنة كل عمل خير من صلاة وزكاة وصدقة وغير ذلك من وجوه البر.

١٣٥

أي لا إله إلا الله يوم القيامة (فَلَهُ خَيْرٌ) ثواب (مِنْها) أي بسببها وليس للتفضيل إذ لا فعل خير منها ، وفي آية أخرى عشر أمثالها (وَهُمْ) أي الجاءون بها (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) بالإضافة وكسر الميم وفتحها وفزع منونا وفتح الميم (آمِنُونَ) (٨٩) (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي الشرك (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) بأن وليتها وذكرت الوجوه لأنها موضع الشرف من الحواس فغيرها من باب أولى ، ويقال لهم تبكيتا (هَلْ) أي ما (تُجْزَوْنَ إِلَّا) جزاء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠) من الشرك والمعاصي قل لهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم إنسان ولا يظلم فيها أحد ولا يصطاد صيدها ولا يختلى خلاها ، وذلك من النعم على قريش أهلها في رفع الله عن بلدهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب (وَلَهُ) تعالى (كُلُّ شَيْءٍ) فهو ربه وخالقه ومالكه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) لله بتوحيده (وَأَنْ

____________________________________

قوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي وهو الخلود في الجنة. قوله : (أي بسببها) أشار بذلك إلى أن (مَنْ) للسببية ، ويصح أن تكون للتعليل ، أي من أجل مجيئه بها. قوله : (وليس للتفضيل) أي ليس خيرا فعل تفضيل ، لأنه ليس عبادة أفضل من لا إله إلا الله ، ويؤيد ما قاله المفسر ، ما روي عن ابن عباس أنه قال له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب ، أما من يكون له شيء من خير من الإيمان فلا ، لأنه لا شيء خير من لا إله إلا الله. قوله : (بالإضافة) أي إضافة فزع لليوم. قوله : (وكسر الميم) أي للإعراب ، وقوله : (وفتحها) أي فتحة بناء وهي قراءة ثانية في الإضافة ، وقوله : (فزع منونا) معطوف على قوله : (بالإضافة) فتكون القراءات ثلاثا سبعيات ، فكان الأوضح أن يعبر بأو بدل الواو في الأخير.

قوله : (آمِنُونَ) أي لا يصيبهم منه شيء ، والمراد بالفزع هنا الخوف من العذاب والفزع المتقدم الهيبة والانزعاج من الشدة الحاصلة في ذلك اليوم ، فلا تنافي بين أثباته فيما تقدم ونفيه هنا. قوله : (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) أي ألقوا عليها في النار. قوله : (ويقال لهم) أي وقت كبهم على وجوههم في النار ، والقائل لهم خزنتها. قوله : (أي ما) (تُجْزَوْنَ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (قل لهم) (إِنَّما أُمِرْتُ) الخ ، أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما ذكر ، بعد بيان ما يحصل في المعاد ، إشارة إلى أن عبادة الله هي المقصودة بالذات له ، آمنوا أو كفروا ، فيتسبب عن ذلك اهتمامهم بأمر أنفسهم ، ورجوعهم عما يوجب نقصانهم.

قوله : (الَّذِي حَرَّمَها) صفة للرب ولا يعارضه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة» لأن إسناد التحريم لله ، باعتبار حكمه وقضائه ، وإسناد التحريم لإبراهيم ، باعتبار إخباره بذلك وإظهاره. قوله : (ولا يختلى خلاها) أي لا يقطع حشيشها الرطب. قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي أثبت على ما كنت عليه. قوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي أواظب عليه لتكشف لي حقائقه ودقائقه ، لأن علوم القرآن كثيرة ، فبتكرار التلاوة ازداد علوما ومعارف ، وفي هذه الآية إشعار أن تلاوة القرآن أعظم العبادات قدرا عند الله.

١٣٦

أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) عليكم تلاوة الدعوة إلى الإيمان (فَمَنِ اهْتَدى) له (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي لأجلها فإن ثواب اهتدائه له (وَمَنْ ضَلَ) عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى (فَقُلْ) له (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) المخوفين فليس علي إلا التبليغ ، وهذا قبل الأمر بالقتال (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) فأراهم الله يوم بدر القتل والسبي ، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وعجلهم الله إلى النار (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) بالياء والتاء ، وإنما يمهلهم لوقتهم.

____________________________________

قوله : (فَمَنِ اهْتَدى) (له) أي للإيمان. قوله : (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) هو جواب الشرط ، والرابط محذوف قدره المفسر بقوله له. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي فهو منسوخ. قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على ما أعطاني من النعم العظيمة التي أجلها النبوة التي بها إرشاد الخلق لصلاحهم. قوله : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي في الدنيا. قوله : (وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم) أي وجوه الذين قتلوا وأدبارهم. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الأولى هو وعيد محض ، وعلى الثانية فيه وعد للطائعين ووعيد للعاصين.

١٣٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القصص

مكيّة

إلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) الآية نزلت بالجحفة. وإلا (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نبتغي الجاهلين)

وهي سبع أو ثمان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم) (١) الله أعلم بمراده بذلك (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) الإضافة بمعنى من (الْمُبِينِ) (٢) المظهر الحق من الباطل (نَتْلُوا) نقص (عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القصص مكية

إلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ) الآية نزلت بالجحفة. وإلا (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) إلى قوله (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وهي سبع أو ثمان وثمانون آية

سميت بذلك لاشتمالها على الحكايات والأخبار المروية عن الله ، لأن القصص مصدر بمعنى الإخبار ، وتسمى أيضا سورة موسى. قوله : (نزلت بالجحفة) أي حين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغار ليلا مهاجرا في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما رجع إلى الطريق ونزل بالجحفة ، عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها ، فنزلت تلك الآية تسلية وتبشيرا له ، بأنه يرجع إلى مكان عوده وهو مكة أحسن مرجع ، ومن هنا صح استعمال هذه الآية للعارفين عند توديع المسافر ، وقيل المعاد الموت ، وقيل الآخرة ، وكل صحيح ، وهذه الآية ليست مكية ولا مدنية ، لأنها لم تنزل قبل الهجرة ، ولم تنزل بعد استقرارها ، بل نزلت بالطريق. قوله : (إلى قوله : لا نبتغي الجاهلين) أي وهو أربع آيات. قوله : (أي هذه الآيات) أي آيات هذه السورة والإشارة لمحقق حاضر في علم الله تعالى.

قوله : (نَتْلُوا عَلَيْكَ) مفعوله محذوف أي شيئا ، وقوله : (مِنْ نَبَإِ) صفة لذلك المحذوف ، ويصح

١٣٨

خبر (مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) الصدق (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) لأجلهم لأنهم المنتفعون به (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا) تعظم (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) فرقا في خدمته (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) هم بنو إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) المولودين (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) يستبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) بالقتل وغيره (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ياء يقتدى بهم في الخير (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) ملك فرعون (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر والشام (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) وفي قراءة ويرى بفتح التحتانية والراء ورفع الأسماء الثلاثة (مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) يخافون من المولود الذي يذهب ملكهم على يديه (وَأَوْحَيْنا) وحي إلهام أو منام (إِلى أُمِّ مُوسى) وهو المولود المذكور ولم

____________________________________

أن تكون (مِنْ) اسم بمعنى بعض هي المفعول ، أو زائدة على مذهب الأخفش ، و (نَبَإِ) هو المفعول. قوله : (بِالْحَقِ) حال إما من فاعل (نَتْلُوا) أو من مفعوله ، والمعنى حال كوننا ملتبسين بالصدق ، أو كون الخبر ملتبسا بالصدق. قوله : (لأجلهم) أشار بذلك إلى أن اللام للتعليل ، أي إن المقصود بالذكر المؤمنون ، لأنهم هم المنتفعون بذلك ، قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ) كلام مستأنف بيان للنبأ. قوله : (تعظم) أي تكبر وافتخر. قوله : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي أصنافا ، فجعل الصنائع الشريفة والإمارة للقبط ، وجعل الصنائع الخسيسة لبني إسرائيل ، من بناء وحرث وحفر وغير ذلك ، ومن لم يستعمله ضرب عليه جزية. قوله : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) بدل اشتمال من قوله : (يَسْتَضْعِفُ) الخ ، وذلك أن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ، فسلط الله عليهم القبط ، فاستضعفوهم وذبحوا أبناءهم بأمر فرعون ، قيل إنه ذبح سبعين ألفا ، إلى أن أنجاهم الله على يد موسى عليه‌السلام. قوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي الراسخين في الفساد. قوله : (بالقتل وغيره) أي كدعوى الألوهية. قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي نتفضل عليهم بإنجائهم من بأسه. قوله : (يقتدى بهم) أي بعد أن كانوا أذلاء مسخرين. قوله : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نملكهم مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون. قوله : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) أي نبصره ، و (فِرْعَوْنَ) وما عطف عليه مفعول أول ، و (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) مفعول ثان. قوله : (وفي قراءة) أي وعليها فلها مفعول واحد فقط وهو قوله : (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) وعلى هذه فتجب إمالة الراء إمالة محضة. قوله : (ورفع الأسماء الثلاثة) أي على الفاعلية. قوله : (مِنْهُمْ) أي المستضعفين. قوله : (يخافون من الموت) الخ ، أي وقد حصل ما خافوه ، حين أتتهم معجزات موسى عليه‌السلام ، وحين أدركهم الغرق. قوله : (وحي إلهام أو منام) هذان قولان للمفسرين ، وقيل كان بملك تمثل لها ، واعترض بأنها ليست بنبية ، وأجيب : بأن الممنوع نزول الملائكة على غير الأنبياء بالشرائع ، وأما بغيرها فجائز ، كنزول الملك على البار بأمه التي تقدمت قصته في البقرة. قوله : (إِلى أُمِّ مُوسى) أي واسمها يوحانذ

١٣٩

يشعر بولادته غير أخته (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) البحر أي النيل (وَلا تَخافِي) غرقه (وَلا تَحْزَنِي) لفراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) فأرضعته ثلاثة أشهر لا يبكي وخافت عليه فوضعته في تابوت مطلي بالقار من داخل ممهد له فيه وأغلقته وألقته في بحر

____________________________________

بضم الياء وكسر النون وبالذال المعجمة ، وقيل : لوخا بنت هاند بن لاوى بن يعقوب ، وقد اشتملت هذه الآية على أمرين وهما (أَرْضِعِيهِ) و (أَلْقاهُ) ، ونهيين وهما (لا تَخافِي) و (لا تَحْزَنِي) ، وخبرين وبشارتين وهما (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) و (جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فهما خبران تضمنا بشارتين. قوله : (أَنْ أَرْضِعِيهِ) يصح أن تكون مفسرة أو مصدرية. قوله : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي من الذبح. قوله : (وَلا تَخافِي) (غرقه) دفع بذلك التناقض بين إثبات الخوف ونفيه ، فالمثبت هو خوف الذبح ، والمنفي هو خوف الغرق. قوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) أي لتأمني عليه ، وهو علة للنهي عن الخوف والحزن. قوله : (فوضعته في تابوت) أي وكان طوله خمسة أشبار وعرضه كذلك ، وجعلت المفتاح في التابوت. قوله : (مطلي بالقار) أي الزفت. قوله : (ممهد) أي مفرش له فيه ، ففرشت فيه قطنا محلوجا. قوله : (وأغلقته) أي وقيرت رأسه. وحاصله : أن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل ، مصافية لأم موسى ومصاحبة لها ، فلما ضربها الطلق ، أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فليسعفني حبك إياي اليوم فعالجتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض ، هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل فيها ، ودخل حب موسى قلبها ، ثم قالت القابلة لها : يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني ، إلا ومرادي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ، ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك ، فلما خرجت القابلة من عندها ، أبصرها بعض العيون فجاءوا على بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى بخرقة وألقته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع ، قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى ولم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا : ما أدخل عليك القابلة؟ فقالت : هي مصافية لي ، فدخلت علي زائرة. فخرجوا من عندها ، فرجع لها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي؟ فقالت : لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما فاحتملته ، ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان ، خافت على ابنها ، وقذف الله في نفسها أن تتخذ تابوتا ، ثم تقذف التابوت في النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتا صغيرا ، فقال النجار : ما تصنعين بهذا التابوت؟ فقالت : لي ابن أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب ولم تقل أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به ، انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما همّ بالكلام ، أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده ، فلم يدر الأمناء ما يقول ، فأعياهم أمره ، قال كبيرهم : اضربوه. فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه ، رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق أيضا يريد الأمناء ، فأتاهم ليخبرهم ، فأخذ لسانه وبصره ، فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه ، فبقي حيران ، فجعل لله عليه إن رد لسانه وبصره ، أن لا يدل عليه ، وأن يكون معه ويحفظه حيثما كانوا ، وعرف الله منه الصدق ، فرد عليه لسانه وبصره ، فخر لله ساجدا وقال : يا رب دلني

١٤٠