حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

زُجاجَةٍ) هي القنديل ، والمصباح السراج أي الفتيلة الموقودة ، والمشكاة الطاقة غير النافذة أي الأنبوبة في القنديل (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها) والنور فيها (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي مضيء بكسر الدال وضمها من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام ، وبضمها وتشديد الياء منسوب إلى الدر : اللؤلؤ (يُوقَدُ) المصباح بالماضي وفي قراءة بمضارع أوقد مبنيا للمفعول بالتحتانية وفي أخرى توقد بالفوقانية أي الزجاجة (مِنْ) زيت (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) بل بينهما فلا يتمكن منها حر ولا برد مضرين (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) لصفاته (نُورُ) به (عَلى نُورٍ) بالنار ، ونور

____________________________________

زُجاجَةٍ) واحدة الزجاج ، وفيه ثلاث لغات : الضم وبه قرأ العامة ، والفتح والكسر وبهما قرىء شذوذا. قوله : (هي القنديل) بكسر القاف. قوله : (الموقودة) صوابه الموقدة. قوله : (غير النافذة) قيد به لأنه في تلك الحالة أجمع للنور. قوله : (أي الأنبوبة) هي السنبلة التي في القنديل ، وهو تفسير آخر للمشكاة ، وحينئذ فكان المناسب للمفسر أن يقول أو الأنبوبة ، فتحصل أنه اختلف في المشكاة ، فقيل هي الطاقة الغير النافذة التي وضع فيها القنديل ، وعليه فهي ظرف للقنديل ، وقيل هي السنبلة التي تكون وسط القنديل توضع فيها الفتيلة وعليه فالقنديل ظرف لها. قوله : (بكسر الدال وضمها) أي مع الهمزة قراءتان سبعيتان. قوله : (وبضمها وتشديد الياء) قراءة سبعية أيضا فتكون القراءات ثلاثا. قوله : (بمعنى الدفع) أي وبابه قطع. قوله : (منسوب إلى الدر) أي لشدة صفائه. قوله : (بالماضي) الخ ، حاصله أن القراءات ثلاث سبعيات بالماضي وبالمضارع بالتحتانية ، ويكون الضمير عائدا على المصباح ، وبالفوقانية ويكون الضمير عائدا على الزجاجة على حذف مضاف ، أي فتيلة الزجاجة.

قوله : (مِنْ) (زيت) (شَجَرَةٍ مِنْ) ابتدائية ، وأشار المفسر إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (مُبارَكَةٍ) أي لكثرة منافعها ، قال ابن عباس : في الزيتون منافع ، يسرج بزيته وهو إدام ودهان ودباغ ووقود ، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم ، وهي أول شجرة نبتت في الدنيا ، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان ، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة ، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة ، منهم إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسّلام.

قوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) بالجر صفة لشجرة ، وقرىء شذوذا بالرفع خبر لمحذوف ، أي لا هي شرقية ولا هي غربية ، والجملة في محل جر نعت شجرة. قوله : (بل بينهما) الخ ، أشار بذلك إلى أن المراد بقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أنها متوسطة ، لا شرقية فقط ولا غربية فقط بل بينهما وهي الشام ، فإن زيتونه أجود الزيتون. وفي الحديث : «لا خير في شجرة ولا نبات في مقنأة ، ولا خير فيهما في مضحى» ، والمقنأة بقاف ونون مفتوحة أو مضمومة فهمزة المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، والمضحى هو الذي تشرق عليه دائما فتحرقه ، وهو أحد قولين ، وقيل معنى لا شرقية ولا غربية ، أن الشمس تبقى عليها دائما من أول النهار لآخره ، لا يواريها عن الشمس شيء ، كالتي تكون في الصحارى الواسعة ، فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى ، وعلى هذا فلا يتقيد بشام ولا غيرها. قوله : (مضرين) هذا هو محل النفي وهو حال. قوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه والتقدير لأضاء.

٤١

الله أي هداه للمؤمن نور على نور الإيمان (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أي دين الإسلام (مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ) يبين (اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا لأفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥) ومنه ضرب الأمثال (فِي بُيُوتٍ) متعلق بيسبح الآتي (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) تعظم (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بتوحيده (يُسَبِّحُ) بفتح الموحدة وكسرها أي يصلي (لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ)

____________________________________

قوله : (نُورُ) (به) أي الزيت ، وقوله : (عَلى نُورٍ) أي مع نور وهو نور المصباح والزجاجة ، فالأنوار المشبه بها متعددة كأنوار المشبه ، فليس المقصود في الآية التثنية ، بل الكثرة ، وتراكم الأنوار. قوله : (ونور الله أي هداه) الخ ، أي فبراهين الله تزداد في قلب المؤمن برهانا بعد برهان ، إن قلت : لم ضرب المثل بنور الزيت ، ولم يضر به بنور الشمس والقمر والشمع مثلا؟ أجيب بأن الزيت فيه منافع ، ويسهل لكل أحد ، كما أن المؤمن الكامل الإيمان منافعه كثيرة ، واختلف في هذه التشبيه ، هل هو تشبيه مركب ، بأن قصد فيه تشبيه جملة بجملة ، من غير نظر إلى مقابلة جزء بجزء ، وذلك بأن يراد مثل نور الله الذي هو هداه وبراهينه الساطعة ، كجملة النور الذي يتخذ من هذه الهيئة ، أو تشبيه جزء بجزء ، بأن يشبه صدر المؤمن بالمشكاة ، وقلبه بالزجاجة ، ومعارفه بالزيت ، وإيمانه بالمصباح.

قوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي من يريد هدايته ، فإن الأسباب دون مشيئته لاغية ، ولو لا العناية ما كان الوصول لذلك النور. قوله : (أي دين الإسلام) المراد به ما يشمل الإيمان ، وهو الذي ضرب له المثل المتقدم ، وأظهر في مقام الإضمار اعتناء بشأنه. قوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) أي تقريبا للمعقول من المحسوس ، فحيث كان نور الإيمان. والمعارف مثله هكذا ، فلا تدخل شبهة على المؤمن ، إلا شاهدها بعين البصيرة ، كما تشاهد بعين البصر ، ويشهد الحق بعين البصيرة ، كما يشهده بعين البصر ، وفي هذا المقام تنافس المتنافسون ، فأدناهم أهل المراقبة وأعلاهم أهل المشاهدة ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) وقوله في الحديث : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» وقوله في الحديث أيضا : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه». للعارفين تفننات وضرب أمثال في هذه المقامات لا يدركها إلا من كان من أهل هذا النور.

قوله : (فِي بُيُوتٍ) المراد بها جميع المساجد ، وقيل خصوص مساجد أربع : الكعبة ومسجد المدينة وبيت المقدس وقباء ، لأنه لم يبنها إلا نبي ، فالكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل ، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة وقباء بناهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأقرب الأول ، لأن العبرة بعموم اللفظ. قوله : (يتعلق بيسبح الآتي) أي سواء قرىء ببنائه للفاعل أو المفعول ، وكرر الظرف وهو قوله فيها اعتناء بشأن المساجد ، لما ورد : بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء ، كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف دل عليه قوله : (يُسَبِّحُ) والتقدير سبحوا ربكم في بيوت ، وعلى هذين فالوقف على عليم ، ويصح أن يكون الجار والمجرور صفة لمشكاة أو لمصباح أو لزجاجة ، أو متعلق بتوقد ، وعلى هذه الأربعة لا توقف على عليم.

قوله : (أَذِنَ اللهُ) أي أمر ، والجملة صفة لبيوت ، و (أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور

٤٢

مصدر بمعنى الغدوات أي البكر (وَالْآصالِ) (٣٦) العشايا من بعد الزوال (رِجالٌ) فاعل يسبح بكسر الباء وعلى فتحها نائب الفاعل له ورجال فاعل فعل مقدر جواب سؤال مقدر كأنه قيل من يسبحه (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) أي شراء (وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) حذف هاء إقامة تخفيف (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ) تضطرب (فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) من الخوف ،

____________________________________

بالباء المقدرة ، والتقدير أمر الله برفعها. قوله : (تعظم) أي حسا ومعنى ، فالتعظم الحسي رفعها بالبنيان المتين الحسن ، مساويا لبنيان البلد أو أعلى ، ولا منافاة بين هذا ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «إذا ساء عمل قوم زخرفوا مساجدهم» لأن المنهي عنه الزخرفة والتزويق ، لا حسن البنيان واتقانه ، ومن التعظيم الحسي ، تطهيرها من الأقذار والنجاسات ، قال القرطبي : كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد ، لأنهم لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد ، وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال : «جبنوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم ، وجمروها في الجمع واجعلوا لها على أبوابها المطاهر». والتعظيم المعنوي بترك اللهو واللعب والحديث الدنيوي ، وغير ذلك مما لا ينبغي.

قوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي بأي ذكر كان. قوله : (بفتح الموحدة وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الفتح يكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاث ، والأول أولى ، ولذا اقتصر عليه المفسر ، و (رِجالٌ) فاعل فعل محذوف ، أو خبر لمحذوف تقديره يحسبه أو المسبح ، وعليه فالوقف على (الْآصالِ) وعلى الكسر ، فرجال فاعله ، ولا يوقف على (الْآصالِ). قوله : (أي يصلي) فسر التسبيح بالصلاة لاشتمالها عليه ، واختلف في المراد بالصلاة ، فقيل المراد الصبح في الغدو ، وباقي الخمس في الآصال ، وقد أشار لهذا المفسر بقوله : (من بعد الزوال) وقيل المراد صلاة الصبح والعصر لما قيل : إنهما الصلاة الوسطى. قوله : (مصدر) أي في الأصل ، وأما هنا فالمراد منه الأزمنة. قوله : (أي البكر) أي وهي أوائل النهار ، وقوله : (العشايا) هي أواخر النهار.

قوله : (رِجالٌ) خصوا بالذكر ، لأن شأنهم حضور المساجد للجمعة والجماعة. قوله : (شراء) خص التجارة بالشراء ، وإن كان لفظ التجارة يقع على البيع أيضا لذكره البيع بعده ، وقيل المراد بالتجارة حقيقتها ، ويكون خص البيع بالذكر ، لأن الاشتغال به أعظم ، لكون الربح الحاصل من البيع ناجزا محققا ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك فيه مستقبل فلا يكاد يشغله. قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن حقوق الله صلاة أو غيرها ، فقوله : (وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) من ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنهما ، فإن المواظب عليهما كامل الايمان. قوله : (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي أدائها في أوقاتها بشروطها وأركانها وآدابها.

قوله : (يَخافُونَ يَوْماً) أي هؤلاء الرجال ، وإن أكثروا الذكر والطاعات ، فإنهم مع ذلك وجلون خائفون من الله سبحانه وتعالى ، لعلمهم بأنهم ما عبدوه حق عبادته. قوله : (بين النجاة والهلاك) راجع لتقلب القلوب ، وقيل معنى تقلب القلوب ، ارتفاعها إلى الحناجر ، فلا تنزل ولا تخرج من شدة الهول.

٤٣

القلوب بين النجاة والهلاك ، والأبصار بين ناحيتي اليمين والشمال هو يوم القيامة (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي ثوابه وأحسن بمعنى حسن (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨) يقال : فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) جمع قاع أي في فلاة ، وهو شعاع يرى فيها نصف النهار في شدة الحر يشبه الماء الجاري (يَحْسَبُهُ) يظنه (الظَّمْآنُ) أي العطشان (ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) مما حسبه

____________________________________

قوله : (بين ناحية اليمين والشمال) وقيل تقلب الأبصار ، شخوصها من هول الأمر وشدته. قوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) اللام للعاقبة والصيرورة ، أي إن مآل أمرهم وعاقبته الجزاء الحسن ، وليست لام العلة ، لأن هذه مرتبة عامة المؤمنين ، وتلك الأوصاف إنما هي لكامل الإيمان. قوله : (وأحسن بمعنى حسن) أي فالمحترز عنه المجازاة على القبيح ، فالمعنى يجازون على كل عمل حسن ، قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ولا يجازون على ما سبق من العمل القبيح.

قوله : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي فلا يقتصر في إعطائهم على جزاء أعمالهم ، بل يعطون أشياء لم تخطر ببالهم. قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تذييل ووعد كريم ، بأنه تعالى يعطيهم فوق أجور أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب. قوله : (يقال فلان ينفق بغير حساب) الخ ، أي فهو كناية عن كون الله يعطيهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر بغير نهاية ، فوق ما وعدهم به.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، لما ضرب الله المثل للمؤمنين بأشرف الأمثال وأعلاها ، ضرب المثل للكفار بأشر الأشياء وأخسها. والحاصل أن الله ضرب للكفار مثلين : مثل لأعمالهم الحسنة بقوله : (كَسَرابٍ) الخ ، ومثل لأعمالهم السيئة بقوله : (كَظُلُماتٍ) الخ ، والاسم الموصول مبتدأ ، و (كَفَرُوا) صلته ، و (أَعْمالُهُمْ) مبتدأ ثان ، و (كَسَرابٍ) خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، ويصح أن يكون (أَعْمالُهُمْ) بدل اشتمال ، و (كَسَرابٍ) خبر (الَّذِينَ). قوله : (أَعْمالُهُمْ) أي الصالحة ، كصدقة وعتق وغير ذلك مما لا يتوقف على نية. قوله : (بِقِيعَةٍ) الباء بمعنى في كما يشير له المفسر بقوله : (أي في فلاة). قوله : (جمع قاع) أي كجيرة جمع جار ، وقيل القيعة مفرد بمعنى القاع. قوله : (يشبه الماء الجاري) أي ويسمى آلا أيضا ، قال الشاعر :

إذا أنا كالذي يجري لورد

إلى آل فلم يدرك بلالا

ويسمى سرابا لأنه يتسرب أي يجري كالماء. قوله : (يَحْسَبُهُ) بكسر السين وفتحها ، قراءتان سبعيتان ، وماضيه حسب بكسر السين ، وهو من باب تعب ، في لغة جميع العرب ، إلا بني كنانة ، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضا. قوله : (الظَّمْآنُ) أي وكذا كل من رآه ، وإنما خص (الظَّمْآنُ) لأنه أحوج إليه من غيره. قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي جاء ما قصده وظنه ماء ، وهو غاية في محذوف ، أي يستمر سائرا اليه (حَتَّى إِذا جاءَهُ) الخ. قوله : (كذلك الكافر) الخ ، أشار بذلك إلى وجه الشبه ، فتحصل أنه شبه حال الكافر من حيث اعتقاده ، أن عمله الصالح ينفعه في الآخرة ، فإذا جاء يوم

٤٤

كذلك الكافر يحسب أن عمله كصدقه. ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد عمله أي لم ينفعه (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي عند عمله (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي جازاه عليه في الدنيا (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩) أي المجازاة (أَوْ) الذين كفروا أعمالهم السيئة (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) عميق (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ) أي الموج (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ) أي الموج الثاني (سَحابٌ) أي غيم هذه (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة البحر وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني وظلمة السحاب (إِذا أَخْرَجَ) الناظر (يَدَهُ) في هذه الظلمات (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي لم يقرب من رؤيتها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠) أي من لم يهده الله لم يهتد (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ

____________________________________

القيامة ، لم يجد الثواب الذي كان يظنه ، بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم ، فعظمت حسرته بحال الظمآن الذي اشتدت عليه حاجته إلى الماء ، فإذا شاهد السراب تعلق به ، فإذا جاء لم يجده شيئا. قوله : (وَوَجَدَ اللهَ) أي وجد وعد الله بالجزاء على عمله ، أو المعنى وجد عذاب الله له. قوله : (أي جازاه عليه في الدنيا) المعنى أن الكافر يوم القيامة يعلم ويتحقق ، أن الله جازاه على أعماله الحسنة التي لم تتوقف على نية في الدنيا ، بالمال والبنين والعافية ، وغير ذلك من لذات الدنيا ، هكذا قال المفسر ، وهو وإن كان صحيحا في نفسه ، إلا أن المفسرين على خلافه ، فإنهم قالوا : معنى وفاه حسابه ، جازاه عليه في الآخرة بالعذاب. والحاصل أنه إن أريد مثلا أعماله الصالحة التي تتوقف على نية ، فمسلم أنه لا يجد لها جزاء في الآخرة ، ولا تنفعه أصلا ، وإن أريد خصوص ما لا يتوقف على نية فقيل لا يجد لها نفعا أصلا ، وقيل يجد نفعها ، إما في الدنيا كتوسعتها عليه وعافيته وغير ذلك أو في الآخرة بتخفيف عذاب غير الكفر. قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) أو للتقسيم ، أي إن أعمال الكافر تنقسم قسمين ، قسم كالسراب وهو العمل الصالح ، وقسم كالظلمات وهو العمل السيىء ، وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) معطوف على قوله : (كَسَرابٍ) على حذف مضاف تقديره أو كذي ظلمات يدل عليه قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها). قوله : (لُجِّيٍ) منسوب للج أو للجة ، وهو الماء الغزير. قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) الخ ، أي يعلوه ، وهو إشارة إلى كثرة الأمواج وتراكمها ، والمعنى أن البحر اللجي يكون باطنه مظلما بسبب غزارة الماء ، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة ، فإذا كان مع ذلك سحاب ، ازدادت الظلمة جدا ، ووجه الشبه أن الله تعالى ذكر ثلاث ظلمات : ظلمة البحر والأمواج والسحاب ، كذلك الكافر له ثلاث ظلمات : ظلمة الاعتقاد ، وظلمة القول ، وظلمة الفعل. قوله : (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي قد غطى أنوار النجوم. قوله : (هذه) (ظُلُماتٌ) أشار بذلك إلى أن قوله : (ظُلُماتٌ) خبر لمحذوف. قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) خصها لأنها أقرب الأشياء اليه. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) استفيد من هذا أن النور ليس بالحول ولا بالقوة ، بل بفضل الله يعطيه لمن يشاء ، والمعنى من لم يجعل الله له دينا وإيمانا ، فلا دين له. قوله : (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لكل عاقل ، وهو توبيخ للكفار ، كأن الله يقول لهم : إن تسبيحي ليس قاصرا عليكم ، بل جميع من في السماوات والأرض يسبحونني. قوله : (ومن التسبيح صلاة) ذكر ذلك توطئة لقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ، فالصلاة مندرجة في عموم التسبيح.

٤٥

وَالْأَرْضِ) ومن التسبيح صلاة (وَالطَّيْرُ) جمع طائر بين السماء والأرض (صَافَّاتٍ) حال ، باسطات أجنحتهن (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ) الله (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) فيه تغليب العاقل (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والرزق والنبات (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢) المرجع (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) يسوقه برفق (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع المفرقة قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) مخارجه (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ) زائدة (جِبالٍ فِيها) في السماء بدل بإعادة الجار (مِنْ

____________________________________

قوله : (وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على (مَنْ) والنصب على المعية ، و (صَافَّاتٍ) بالنصب على الحال على كل من القراءتين ، وقرىء شذوذا برفعهما على الابتداء والخبر ، ومفعول (صَافَّاتٍ) محذوف أي أجنحتها. قوله : (بين السماء والأرض) أشار بهذا إلى أن العطف مغاير ، لأنه في حالة الطيران يكون بين السماء والأرض. قوله : (قَدْ عَلِمَ) (الله) (صَلاتَهُ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الضمير في علم على الله ، ويصح عوده على كل ، أي علم كل صلاة نفسه وتسبيحها. قوله : (فيه تغليب العاقل) أي حيث عبر بالفعل. قوله : (خزائن المطر والرزق) راجع للسماء ، وقوله : (والنبات) راجع للأرض ، وفي كلام المفسر إشارة إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والأصل ولله ملك خزائن السماوات والأرض ، والأصح إبقاء الآية على ظاهرها كما سلكه غيره ، وعلى كل فهو من أدلة تنزيه المخلوقات له. قوله : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي مرجع الخلائق كلها إلى الله ، فيجازى كل أحد بعمله.

قوله : (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لكل عاقل لا خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن من تأمل ذلك حصل له العلم به. قوله : (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي بين أجزائه ، لأن كل جزء سحاب ، وبهذا اندفع ما قيل : إن بين لا تدخل إلا على متعدد ، وإلى هذا يشير المفسر بقوله : (يضم بعضه إلى بعض) الخ ، قوله : (رُكاماً) الركام الشيء المتراكم بعضه على بعض. قوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي تبصره. بقوله : (مخارجه) أي ثقبه ، فالسحاب غربال المطر ، قال كعب : لو لا السحاب حين ينزل المطر من السماء ، لأفسد ما يقع عليه من الأرض.

قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) أشار بذلك إلى أن السماء كما ينزل منها المطر الذي هو نفع للعباد ، ينزل منها بعض الجبال التي هي البرد ، وهو ضر للعباد ، فسبحان من جعل السماء منشأ للخير والشر. قوله : (زائدة) الحاصل أن من الأولى ابتدائية لا غير ، والثانية فيها ثلاثة أوجه : قيل زائدة ، وقيل ابتدائية ، وقيل تبعيضية ، وهو الأحسن ، والثالثة فيها أربعة أوجه الثلاثة المتقدمة ، وقيل بيانية ، وهو الأحسن ، وحينئذ فيكون المعنى على ذلك ، وينزل بعض جبال كائنة في السماء التي هي البرد ، إنزالا ناشئا ومبتدأ من السماء. قوله : (فِيها) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لجبال. قوله : (بدل بإعادة الجار) هذا راجع لقوله : (مِنْ جِبالٍ) ، والمناسب للمفسر أن يقول أو بدل ، فيكون قولا ثانيا ، لأن هذا لا يتأتى على جعلها زائدة ، بل على جعلها ابتدائية.

٤٦

بَرَدٍ) أي بعضه (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ) يقرب (سَنا بَرْقِهِ) لمعانه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣) الناظرة له أي يخطفها (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يأتي بكل منهما بدل الآخر (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقليب (لَعِبْرَةً) دلالة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي حيوان (مِنْ ماءٍ) أي نطفة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والهوام (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم والنعام (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥) (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي بينات هي القرآن (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ) طريق (مُسْتَقِيمٍ) (٤٦) أي دين الإسلام

____________________________________

قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد. قوله : (سَنا بَرْقِهِ) هو بالقصر في قراءة العامة معناه الضياء ، وأما بالمد فمعناه الرفعة ، وليس مرادا. قوله : (أي يخطفها) أشار بذلك إلى أن الباء في الأبصار للتعدية ، والمعنى يذهبها بسرعة ، لأن الضوء القوي يذهب الضعيف ، ومن ذلك قول الفقهاء : إذا فعل رجل بآخر فعلا أذهب بصره ، وأريد أن يقتص منه بإذهاب بصره ، فإنه يؤتى له بمرآة وتوضع في الشمس ، ويجلس الشخص قبالتها ، وتقلب المرآة يمينا وشمالا ، فإن ذلك يخطف بصره. قوله : (أي ويأتي بكل منها بدل الآخر) أي ويقصر هذا ويطول هذا ، وفي هذا رد على من ينسب الأمور للدهر.

قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) جمع بصيرة ، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ، حيث يتأملون فيجدون الماء والنور والنار والظلمة تخرج من شيء واحد ، فسبحان القادر على كل شيء. قوله : (على قدرة الله) متعلق بدلالة. قوله : (أي حيوان) أشار بذلك إلى أن المراد بالدابة ، ما دب على وجه الأرض ، لا خصوص ذوات الأربع. قوله : (أي نطفة) هذا بحسب الغالب في الحيوانات الأرضية ، وإلا فالملائكة خلقوا من النور ، والجن خلقوا من النار ، وآدم خلق من الطين ، وعيسى خلق من النفس الذي نفخه جبريل في جيب أمه ، والدود تخلق من الفاكهة والعفونات ، وقيل المراد بالماء حقيقته لما ورد : أن الله خلق ماء ، وجعل بعضه ريحا ونورا ، فخلق منه الملائكة ، وجعل بعضه نارا فخلق منه الجن ، وجعل بعضه طينا فخلق منه آدم.

قوله : (فَمِنْهُمْ) الضمير راجع لكل باعتبار معناه ، وفيه تغليب العاقل على غيره ، حيث أتى بضمير جماعة الذكور العقلاء في الجميع. قوله : (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) قدمه لغرابته وسماه مشيا مشاكلة لما بعده ، وإلا فهو زحف. قوله : (كالحيات والهوام) بالتشديد أي خشاش الأرض ، وأدخلت الكاف الدود والسمك. قوله : (كالإنسان والطير) أي والنعام. قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) أي ومنهم من يمشي على أكثر ، كالعقارب والعنكبوت والحيوان المعروف بأم أربع وأربعين ، وإنما لم يصرح بهذا القسم لندوره ولدخوله في قوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ). قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مما ذكر ومما لم يذكر.

قوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا) اللام موطئة لقسم محذوف ، أي والله لقد أنزلنا ، الخ ، قوله : (مُبَيِّناتٍ) بكسر الياء وفتحها قراءتان سبعيتان. قوله : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أشار بذلك إلى أن الهدى بيد الله

٤٧

(وَيَقُولُونَ) أي المنافقون (آمَنَّا) صدقنا (بِاللهِ) بتوحيده (وَبِالرَّسُولِ) محمد (وَأَطَعْنا) هما فيما حكما به (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عنه (وَما أُولئِكَ) المعرضون (بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) المعهودين الموافق قلوبهم لألسنتهم (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) المبلغ عنه (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) عن المجيء إليه (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (٤٩) مسرعين طائعين (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر (أَمِ ارْتابُوا) أي شكوا في نبوته (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكم أي فيظلموا فيه؟ لا (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠) بالإعراض عنه (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) بالقول اللائق بهم (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) بالإجابة (وَأُولئِكَ) حينئذ (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥١) الناجون (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ) يخافه (وَيَتَّقْهِ) بسكون الهاء وكسرها بأن يطيعه (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) بالجنة (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) غايتها (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالجهاد

____________________________________

وعنايته ، فلا يهتدي إلا من حفه الله بالعناية ، فليس ظهور الآيات سببا في الاهتداء دون عناية الله. قوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ) شروع في ذكر أحوال المنافقين. قوله : (وَأَطَعْنا) قدر المفسر الضمير إشارة إلى أن مفعول (أَطَعْنا) محذوف.

قوله : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) تفصيل لما أجمل أولا. قوله : (المبلغ عنه) جواب عما يقال : لم افرد الضمير في (لِيَحْكُمَ) مع أنه تقدمه اثنان؟ فأجاب : بأن الرسول هو المباشر للحكم ، وإنما ذكر الله معه تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرته. قوله : (إِذا فَرِيقٌ إِذا) فجائية قائمة مقام الفاء في ربط الجواب بالشرط. قوله : (مُعْرِضُونَ) أي إن كان الحكم عليهم بدليل ما بعده. قوله : (إليه) يصح أن يكون متعلقا بيأتوا أو بمذعنين. قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أشار بذلك إلى أن منشأ الإعراض وسببه أحد أمور ثلاثة. قوله : (أَمِ ارْتابُوا أَمِ) بمعنى بل والهمزة ، وكذا يقال فيما بعده ، والاستفهام للتقرير. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام في هذا الأخير بمعنى النفي. والمعنى لا محل لخوفهم لاستحالة الحيف على الله ورسوله. قوله : (بالإعراض عنه) أي الحكم.

قوله : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) العامة على نصب قول خبرا لكان ، والاسم أن وما دخلت عليه ، وقرىء شذوذا برفعه على أنه اسمها ، وأن وما دخلت عليه خبرها. قوله : (بالإجابة) أي قولا وفعلا. قوله : (حينئذ) أي حين إذ قالوا هذا القول. قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) الخ ، قال بعض الأحبار : هذه الآية جمعت ما في توراة موسى وإنجيل عيسى. قوله : (يخافه) هذا حل معنى ، وإلا فكان حقه أن يقول يخفه. قوله : (وكسرها) أي بإشباع ودونه فهذه ثلاثة قراءات ، وبسكون القاف مع كسر الهاء بدون إشباع فتكون أربعة ، وكلها سبعية. قوله : (هُمُ الْفائِزُونَ) أي الظافرون بمقصودهم ، الناجون من كل مكروه.

قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الضمير عائد على المنافقين ، وهو معطوف على قوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ

٤٨

(لَيَخْرُجُنَّ قُلْ) لهم (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) للنبي خير من قسمكم الذي لا تصدقون فيه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣) من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن طاعته بحذف إحدى التاءين خطاب لهم (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) من التبليغ (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من طاعته (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤) أي التبليغ البين (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) بدلا عن الكفار (كَمَا اسْتَخْلَفَ) بالبناء للفاعل والمفعول (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من بني إسرائيل بدلا عن الجبابرة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام بأن يظهره على جميع الأديان ويوسع

____________________________________

وَبِالرَّسُولِ). قوله : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ جَهْدَ) منصوب على المفعولية المطلقة. والمعنى جهدوا اليمين جهدا ، حذف الفعل واقيم المصدر مقامه ، وأضيف إلى المفعول كضرب الرقاب ، وهذه الآية نزلت لما قال المنافقون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، ولئن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. قوله : (لَيَخْرُجُنَ) اللام موطئة للقسم ، ويخرجن فعل مضارع مؤكد بالنون ، وأصله ليخرجونن ، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال ، فالتقى ساكنان الواو ونون التوكيد ، حذفت الواو لالتقائهما ، وبقيت الضمة لتدل عليها. قوله : (طاعَةٌ) مبتدأ ، و (مَعْرُوفَةٌ) صفته ، والخبر محذوف قدره المفسر بقوله : (خير من قسمكم) ويصح أن يكون (طاعَةٌ) خبر المحذوف تقديره أمركم طاعة معروفة ، أي الأمر المطلوب منكم طاعة معروفة بالصدق وموافقة الواقع ، لا مجرد القول باللسان. قوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تعليل لما قبله ، والمعنى لا تحلفوا باللسان ، مع كون قلوبكم ليس فيها الامتثال والإخلاص ، فإن الله مطلع على بواطنكم وظواهركم ، لا تخفى عليه خافية.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) شرط حذف جوابه والتقدير فلا ضرر عليه ، وقوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) علة لذلك المحذوف. قوله : (ما حُمِّلَ) أي كلف. قوله : (تَهْتَدُوا) أي تصلوا للرشاد والفوز برضا الله ، وهذا راجع لقوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) ، وقوله : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) راجع لقوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) على سبيل اللف والنشر المشوش. قوله : (أي التبليغ البين) أي الظاهر وقد أداه ، فعليكم أن تؤدوا ما حملتم من الطاعة لله ورسوله.

قوله : (وَعَدَ اللهُ) الخ ، (وَعَدَ) فعل ماض ، ولفظ الجلالة فاعله ، والاسم الموصول مفعوله الأول ، والمفعول الثاني محذوف تقديره الاستخلاف في الأرض ، وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا يدل على هذا المحذوف. قوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) الخ ، فإن اللام موطئة لقسم محذوف تقديره أقسم الله ليستخلفنهم. قوله : (مِنْكُمْ) الجار والمجرور حال من (الَّذِينَ آمَنُوا) والخطاب لعموم الأمة. قوله : (فِي الْأَرْضِ) أي جميعها ، وقد حصل ذلك. قوله : (كَمَا اسْتَخْلَفَ) ما مصدرية ، والمعنى استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) العائد محذوف أي ارتضاء لهم ، والمعنى وليجعلن دينهم الذي رضيه لهم ، ظاهرا وفائقا على جميع الأديان. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بما ذكر) أي وهو ما تقدم

٤٩

لهم في البلاد فيملكوها (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بالتخفيف والتشديد (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الكفار (أَمْناً) وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر وأنثى عليهم بقوله (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) هو مستأنف في حكم التعليل (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الإنعام منهم به (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥٥) وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه فساروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) أي رجاء الرحمة (لا تَحْسَبَنَ) بالفوقانية والتحتانية والفاعل الرسول (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) لنا (فِي الْأَرْضِ) بأن يفوتونا (وَمَأْواهُمُ) مرجعهم (النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧) المرجع هي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار وعرفوا أمر النساء (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في ثلاثة أوقات (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي وقت الظهر (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ

____________________________________

من الأمور الثلاثة. قوله : (يَعْبُدُونَنِي) أي يوحدونني. قوله : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من فاعل (يَعْبُدُونَنِي) أو بدل مما قبله. قوله : (هو مستأنف) أي واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما بالهم يستخلفون ويجعل دينهم ظاهرا على جميع الأديان ويؤمنون ، فقيل : (يَعْبُدُونَنِي) الخ. قوله : (بَعْدَ ذلِكَ) (الأنعام) أي بما ذكر من الأمور الثلاثة ، فالمراد بالكفر كفر النعم بدليل قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وليس المراد به ما قابل الإيمان وإلا لقال الكافرون. قوله : (وأول من كفر به) أي بالأنعام. قوله : (قتلة عثمان) أي هم جماعة من الرعية أخذوه بغتة.

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) معطوف على قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق. قوله : (بالفوقانية والتحتانية) قراءتان سبعيتان. قوله : (والفاعل الرسول) أي على كل من القراءتين ، والاسم الموصول مفعول أول ، ومعجزين مفعول ثان. قوله : (بأن يفوتونا) أي يفروا من عذابنا. قوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) معطوف على جملة (لا تَحْسَبَنَ) أو على مقدر تقديره بل هم مقهورون ومأواهم. قوله : (هي) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالذم محذوف.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) اختلف في الأمر ، فقيل للوجوب وقيل للندب ، والأمر متعلق بالمخدومين لا بالخدم. وسبب نزول هذه الآية : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو ، إلى عمر بن الخطاب ليدعوه ، فدعاه فوجده نائما وقد أغلق عليه الباب ، فدق الغلام عليه الباب فناداه ودخل ، فاستيقظ عمر فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن ، ثم انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت ، فخر ساجدا شكرا لله تعالى. قوله : (وعرفوا أمر النساء) أي ميزوا بين العورة وغيرها. قوله : (في ثلاثة أوقات) أشار بذلك إلى أن قوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) منصوب على الظرفية.

قوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) أي لأنه وقت القيام من النوم ، ولبس ثياب اليقظة. قوله :

٥٠

ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) بالرفع خبر مبتدإ مقدر بعده مضاف وقام المضاف إليه مقامه أي هي أوقات وبالنصب بتقدير أوقات منصوبا بدلا من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه وهي لإلقاء الثياب تبدو فيها العورات (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ) أي المماليك والصبيان (جُناحٌ) في الدخول عليكم بغير استئذان (بَعْدَهُنَ) أي بعد الأوقات الثلاثة هم (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) للخدمة (بَعْضُكُمْ) طائف (عَلى بَعْضٍ) والجملة مؤكدة لما قبلها (كَذلِكَ) كما بين ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأمور خلقه (حَكِيمٌ) (٥٨) بما دبره لهم ، وآية الاستئذان قيل منسوخة وقيل لا ، ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أيها الأحرار (الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الأحرار الكبار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٩) (وَالْقَواعِدُ مِنَ

____________________________________

(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي التي تلبس في اليقظة ، تضعونها لأجل القيلولة. قوله : (مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي من أجل الظهيرة ، وهي شدة الحر. قوله : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) أي لأنه وقت التجرد من الثياب والنوم في الفراش. قوله : (بالرفع) أي وعليه فالوقف على قوله : (الْعِشاءِ). قوله : (أي هي أوقات) الخ أي فالأصل أوقات ثلاث عورات ، حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه. قوله : (وبالنصب) أي وعليه فالوقف على (لَكُمْ) والقراءتان سبعيتان. قوله : (وهي لإلقاء الثياب) مبتدأ ، وقوله : (تبدو فيها العورات) خبره.

قوله : (عَلَيْكُمْ) أي في تمكينكم إياهم من الدخول عليكم. قوله : (وَلا عَلَيْهِمْ) أي في الدخول لعدم تكليفهم. قوله : (هم) (طَوَّافُونَ) خبر لمحذوف. قوله : (عَلى بَعْضٍ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر عن قوله : (بَعْضُكُمْ) قدر المفسر بقوله : (طائف). قوله : (والجملة مؤكدة لما قبلها) وقيل ليست مؤكدة ، لأن المعنى الأطفال والمماليك يطوفون عليكم للخدمة ، وأنتم تطوفون عليهم للاستخدام ، فلو كلفتم الاستئذان في هذه الأوقات وغيره ، لضاق الأمر عليكم ، فقوله : (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) فيه زيادة على ما قبله. قوله : (وآية الاستئذان) أي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ) الخ ، قوله : (قيل منسوخة) أي لما روي : أن نفرا من العراق قالوا لابن عباس : كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بها ، ولا يعمل بها أحد؟ فقال ابن عباس : إن الله عليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجاب ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيم الرجل والرجل على أهله ، فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور والحجب ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد. قوله : (وقيل لا) أي كما روي عن سعيد بن جبير حيث قال : يقولون نسخت ، والله ما نسخت ولكن مما تهاون بها الناس. قوله : (ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان) أي لكثرة الغطاء والوطاء ، ومع ذلك فالمناسب تعليم الاستئذان في هذه الأوقات للصبيان والمماليك ، ليكونوا متخلقين بالأخلاق الجميلة.

قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ) مقابل لقوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ). قوله : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين ذكروا في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الآية. قوله : (آياتِهِ) أي أحكامه. قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي بأمور الخلائق ، فالذي ينبغي التخلق بأخلاق الشرع ، ولا

٥١

النِّساءِ) قعدن عن الحيض والولد لكبرهن (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لذلك (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) من الجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) مظهرات (بِزِينَةٍ) خفية كقلادة وسوار وخلخال (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) بأن لا يضعنها (خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولكم (عَلِيمٌ) (٦٠) بما في قلوبكم (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في مؤاكلة مقابليهم (وَلا) حرج (عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت

____________________________________

يعول إنسان على ما يعلمه من صيانة حريمه ، ويترك آداب الشرع. قوله : (وَالْقَواعِدُ) جمع قاعد بغير تاء ، كحائض وطامث ، فإن هذا الوصف مخصوص بالنساء ، وكل وصف مخصوص بالنساء ، فلا يحتاج لتمييز بتاء وهو مبتدأ ، و (اللَّاتِي) صفته ، وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) خبره ، وقرن بالفاء لعموم المبتدأ ، فأن أل فيه اسم موصول ، أو لكونه وصف بالاسم الموصول. قوله : (قعدن عن الحيض) أي انقطع حيضهن.

قوله : (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي لا يطمعن فيه ، لموت شهوتهن عن الرجال. قوله : (أَنْ يَضَعْنَ) أي ينزعن. قوله : (من الجلباب) أي وهي الملحفة التي يغطى بها جميع البدن ، كالملاءة والحبرة. قوله : (والقناع) أي الذي يلبس فوق الخمار ، لستر الوجه والعنق. قوله : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي متزينات ، فحيث وجد الشرط جاز لهن كشف الوجه واليدين بين الأجانب لعدم الفتنة ، وهو المفتى به عند مالك ، وأحد قولين عند الشافعي. قوله : (بأن لا يضعنها) أي بأن يدمن الستر للوجه والكفين بين الأجانب. قوله : (خَيْرٌ لَهُنَ) أي لما فيه من سد الذرائع ، فالأفضل لهن الستر للوجه واليدين ، لأن كل ساقطة لها لاقطة.

قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الخ ، اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : لما نزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول ، ولا يستوفي حقه من الطعام ، فنزلت هذه الآية ، وعلى هذا فتكون (عَلَى) بمعنى في ، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج ، وقيل سبب نزولها : أن هؤلاء الجماعة ، كانوا يتحرجون عن مؤاكلة الأصحاء ، خوف أن يستقذروهم ، وعلى هذا فعلى على بابها ، وقيل إن الآية نزلت في الجهاد ، والمعنى ليس على هؤلاء حرج في التخلف عن الجهاد ، وقيل كانت الصحابة إذا خرجوا للغزو ، دفعوا مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الجماعة ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وأصحابها غائبون ، مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس ، فنزلت الآية رخصة لهم ، وكل صحيح. إذا علمت ذلك ، فنفي الحرج عن هؤلاء في أمور مخصوصة ، وليس ذلك على العموم ، فإن ما كلف به الصحيح كلف به غيره. قوله : (مقابليهم) أي السالمين من هذه الثلاثة.

٥٢

أولادكم (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي خزنتموه لغيركم (أَوْ صَدِيقِكُمْ) وهو من صدقكم في مودته ، المعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا أي إذا علم رضاهم به (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) مجتمعين (أَوْ أَشْتاتاً) متفرقين جمع شت نزل فيمن تحرج أن يأكل وحده وإذا لم يجد من يؤاكله يترك الأكل (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) لكم

____________________________________

قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) معطوف على (الْأَعْمى) والمعنى ليس عليكم حرج في الأكل من بيوتكم. قوله : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) بضم الباء وكسرها ، قراءتان سبعيتان هنا وفي جميع ما يأتي. قوله : (أي بيوت أولادكم) أي ذكورا أو إناثا ، لأن بيوت الولد كبيته ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «أنت ومالك لأبيك» وقوله عليه الصلاة والسّلام : «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه ، وإن ولده من كسبه» والحامل للمفسر على هذا التقدير ، عدم توهم حرمة الأكل من بيت نفسه ، وعدم ذكر الأولاد صراحة ، فدل ذلك على أن المراد ببيوتكم بيوت أولادكم.

قوله : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) أي وإن علوا. قوله : (إِخْوانِكُمْ) جمع أخ ويجمع على إخوة وهو المراد هنا ، لأن المراد بهم أخوة النسب ، وهم من شاركوك في رحم أو صلب. قوله : (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) جمع أخت أي مما تملكه ، أو من ملك زوجها إن كان صديقا له أو مأذونة فيه ، وكذا يقال فيما يأتي. قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ) بالتخفيف ، وقرىء شذوذا بضم الميم وتشديد اللام مكسورة ، أي ملككم غيركم. قوله : (مَفاتِحَهُ) جمع مفتح بكسر الميم في قراءة العامة ، وقرىء مفاتيحه بالياء ، ومفتاحه بالإفراد. قوله : (أي خزنتموه لغيركم) أي حفظتموه بأن تكونوا وكلاء عليه لقول ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه على ضيعته وماشيته ، فلا بأس عليه أن يأكل من ثمرته وثمرة ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخرها. قوله : (وهو من صدقكم في مودته) أي من كان خالصا لكم في المحبة. قوله : (من بيوت من ذكر) أي الأصناف الأحد عشر ، وخصوا بالذكر لأن الشأن التبسط بينهم. قوله : (أي إذا علم رضاهم به) أي ولو بقرينة ، وهذا أحد قولين للعلماء ، وقيل يجوز الأكل من بيوت من ذكر ، ولو لم يعلم رضاهم به ، لأن القرابة التي بينهم تقتضي العطف والسماح. فإن قلت : على الأول حيث كان مشروطا بعلم رضاهم ، فلا فرق بينهم وبين غيرهم من الأجانب. وأجيب : بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة ، بل الشرط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا ، بخلاف غيرهم من الأجانب ، فلا بد من علم الرضا بصريح الإذن أو قرينة. قوله : (مجتمعين) أشار بذلك إلى أن قوله : (جَمِيعاً) حال من فاعل (تَأْكُلُوا) ، وكذا قوله : (أَشْتاتاً). قوله : (جمع شت) هو مصدر بمعنى التفرق. قوله : (نزل فيمن تحرج) أي فهو كلام مستأنف ، بيان لحكم آخر ، وهم فريق من المؤمنين يقال لهم بنو ليث بن عمرو من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل ، ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وقيل نزلت في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام ، لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته.

قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) (لكم) أي مساكنكم. قوله : (تَحِيَّةً) منصوب على المصدر من معنى

٥٣

لا أهل بها (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي قولوا السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإن الملائكة ترد عليكم وإن كان بها أهل فسلموا عليهم (تَحِيَّةً) مصدر حيا (مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) يثاب عليها (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يفصل لكم معالم دينكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) لكي تفهموا ذلك (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي الرسول (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) كخطبة الجمعة (لَمْ يَذْهَبُوا) لعروض عذر لهم (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أمرهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) بالانصراف (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢) (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ

____________________________________

فسلموا ، من باب جلست قعودا وقمت وقوفا. قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ثابتة بأمره. قوله : (مُبارَكَةً) أي لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب. قوله : (ولكي تفهموا ذلك) أي معالم دينكم فهذا أمر إرشاد وأدب للعباد.

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الخ ، المقصود من هذه الآية ، مدح المؤمنين الخالصين ، والتعريض بذم المنافقين ، و (إِنَّمَا) أداة حصر ، و (الْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ ، وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) خبره. قوله : (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) إسناد الجمع للأمر مجاز عقلي ، وحقه أن يسند للمؤمنين. قوله : (كخطبة الجمعة) أي والأعياد والحروب والحديث وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة ، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم تجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن يشاء منهم. قوله : (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي يطلبوا منه الإذن فيأذن لهم.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) الخ ، هذا توكيد لما تقدم ، ذكر تفخيما وتعظيما للاستئذان. قوله : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي كما وقع لسيدنا عمر بن الخطاب حين خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله ، فأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ارجع فلست بمنافق ، وكتخلف عثمان لتجهيز زوجته بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ماتت ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متجهز لغزوة بدر. قوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) في ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه الواسطة العظمى بين الخلق وربهم ، فإذا أذن لأحد ، علم من ذلك أن رضا الله في إذنه ، قال العارف :

وخصك بالهدى في كل أمر

فلست تشاء إلا ما يشاء

قوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي ليعوّضهم بدل ما فاتهم من مجالستك ، من أجل العذر الذي نزل بهم. قوله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) أي نداءه بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا : يا محمد ، ولا بكنيته فتقولوا : يا أبا القاسم ، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير بأن تقولوا : يا رسول الله ، يا إمام المرسلين ، يا رسول رب العالمين ، يا خاتم النبيين ، وغير ذلك ، واستفيد من الآية أنه لا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم ، لا في حياته ولا بعد وفاته ، فبهذا يعلم أن من استخف بجنابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة. قوله : (وخفض صوت) أي لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا

٥٤

بَعْضِكُمْ بَعْضاً) بأن تقولوا يا محمد بل قولوا يا نبي الله يا رسول الله في لين وتواضع وخفض صوت (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي يخرجون من المسجد في الخطبة من غير استئذان خفية مستترين بشيء ، وقد للتحقيق (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي أمر الله أو رسوله (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) بلاء (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) في الآخرة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ) أيها المكلفون (عَلَيْهِ) من الإيمان والنفاق (وَ) يعلم (يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) فيه التفات عن الخطاب أي متى يكون (فَيُنَبِّئُهُمْ) فيه (بِما عَمِلُوا) من الخير والشر (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من أعمالهم وغيرها (عَلِيمٌ) (٦٤).

____________________________________

أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وهذه الآداب كما تكون في حق النبي ، تكون في حق حملة شريعته ، فينبغي لتلامذة الأشياخ ، أن يفعلوا معهم هذه الآداب ويتخلقوا بها ، ليحصل لهم الفتوح والفلاح. قوله : (الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) أي يذهبون واحدا بعد واحد ، لأن المنافقين كانوا يجتمعون مع الصحابة إذا رقي النبي المنبر ، فإذا كثر الناس نظروا يمينا وشمالا ، ويخرجون واحدا بعد واحد ، إلى أن يذهبوا جميعا. قوله : (لِواذاً) حال من الواو في (يَتَسَلَّلُونَ) من التلاوذ ، وهو الاستتار ، بأن يغمز بعضهم بعضا بالخروج.

قوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ) الخ ، مرتب على ما قبله ، وضمن (يُخالِفُونَ) معنى يعرضون ، فعداه بعن. قوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول يحذر ، أي إصابة فتنة. قوله : (أَوْ يُصِيبَهُمْ أَوْ) مانعة خلو تجوز الجمع. قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ) الخ كالدليل لما قبله. قوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَدْ) للتحقيق ، والمعنى أن الله يعلم الأمر الذي في قلوب المنافقين ، من المخالفة والإعراض عن أوامر الله تعالى. قوله : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) معطوف على (ما) أي يردون إليه ، وهو يوم البعث. قوله : (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأعمالهم ، فيثيبهم على الحسنات ، ويعاقبهم على السيئات.

٥٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفرقان

مكيّة

إلا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (رَحِيماً) فمدني

وهي سبع وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ) تعالى (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل (عَلى عَبْدِهِ) محمد (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ) أي الإنس والجن دون الملائكة (نَذِيراً) (١)

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفرقان

مكية إلا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (رَحِيماً) فمدني

وهي سبع وسبعون آية

سميت بذلك لأن بها الفرق بين الحق والباطل ، لاشتمالها على أحكام التوحيد وأدلته ، ومكارم الأخلاق ، وأحوال المعاد. قوله : (إلى قوله رحيما) أي وهو ثلاث آيات. قوله : (تعالى) أي تنزه في ذاته وصفاته وأفعاله عن النقائص ومماثلة ما سواه ، لأنه قديم ، وما سواه حادث ، أو معنى (تَبارَكَ) تعاظم أي اتصف بكل كمال ، ولا يوصف بهذا الوصف غيره تعالى ، فلا يقال تبارك النبي ، ولا يقال تبارك السلطان مثلا ، وهو فعل ماض غير متصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، ولا اسم فاعل. قوله : (الْفُرْقانَ) من الفرق فعله فرق من باب قتل ، وبها قرىء قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) وقرىء شذوذا من باب ضرب ، وهو بالتخفيف في المعاني ، وبالتشديد في الاجسام ، يقال فرقت بين الكلامين ، وفرقت بين العبدين ، والصحيح أنهما بمعنى واحد في المعاني والاجسام. قوله : (القرآن) أي ويسمى به البعض ، كما يسمى به الكل ، فالسورة الواحدة تسمى فرقانا ، والجميع يسمى فرقانا ، لأنه

٥٦

مخوفا من عذاب الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من شأنه أن يخلق (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) سوّاه تسوية (وَاتَّخَذُوا) أي الكفار (مِنْ دُونِهِ) أي الله أي غيره (آلِهَةً) هي الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ

____________________________________

معجز للبشر ، وفارق بين الحق والباطل ، كلا أو بعضا ، ويصح أن يراد به جملة القرآن ، ويكون نزل مستعملا في حقيقته ، بالنسبة لما نزل إذ ذاك ، وبمعنى المستقبل بالنسبة لما سينزل. قوله : (لأنه فرق بين الحق والباطل) أي ميز بينهما ، وقيل لأنه نزل مفرّقا في أوقات كثيرة.

قوله : (عَلى عَبْدِهِ) إنما وصفه بهذا الوصف ، لأنه أشرف الأوصاف وأعلاها. قوله : (لِيَكُونَ) علة لقوله : (نَزَّلَ) والضمير عائد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أكبر مذكور ، ويصح أن يكون عائدا على الفرقان ، أو المنزل ، وهو الله تعالى ، والأوضح الأول. قوله : (دون الملائكة) أشار بذلك إلى أن الإنذار خاص بالإنس والجن ، لأن الملائكة لا تجوز عليهم المعاصي والمخالفة لعصمتهم من ذلك ، وإن كان النبي عليه الصلاة والسّلام أرسل لهم إرسال تكليف بما يليق بهم على المعتمد. والحاصل : أن إرسال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للثقلين إرسال تكليف ، وكذا للملائكة ، وأما للحيوانات التي لا تعقل والجمادات فإرسال تشريف. قوله : (نَذِيراً) أي وبشيرا ، وإنما اقتصر على الإنذار ، لأن السورة مكية ، وفي ذلك الوقت لم يصلحوا للتبشير.

قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) نعت للموصول الأول ، أو بيان أو بدل أو خبر لمحذوف ، أي هو الذي ، أو منصوب على المدح ، وما بعده من تمام الصلة ، فلا يلزم عليه الفصل بأجنبي بين الموصول الأول والثاني ، على جعله تابعا له. قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) رد على اليهود والنصارى. قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) رد على على عباد الأصنام. قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) كالدليل لما قبله ، لأن الخالق لكل شيء لا شريك له ولم يتخذ ولدا. قوله : (من شأنه أن يخلق) دفع بذلك ما يقال : إنه دخل في الشيء ذاته تعالى وصفاته. فأجاب : بأن المراد بالشيء ما شأنه أن يتعلق به الخلق ، وهو المعدوم. قوله : (سواه تسوية) أي عدله تعديلا ، بأن جعله على شكل حسن ، ودفع بذلك ما قيل : إن الآية فيها قلب ، لأن الخلق متأخر عن التقدير ، لأن التقدير أزلي ، لأنه تعلق العلم والارادة الأزلي ، والخلق حادث لأنه تعلق القدرة التنجيزي الحادث ، فأجاب : بأن التقدير معناه التصوير على شكل حسن ، ولا شك أن ذلك حاصل بعد إيجاده على طبق العلم والإرادة ، وهذا سر قول الغزالي : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن ما أوجده الله من المخلوقات تعلق به العلم والإرادة أزلا ، فوجد على طبق ذلك ، فإذا كان كذلك ، كان التغيير لذلك مستحيلا ، لأنه حينئذ ينقلب علم الله جهلا ، وهو لا تتعلق به القدرة. إن قلت : يشكل على هذا قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وقوله تعالى : (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) فإنه يقتضي أن في قدرة الله إذهاب هذا العالم والإتيان بغيره. أجيب : بأن ما في الآية باعتبار التعلق الصلاحي للقدرة والتجويز العقلي ، وما قاله الغزالي باعتبار التعلق التنجيزي الذي حصل متعلقه. قوله : (أي الكفار) أي المعلومون من قوله : (لِلْعالَمِينَ).

قوله : (آلِهَةً) وصفهم بسبعة أوصاف ، أولها قوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) وآخرها قوله :

٥٧

ضَرًّا) أي دفعه (وَلا نَفْعاً) أي جره (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) أي إماتة لأحد وإحياء لأحد (وَلا نُشُوراً) (٣) أي بعثا للأموات (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا) أي ما القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) كذب (افْتَراهُ) محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) وهم من أهل الكتاب ، قال تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤) كفرا وكذبا أي بهما (وَقالُوا) أيضا هو (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيبهم جمع أسطورة بالضم (اكْتَتَبَها) انتسخها من ذلك القوم فغيره (فَهِيَ تُمْلى) تقرأ (عَلَيْهِ) ليحفظها (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) غدوة وعشيا ، قال تعالى ردا عليهم (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) الغيب (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً) للمؤمنين (رَحِيماً) (٦) بهم (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) يصدقه (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) من السماء ينفقه ولا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) بستان (يَأْكُلُ مِنْها) أي من ثمارها فيكتفي بها ، وفي قراءة نأكل بالنون أي نحن فيكون له مزية

____________________________________

(نُشُوراً). قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي يصورون من حجارة وغيرها بنحت عبادها. قوله : (لِأَنْفُسِهِمْ) أي فضلا عن غيرهم. قوله : (ضَرًّا) قدمه لأن دفعه أهم ، وقدم الموت لمناسبة الضر.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) شروع في ذكر أباطيلهم المتعلقة بالقرآن ، إثر أكاذيبهم المتعلقة بالله سبحانه وتعالى : قوله : (افْتَراهُ) أي اختلقه. قوله : (وهم من أهل الكتاب) أرادوا بهم اليهود حيث قالوا : إنهم يأتون له بالأخبار الماضية ، وهو يعبر عنها بعبارات من عنده ، فهذا معنى إعانتهم له. قوله : (قال تعالى) أي ردا لمقالتهم. قوله : (كفر وكذبا) لف ونشر مرتب. قوله : (أي بهما) أشار بذلك إلى أن (ظُلْماً وَزُوراً) منصوبان بنزع الخافض ، ويصح نصبهما بجاء بتضمينه معنى فعل.

قوله : (وَقالُوا) (أيضا) أي كما قالوا ما تقدم. قوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) خبر لمحذوف قدره بقوله هو. قوله : (اكْتَتَبَها) أي أمر بكتبها ، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب. قوله : (من ذلك القوم) المناسب أن يقول من أولئك القوم. قوله : (تقرأ) (عَلَيْهِ) أي فليس المراد بالإملاء الإلقاء على الكاتب ليكتبه. قوله : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) المراد دائما أبدا. قوله : (ردا عليهم) أي مقالتهم الشنيعة. قوله : (الغيب) أي ما غاب عنا. قوله : (للمؤمنين) كذا قال المفسر ، ويصح أن يكون المراد الكفار ، فيكون تعليلا لمحذوف تقديره وأخر عقابكم ولم يعاجلكم به لأنه الخ ، وقوله : (كانَ) أي ولم يزل.

قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) الخ ، شروع في بعض قبائحهم التي قالوها في حق الرسول عليه‌السلام ، والمعنى أي شيء حصل لهذا الذي يدعي الرسالة ، حالة كونه يأكل الطعام كما نأكل ، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق كما نفعل؟ فتسميتهم إياه رسولا بطريق الاستهزاء به. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن (لَوْ لا) تحضيضية. قوله : (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) بالنصب في قراءة العامة على جواب التحضيض ، وقرىء شذوذا بالرفع عطفا على (أُنْزِلَ). قوله : (يصدقه) أي يشهد له بالرسالة والصدق. قوله : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) بالتاء في قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بالياء ، لأن تأنيث الجنة مجازي.

٥٨

علينا بها (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي الكافرون للمؤمنين (إِنْ) ما (تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨) مخدوعا مغلوبا على عقله ، قال تعالى (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفه وإلى ملك يقوم معه بالأمر (فَضَلُّوا) بذلك عن الهدى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) طريقا إليه (تَبارَكَ) تكاثر خير الله (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الذي قالوه من الكنز والبستان (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي في الدنيا لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة (وَيَجْعَلْ) بالجزم (لَكَ قُصُوراً) (١٠) أيضا ، وفي قراءة بالرفع استئنافا (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) القيامة (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١) نارا مسعرة أي مشتدة (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ

____________________________________

قوله : (وَقالَ الظَّالِمُونَ) إظهار في موضع الإضمار ، للإشعار بوصف الظلم وتجاوز الحد فيما قالوا : قوله : (مخدوعا مغلوبا على عقله) أي فالمراد بالسحر الاختلال في العقل ، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الاستفهام التعجبي ، أي تعجب يا محمد من وصف هؤلاء لك بتلك الأوصاف التي كانت سببا في ضلالهم. قوله : (فَضَلُّوا) (بذلك) أي ضرب الأمثال. قوله : (عن الهدى) أي الحق. قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي لا يقدرون على الوصول إلى الهدى ، لما طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

قوله : (تَبارَكَ) اعلم أن هذا الوصف جامع لكل كمال مستلزم لنفي كل نقص ، وحينئذ فيحسن تفسيره في كل مقام بما يناسبه ، فلما كان ما تقدم من مقام تنزيه فسره بتعالى ، ولما كان ما هنا مقام إعطاء ، فسره بتكاثر خيره ، ولما كان ما يأتي في آخر السورة مقام عظمة وكبرياء ، فسره بتعاظم ، وهكذا يقال في كل مقام. قوله : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي مما اقترحوا بأن يعجل لك أعظم من ذلك في الدنيا.

قوله : (جَنَّاتٍ) بدل من (خَيْراً). قوله : (لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة) علة لقوله : (أي في الدنيا) والمعنى تكاثر خير الله الذي إن شاء جعل لك خيرا مما تمنوه لك في الدنيا وإنما لم تتعلق إرادة الله به لكونه فانيا ، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الفاني جزاء لأحبابه ، لأن الدنيا دار ممر لا مقر ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، وحاشاه سبحانه وتعالى ، أن يوقع حبيبه ومن كان على قدمه في الحساب أو العقاب. قوله : (بالجزم) أي عطفا على محل (جَعَلَ) لأنه جواب الشرط ، والمعطوف على الجواب جواب. قوله : (بالرفع استئنافا) أي أو معطوف على جواب الشرط ، بناء على أنه غير مجزوم لقول مالك : وبعد ماض رفعك الجزم حسن. وإنما لم يجزم لضعف تأثير إن في الشرط ، لكونه ماضيا فارتفع ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) إضراب انتقالي عن ذكر قبائحهم ، إلى بيان ما لهم في الآخرة من أنواع العذاب. قوله : (وَأَعْتَدْنا) أي هيأنا وأحضرنا ، وفي هذا دليل على أن النار مخلوقة الآن ، كما أن الجنة كذلك ، لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). قوله : (نارا مسعرة) بالتشديد والتخفيف.

قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ) أي حقيقة بعينها لما في الحديث : «من كذب علي متعمدا ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا ، قيل يا رسول الله أو لها عينان؟ قال أما سمعتم الله عزوجل يقول : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ

٥٩

سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) غليانا كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب (وَزَفِيراً) (١٢) صوتا شديدا ، أو سماع التغيظ رؤيته وعلمه (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) بالتشديد والتخفيف بأن يضيق عليه ومنها حال مكانا لأنه في الأصل صفة له (مُقَرَّنِينَ) مصفدين قد قرنت أي جمعت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، والتشديد للتكثير (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١٣) هلاكا فيقال لهم (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) كعذابكم (قُلْ أَذلِكَ) المذكور من الوعيد وصفة النار (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ) ها (الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ) في علمه تعالى (جَزاءً) ثوابا (وَمَصِيراً) (١٥) مرجعا (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) حال لازمة (كانَ) وعدهم ما ذكر (عَلى

____________________________________

بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) يخرج عنق من النار له عينان يبصران ، ولسان ينطق فيقول : «وكلت بمن جعل مع الله إلها آخر ، فلهو أبصر به من الطير يحب السمسم فيلتقطه» وفي رواية : «يخرج عنق من النار يوم القيامة ، له عينان يبصران ، وأذنان يسمعان ، ولسان ينطق يقول : إني وكلت بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر ، وبالمصورين». وهذا مذهب أهل السنة ، وقالت المعتزلة : الكلام على حذف مضاف ، أي رأت زبانيتها بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة. قوله : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قبل مسيرة سنة ، وقيل مائة سنة ، وقيل خمسمائة سنة. قوله : (أو سماع التغيظ رؤيته وعلمه) أشار بذلك إلى أن السماع ليس على حقيقته ، بل المراد منه الرؤية والعلم. وأجيب أيضا : بأن المراد سماع ما يدل عليه وهو الغليان ، وقد أفاده أولا ، فتحصل أن المفسر أجاب بجوابين.

قوله : (وَإِذا أُلْقُوا) أي طرحوا. قوله : (مَكاناً) منصوب على الظرفية أي في مكان. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بأن يضيق عليهم) أي كضيق الحائط على الوتد الذي يدق فيه بعنف. قوله : (لأنه في الأصل صفة له) أي وهو نكرة ، ومن المعلوم أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالا ، كقول الشاعر :

لمية موحشا طلل

والأصل لمية طلل موحش.

قوله : (مُقَرَّنِينَ) حال من الواو في (أُلْقُوا) والتقرين تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق في السلاسل. قوله : (مصفدين) من التصفيد وهو الشد والإيثاق بالقيود. قوله : (دَعَوْا هُنالِكَ) أي في ذلك المكان. قوله : (ثُبُوراً) أي فيقولون : يا ثبوراه ، هذا أوانك فاحضر ، لأنه أخف مما هم فيه. قوله : (فيقال لهم) أي على سبيل التهكم والسخرية بهم. قوله : (ثُبُوراً واحِداً) أي مرة واحدة. قوله : (كعذابكم) تشبيه في الكثرة ، وفي نسخة باللام ، أي لأجل دوام عذابكم وكثرته ، فينبغي أن يكون دعاؤكم كذلك. قوله : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ) الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، وإلا فليس في النار خير. قوله : (في علمه تعالى) جواب عما يقال : إنها لم تكن جزاء ومصيرا الآن ، فأجاب : بأن المعنى قد سبق علم الله ، بأنها تكون لهم جزاء ومصيرا. قوله : (مرجعا) أي مستقرا.

٦٠