حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنزل الفرقان مصدقا لما بين يديه هدى وبشرى للمتقين ، قرآنا عربيا غير ذي عوج موعظة وذكرى للمؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ندخل بها الفردوس آمنين وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين ، المنزل عليه الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين أوتو العلم درجات. وبعد :

فيقول العبد الفقير الذليل أحمد بن محمد الصاوي المالكي الخلوتي : لما علم التفسير أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا ، إذ هو رئيس العلوم الدينية ورأسها ، ومبنى قواعد الشرع وأساسها ، وكان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير ، وأجمع على الإعتناء به الجم الغفير من أهل البصائر والتنوير ، وجاءني الداعي الإلهي بقراءته فاشتغلت به على حسب عجزي ، ووضعت عليه كتابة ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع : الشيخ سليمان الجمل ، مع زوائد وفوائد ، فتح بها مولانا من نور كتابه ، وإنما اقتصرت على تلخيص تلك الحاشية ، لكوني وجدتها ملخصة من جميع كتب التفسير التي بأيدينا ، تنسب لنحو عشرين كتابا منها البيضاوي وحواشيه وحواشي هذا الكتاب. ومنها الخازن والخطيب والسمين وأبو السعود ، والكواشي ، والبحر والنهر والساقية ، والقرطبي ، والكشاف ، وابن عطية ، والتحبير ، والإتقان ، ولم أنسب العبارات لأصحابها غالبا اكتفاء بنسبة الأصل والله على ما أقول وكيل ، وهو حسبي وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

وقد تلقيت هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرتين : عن العلامة الصوفي سيدي الشيخ سليمان الجمل وعن الإمام أبي البركات العارف بالله تعالى استاذنا الشيخ أحمد الدردير ، وعن استاذنا العلامة الشيخ الأمير ، وكل من هؤلاء الأئمة تلقاه عن تاج العارفين شمس الدين سيدي محمد بن سالم الحفناوي ، وعن الإمام أبي الحسن سيدي الشيخ علي الصعيدي العدوي ، والشيخ الحفناوي ، تلقاه عن العلامة سيدي محمد بن محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت ، وهو عن نور الدين سيدي على الشبراملسي ، وهو عن الشيخ الحلبي صاحب السيرة ، وهو عن خاتمة المحققين ، سيدي علي الأجهوري ، وهو عن البرهان العلقمي ، وهو عن أخيه ، شمس الدين

٣

محمد العلقمي ، عن الجلال عبد الرحمن السيوطي ، وأما سندنا للجلال المحلي ، فهو بعينه إلى الإمام الحلبي ، وهو عن الإمام الزيادي ، عن الشيخ الرملي ، وهو عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، عن الجلال محمد بن أحمد المحلي رضي الله عنهم ونفعنا بهم ، ولد السيوطي سنة ثمانمائة وتسع وأربعين ، وتوفي سنة تسعمائة وثلاث عشرة فعاش أربعا وستين.

مقدمة : ينبغي لكل شارع في فن أن يعرف مباديه العشرة ليكون على بصيرة فيه وهي : حده ، وموضوعه ، وواضعه ، واستمداده ، واسمه ، وحكمه ، ومسائله ، ونسبته ، وفائدته ، وغايته. فحد هذا الفن : علم بأصول يعرف بها معاني كلام الله على حسب الطاقة البشرية ، وأما معناه : لغة فمأخوذ من الفسر وهو الكشف ، وموضوعه : آيات القرآن من حيث فهم معانيها ، وواضعه : الراسخون في العلم من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هنا على التحقيق كما شهد الله بذلك ، واستمداده : من الكتاب والسنة والآثار والفصحاء من العرب العرباء ، واسمه : علم التفسير ، وحكمه : الوجوب الكفائي ، ومسائله : قضاياه من حيث الأمر والنهي والموعظة إلى غير ذلك ، ونسبته : أنه أفضل العلوم الشرعية وأصلها ، وفائدته : المعرفة بمعاني كلام الله على الوجه الأكمل ، وغايته : الفوز بسعادة الدارين ، أما الدنيا فبامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وأما الآخرة فبالجنة ونعيمها ولذلك يقال له اقرأ وارق.

واعلم : أن القرآن نزل ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا في مكان يقال له بيت العزة على هذا الترتيب الذي نقرؤه فإنه توقيفي. ثم نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع لقوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [٣٣ : الفرقان] لكن لا على هذا الترتيب ، فإنه نزل عليه ثلاث وثمانون سورة بمكة أي قبل الهجرة ، وبالمدينة إحدى وثلاثون على التحقيق ، فأول ما نزل بمكة اقرأ وآخر ما نزل بها قيل العنكبوت وقيل المؤمنون وقيل ويل للمطففين. وأول سورة نزلت بالمدينة ، البقرة ، وآخر سورة نزلت بها ، المائدة. وهناك بعض سور اختلف فيها ، منها الفاتحة ، ويمكن تكرار نزولها ، وأما أول آية نزلت على الإطلاق ف (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وآخر آية على الإطلاق (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [٢٨٢ : البقرة] واعلم أيضا أن القرآن ينقسم أربعة أقسام : قسم فيه الناسخ والمنسوخ ، وهو خمسة وعشرون سرة ، وقسم فيه المنسوخ ، فقط وهو أربعون سورة ، وقسم فيه الناسخ فقط ، وهو ست سور ، وقسم لا ناسخ فيه ولا منسوخ وهو ثلاث وأربعون سورة ، وأغلبها من الربع الأخير. وعدة حروف القرآن ألف ألف وخمسة وعشرون ألفا ، ودرج الجنة على قدر ذلك ، وبين الدرجتين خمسمائة عام ، وعدة آياته ستة آلاف ستمائة ستة وستون ونصفه بحسب الآيات قوله تعالى في سورة الشعراء : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [٤٥ : الشعراء] ونصفه بحسب الحروف قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [٧٤ : الكهف] فالنون من النصف الأول والكاف

٤

من الثاني ونصفه بحسب السور الحديد المجادلة من النصف الثاني. عدة كلماته سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وخمسن كلمة ، كل كلمة لها أربعة علموم : علم بحسب ظاهرها ، علم بحسب باطنها ، وعلم بحسب حدها ، وعلم بحسب مقطعها ، وإن نظرت إلى تناسبها مع ما قبلها وما بعدها زادت كثيرا. وترتيب السور هكذا ، توقيفي. وأما وضع أسمائها في المصاحف ، وتقسيمها إلى أعشار ، وأرباع ، وأثلاث ، وأجزاء ، وأحزاب ، فمن الحجاج الثقفي ، بأخذ عن الصحابة في وضع أسماء السور ، وباجتهاد منه في تقسيمه إلى ما ذكر. ولذلك تجد ابتداء الربع وسط قصة.

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله حمدا موافيا لنعمه ، مكافئا لمزيده ، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وجنوده. هذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم الذي ألفه

________________________________

بسم الله الرحمن الرّحيم

قوله : (الحمد الله إلخ) كتابه بهذه الصيغة لأنها أفضل المحامد كما ورد وهي مقتبسة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد الله حمدا يوافي نعمه ويكافىء مزيده». وقد غير المصنف الحديث بعض تغيير وهو مغتفر في الإقتباس. قوله : (موافيا لنعمه) أي مقابلا لها بحيث يكون بقدرها فلا تقع نعمة إلا مقابلة بهذا الحمد ، وهذا على سبيل المبالغة بحيث ما ترجاه ، وإلا فكل نعمة تحتاج لحمد مستقل. قوله : (مكافئا لمزيده) أي مماثلا ومساويا له ، والمزيد مصدر ميمي من زاده الله النعم ، والزيادة النمو وبابه باع ويستعمل متعديا ولازما يقال : زاده الله خيرا وزاد الشيء ، والمعنى أنه ترجى أن يكون الحمد الذي أتى به موفيا بحق النعم الحاصلة بالفعل وما يزيد منها في المستقبل قوله : (على محمد) في نسخة على سيدنا محمد وعليها فعطف وآله وما بعده على سيدنا لا على محمد لما يلزم عليه من ابدال محمد وما عطف عليه من السيد وهو في نفس الأمر محمد فقط. قوله : (وجنوده) جمع جند اسم جند جمعي يفرق بينه وبين واحد بالياء على خلاف الغالب فالياء في المفرد. والمراد بجنده كل من يعين على الدين بالقتال في سبيل الله أو بتقرير العلم وضبطه أو بتعمير المساجد أو بغير ذلك من عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آخر الزمان.

قوله : (هذا) هي بمنزلة أما بعد وبمنزلة أيضا في أن كلا منهما اقتضاب مشوب بتخلص لأن الكلام الثاني وهو المقصود مقتطع عن الكلام الأول الذي هو الخطبة لكن فيه نوع مناسبة من حيث سبب التأليف ، والمقصود أمر ذو بال وقد ندب الشارع للإبتداء فيه بالبسملة والحمدلة والصلاة على النبي ، فحصلت المناسبة ، ولكنها ليست كلمة وآثرها على أما بعد. وإن كانت الواردة لإختصارها ، واسم الإشارة عائد : إما على المعاني أو الألفاظ أو النقوش أو المعاني والألفاظ ، أو النقوش والمعاني أو النقوش والألفاظ أو الثلاثة احتمالات ، سبعة المختار منها عوده على المعاني المستحضرة ذهنا سواء قلنا إن الخطبة متقدمة على التأليف أو متأخرة وفي الكلام استعارة تصريحية أصلية حيث شبه المعقول بالمحسوس واستعار اسم المشبه به وهو اسم الإشارة للمشبه.

قوله : (ما اشتدت) ما واقعة على المعاني الذهنية كما هو المختار من الإحتمالات المتقدمة وعبر باشتدت دون دعت اشارة إلى أن حاجتهم بلغت حد الضرورة لمزيد احتياجهم إلى هذه التكملة ، وذلك

٦

الإمام العلامة المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي رحمه‌الله ، وتتميم ما فاته وهو من أول سورة البقرة إلى آخر الإسراء بتتمة على نمطه من ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى والاعتماد

________________________________

أن تفسير النصف الثاني قد احتوى على المعنى العزيز ، وانطوى على اللفظ الوجيز ، فلم ينسج أحد على منواله. قوله : (الراغبين) أي : المحبين والمريدين لتكميل هذا الكتاب بالتأليف ، وتستعمل الرغبة متعدية بنفسها ، وبفي في المحبة والميل ، ومتعدية بعن للزهد في الشيء والكراهية له. قوله : (تفسير القرآن) المراد منه ما يعم التأويل ، والفرق بينهما أن التفسير هو التوضيح لكلام الله أو رسوله أو الآثار أو القواعد الأدبية العقلية ، وأما التأويل فهو أن يكون الكلام محتملا لمعان فتقصره على بعضها كما في (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) والقرآن في اللغة مأخوذ من القرء وهو الجمع ، وفي الإصطلاح اللفظ المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتعبد بتلاوته ووصفه بالكريم ، لأن نفعه ليس قاصرا بل عم الخلق جميعا في الدنيا والآخرة. واعلم أن المدرسين وإن تباينت مراتبهم في العلم ، ثلاثة أصناف ، الأول : من إذا درس آية اقتصر على ما فيها من المنقول ، وأقوال المفسرين ، وأسباب النزول ، والمناسبة ، وأوجه الإعراب ، ومعاني الحروف. والثاني : من يأخذ في وجوه الإستنباط منها ، ويستعمل فكره بمقدار ما آتاه الله من الفهم ، ولا يشتغل بأقوال السابقين اعتمادا على كونها موجودة في بطون الأوراق لا معنى لذكرها. والثالث : من يرى الجمع بين الأمرين والتحلي بالوصفين ، ولا يخفى أنه أرفع الأصناف ، ومن هذا الصنف الجلال المحلي والجلال السيوطي رضي الله عنهما وعنا بهما.

قوله : (الذي ألفه) صفة للتفسير مخصصة له. قوله : (الإمام) هو لغة المقدم واصطلاحا من بلغ رتبة أهل الفضل. قوله : (العلامة) مبالغة في العلم ، ومعناه الجامع بين المعقول والمنقول بأبلغ وجه. قوله : (المحقق) أي الآتي بأدلة على الوجه الحق. قوله : (جلال الدين) لقب له ومعناه ذو جلالة في الدين أو مجل ومعظم له لأنه شيده وأظهر قواعده. قوله : (محمد) هو اسمه ، وقوله : (ابن أحمد) هو اسم أبيه. قوله : (المحلي) بفتح الحاء نسبة للمحلة الكبرى مدينة من مدن مصر مشهورة ولد سنة سبعمائة وإحدى وتسعين وتوفي سنة ثمانمائة وأربع وستين ، فعمره ثلاث وسبعون ، وقبر قبالة باب النصر مشهور. قوله : (الشافعي) نسبة للإمام أبي عبد الله محمد بن ادريس.

قوله : (وتتميم) بالرفع عطف على ما في قوله ما اشتدت إليه حاجة الراغبين ، أو بالجر عطف على قوله في تكملة تفسير القرآن وذكره ، وإن علم مما قبله توطئة للأوصاف التي ذكرها بقوله على نمطه الخ ، وفي التعبير بالتتميم تسمح من حيث إن ما أتى به السيوطي تتميم لما أتى به المحلي لا لما فاته ، إذ الذي فاته هو نفس ما أتى به السيوطي. وقوله : (وهو من أول الخ) الضمير راجع لما فاته أو للتتميم ، لما علمت أن ما فاته والتتميم مصدوقهما واحد وهو تفسير السيوطي. وقوله : (من أول سورة البقرة إلخ) أي وأما الفاتحة ففسرها المحلي ، فجعلها السيوطي في آخر تفسير المحلي لتكون منضمة لتفسيره ، وابتداء هو من أول البقرة. قوله : (بتتمة) متعلق بتتميم والباء بمعنى مع ، أي هذا التتميم الذي أتى به السيوطي تفسيرا للنصف الأول مصاحب لتتمة ، والمراد بها ما ذكره بعد فراغه من سورة الإسراء بقوله هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم إلخ. قوله : (على نمطه) حال من التتميم ، أي حال كون هذا التتميم كائنا على نمط تفسير المحلي أي طريقته وأسلوبه. قوله : (من ذكر ما يفهم إلخ) بيان للنمط.

٧

على أرجح الأقوال وإعراب ما يحتاج إليه وتنبيه على القراءات المختلفة على وجه لطيف وتعبير وجيز وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية ، والله أسأل النفع به في الدنيا وأحسن الجزاء عليه في العقبى بمنه وكرمه.

________________________________

قوله : (والاعتماد) بالجر عطف على ذكر أي والإقتصار على أرجح الأقوال ، وكذا قوله وإعراب وتنبيه إلخ. قوله : (وتنبيه إلخ) نكر هذا المصدر دون ما قبله ، إشارة إلى قلة التنبيه المذكور وإنه لم ينبه على جميع القراءات المختلفة. قوله : (المختلفة) أي المتنوعة وتنوعها من سبعة أوجه ، لأنه إما من حيث الشكل فقط كالبخل والبخل قرئ بهما والمعنى واحد ، وإما من حيث المعنى فقط نحو : (فتلقى آدم من ربه كلمات) ، برفع آدم ونصب كلمات وعكسه قرىء بهما أيضا ، وإما من حيث اللفظ والمعنى وصورة الحرف واحدة نحو (تبلوا كل نفس) وتتلو قرئ بهما وصورة الباء والتاء واحدة بقطع النظر عن النقط ، وإما أن يكون الاختلاف في صورة الحرف لا في المعنى كسراط وصراط ، وإما من حيث اللفظ والمعنى وصورة الحرف نحو فاسعوا وامضوا قرىء بهما ، وإما من حيث الزيادة والنقص كأوصى ووصى ، وإما من حيث التقديم والتأخير كيقتلون ويقتلون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول وبالعكس. قوله : (على وجه لطيف) متعلق بالمصادر الأربعة قبله والمراد باللطيف هنا القصير فعطف قوله وتعبير وجيز للتفسير.

قوله : (وترك التطويل) معطوف على وجه لطيف وهو تصريح بما علم من قوله ، وتعبير وجيز إذ يلزم من كونه وجيزا أن لا يكون طويلا. قوله : (بذكر أقوال) متعلق بتطويل وقوله : (غير مرضية) أي عند المفسرين. قوله : (وأعاريب) معطوف على أقوال. قوله : (والله أسأل النفع به) أي بالتتميم المذكور. قوله : (بمنه وكرمه) الباء فيه للتوسل أي أتوسل إليه بصفتيه العظيمتين ؛ وهما منه الذي هو تفضله على عباده بالعطايا ، وكرمه الذي هو إيصال فضله للبار والفاجر.

٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البقرة

مدنية وآياتها ستّ وثمانون ومائتان

________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البقرة مدنية

مائتان وست أو سبع وثمانون آية

قوله : (سورة البقرة إلخ) مبتدأ و (مدنية) خبر أول و (مائتان) الخ خبر ثان ، ويؤخذ من هذا أن تسميتها بما ذكر غير مكروه ، خلافا لمن قال بذلك وادعى أنه إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة ، وأسماء السور توقيفية وكذا ترتيبها على التحقيق كما تقدم ، والسورة مأخوذة من سور البلد ، لارتفاع رتبتها وإحاطتها وهي طائفة من القرآن لها أول وآخر وترجمة باسم خاص بها بتوقيف كما سبق ، والراجح أن المكي ما نزل قبل الهجرة ولو في مكة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة ، قوله : (وثمانون آية) قيل : أصلها أبية قلبت عينها ألفا على غير قياس ، وهي في العرف طائفة من كلمات القرآن متميزة بفصل وقد تكون كلمة مثل : والفجر والضحى والعصر وكذا : الم وطه ويس ونحوهما عند الكوفيين وغيرهم لا يسميها آيات بل يقول هي فواتح السور وعن أبي عمرو الداني لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ).

فائدة : ـ قال ابن العربي : سورة البقرة فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر أخذها بركة وتركها حسرة لا تستطيعها البطلة وهم السحرة إذا قرئت في بيت لم تدخله مردة الشياطين ثلاثة أيام ـ. وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر وإن الشياطين يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» وعنه في رواية : «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة» وفي رواية : «سيدة أي القرآن ، آية الكرسي».

فائدة أخرى : في الكلام على الاستعاذة ولفظها المختار أعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند مالك وأبي حنيفة والشافعي لقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) وقال أحمد : الأولى أن يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم جمعا بين هذه الآية وآية فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم. وقال الثوري والأوزاعي : الأولى أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ، فاتفق الجمهور على أنه يستحب لقارئ القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ ، وحكي عن عطاء

٩

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) (١) الله أعلم بمراده بذلك ، (ذلِكَ) أي هذا

________________________________

وجوبها. وقال ابن سيرين : إذا تعوذ الرجل في عمره مرة واحدة كفى في إسقاط الوجوب. ووقت الإستعاذة قبل القراءة عند الجمهور. وحكي عن النخعي أنه بعد القراءة ، وهو قول داود وأحد الروايتين عن ابن سيرين ، ومعنى أعوذ بالله ألتجىء اليه وأتحصن به مما اخشاه ، والشيطان أصله من شطن أي بعد عن الرحمة وقيل من شاط بمعنى احترق وهو اسم لكل عات من الأنس والجن ، والرجيم فعيل بمعنى فاعل أي راجم بالوسوسة والشر ، وقيل بمعنى مفعول أي مرجوم بالشهب عند استراق السمع أو بالعذاب أو مطرود عن الرحمة والخيرات ، فحكمة الاستعاذة تطهير القلب من كل شيء يشغل عن الله تعالى ، فإن في تعوذ العبد بالله إقرارا بالعجز والضعف واعترافا بقدرة الباري وأنه الغنى القادر على دفع المضرات وإن الشيطان عدو مبين وقد دخل منه في الحصن الحصين.

قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) اختلف الأئمة في كون البسملة من الفاتحة وغيرها من السور سوى سورة براءة ، فذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ذكرت في أولها سوى سورة براءة ، وقال به جماعة من الصحابة ، وذهب الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى أن البسملة ليست آية من الفاتحة ، وزاد أبو داود ولا من غيرها من السور وإنما هي بعض آية في سورة النمل وإنما كتبت للفصل والتبرك ، قال مالك ويكره استفتاح صلاة الفرض بها ، واختلفت الرواية عن أحمد في كونها في الفاتحة أو لا والأحسن أن يقدر متعلق الجار هنا قولوا ، لأن هذا المقام مقام تعليم صادر عن حضرة الرب تعالى.

قوله : (الم) : اعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء ، وقد تفرّقت في تسع وعشرين سورة : المبدوء بالألف واللام منها ثلاث عشرة ، وبالحاء والميم سبعة ، وبالطاء أربعة ، وبالكاف واحدة ، وبالباء واحدة ، وبالصاد واحدة ، وبالقاف واحدة ، وبالنون واحدة ، وبعض هذه الحروف المبدوء بها أحادي وبعضها ثنائي وبعضها ثلاثي وبعضها رباعي وبعضها خماسي ولا تزيد. قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) أشار بهذا إلى أرجح الأقوال في هذه الأحرف التي ابتدأ بها تلك السور ، وهو أنها من المتشابه جريا على مذهب السلف القائلين باختصاص الله تعالى بعلم المراد منه ، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب ، لأنه فرع إدراك المعنى فلا يحكم عليها بإعراب ولا بناء ولا بتركيب مع عامل ، ومقابل هذا أقوال : قيل إنها اسماء للسور التي ابتدئت بها ، وقيل اسماء للقرآن ، وقيل لله تعالى ، وقيل كل حرف منها مفتاح اسم من اسمائه تعالى ، أي جزء من اسم ، فالألف مفتاح لفظ الجلالة ، واللام مفتاح اسم لطيف ، والميم مفتاح اسم مجيد ، وهكذا ، وقيل كل حرف منها يشير إلى نعمة من نعم الله ، وقيل إلى ملك ، وقيل إلى نبي ، وقيل الألف تشير إلى آلاء الله ، واللام إلى لطف الله ، والميم إلى ملك الله ، وعلى هذه الأقوال فلها محل من الإعراب ، فقيل الرفع ، وقيل النصب ، وقيل الجر ، فالرفع على أحد وجهين ، إما بكونها مبتدأ ، وإما بكونها خبرا ، والنصب على أحد وجهين أيضا : إما باضمار فعل لائق تقديره اقرؤوا مثلا وإما باسقاط حرف القسم كقول الشاعر :

إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد

يريد وأمانة الله والجر بوجه واحد وهو أنها مقسم بها حذف حرف القسم وبقي عمله ، أجاز ذلك الزمخشري وإن كان ضعيفا لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها.

١٠

(الْكِتابُ) الذي يقرؤه محمد (لا رَيْبَ) لا شك (فِيهِ) أنه من عند الله وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم (هُدىً) خبر ثان أي هاد (لِلْمُتَّقِينَ) (٢) الصائرين إلى التقوى بامتثال

________________________________

قوله : (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ واللام للبعد والكاف حرف خطاب والكتاب نعت لاسم الإشارة أو عطف بيان وجملة لا ريب فيه خبر كما قال المفسر. قوله : (أي هذا) أشار بذلك إلى أن حق الإشارة أن يؤتى بها للقريب وسيأتي الجواب عنه. قوله : (الكتاب) بمعنى المكتوب وهو القرآن ، إن قلت إن القرآن قريب فلا يشار له بإشارة البعيد ، أجاب المفسر بقوله والإشارة به للتعظيم ، أي والقرآن وإن كان قريبا منا إلا أنه مرفوع الرتبة وعظيم القدر من حيث إنه منزه عن كلام الحوادث ، وذلك كمناداة المولى سبحانه وتعالى بيا التي ينادي بها البعيد مع كونه أقرب إلينا من حبل الوريد ، لكونه سبحانه منزها عن صفات الحوادث ، فنزل تنزهه عن الحوادث منزلة بعدنا عنه ، والكتاب في الأصل مصدر يطلق بمعنى الجمع. قوله : (الذي يقرؤه محمد) أي وهو القرآن احترز بذلك عن باقي الكتب السماوية. قوله : (لا شك) هذا أحد معان ثلاثة والثاني النهمة والثالث القلق والإضطراب وكلها منزه عنها القرآن لخروجه عن طاقة البشر ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) الآية. إن قلت إن قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) خبر وهو لا يتخلف ، مع أن بعض الكفار ارتاب فيه حيث قالوا : سحر وكهانة وأساطير الأولين إلى غير ذلك ، أجيب بأجوبة أحسنها أن قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لمن أذعن وأقام البرهان وتأمل ، فلا ريب فيه للعارفين المنصفين ، وأما من عاند فلا يعتد به ، (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) ومنها أن معنى قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ينبغي أن يرتاب فيه لقيام الأدلة الواضحة على كونه من عند الله. ومنها أن المعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أي للمؤمنين ، وأما الكافرون فلا يعتد بهم ، فالجواب الأول عام ، فمن تأمل لا يحصل له ريب مسلما أو كافرا أو جحده بعد ذلك عنادا ، والجواب الثاني أنه نفي بمعنى النهي ، والثالث خاص بالمسلم. قوله : (أنه من عند الله) بفتح الهمزة بدل من الضمير في قوله : (فِيهِ) ويدل على قوله تعالى في الآية الأخرى (لا رَيْبَ فِيهِ) من (رَبِّ الْعالَمِين). قوله : (والإشارة به للتعظيم) تقدم أن هذا الجواب عن سؤال مقدر ، إن قلت إنه لا يشار إلا المحسوس أو الإشارة لما في المصاحف أو اللوح المحفوظ.

قوله : (هدى) أي رشاد وبيان ، وهو مصدر إما بمعنى اسم الفاعل وهو الذي اقتصر عليه المفسر أي مرشد ومبين ، والإسناد له مجاز عقلي من الإسناد للسبب أو ذو هدى أو بولغ فيه حتى جعل نفس الهدى على حد : زيد عدل. قوله : (للمتقين) إن قلت إن القرآن هدى بمعنى مبين طريق الحق من الباطل للناس مؤمنهم وكافرهم فلم خص المتقين؟ أجيب بأنه خصهم بالذكر لكونهم انتفعوا بثمرته عاجلا وآجلا وهذا إن أريد به البيان حصل وصول للمقصود أم لا ، وأما إن أريد به الوصول للمقصود فالتخصيص ظاهر ، وأصل متقين متقيين استثقلت الكسرة على الياء الأولى فحذفت الياء فالتقى ساكنان حذفت الياء لإلتقاء الساكنين. قوله : (الصائرين إلى التقوى) اشار بذلك إلى أن في الكلام مجاز الأول أي المتقين في علم الله أو من يؤول إلى كونهم متقين ، فهو جواب عن سؤال مقدر حاصله أنهم إذا كانوا متقين فهم مهتدون فلا حاجة له. قوله : (بامتثال الأوامر) يصح أن تكون سببية أو للتصوير. وقوله : (واجتناب النواهي) عطف عليه ، والمعنى أن امتثال الأوامر على حسب الطاقة واجتناب النواهي جميعها سبب للتقوى أو هي مصورة بذلك. قوله : (لاتقائهم) علة لتسميتهم متقين. قوله : (بذلك) أي المذكور وهو امتثال الأوامر واجتناب

١١

الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) يصدقون (بِالْغَيْبِ) بما غاب عنهم من البعث والجنة والنار (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يأتون بها بحقوقها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) (٣) في طاعة الله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ

________________________________

النواهي ، وهذا إشارة إلى تقوى الخواص وتحتها تقوى العوام وهي تقوى الشرك وفوقها تقوى خواص الخواص وهي تقوى ما يشغل عن الله. قال العارف :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري يوما حكمت بردتي

والآية في حد ذاتها شاملة للمراتب الثلاث.

قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) هذا تفصيل لبعض صفات المتقين وخصها لأنها أعلى الأوصاف ، وهو في محل جر صفة للمتقين ، أو رفع خبر لمحذوف ، أو نصب مفعول لمحذوف ، ويصح أن يكون مستأنفا مبتدأ خبره قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ، وعلى هذا فالوقف على المتقين تام لعدم ارتباطه بما بعده ، وعلى الإعراب الأول فهو حسن لأنه رأس آية وإن كان له ارتباط بما بعده. قوله : (بما غاب) أشار بذلك إلى إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل ، وما غاب عنا قسمان ما دل عليه عقلي أو سمعي ، كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي واللوح والقلم والمولى سبحانه وتعالى وصفاته ، وما لم يدل عليه كالساعة ووقت نزول المطر ، وما في الأرحام وباقي الخمسة المذكورة في الآية. وأما الشهادة فهي ما ظهر لنا حسا أو عقلا ببداهة العقل كالواحد نصف الأثنين وأن الجرم متحيز. قوله : (من البعث إلخ) بيان لما. وقوله : (والجنة والنار) عطف عليه ، أي ونحو ذلك مما قام لنا الدليل عليه ، ويحتمل أن يبقى الغيب على مصدريته والباء متعلقة بمحذوف حال أي إيمانا ملتبسا بحالة الغيبة ، ففيها بيان لحال المؤمنين الخالصين وتعريض لحال المنافقين ، فإنهم كانوا يؤمنون ظاهرا فقط ، فمدح الله من يؤمن في حال غيبته عن كل أحد كما يؤمن ظاهرا ، ويحتمل أن المراد بالغيب القلب سمي بذلك لخفائه أي يؤمنون بحالة السر وهو الإيمان القلبي ، فالمصدر باق على حاله وفيه رد على المنافقين أيضا حيث قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إما مأخوذة من الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء لأنها مشتملة عليه في الركوع والسجود وعليه فأصلها صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، وقيل من الوصلة لأنها وصلة بين العبد وبين ربه ، وعليه فأصلها وصلة قلبت ألفا مكانيا فصار صلوة تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. وقوله : (يُقِيمُونَ) من قومت العود عدلته. قوله : (أي يأتون بها بحقوقها) أي الظاهرية كالشروط والآداب والأركان ، والباطنية كالخشوع والخضوع والإخلاص. قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيه حذف نون من التبعيضية لفظا وخطا لإدغامها في ما الموصولة ، ورزقنا صلة الموصول ونا فاعل والهاء مفعول أول وحذف المفعول الثاني فيصح تقديره متصلا أي رزقناهموه ، أو منفصلا أي رزقناهم إياه على حد قول ابن مالك وصل أو افصل هاء سلنيه. قوله : (أعطيناكم) أشار بذلك إلى أن الرزق معناه الملك ، وليس المراد به الرزق الحقيقي ، إذ لا يتأتى تعديه لغيره وقدم الجار والمجرور للإهتمام. قوله : (يُنْفِقُونَ) إي إنفاقا واجبا كالزكاة والنفقة على الوالدين والعيال ، أو مندوبا كالتوسعة على العيال ومواساة الأقارب والفقراء. قوله : (في طاعة الله) في تعليله أي من أجل طاعة الله لا رياء ولا سمعة ، قال الله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ).

١٢

قَبْلِكَ) أى التوراة والإنجيل وغيرهما (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) يعلمون (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) الفائزون بالجنة الناجون من النار (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا

____________________________________

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) معطوف على الموصول الأول وهو نوع آخر للمتقين ، فإنها أنزلت فيمن كان آمن بعيسى وأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعبد الله بن سلام وعمار بن ياسر وسلمان والنجاشي وغيرهم. وأما النوع الأول فهم مشركو العرب الذين لم يرسل لهم غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت فيهم الآية الأولى. قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) نزل المستقبل منزلة الماضي لتحقق الوقوع لأنه لم يكن تم نزوله. قوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي فلم يفرقوا بين الأنبياء بحيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. قوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر وأتى بالجملة الأسمية لأنه أعلى من الإنفاق. قوله : (يعلمون) أي علما لا شك فيه ولا ريب ، ولذا اتصف مولانا بالعلم ولم يتصف باليقين ، وفيه رد على من أنكر الآخرة ممن لم يؤمن بمحمد.

قوله : (أُولئِكَ) (الموصوفون بما ذكر) إنا قلنا إن قوله الذين يؤمنون الخ وصف للمتقين كان ما هنا مبتدأ وخبرا بيان لعاقبة المتقين وإن قلنا إنه مستأنف مبتدأ كان ما هنا خبره. قوله : (عَلى هُدىً) عبر بعلى إشارة إلى تمكنهم من الهدى كتمكن الراكب من المركوب. قوله : (الناجون من النار) أي ابتداء وانتهاء ، وعطف الجملتين إشارة إلى تغايرهما وأن كلا غاية في الشرف ، وأن الثانية مسببة على الأولى.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) جرت عادة الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه إذا ذكر بشرى المؤمنين يذكر بلصقها وعيد الكافرين ، فذكر حال الكافرين ظاهرا وباطنا ، وثم ذكر حال الكافرين باطنا وهم المنافقون ، وأنهم أسوأ حالا من الكافرين ظاهرا وباطنا ، وإن حرف توكيد ونصب والذين كفروا اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها ، وجملة سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم معترضة بين اسم إن وخبرها ، وإعرابها أن تقول على المشهور سواء اسم مصدر مبتدأ بمعنى مستو ، وسوغ الإبتداء به تعلق الجار والمجرور به ، وأ أنذرتهم أم لم تنذرهم مؤول بمفرد خبر تقديره مستو عليهم إنذارك وعدمه ، وهو فعل مسبوك بلا سابك ، إن قلت إن خبر المبتدأ إذا وقع جملة لا بدله من رابط. اجيب بأن الخبر عن المبتدأ في المعنى وهو يكفي في الربط ، وأجيب أيضا بأن محل الإحتياج للرابط ما لم يؤول الخبر بمفرد وإلا فلا يحتاج للرابط ، وقولهم لا بد للفعل من سابك اغلبي ويصح العكس ، وهو أن الجملة مبتدأ مؤخر وسواء خبر مقدم. قوله : (ونحوهما) أي من كفار مكة الذين سبق علم الله بعدم ايمانهم ، والحكمة في إخبار الله نبيه بذلك ليريح قلبه من تعلقه بإيمانهم فلا يشغل بهدايتهم ولا تأليفهم ، ويحتمل أن ذلك إعلام من الله لنبيه بمن كفر من أول الزمان إلى آخره لأنه أطلعه على النار وعلى أعد لها من الكفار ، والحكمة في عدم الدعاء منه عليهم مع علمه بأنه يستحيل إيمانهم أنه يرجو الإيمان من ذريتهم. قوله : (بتحقيق الهمزتين) أي مع مدة بينهما مدا طبيعيا وتركه فهما قراءتان. قوله : (وإبدال الثانية ألفا) أي مدا لازما وقدره ست حركات. وقوله : (وتسهيلها) أي بأن تكون بين الهمزة والهاء. وقوله : (وادخال الف) الواء بمعنى مع ، فحاصله أن القراءات خمس : قراءتان مع التحقيق وقراءتان مع التسهيل وقراءة مع الإبدال ، وكلها سبعية على التحقيق ، خلافا للبيضاوي حيث قال إن قراءة الإبدال لحن لوجهين : الأول أن الهمزة المتحركة لا تبدل

١٣

وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) لعلم الله منهم ذلك فلا تطمع في إيمانهم ، والإنذار إعلام مع تخويف (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) طبع عليها واستوثق فلا يدخلها خير (وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) غطاء فلا يبصرون الحق (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧) قوي دائم. ونزل في المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم القيامة لأنه آخر الأيام (وَما هُمْ

____________________________________

الفا ، والثاني أن فيه التقاء الساكنين على غير حده ، رد عليه ملا علي قاري بأن القراءة متواترة عن رسول الله ، ومن أنكرها كفر ، فيستدل بها لا لها ، وأما قوله أن الهمزة المتحركة لا تبدل الفا محله في القياسي ، وأما السماعي فلا لحن فيه لأنه يقتصر فيه على السماع ، وقوله فيه التقاء الساكنين على غيره حده تقول سهله طول المد والسماح ، وأما قولهم كل ما وافق وجه النحو الخ ، محله في قراءة الآحاد لا في المتواترة ، وإلا فالتواتر نفسه حجة على غيره لا يحتج له. قوله : (إعلام مع تخويف) أي في وقت يسع التحرز من الأمر المخوف ، وإلا فيسمى إخبارا بالعذاب.

قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) هذا وما بعده كالعلة والدليل لما قبله ، والمراد بالقلوب العقول وهي اللطيفة الربانية القائمة بالشكل الصنوبري قيام العرض بالجوهر أو قيام حرارة النار بالفحم. قوله : (طبع عليها) هذا إشارة إلى المعنى الأصلي فأطلقه وأراد لازمه وهو عدم تغيير ما في قلوبهم بدليل قوله فلا يدخلها خير ، وفي القلوب استعارة بالكناية ، حيث شبه قلوب الكفار بمحل فيه شيء مختوم عليه وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الختم فإثباته تخييل. قوله : (أي مواضعه) إنما قدر ذلك المضاف لأن السمع معنى من المعاني لا يصح اسناد الختم لها. وإفراده ، إما لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ، أو لكون المسموع واحدا ، وتم الوقف على قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) وقوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) خبر مقدم و : (غِشاوَةٌ) مبتدأ مؤخر جملة مستأنفة نظير قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الآية ، والمراد من الغشاوة عدم وصول النور المعنوى لهم. فأطلق اللازم وأراد الملزوم وخص الثلاثة لأنها طرق العلم بالله. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) العذاب هو إيصال الآلام للحيوان على وجه الهوان. قوله : (قوي دائم) إنما فسره بذلك لأن الأصل في العظم أن يكون وصفا للأجسام فلذلك حول العبارة. قوله : (ونزل في المنافقين) أي في أحوالهم وهوانهم واستهزاء الله بهم وضرب الأمثال فيهم وعاقبة أمرهم ، وجملة ذلك ثلاث عشرة آية آخرها (إن الله على كل شيء قدير) وأخرهم عن المؤمنين والكافرين ظاهرا أو باطنا إشارة إلى أنهم أسوأ حالا من الكفار.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) يحتمل أن الجار والمجرور خبر مقدم ، ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة مبتدأ مؤخرة ، وجملة يقول إما صلة أو صفة ، والمعنى الذي يقول أو فريق يقول ما ذكر كائن من الناس ورد ذلك بأنه لا فائدة في ذلك الأخبار ، والحق أن يقال إن من اسم بمعنى بعض مبتدأ أو جربها لأنها صورة الحرف أو صفة لمحذوف بمبتدأ تقديره فريق من الناس ، وخبره قوله : (من يقول) الخ وعهده جعل الظرف مبتدأ حيث كان تمام الفائدة بما بعده كقوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) وقوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) ، وأصل ناس إناس أتى بأل بدل الهمزة مشتق من التأنس لتأنس بعضهم ببعض ، وتسمية الأنس به حقيقة ، والجن مجاز وقيل مشتق من ناس إذا تحرك ، وعليه فتسمية الجن به حقيقة أيضا والحق الأول ، ولذا

١٤

بِمُؤْمِنِينَ) (٨) روعي فيه معنى من وفي ضمير يقول لفظها (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) باظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وبال خداعهم راجع إليهم فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه ويعاقبون في الآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) (٩) يعلمون أن خداعهم لأنفسهم والمخادعة هنا من واحد كعاقبت اللص وذكر الله فيها

____________________________________

قيل لم يوجد منافق أو مشرك إلا في بني آدم فقط وكفر الجن بغير الإشراك والنفاق وهو جمع إنسان أو إنسي ، والمراد من المنافقين هنا بعض سكان البوادي بعض أهل المدينة في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخير ما فسرته بالوارد ، قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الآية.

قوله : (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أعاد الجار لإفادة تأكد دعواهم الإيمان بكل ما جاء به رسول الله ، فرد عليهم المولى بأبلغ رد بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) حيث أتى بالجملة الإسمية وزاد الجار في الخبر. قوله : (لأنه آخر الأيام) علة لتسميته اليوم الآخر ، والمراد بالأيام الأوقات ، وهل المراد الأوقات المحدودة وهو بناء على أن أوله النفخة وآخره الإستقرار في الدارين أو الأوقات الغير المحدودة بناء على أنه لا نهاية له. قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) جملة اسمية تفيد الدوام والإستمرار ، أي لم يتصفوا بالإيمان في حال من الأحوال ، لا في الماضي ولا في الحال ولا في الإستقبال.

قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره ما الحامل لهم عن إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، وحقيقة المخادعة أن يظهر لصاحبه أنه موافق ومساعد له على مراده ، والواقع أنه ساع في إبطال مراده ، فاظهار خلاف ما يبطن إن كان في الدين سمي نفاقا وخديعة ومكرا ، وإن كان في الدنيا بأن يصانع أهل الدنيا لأجل حماية الدين ووقايته تسمى مداراة وهي ممدوحة. قوله : (من الكفر) بيان لما أبطنوه. قوله : (ليدفعوا) علة للإظهار. قوله : (أحكامه) أي الكفر. وقوله : (الدنيوية) أي الكائنة في الدنيا وذلك كالقتل والسبي والجزية والذل ، ولو قصدوا دفع أحكامه الأخروية من الخلود في النار وغضب الجبار لأخلصوا في إيمانهم. قوله : (لأن وبال خداعهم) أي عذابه وعاقبة أمره. قوله : (راجع إليهم) قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). قوله : (فيفتضحون) تفريع على قوله : (لأن وبال خداعهم إلخ) قوله : (بإطلاع الله نبيه) أي وأمره بإخراجهم من المسجد ونزل فيهم : (ولا تصل على أحد منهم) الآيات. قوله : (ويعاقبون في الآخرة) أي العذاب الدائم المؤيد في الدرك الأسفل. قوله : (يعلمون) سمى العلم شعورا لأنه يكون بأحد المشاعر الخمس وهي : الشم والذوق واللمس والسمع والبصر. قوله : (والمخادعة هنا من واحد) أي فليست على بابها وهو جواب عن سؤال تقديره إن المفاعلة تكون من الجانبين ، وفعل الله لا يقال فيه مخادعة ، فأجاب بما ذكر ، وقد ورد سؤال آخر حاصله أن الخداع لا يكون إلا لمن تخفى عليه الأمور ، فما معنى إسناد المخادعة إلى الله أجيب بأن في الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه حالهم مع ربهم في إيمانهم ظاهرا لا باطنا بحال رعية تخادع سلطانها واستعير اسم المشبه به للمشبه ، أو مجاز عقلي ، أي يخادعون رسول الله من اسناد الشيء إلى غير من هو له أو مجاز بالحذف ، أو في الكلام تورية وهي أن يكون للكلام معنى قريب وبعيد ، فيطلق القريب ويراد البعيد وهو مطلق الخروج عن الطاعة باطنا ، وإن كان العامل لا تخفى عليه خافية ، وأشار المفسر لذلك كله بقوله : (وذكر الله فيها تحسين) أي

١٥

تحسين وفي قراءة وما يخدعون (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق فهو يمرض قلوبهم أي يضعفها (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بما أنزله من القرآن لكفرهم به (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) بالتشديد أي نبي الله وبالتخفيف أي في قولهم آمنا (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والتعويق عن الإيمان (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١١) وليس ما نحن فيه بفساد قال الله تعالى ردا عليهم (أَلا) للتنبيه (إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢) بذلك

____________________________________

بذكر المجاز لأنه أبلغ من الحقيقة. قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يطلق على الحسي وهو الحرقة ، وعلى المعنوي وهو الشك والنفاق ، ولا شك أن في قلوبهم المرضين والمعنوي سبب في الحسي ، فقوله : (شك ونفاق) إشارة للمرض المعنوي ، وقوله : (فهو يمرض قلوبهم) بيان لما يتسبب عنه ، وهو إشارة للحسي ، وهي في محل التعليل لما قبلها قوله : (بما أنزله من القرآن) أشار بذلك إلى أن نزول القرآن يزيد الكافر والمنافق مرضا بمعنى كفرا وشكا فينشأ عنه المرض الحسي ، كما يزيد المؤمن إيمانا فينشأ عنه البهجة والسرور ، قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الآيات. ويحتمل أن المراد بما أنزله أي في حقهم من فضيحتهم خصوصا بسورة التوبة فإنها تسمى الفاضحة. قوله : (مؤلم) يقرأ اسم مفعول أي العذاب يتألم من شدته فكأنه لشدته كأن الألم قائم به وهو أبلغ ، ويصح قراءته اسم فاعل ولا بلاغة فيه. قوله : (أي نبي الله) إشارة إلى المفعول ، وقوله : (أي في قولهم) إشارة إلى المتعلق على القراءة الثانية.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) شروع في ذكر قبائحهم وأحوالهم الشنيعة ، وفي الحقيقة هو تفصيل للمخادعة الحاصلة منهم ، وهذه الجملة يحتمل أنها استئنافية ، ويحتمل أنها معطوفة على يكذبون أو على صلة من وهي يقول التقدير من صفاتهم أنهم يقولون آمنا إلخ ، ومن صفاتهم أنهم (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) إلخ ، وأصل قيل قول استثقلت الكسرة على الواو فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركتها ثم وقعت الواو ساكنة بعد كسرة قلبت ياء ، وفاعل القول قيل الله سبحانه وتعالى وقيل النبي والصحابة ومقول القول جملة (لا تفسدوا في الأرض) في محل نصب وهي نائب الفاعل باعتبار لفظها. قوله : (بالكفر) الباء سببية بيان لسبب الإفساد ، وقوله : (والتعويق عن الإيمان) معطوف عليه أي تعويق الغير عن الإيمان وصدهم عنه. قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي ليس شأننا الإفساد أبدا ، بل نحن محصورون للإصلاح ولا نخرج عنه إلى غيره فهو في حصر المبتدأ في الخبر ، وأكدوا ذلك بإنما المفيدة الحصر ، وبالجملة الإسمية المفيدة الدوام والإستمرار ، فرد عليهم سبحانه وتعالى بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات إلا التي للتنبيه وإن وضمير الفصل وتعريف الخبر. قوله : (للتنبيه) وتأتي أيضا للإستفتاح وللعرض والتحضيض ، وفي الحقيقة الإستفتاح والتنبيه شيء واحد ، وتدخل إذا كانت لهما على الجملة الإسمية والفعلية ، وأما إذا كانت للعرض والتحضيض ، فإنها تختص بالأفعال وهي بسيطة على التحقيق لا مركبة من همزة الإستفهام ولا النافية. قوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (بذلك) أي ليس عندهم شعور بالإفساد لطمس بصيرتهم ، وعبر بالشعور دون العلم ، إشارة إلى أنهم لم يصلوا إلى رتبة البهائم تمتنع من المضار فلا تقربها لشعورها بخلاف هؤلاء.

١٦

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أصحاب النبي (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الجهال أي لا نفعل كفعلهم. قال تعالى ردا عليهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) ذلك (وَإِذا لَقُوا) أصله لقيوا حذفت الضمة للإستثقال ثم الياء لإلتقائها ساكنة مع الواو (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا) منهم رجعوا (إِلى شَياطِينِهِمْ) رؤسائهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) في الدين (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) بهم بإظهار الإيمان (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يجازيهم باستهزائهم (وَيَمُدُّهُمْ) يمهلهم (فِي طُغْيانِهِمْ) يتجاوزهم الحد بالكفر (يَعْمَهُونَ) (١٥) يترددون تحيرا. حال (أُولئِكَ

____________________________________

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) مقول القول قوله : (آمَنُوا) وهو نائب الفاعل وفاعل القول قيل الله وقيل النبي وأصحابه كما تقدم. قوله : (أصحاب النبي) أشار بذلك إلى أن أل في الناس للعهد العلمي الخارجي ويحتمل أن تكون أل للكمال أي الناس الكاملون. قوله : (قالُوا) أي فيما بينهم وإلا فلو قالوا ذلك جهارا لظهر كفرهم وقتلوا. قوله : (الجهال) أي بناء على أن السفه ما قابل العلم ، ويصح أن المراد به نقص العقل بناء على أنه ما قابل الحلم ، فإن الصحابة أنفقوا أموالهم في سبيل الله حتى افتقروا وتحملوا المشاق فسموهم سفهاء لذلك. قوله : (ردا عليهم) أي بجملة مؤكدة بأربع تأكيدات كالأولى. قوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (ذلك) أي السفه أو علم النبي بسفههم ، وعبر هنا بالعلم إشارة إلى أن السفه معقول بخلاف الفساد فإنه مشاهد ، فلذلك عبر هنا بالعلم وهناك بالشعور.

قوله : (وَإِذا لَقُوا) سبب نزول الآية ، أن أبا بكر وعمر وعليا توجهوا لعبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله فقال له أبو بكر هلم أنت وأصحابك وأخلص معنا ، فقال له مرحبا بالشيخ والصديق ولعمر مرحبا بالفاروق القوي في دينه ، ولعلي مرحبا بابن عم النبي ، فقال له علي : أتق الله ولا تنافق ، فقال ما قلت ذلك إلا لكون إيماني كإيمانكم ، فلما توجهوا قال لجماعته : إذا لقوكم فقولوا مثل ما قلت فقالوا : لم نزل بخير ما عشت فينا ، وإذا ظرف منصوب بقالوا. قوله : (أصله لقيوا) أي على وزن شربوا. قوله : (حذفت الضمة) لم يكمل التصريف وتمامه ثم ضمت القاف للمناسبة. قوله : (منهم) أشار بذلك إلى أن متعلق خلا محذوف ، وقوله : (إِلى شَياطِينِهِمْ) متعلق بمحذوف أيضا قدره المفسر بقوله : (ورجعوا) ويحتمل كما قال البيضاوي إن خلا بمعنى الفرد ، وإلى بمعنى مع ، أي انفردوا مع شياطينهم ولا حذف فيه ، وأصل خلوا خلووا بواوين الأولى لام الكلمة والثانية علامة الإعراب قلبت لام الكلمة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فبقيت ساكنة ، وبعدها واو الضمير ساكنة فحذفت لالتقاء الساكنين وبقيت الفتحة دالة عليها. قوله : (رؤسائهم) إنما سموا شياطين لأن كل رئيس منهم معه شيطان يوسوس له ويعلمه المكر ، وقيل لأنهم كالشياطين في الإغواء ورؤساؤهم في ذلك الوقت خمسة : كعب بن الأشرف في المدينة ، وعبد الدار في جهينة ، وأبو بردة في بني أسلم وعوف بن عامر في بني أسد ، وعبد الله بن الأسود في الشام ، قوله : (يجازيهم باستهزائهم) إنما سمى المجازاة استهزاء من باب المشاكلة ، والإستهزاء الإستخفاف بالشيء. قوله : (يمهلهم) أتى بذلك دفعا لما يتوهم من أن المجازاة واقعة حالا ، وحكمة الإمهال مذكورة في قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) إلى غير ذلك من الآيات. قوله : (بالكفر) الباء سببية أي تجاوزهم الغاية بسبب الكفر. قوله : (حال) أي جملة يعهمون وهي إما حال من الهاء في يمدهم أو من الهاء في طغيانهم ،

١٧

الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي استبدلوها به (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي ما ربحوا فيها بل خسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) فيما فعلوا (مَثَلُهُمْ) صفتهم في نفاقهم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) أوقد (ناراً) في ظلمة (فَلَمَّا أَضاءَتْ) أنارت (ما حَوْلَهُ) فأبصر واستدفأ وأمن مما يخافه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أطفأه وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي

____________________________________

والمراد بالعمه عدم معرفة الحق من الباطل ، فمنهم من يظهر له وجه الحق ويكفر عنادا ، ومنهم من يشك في الحق ويقال له عمى أيضا ، فبين العمه والعمى عموم وخصوص مطلق يجمعان في طمس القلب وينفرد العمى بفقد البصر. قوله : (تحيرا) إما مفعول لأجله أو تمييز. قوله : (استبدلوها به) أشار بذلك إلى أن المراد بالشراء مطلق الإستبدال ، والباء داخلة على الثمن ، والمراد بالضلالة الكفر وبالهدى الإيمان وكلامه يقتضي أن الهدى كان موجودا عندهم ثم دفعوه وأخذوا الضلالة ، وهو كذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يهودانه أبواه» الحديث ، ولأنهم في العهد يوم (ألست بربكم) أجابوا بالإيمان جميعا. قوله : (أي ما ربحوا فيها) أشار بذلك إلى أن إسناد الربح للتجارة مجاز عقلي وحقه أن يسند للتجر. قوله : (بل خسروا) أي الربح ورأس المال جميعا خسرانا دائما فقوله : (لمصيرهم) علة له. فمثلهم كمثل من عنده كنز عظم ينفع في الدنيا والآخرة استبدله بالنار لأن الضلالة سبب للنار.

قوله : (مَثَلُهُمْ) لما بين قبائحهم وعاقبة أمرهم شرع يضرب أمثالهم ويبين فيه وصفهم وما هم عليه. قوله : (صفتهم) أشار بذلك إلى أن المثل بالتحريك هنا معناه الصفة ، وليس المراد به المثل السائر وهو كلام شبه مضربه بمورده لغرابته كقولهم الصيف ضيعت اللبن. وقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية ، وإنما فسره بالصفة ولم يفسره بالمثل بمعنى الشبه ، لئلا يلزم عليه زيادة الكاف ، والأصل عدم الزيادة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مثل التقدير صفتهم كائنة مثل صفة (الذي استوقد نارا) ، ويصح في هذه الكاف أن تكون اسما وهي نفسها هي الخبر ، وإنما جربها لأنها على صورة الحرف وأن تكون حرفا متعلقة بمحذوف وعلى كل معناها مثل. قوله : (اسْتَوْقَدَ) راعى في الإفراد لفظ الذي. وفي قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) معناه. قوله : (أوقد) أشار بذلك إلى أن السين والتاء زائدتان لا للطلب ، لأنه لا يلزم من الطلب الإيقاد بالفعل. قوله : (في ظلمة) أي شديدة وهي ظلمة الليل والسحاب والريح مع المطر.

قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ) الإضاءة النور القوي. قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) فقوله : (أنارت) أي نورا قويا والفاء للترتيب والتعقيب لأن الإضاءة تعقب الإيقاد. قوله : (ما حَوْلَهُ) يحتمل أن ما نكرة موصوفة وحوله صفة والضمير عائد على الموقد للنار ، وفاعل أضاءت ضمير يعود على النار ، ويحتمل أن ما اسم موصول وحوله صلة وهو صفة لموصوف محذوف تقديره المكان الذي حوله. قوله : (واستدفأ) أي امتنع عنه ألم البرد. قوله : (وأمن مما يخافه) أي من عدو وسباع وحيات وغير ذلك مما يضر ، وحينئذ فقد تم له النفع بالنار. قوله : (بِنُورِهِمْ) الضمير عائد على ما تقدم ضمنا في قوله : (فلما أضاءت) إذ المعنى أنارت على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى) ولم يقل بضوئهم إشارة إلى انعدام النور بالكلية ، بخلاف ما لو عبر بالضوء لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، والباء للتعدية كالهمزة فلذلك دخلت على المفعول ، ولا تستلزم الباء المصاحبة كالهمزة فذهبت يزيد مثل أذهبت زيدا خلافا للمبرد حيث

١٨

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فكذلك هؤلاء أمنوا بإظهار كلمة الإيمان فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب هم (صُمٌ) عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول (بُكْمٌ) خرس عن الخير فلا يقولونه (عُمْيٌ) عن طريق الهدى فلا يرونه (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) عن الضلالة (أَوْ) مثلهم (كَصَيِّبٍ) أي كأصحاب مطر وأصله صيوب من صاب يصوب أي ينزل (مِنَ السَّماءِ) السحاب (فِيهِ) أي السحاب (ظُلُماتٌ) متكاثفة (وَرَعْدٌ) هو الملك الموكل به وقيل صوته (وَبَرْقٌ) لمعان سوطه الذي يزجره به (يَجْعَلُونَ) أي أصحاب الصيب (أَصابِعَهُمْ) أي أناملهم (فِي آذانِهِمْ مِنَ) أجل (الصَّواعِقِ) شدة صوت الرعد لئلا يسمعوها (حَذَرَ) خوف (الْمَوْتِ) من سماعها ، كذلك هؤلاء إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبه بالظلمات والوعيد عليه المشبه بالرعد والحجج البينة المشبهة بالبرق يسدون آذانهم لئلا

____________________________________

جعلها تفيد المصاحبة ، ورد بهذه الآية لإستحالة المصاحبة فيها.

قوله : (وَتَرَكَهُمْ) عطف على ذهب. قوله : (فِي ظُلُماتٍ) أي ثلاث : ظلمة الليل والسحاب والريح مع المطر. قوله : (ما حولهم) هذا هو مفعول يبصرون. وقوله : (متحيرين) حال من الضمير في تركهم. قوله : (فكذلك) أشار بذلك إلى حال المشبه وهم المنافقون. وقوله : (أمنوا) بالقصر ضد الخوف ، أي حيث أسلموا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فقد أمنوا من القتل والسبي وانتفعوا بأخذ الغنائم والزكاة ، فإذا ماتوا فقد ذهب الله بنورهم فلم يأمنوا من النار ولم ينتفعوا بالجنة ، وتركهم في ظلمات ثلاث : ظلمة الكفر ، والنفاق والقبر ، والجامع بينهما أن الإنتفاع ودفع المضار في كل شيء قليل ثم يذهب.

قوله : (صُمٌ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هم. قوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي لفقد هذه الإدراكات الثلاثة من قلوبهم. قوله : (أَوْ) (مثلهم) يصح أن تكون أو للتنويع أو للإبهام أو الشك أو الإباحة أو التخيير أو الإضراب أو بمعنى الواو وأحسنها الأول. قوله : (أي كأصحاب مطر) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والمثل هنا بمعنى الصفة كما تقدم. قوله : (وأصله صيوب) أي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء. قوله : (السحاب) أشار بذلك إلى أن المراد بالسماء السماء اللغوية وهي كل ما ارتفع ، وأصل سماء سماو وقعت الواو متطرفة فقلبت همزة. قوله : (أي السحاب) المناسب عود الضمير على الصيب. قوله : (ظُلُماتٌ) أي ظلمة الريح والسحاب والليل. قوله : (هو الملك) أي وعليه قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ). قوله : (وقيل صوته) أي فقوله تعالى يسبح الرعد أي ذو الرعد. قوله : (لمعان صوته) أي الآلة التي يسوق بها وهي من نار. قوله : (أي أصحاب الصيب) أي فهو بيان للواو في يجعلون. قوله : (أي أناملها أشار بذلك إلى أن في الأصابع مجازا من باب تسمية الجزء باسم الكل مبالغة في شدة الحرص في إدخال رأس الأصبع فكأنه مدخل لها كلها. قوله : (شدة صوت الرعد) الإضافة بيانية إن كان المراد بالرعد صوت الملك ، وحقيقته إن كان المراد به ذاته. قوله : (كذلك هؤلاء) أي المنافقون. قوله : (علما وقدرة) تمييزان محولان عن الفاعل ، والإحاطة الإحتواء على الشيء كاحتواء الظرف على المظروف ، وهي محالة في حقه تعالى ، فأشار المفسر إلى دفع ذلك بقوله : علما وقدرة أي فالمراد الإحاطة المعنوية ، وهي كونهم مقهورين ، فلا يتأتى منهم فوات ولا

١٩

يسمعوه فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم وهو عندهم موت (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) علما وقدرة فلا يفوتونه (يَكادُ) يقرب (الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يأخذها بسرعة (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي في ضوئه (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) وقفوا تمثيل لإزعاج ما في القرآن من الحجب قلوبهم وتصديقهم لما سمعوا قيه مما يحبون ووقوفهم عما يكرهون (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) بمعنى أسماعهم (وَأَبْصارِهِمْ) الظاهرة كما ذهب بالباطنة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) شاءه (قَدِيرٌ) (٢٠) ومنه

____________________________________

إفلات ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).

قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ) هذا من تمام المثل ، وأما قوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) فجملة معترضة بين أجزاء المشبه به جيء بها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصل يكاد يكود بفتح الواو نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، وأصل ماضيها كود بكسر الواو تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، وهذا التصريف في الناقصة ، وأما التامة ففعلها يائي وهي بمعنى المكر ، قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) وأصل مضارعها يكيد بسكون الكاف وكسر الياء نقلت كسرة الياء إلى الكاف فصحت الياء. قوله : (يَخْطَفُ) بفتح الطاء مضارع خطف بفتح الطاء وكسرها. قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) كل بحسب ما تضاف إليه وما نكرة بمعنى وقت ، فكل ظرفية والعامل فيها مشوا وفاعل أضاء يعود على البرق ، وأضاء يحتمل أن يكون متعديا ، والمفعول محذوف التقدير كل وقت أضاء لهم البرق طريقا (مَشَوْا فِيهِ) فالضمير في فيه عائد على الطريق ، ويحتمل أن يكون لازما ، والضمير عائد على الضوء. قوله : (تمثيل) أي من باب تمثيل الجزئيات بالجزئيات فقوله من الحجج أي المشبهة بالرعد والبرق الخاطف ، وقوله : (وتصديقهم لما سمعوا فيه ما يحبون) أي من الآيات الموافقة لطبعهم كالقسم لهم من الغنائم وعدم التعرض لهم وأموالهم ، وأشار بذلك بقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) ، فكذلك هؤلاء ، وقوله : (ووقوفهم عما يكرهون) أي من التكاليف كالصلاة والصوم والحج والحكم عليهم ، قالت تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) وأشار إلى ذلك بقوله : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا). قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) يحتمل أن هذا من تعليقات المشبه به الذي هو أصحاب الصيب ، التقدير لو لا مشيئة الله سبقت لخطف البرق أبصارهم ولأذهب الرعد أسماعهم ، فإن ما ذكر سبب عادي لإذهاب السمع والبصر ، ولكن قد يوجد السبب ولا يوجد المسبب لتخلف المشيئة ، والمقصود من ذلك زيادة القوة في المشبه به ويلزم منه القوة في المشبه ، وهذا ما عليه أبو حيان والبيضاوي ، ويحتمل أنه من تعلقات المشبه وهم المنافقون ، وعليه المفسر حيث أشار لذلك بقوله كما ذهب بالباطنة. قوله : (بمعنى أسماعهم) أشار بذلك إلى أن السمع بمعنى الإسماع. قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) هذا دليل لما قبله. قوله : (شاءه) دفع بذلك ما يقال إن الشيء هو الموجود ومن ذلك ذات الله وصفاته وكل للإستغراق ، فيقتضي أن القدرة تتعلق بالواجبات فدفع ذلك بقوله شاءه أي أراده ، والإرادة لا تتعلق إلا بالممكن ، فكذا القدرة فخرجت ذات الله وصفاته فلا تتعلق بهما القدرة إلا لزم ، إما تحصيل الحاصل أو قلب الحقائق. قوله : (قَدِيرٌ) من القدر وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالممكنات إيجادا أو إعداما على وفق الإرادة والعلم. قوله : (ومنه إذهاب ما ذكره) أي من جملة الشيء الذي شاءه ، وقوله ما ذكره أي السمع والبصر.

٢٠