حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

النيل ليلا (فَالْتَقَطَهُ) بالتابوت صبيحة الليل (آلُ) أعوان (فِرْعَوْنَ) فوضعوه بين يديه وفتح

____________________________________

على هذا العبد الصالح ، فدل الله عليه ، فآمن به وصدقه. وقيل : لما حملت أم موسى به ، كتمت أمرها عن جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله تعالى ، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي ولد فيها ، بعث فرعون القوابل إليهن ، ففتشن النساء تفتيشا ، لم يفتشن قبل ذلك مثله ، وحملت أم موسى. فلم يتغير لونها ولم تكبر بطنها ، وكانت القوابل لا يتعرضن لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ، ولدته ولا رقيب لها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، وأوحى الله إليها (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) وهو البحر ليلا ، وكان لفرعون يومئذ بنت ، وكان بها برص شديد ، وكان لفرعون يومئذ بنت ، لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إليه ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها الأطباء والسحرة ، فنظروا في أمرها فقالوا : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر ، فيوجد فيه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا ، في شهر كذا ، حين تشرق الشمس ، فلما كان ذلك اليوم ، غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ، وكانت معه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها ، حتى جلست على شاطىء النيل مع جواريها ، تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضر به الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بشجرة ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل ناحية حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها ، فعالجته ففتحت الباب ، فإذا هي بصبي صغير في التابوت ، وإذا النور بين عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمص منها لبنا ، فألقى الله محبته في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت ، عمدت إلى ما يسيل من ريقه ، فلطخت به برصها ، فبرئت في الحال بإذن الله تعالى ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك ، إنّا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه من بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر خوفا منك ، فهمّ فرعون بقتله فقالت آسية : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي فنصيب منه خيرا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، وكانت آسية لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون : أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قال فرعون يومئذ قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها ، فقيل لآسية سميه : فقالت : سميته موسى ، لأنّا وجدناه في الماء والشجر ، لأن مو هو الماء ، وشا هو الشجر ، فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة.

قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) عطف على ما قدره المفسر بقوله : (فأرضعته) الخ. قوله : (صبيحة الليل) أي وكان يوم الاثنين. قوله : (وفتح) أي فتحته آسية بعد أن عالجوه بالفتح والكسر فلم يقدروا. قوله : (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام للعاقبة والصيرورة لا للعلة ، لأن علة التقاطهم أن يكون حبيبا وابنا ، ففي الآية استعارة تبعية في متعلق معنى الحرف ، يقدر تشبيه ترتب نحو العداوة والحزن ، على نحو الالتقاط بترتب العلة الغائية في المحبة والتبني بجامع مطلق الترتب الأعم من الطرفين ، فالترتب الثاني متعلق معنى اللام ، فقدر استعارة الترتب الكلي المشبه به بالترتب الكلي المشبه ، فسرى التشبيه لمعنى

١٤١

وأخرج موسى منه وهو يمص من إبهامه لبنا (لِيَكُونَ لَهُمْ) في عاقبة الأمر (عَدُوًّا) يقتل رجالهم (وَحَزَناً) يستعبد نساءهم ، وفي قراءة بضم الحاء وسكون الزاي لغتان في المصدر ، وهو هنا بمعنى اسم الفاعل من حزنه كأحزنه (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) وزيره (وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) من الخطيئة أي عاصين فعوقبوا على يديه (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وقد همّ مع أعوانه بقتله هو (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) فأطاعوها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩) بعاقبة أمرهم معه (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى) لما علمت بالتقاطه (فارِغاً) مما سواه (إِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنها (كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي بأنه ابنها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بالصبر أي سكناه (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) المصدقين بوعد الله ، وجواب لو لا دل عليه ما قبلها (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) مريم (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثره حتى تعلمي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ) أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) من مكان بعيد اختلاسا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١) أنها أخته وأنها ترقبه (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ

____________________________________

اللام الذي هو الترتب مع الجزئي ، فاستعير لفظ اللام واستعمل في الترتب الجزئي ، والعداوة والحزن قرينة ، أفاده الملوي. قوله : (وفي قراءة) الخ ، أي وهي سبعية أيضا. قوله : (من حزنه) هو من باب ضرب ونصر. قوله : (فعوقبوا على يديه) أي إنه تربى على أيديهم ، فهو أبلغ في إذلالهم.

قوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي وهي آسية بنت مزاحم ، وكانت من خيار النساء ، قيل كانت من ذرية الريان بن الوليد الذي كان في زمن يوسف الصديق عليه‌السلام ، وقيل من بنات الأنبياء من بني إسرائيل من سبط موسى عليه‌السلام ، وقيل كانت عمته فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الولد أكبر من ابن سنة ، وأنت تذبح ولدان هذه السنة فدعه يكون عندي ، وقيل إنها قالت له : إنه أتى من أرض أخرى ، وليس هو من بني إسرائيل. قوله : (هو) (قُرَّتُ عَيْنٍ) أشار المفسر إلى أنه خبر لمحذوف. قوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) الخ ، أي لما رأت فيه من العلامات الدالة على النجابة والبركة. قوله : (فأطاعوها) أي على عادة أمراء مصر ، من كونهم يطيعون النساء فيما يقلنه. قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من آل فرعون.

قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى) يصح أن يبقى أصبح على ظاهره إن ثبت أنه ألقته ليلا أو يجعل بمعنى صار إن كانت ألقته نهارا. قوله : (فارِغاً) (مما سواه) أي من التفكير في غيره ، لما ورد أنه أتاها الشيطان وقال : كرهت أن يقتل فرعون ابنك ، فيكون لك أجره وثوابه ، وتوليت أنت قتله فأغرقته في البحر ، فحزنت لذلك وانحصرت فكرتها فيه ونسيت ما أوحى به إليها. قوله : (لَتُبْدِي بِهِ) ضمنه معنى تصرح فعداه بالباء ، ويصح أن يبقى على ظاهره ، وتكون الباء زائدة أي تظهره.

قوله : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) جوابها محذوف أي لأبدت به كما أشار له المفسر. قوله : (بوعد الله) أي المدلول عليه بقوله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) الخ. قوله : (لِأُخْتِهِ) أي شقيقته. قوله : (مريم) هو أحد أقوال ، وقيل اسمها كلثمة وقيل كلثوم. قوله : (عَنْ جُنُبٍ) حال إما من الفاعل أو من الضمير المجرور

١٤٢

الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل رده إلى أمه ، أي منعناه من قبول ثدي مرضعة غير أمه فلم يقبل ثدي واحدة من المراضع المحضرة له (فَقالَتْ) أخته (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) لما رأت حنوّهم عليه (يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) بالارضاع وغيره (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢) وفسرت ضمير له بالملك جوابا لهم ، فأجيبت ، فجاءت بأمه ، فقبل ثديها ، وأجابتهم عن قبوله بأنها طيبة الريح طيبة اللبن ، فأذن لها في إرضاعه في بيتها ، فرجعت به كما قال تعالى (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائه (وَلا تَحْزَنَ) حينئذ (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ) برده إليها (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي الناس (لا

____________________________________

بالياء ، أي أبصرته مستخفية كائنة عن جنب وأبصرته بعيدا منها. قوله : (اختلاسا) أي اختفاء. قوله : (وأنها ترقبه) أي تنظره.

قوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ) أي على موسى. قوله : (مِنْ قَبْلُ) هو ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه. قوله : (أي منعناه) أشار بذلك إلى أن المراد من التحريم لازمه وهو المنع ، لأن الصبي ليس من أهل التكليف. قوله : (من المراضع المحضرة) أي التي أحضرها فرعون. قوله : (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي مخلصون في العمل من شوائب الفساد. قوله : (حنوهم عليه) أي عطفهم وميلهم إليه. قوله : (وغيره) أي كالتربية وإصلاح الحال. قوله : (فقبل ثديها) أي بعد أن مكث عندهم ثمانية أيام لا يقبل ثدي مرضعة أصلا ، قيل إن هامان لما سمع قولها (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) قال إنها لتعرفه وأهله ، فخذوها واحبسوها حتى تخبر بحاله ، فقالت : إنما أردت وهم له أي للملك ناصحون ، فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله ، فأتت بأم موسى وهو على يد فرعون يبكي طالبا للرضاع ، وهو يعلله شفقة عليه ، فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها : من أنت منه ، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وقال لها : أقيمي عندنا لإرضاعه ، فقالت : لا أقدر على فراق بيتي ، فإن رضيتم أرضعته في بيتي ، وإلا فلا حاجة لي فيه ، وأظهرت الزهد فيه نفيا للتهمة عنها ، فرضوا بذلك ، فرجعت إلى بيتها من يومها ، ولم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر.

قوله : (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تبرد وتسكن من ألم الفراق. قوله : (وَلا تَحْزَنَ) عطف على (تَقَرَّ) منصوب بأن مضمرة بعد (كَيْ). قوله : (فمكث عندها إلى أن فطمته) أي وهو سنتان. قوله : (وأخذتها لأنها مال حربي) جواب عما يقال : كيف جاز لها أن تأخذ أجرة منه على إرضاع ولدها؟ قوله : (أو ثلاث) أو لتنويع الخلاف. قوله : (أي بلغ أربعين سنة) المناسب أن يقول أي كمل عقله وانتهى شبابه ، لأن موسى أقام في مصر ثلاثين سنة ، ثم ذهب إلى مدين وأقام فيها عشر سنين ، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه لمدين ، فهي السبب فيه. قوله : (كما جزيناه) أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه ، نجزي المحسنين على إحسانهم. قوله (منف) بضم فسكون ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث أو العجمة ، وهي من أعمال مصر ، وقيل هي قرية يقال لها أم خنان على فرسخين من مصر ، وقيل هي مدينة عين الشمس ، وقيل هي مصر. قوله : (وقت القيلولة) وقيل بين المغرب والعشاء ، وسبب دخوله المدينة في ذلك الوقت ،

١٤٣

يَعْلَمُونَ) (١٣) بهذا الوعد ولا بأن هذه أخته وهذه أمه فمكث عندها إلى أن فطمته وأجرى عليها أجرتها لكل يوم دينار وأخذتها لأنها مال حربي فأتت به فرعون فتربى عنده كما قال تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وهو ثلاثون سنة أو وثلاث (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة (آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة (وَعِلْماً) فقها في الدين قبل أن يبعث نبيا (وَكَذلِكَ) كما جزيناه (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤) لأنفسهم (وَدَخَلَ) موسى (الْمَدِينَةَ) مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنه مدة (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) وقت القيلولة (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي إسرائيلي (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي قبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فقال له موسى خلّ سبيله فقيل إنه قال لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمع كفه وكان شديد القوّة والبطش (فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله ولم يكن قصد قتله ودفنه في الرمل (قالَ هذا) أي قتله (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) المهيج غضبي (إِنَّهُ عَدُوٌّ) لابن

____________________________________

أن موسى كان يسمى ابن فرعون ، وكان يركب مراكبه ، ويلبس لباسه ، فركب فرعون يوما وكان موسى غائبا ، فلما قدم قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب موسى في أثره ، فأدركه المقيل في أرض منف ، فدخلها ليس في طرقها أحد. قوله : (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي وكان طباخا لفرعون واسمه فليثون ، وأراد أن يسخر الإسرائيلي لحمل الحطب.

قوله : (فَاسْتَغاثَهُ) أي طلب غوثه ونصره. قوله : (أن أحمله) أي الحطب. قوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفعه بجمع كفه ، وأما اللكز فهو الضرب بأطراف الأصابع. قوله : (بجمع كفه) أي بكفه مجموعة ، فهو من إضافة الصفة للموصوف. قوله : (فَقَضى عَلَيْهِ) أي أوقع عليه القضاء وهو الموت. قوله : (ولم يكن قصد قتله) جواب عما يقال : كيف تجرأ على قتل القبطي؟ وحاصل إيضاح الجواب : أن قتله كان خطأ ، وقد يقال : قتله من باب دفع الصائل وهو واجب ، والاستغفار من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) نسبته للشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي ، وظهر له أن قتله خلاف الأولى ، لما يترتب عليه من الفتن ، والشيطان تفرحه الفتن.

قوله : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) الحق أن هذا تواضع منه ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (بحق إنعامك) (عَلَيَ) أشار بهذا إلى أن ما مصدرية ، والكلام على حذف مضاف ، وأشار بقوله : (اعصمني) إلى أن الباء متعلقة بمقدر هو هذا ، وقوله : (فَلَنْ أَكُونَ) جواب شرط قدره بقوله : (إن عصمتني) وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون وانتظامه في جماعته وتكثير سواده. قوله : (فَإِذَا الَّذِي) إذا فجائية ، و (الَّذِي) مبتدأ نعت لمحذوف أي فإذا الإسرائيلي الذي. و (اسْتَنْصَرَهُ) صلته ، و (يَسْتَصْرِخُهُ) خبر المبتدإ. قوله : (على قبطي آخر) أي يريد أن يستخدمه ، والاستصراخ الاستغاثة ، وسميت بذلك لأن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث. قوله : (قالَ لَهُ مُوسى) قال ابن عباس : إن القبط قالوا لفرعون : إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا ، فقال : اطلبوا قاتله ومن يشهد

١٤٤

آدم (مُضِلٌ) له (مُبِينٌ) (١٥) بيّن الإضلال (قالَ) نادما (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) أي المتصف بهما أزلا وأبدا (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ) بحق إنعامك (عَلَيَ) بالمغفرة اعصمني (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) عونا (لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) الكافرين بعد هذه إن عصمتني (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) ينتظر ما يناله من جهة القتيل (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيث به على قبطي آخر (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) بيّن الغواية لما فعلته أمس واليوم (فَلَمَّا أَنْ) زائدة (أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) لموسى والمستغيث به (قالَ) المستغيث ظانّا أنه يبطش به لما قال له (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ) ما (تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) فسمع القبطي ذلك فعلم أن القاتل موسى ، فانطلق إلى فرعون فأخبره بذلك ، فأمر فرعون الذباحين بقتل موسى ، فأخذوا في الطريق إليه (وَجاءَ رَجُلٌ) هو مؤمن آل فرعون (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) آخرها (يَسْعى) يسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) من قوم فرعون (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون فيك (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من المدينة (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) في الأمر بالخروج (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لحوق طالب أو

____________________________________

عليه ، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة ، إذ مر موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر ، فاستغاثه على الفرعوني ، وكان موسى قد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، فقال للإسرائيلي : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ). قوله : (لما فعلته أمس واليوم) أي حيث قاتلت بالأمس رجلا ، فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه.

قوله : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) الخ ، وذلك أن موسى أخذته الغيرة والرقة على الإسرائيلي ، فمد يده ليبطش بالقبطي ، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به هو ، لما رأى من غضبه وسمع من قوله : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فقال (يا مُوسى أَتُرِيدُ) الخ. قوله : (جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) الجبار هو الذي يقتل ويضرب ويتعاظم ، ولا ينظر في العواقب. قوله : (مِنَ الْمُصْلِحِينَ) أي بين الناس. قوله : (هو مؤمن آل فرعون) هو ابن عم فرعون واسمه حزقيل ، وقيل شمعون ، وقيل سمعان ، وهو الذي ذكر في قوله تعالى (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ). قوله : (يَسْعى) صفة لرجل أو حال منه ، لوجود المخصص قبله. قوله : (يتشاورون فيك) أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك. قوله : (أو غوث الله إياه) أو مانعة خلو تجوز الجمع.

قوله : (قالَ رَبِّ نَجِّنِي) الخ ، أي خلصني منهم واحفظني من لحوقهم ، قوله : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي بإلهام من الله ، لعلمه بأن أرض مدين لا تسلط لفرعون عليها ، وأن بينه وبين أهل مدين قرابة ، لكونهم من ذرية إبراهيم وهو كذلك. قوله : (ابن ابراهيم) أي الخليل عليه‌السلام ، وله ولد آخر اسمه مداين ، فأولاده أربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ، وإنما لم يصرح في القرآن بمدين ومداين ، لأنهما لم يكونا نبيين. قوله : (ولم يكن يعرف طريقها) وخرج بلا زاد ولا رفيق ، ولم يكن له طعام إلا ورق

١٤٥

غوث الله إياه (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١) قوم فرعون (وَلَمَّا تَوَجَّهَ) قصد بوجهه (تِلْقاءَ مَدْيَنَ) جهتها ، وهي قرية شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر ، سميت بمدين بن إبراهيم ، ولم يكن يعرف طريقها (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) أي قصد الطريق ، أي الطريق الوسط إليها ، فأرسل الله له ملكا بيده عنزة فانطلق به إليها (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) بئر فيها أي وصل إليها (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) جماعة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي سواهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تمنعان أغنامهما عن الماء (قالَ) موسى لهما (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما لا تسقيان (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) جمع راع أي يرجعون عن سقيهم خوف الزحام فنسقي ، وفي قراءة يصدر من الرباعي أي يصرفون مواشيهم عن الماء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٣) لا يقدر أن يسقي (فَسَقى لَهُما) من بئر أخرى بقربهما رفع حجرا عنها لا يرفعه إلا عشرة أنفس (ثُمَّ تَوَلَّى) انصرف (إِلَى الظِّلِ) لسمرة من شدة حر الشمس وهو جائع (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) طعام (فَقِيرٌ) (٢٤) محتاج فرجعتا إلى أبيهما في زمن أقل مما كانتا ترجعان فيه فسألهما عن ذلك فأخبرتاه بمن سقى لهما ، فقال لإحداهما : ادعيه لى ، قال تعالى

____________________________________

الشجر ونبات الأرض ، حتى ريئت خضرته في باطنه من خارج ، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه ، وهو أول ابتلاء من الله لموسى.

قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ) من إضافة الصفة للموصوف ، أي السبيل السوي. قوله : (أي الطريق الوسط) أي وكان لها ثلاث طرق ، فأخذ موسى يمشي في الوسطى ، وجاء الطلاب في أثره ، فساروا في الأخريين ولم يعرفوا محله. قوله : (ملكا) أي وكان راكبا على فرس قيل هو جبريل. قوله : (بيده عنزة) هي فوق العصا دون الرمح ، في طرفها حربة كحربة الرمح. قوله : (بئر فيها) أشار بذلك إلى أنه أطلق الحال وأراد المحل ، فأطلق الماء وأريد البئر. قوله : (أي وصل إليها) أشار بذلك إلى أن المراد بالورود هنا الوصول ، لأن الورود يطلق على الدخول في الشيء ، وعلى الاطلاع على الشيء والوصول إليه ، ومنه قوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) على مشهور التفاسير. قوله : (جماعة) أي كثيرة. قوله : (يَسْقُونَ) الجملة حال من فاعل (وَجَدَ) ، لأنها بمعنى لقي ، فتنصب مفعولا واحدا. قوله : (مواشيهم) هو معمول (يَسْقُونَ) وقد حذف في هذه الآية معمول (يَسْقُونَ) و (تَذُودانِ) و (لا نَسْقِي) لأن المقصود الفعل لا المفعول. قوله : (جمع راع) أي على غير قياس ، وقياسه بضم الراء كقاض وقضاة. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي فهذا وجه مباشرتنا للسقي بأنفسنا ، قال الأجهوري في شرح خطبة الشيخ خليل. ـ تتمة ـ عاش شعيب نبي الله ثلاثة آلاف سنة ، ذكره الشيخ زروق ، وفي رواية وكان في غنمه اثنا عشر ألف كلب ، وفي رواية أنه عاش ثلاثة آلاف سنة وستمائة سنة ا ه ملخصا من حاشية شيخنا الشيخ سليمان الجمل على فضائل رمضان للأجهوري. قوله : (لا يقدر أن يسقي) أي فيرسلنا اضطرارا. قوله : (فَسَقى لَهُما) أي سقى أغنامهما لأجلهما. قوله : (إلا عشرة أنفس) وقيل سبعة وقيل ثلاثون وقيل أربعون وقيل مائة. قوله : (لسمرة) بضم الميم ، وهي شجرة عظيمة من شجر الطلح ، وهي التي أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء بالنزول والصلاة عندها. قوله : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) إن

١٤٦

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي واضعة. كمّ درعها على وجهها حياء منه (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) فأجابها منكرا في نفسه أخذ الأجرة ، كأنها قصدت المكافأة إن كان ممن يريدها ، فمشت بين يديه فجعلت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقيها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق ففعلت ، إلى أن جاء أباها وهو شعيب عليه‌السلام وعنده عشاء ، فقال له : اجلس فتعشّ ، قال : أخاف أن يكون عوضا مما سقيت لهما ، وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل خير عوضا ، قال : لا ، عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام ، فأكل وأخبره بحاله ، قال تعالى (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) مصدر بمعنى المقصوص من قتله القبطي ، وقصدهم قتله وخوفه من فرعون (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥) إذ لا سلطان لفرعون على مدين (قالَتْ إِحْداهُما) وهي المرسلة الكبرى أو الصغرى (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) اتخذه أجيرا يرعى غنمنا أي بدلنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦) أي استأجره لقوته وأمانته ، فسألها عنهما فأخبرته بما تقدم من رفعه حجر البئر ومن قوله لها امشي خلفي ، وزيادة أنها لما جاءته وعلم بها صوب رأسه فلم يرفعه فرغب في إنكاحه (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) وهي الكبرى أو الصغرى (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) تكون أجيرا لي في رعي غنمي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) أي رعي عشر سنين (فَمِنْ عِنْدِكَ) التمام (وَما أُرِيدُ أَنْ

____________________________________

حرف توكيد والياء اسمها ، و (لِما أَنْزَلْتَ) متعلق بفقير وهو خبر إن ، و (أَنْزَلْتَ) بمعنى تنزل ، والمعنى إني فقير ومحتاج لما تنزله إلي من أي شيء ، كان قليلا أو كثيرا. قوله : (ادعيه لي) أي اطلبيه ليحضر عندي. قوله : (فَجاءَتْهُ) الخ ، عطف على ما قدره المفسر بقوله : (فرجعتا) الخ. قوله : (تَمْشِي) حال من فاعل جاء ، وقوله : (عَلَى اسْتِحْياءٍ) حال من الضمير في (تَمْشِي) ، والاستحياء هو الحياء بالمد ، وهو حالة تعتري الشخص ، تحمله على تجنب الرذائل. قوله : (كمّ درعها) أي قميصها. قوله : (منكرا في نفسه أخذ الأجرة) أي فلم يكن قصده بالإجابة أخذ الأجرة ، بل للتبرك بأبيها. قوله : (وهو شعيب) هذا هو الصحيح ، وقيل هو يثرون ابن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات ، وقيل هو رجل ممن آمن بشعيب ، وشعيب هو ابن متبعون بن عنفاش بن مدين بن إبراهيم عليه‌السلام. قوله : (وهي المرسلة) أي وهي التي تزوجها موسى عليه‌السلام.

قوله : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) تعليل للأمر بالاستئجار. قوله : (فسألها عنهما) أي بأن قال لها : وما أعلمك قوته وأمانته. قوله : (وزيادة) أي على ما ذكرته من القوة والأمانة ، وقد يقال إن هذا من جملة الأمانة فلا زيادة. قوله : (صوب رأسه) أي خفضه. قوله : (فرغب في إنكاحه) أي رغب شعيب في إنكاحه ابنته. قوله : (هاتَيْنِ) استفيد منه أنه كان له غيرهما ، قيل كان له سبع بنات. قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) حال من الفاعل أو المفعول ، ومفعول (تَأْجُرَنِي) محذوف ، والمعنى تأجرني نفسك ، وقوله : (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف له. قوله : (فَمِنْ عِنْدِكَ) (التمام) قدره إشارة إلى أن قوله : (فَمِنْ عِنْدِكَ) خبر

١٤٧

أَشُقَّ عَلَيْكَ) باشتراط العشر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرك (مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) الوافين بالعهد (قالَ) موسى (ذلِكَ) الذي قلته (بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) الثمان أو العشر وما زائدة أي رعيه (قَضَيْتُ) به أي فرغت منه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) بطلب الزيادة عليه (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) أنا وأنت (وَكِيلٌ) (٢٨) حفيظ أو شهيد ، فتم العقد بذلك وأمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، وكانت عصا الأنبياء عنده ، فوقع في يدها عصا آدم من آس الجنة ، فأخذها موسى بعلم شعبب (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي رعيه وهو ثمان أو عشر سنين وهو المظنون به (وَسارَ بِأَهْلِهِ) زوجته بإذن أبيها نحو مصر (آنَسَ) أبصر من بعيد (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) اسم جبل (ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) هنا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ)

____________________________________

لمحذوف والتقدير فالتمام من عندك تفضلا ، لا إلزاما. قوله : (للتبرك) أي فالاستثناء للتبرك والتفويض إلى توفيقه تعالى لا للتعليق ، لأن صلاحه محقق. قوله : (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ ، و (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) خبره ، والمعنى ذلك الذي وقع منك وعاهدتني عليه ، ثابت بيننا جميعا ، لا يخرج عنه واحد منا ، ويصح أن يكون ذلك مفعول لمحذوف أي قبلت ذلك ، وقوله : (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) الخ ، حال من اسم الإشارة ، والمعنى قبلت ذلك العقد حال كونه كائنا بيني وبينك ، لم يكن علينا شهيد إلا الله.

قوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) أي شرطية ، وجوابها فلا عدوان علي ، وما زائدة كما قال المفسر. قوله : (الثمان أو العشر) بالنصب تفسير لأي. قوله : (فتم العقد) أي عقد النكاح والإجارة. إن قلت : إن الذي وقع من شعيب وعد ، والنكاح لا يكون إلا بصيغة إبرام ، وأيضا لم يبين المنكوحة ، وأيضا الصداق ليست ثمرته عائدة عليها. وأجيب بجوابين : الأول أن هذا كان في شرعه جائز. الثاني أنه يمكن تنزيله على شرعنا ، بأنه قصد بالوعد إنشاء الصيغة ، وقد وقع من موسى القبول بقوله : (ذلِكَ) وبأنه يمكن أنه بيّن المنكوحة بإشارة مثلا ، وأن الغنم يمكن أن يكون بعضها مملوكا لها ، فثمرة الرعي عائدة عليها. قوله : (فوقع في يدها عصا آدم) قيل إنه أودعها ملك في صورة رجل عند شعيب ، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا ، فأتته بها فردها سبع مرات ، فلم يقع في يدها غيرها ، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة عنده ، فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع ، فأتاهما الملك فقال ألقياها ، فمن رفعها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، فرفعها موسى عليه‌السلام فكانت له. قوله : (من آس الجنة) أي وتوارثها الأنبياء بعد آدم ، فصارت منه إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، حتى وصلت لشعيب ، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته. قوله : (وهو المظنون به) أي وإن لم يصرح القرآن به لكمال مروءته ، فالمعول عليه أنه وفى العشر. قوله : (بِأَهْلِهِ) أي زوجته وولده وخادمه. قوله : (نحو مصر) أي لصلة رحمه وزيارة أمه وأخيه. ورد أنه لما عزم على السير قال لزوجته : اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم ، فطلبت من أبيها ذلك فقال : لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شبهها ، من كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء واسق منه الغنم ، ففعل ذلك ، فما أخطأت واحدة إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه إلى موسى وابنته ، فوفى له بشرطه وأعطاه الأغنام.

١٤٨

عن الطريق وكان قد أخطأها (أَوْ جَذْوَةٍ) بتثليث الجيم قطعة وشعلة (مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩) تستدفئون ، والطاء بدل من تاء الافتعال من صلي بالنار بكسر اللام وفتحها (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ) جانب (الْوادِ الْأَيْمَنِ) لموسى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) لموسى لسماعه كلام الله فيها (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطىء بإعادة الجار لنباتها فيه ، وهي شجرة عناب أو عليق أو عوسج (أَنْ) مفسرة لا مخففة (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها (وَلَّى

____________________________________

قوله : (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي الأيمن بدليل ما يأتي. قوله : (عن الطريق) أي لنستدل عليها. قوله : (بتثليث الجيم) أي وكلها سبعية فالكسر قراءة الجمهور ، والضم قراءة حمزة ، والفتح قراءة عاصم. قوله : (قطعة وشعلة) أي عود غليظ كأن في رأسه نارا أو لا ، قيل وهو ما رأسه نار ، فقوله : (مِنَ النَّارِ) وصف مخصص على الأول وكاشف على الثاني. قوله : (والطاء بدل من تاء الافتعال) أي فأصله تصتلون ، وقعت التاء بعد أحد حروف الإطباق فقلبت طاء. قوله : (بكسر اللام) أي من باب رضي ، وقوله : (وفتحها) أي من باب رمى.

قوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ) الخ ، قيل إن موسى لما رأى النار مشتعلة في الشجرة الخضراء ، علم أن ذلك لا يقدر عليه إلا الله ، فلما نودي علم أن الله هو المتكلم بذلك النداء. قوله : (الْأَيْمَنِ) صفة للشاطىء أو للوادي ، من اليمن وهو البركة ، أو اليمين مقابل اليسار ، والمعنى الشاطىء الذي يلي يمين موسى. قوله : (فِي الْبُقْعَةِ) متعلق بنودي. قوله : (الْمُبارَكَةِ) (لموسى) أي لأنه في ذلك المحل حصلت له البركة التامة ، فتلك الليلة أسعد لياليه ، كليلة الإسراء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (مِنَ الشَّجَرَةِ) حال من الضمير في نودي ، والتقدير نودي موسى ، والحال أنه كائن في وجهة الشجرة ، وليس المراد أنه سمع الكلام من جهة الشجرة فقط ، بل المحققون على أنه سمع الكلام بجميع أجزائه ، بلا حرف ولا صوت من جميع جهاته ، كما يكون لنا في الآخرة عند رؤية ذاته تعالى ، بلا كيف ولا انحصار. قوله : (بدل) أي بدل اشتمال. قوله : (أو عوسج) أي شوك. قوله : (مفسرة) أي لأنه تقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله : (لا مخففة) أي لعدم إفادتها المعنى المقصود.

قوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) هكذا قال هنا ، وفي سورة طه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ). وقال في النمل : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ولا تنافي بل الكل قال الله له. قوله : (وَأَنْ أَلْقِ) عطف على قوله : (أَنْ يا مُوسى). قوله : (من سرعة حركتها) أي فهو وجه شبهها بالجان ، وقوله في الآية الأخرى (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي في عظم الجثة ، فتحصل أنها باعتبار الجثة كالثعبان العظيم ، وباعتبار الخفة وسرعة الحركة كالحية الصغيرة. قوله : (وَلَّى مُدْبِراً) أي باعتبار الطبع البشري حين رآها بهذه الصفة ، ورد أنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها ، حتى إن موسى سمع صرير أسنانها ، وقعقعة الشجر والصخر في جوفها ، فحينئذ ولى مدبرا. قوله : (من الأدمة) أي الحمرة. قوله : (تغشى البصر) أي تغطيه.

١٤٩

مُدْبِراً) هاربا منها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي يرجع فنودي (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٣١) (اسْلُكْ) أدخل (يَدَكَ) اليمنى بمعنى الكف (فِي جَيْبِكَ) هو طوق القميص وأخرجها (تَخْرُجْ) خلاف ما كانت عليه من الأدمة (بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص فأدخلها وأخرجها تضيء كشعاع الشمس تغشى البصر (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) بفتح الحرفين وسكون الثاني مع فتح الأول وضمه ، أي الخوف الحاصل من إضاءة اليد بأن تدخلها في جيبك فتعود إلى حالتها الأولى ، وعبر عنها بالجناح لأنها للإنسان كالجناح للطائر (فَذانِكَ) بالتشديد والتخفيف أي العصا واليد وهما مؤنثان وإنما ذكر المشار به إليهما المبتدأ لتذكير خبره (بُرْهانانِ) مرسلان (مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢) (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) هو القبطي السابق (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٣٣) به (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أبين (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) معينا وفي قراءة بفتح الدال بلا همزة (يُصَدِّقُنِي) بالجزم جواب الدعاء وفي قراءة بالرفع ، وجملته صفة ردءا (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤) (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) نقويك (بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) غلبة (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بسوء اذهبا (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥) لهم

____________________________________

قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) جعل الجناح هنا مضموما ، وفي آية طه مضموما إليه حيث قال : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) لأن المراد بالجناح المضموم اليد اليمنى ، وبالجناح المضموم إليه اليد اليسرى ، وكل من اليدين جناح. قوله : (مِنَ الرَّهْبِ) متعلق باضمم. قوله : (بفتح الحرفين) الخ ، أي فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله : (بأن تدخلها) أي تدخل اليد اليمنى التي حصل فيها البياض في جيبك ، فتعود لحالتها الأولى ، فيزول عنك الخوف والفزع الذي حصل لك. قوله : (كالجناح للطائر) أي لأن الطائر إذا خاف نشر جناحيه ، وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالمشددة تثنية ذلك بلام البعد ، والمخفف تثنية ذاك ، فالتشديد عوض عن اللام في المفرد. قوله : (وإنما ذكر المشار به) الخ ، جواب عما يقال : إن العصا واليد مؤنثتان ، فكان اللائق الإشارة إليهما بتان ، فأجاب بأنه روعي الخبر قوله : (مرسلان) أشار بذلك إلى أن قوله : (مِنْ رَبِّكَ) متعلق بمحذوف صفة ل (بُرْهانانِ). قوله : (وَمَلَائِهِ) أي جماعته. قوله : (لِساناً) أي كلاما. قوله : (ردءا) حال من ضمير أرسله. قوله : (بفتح الدال) أي مع التنوين وهي سبعية أيضا.

قوله : (يُصَدِّقُنِي) أي يقويني في الصدق عند الخصم ، بتوضيح الحجج والبراهين. قوله : (جواب الدعاء) أي الذي هو قوله : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي) لأن طلب الأدنى من الأعلى دعاء. قوله : (أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي بسبب العقدة التي كانت في فيه ، بسبب الجمرة التي وضعها وهو صغير في فيه. قوله : (نقويك) أي فشد العضد كناية عن التقوية من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، لأن شد العضد يستلزم شد اليد ، وشد اليد مستلزم للقوة. قوله : (بسوء) متعلق بيصلون ، وقوله : (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف قدره بقوله : (اذهبا) بدليل الآية الأخرى (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) وجمعهما في ضمير واحد ، مع أن هارون لم يكن حاضرا

١٥٠

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) واضحات حال (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) مختلق (وَما سَمِعْنا بِهذا) كائنا (فِي) أيام (آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٣٦) (وَقالَ) بواو وبدونها (مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ) أي عالم (بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) الضمير للرب (وَمَنْ) عطف على من قبلها (تَكُونُ) بالفوقانية والتحتانية (لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة أي هو أنا في الشقين فأنا محق فيما جئت به (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧) الكافرون (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) فاطبخ لي الآجر (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قصرا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أنظر إليه وأقف عليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) في ادعائه

____________________________________

مجلس المناجاة ، بل كان في ذلك الوقت بمصر ، لأن الله أرسل جبريل إلى هارون بالرسالة وهو بمصر في ذلك الوقت ، فموسى سمع الخطاب من الله بلا واسطة ، وهارون سمعه بواسطة جبريل.

قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) المراد بها العصا واليد ، وجمعهما لأن كل واحدة اشتملت على آيات متعددة ، وتقدم ذلك في سورة طه. قوله : (قالُوا) أي فرعون وقومه. قوله : (مختلق) أي مخترع من قبل نفسه. قوله : (وَما سَمِعْنا بِهذا) الخ ، هذا محض عناد وكذب ، إذ هم يعرفون أن قبله الرسل ، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم. قوله : (بواو وبدونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الواو يكون تابعا لما قبله ، وعلى حذفها يكون الكلام مستأنفا في جواب سؤال. قوله : (أي عالم) أشار بذلك إلى أنه لا مفاضلة في أوصاف الله تعالى ، لأن التفاضل من مقتضيات الحدوث وهو مستحيل عليه ، فلا تفاضل بين صفاته مع بعضها ، ولا مع صفات خلقه. قوله : (عطف على من قبلها) أي فهي في محل جر ، والعلم مسلط عليها. قوله : (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فله خبر (تَكُونُ) مقدم ، و (عاقِبَةُ) اسمها مؤخر على كلا الوجهين ، وذكر الفعل على قراءة التحتانية للفصل ، ولأنه مجازي التأنيث. قوله : (أي العاقبة المحمودة) الخ ، أشار بذلك إلى أن المراد بالدار ، الدار الآخرة ، وأن الإضافة على معنى في ، ويصح أن المراد بالدار دار الدنيا ، والمراد بالعاقبة المحمودة الجنة ، إذ العاقبة قسمان : مذمومة ومحمودة ، فالجنة عاقبة محمودة ، والنار عاقبة مذمومة. قوله : (وهو أنا في الشقين) تفسير للموصول كأنه قال : إن لم تشهدوا لي بالصدق وبأن العاقبة المحمودة لي ، فالله عالم بأني جئت بالهدى ، وبأن العاقبة المحمودة لي. قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تعليل لقوله : (رَبِّي أَعْلَمُ) الخ.

قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ) الخ ، أي بعد أن شاهد إيمان السحرة وما وقع منهم. قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي ليس لي علم بوجود إله غيري ، وليس مراده بإلهية نفسه ، كونه خالقا للسماوات والأرض وما فيهما ، إذ لا يشك عاقل في أن الله هو الخالق لكل شيء ، وكان اعتقاده أن العالم العلوي أثر في العالم السفلي ، فلا حاجة للصانع. قوله : (عَلَى الطِّينِ) أي بعد اتخاذه لبنا ، وقيل إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به ، وهو الذي علم صنعته لهامان ، ولما أمر وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال والفعلة ، حتى اجتمع عنده خمسون ألف بناء ، سوى الأتباع والأجراء ، فطبخ الآجر والجبس ، ونشر الخشب ، وسبك المسامير ، فبنوه ورفعوه ، حتى ارتفع ارتفاعا ، لم يبلغه بناء أحد من الخلق ، فلما فرغوا ،

١٥١

إلها آخر وأنه رسوله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (٣٩) بالبناء للفاعل والمفعول (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم (فِي الْيَمِ) البحر المالح فغرقوا (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) حين صاروا إلى الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ) في الدنيا (أَئِمَّةً) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ياء : رؤساء في الشرك (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بدعائهم إلى الشرك (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١) بدفع العذاب عنهم (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) خزيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) المبعدين (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي أنوارا للقلوب (وَهُدىً) من الضلالة لمن عمل به (وَرَحْمَةً) لمن آمن به (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) يتعظون بما فيه من المواعظ (وَما كُنْتَ) يا محمد

____________________________________

ارتقى فرعون فوقه ، وأمر بنشابة فضربها نحو السماء ، فردت إليه وهي ملطخة دما فقال : قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد هذا الصرح راكبا على البراذين ، فبعث الله جبريل عليه‌السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف ، وقطعة وقعت في البحر ، وقطعة وقعت في المغرب ، ولم يبق أحد عمل في الصرح عملا إلا هلك. قوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) كأنه من قبحه توهم أن إله موسى في السماء يمكن الرقي إليه. قوله : (وأنه رسوله) أي أن موسى رسول الإله.

قوله : (وَاسْتَكْبَرَ) أي تكبر. قوله : (فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فَأَخَذْناهُ) أي عقب تكبره وعناده. قوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبر به المشركين ، فيرجعوا عن كفرهم وعنادهم. قوله : (وإبدال الثانية ياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، لكن قراءة الإبدال من طريق الطيبة لا من طريق الشاطبية. قوله : (بدعائهم إلى الشرك) أي المؤدي للنار. قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي المطرودين أو الموسومين بعلامة منكرة ، كزرقة العيون وسواد الوجه.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إخبار من الله لقريش بامتنانه على بني إسرائيل ، حين أهلك الأمم الماضية ، لما عاندوا وكذبوا رسلهم ، وساروا في زمن فترة بإنزال التوراة ليتعبدوا بها ، والمقصود من ذلك تعداد النعم على هذه الأمة المحمدية ، والمعنى كما أنزل على موسى التوراة وقومه في فترة وجهل ، أنزل على محمد القرآن وقومه في فترة وجهل ليهتدوا به. قوله : (وعاد وثمود) عطف على (قوم نوح) ولم ينونه لأنه علم على القبيلة ، وهو بهذا الاعتبار ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. قوله : (وغيرهم) أي كفرعون. قوله : (حال من الكتاب) أي إما على حذف مضاف أي ذا بصائر ، أو مبالغة على حد ما قيل في زيد عدل ، وكذا يقال في قوله : (هُدىً وَرَحْمَةً). قوله : (أي أنوارا للقلوب) أي تبصر به القلوب ، كما أن إنسان العين تبصر به العين. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي فالعاقل إذا علم أن كتاب الله ، من

١٥٢

(بِجانِبِ) الجبل أو الوادي أو المكان (الْغَرْبِيِ) من موسى حين المناجاة (إِذْ قَضَيْنا) أوحينا (إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) بالرسالة إلى فرعون وقومه (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) لذلك فتعلمه فتخبر به (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أمما بعد موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي طالت أعمارهم فنسوا العهود واندرست العلوم وانقطع الوحي فجئنا بك رسولا وأوحينا إليك خبر موسى وغيره (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) خبر ثان فتعرف قصتهم فتخبر بها (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) لك وإليك بأخبار المتقدمين (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) الجبل (إِذْ) حين (نادَيْنا) موسى أن خذ الكتاب بقوة (وَلكِنْ) أرسلناك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم أهل مكة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) يتعظون (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ)

____________________________________

أوصافه أنه منور للقلوب ، وهاد من الضلالة ، ورحمة لمن صدق به ، بادر إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ولا يرضى لنفسه بالتواني والكسل والعناد.

قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) الخ ، المقصود من ذلك إقامة الحجة على من كذبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني كيف تكذبونه بعد إتيانه بتفاصيل ما حصل للأمم السابقة وأنبيائهم؟ والحال أنكم تعلمون أنه لم يكن حاضرا ذلك ولا مشاهدا له .. قوله : (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) إن قلت : إن هذا معلوم نفيه من قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) فما ثمرة ذكره عقبه؟ أجيب بأنه لا يلزم من كونه هناك على فرض حصول مشاهدته لذلك ، ولذلك قال ابن عباس : لم تحضر ذلك الموضع ، ولو حضرته ما شاهدت ما وقع فيه. قوله : (بعد موسى) أي لأن أنبياء بني إسرائيل الذين يتعبدون بالتوراة كداود وسليمان وزكريا ويحيى وذا الكفل. كائنون بعد موسى. قوله : (واندرست العلوم) أي فكيف يأتيك الخبر من غير وحي. قوله : (وأوحينا إليك خبر موسى وغيره) أي ليكون معجزة لك وتذكيرا لقومك.

قوله : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) إن قلت : إن قصة مدين متقدمة على قصة الإرسال ، فكان مقتضى الترتيب ذكرها قبلها. أجيب : بأن المقصود تعداد العجائب من غير نظر للترتيب ، إشارة إلى أن أي واحدة تكفي في إثبات صدقه فيما يخبر به عن ربه. قوله : (مقيما) أي إقامة طويلة تشعر بمعرفتك قصتهم. قوله : (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) متعلق بثاويا. قوله : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي أنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ، ولو لا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.

قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي كما لم تحضر يا محمد جانب المكان الغربي ، إذ أرسل الله موسى إلى فرعون ، فكذلك لم تحضر جانب الطور ، إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة ، وبين الإرسال وإيتاء التوراة نحو ثلاثين سنة ، وهذا بالنظر للعالم الجسماني لإقامة الحجة على الخصم ، وأما بالنظر للعالم الروحاني ، فهو حاضر رسالة كل رسول ، وما وقع له من لدن آدم إلى أن ظهر بجسمه الشريف ، ولكن لا يخاطب به أهل العناد قوله : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى وهي ستمائة سنة.

١٥٣

عقوبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر وغيره (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) المرسل بها (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) وجواب لو لا محذوف وما بعدها مبتدأ. والمعنى لو لا الإصابة المسبب عنها قولهم أو لو لا قولهم المسبب عنها أي لعاجلناهم بالعقوبة ولما أرسلنا إليهم رسولا (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) محمد (مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا) هلا (أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما أو الكتاب جملة واحدة ، قال تعالى (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) حيث (قالُوا) فيه وفي محمد (سِحْرانِ) وفي قراءة سحران أي القرآن والتوراة (تَظاهَرا) تعاونا (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) من النبيين والكتابين (كافِرُونَ) (٤٨) (قُلْ) لهم (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) من الكتابين (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٩) في قولكم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعاءك بالإتيان بكتاب (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) في كفرهم (وَمَنْ أَضَلُ

____________________________________

قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) الخ ، (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، و (أَنْ) وما بعدها في تأويل مصدر مبتدأ ، وخبره محذوف وجوبا تقديره موجود كما قال المفسر. قوله : (فَيَقُولُوا) عطف على (تُصِيبَهُمْ) والفاء للسببية. قوله : (وجواب لو لا) أي الأولى ، وأما الثانية فهي تحضيضية. قوله : (أو لو لا قولهم) الخ ، أي فالمعنى الأول فيه انتفاء الجواب ، وهو عدم الإرسال بثبوت ضده وهو الإرسال ، لوجود السبب والمسبب معا. والمعنى الثاني لوجود المسبب الناشىء عن السبب فتدبر. قوله : (لما أرسلناك إليهم رسولا) أي فالحامل على ذلك تعللهم بهذا القول ، فالمعنى امتنع عدم إرسالنا لك ، لوجود المصائب المسبب عنها قولهم (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ) الخ ، إن قلت : إن الآية تقتضي وجود إصابتهم بالمصائب وقولهم المذكور ، والواقع أنهم حين نزول تلك الآيات ، لم يصابوا ولم يقولوا. أجيب : بأن الآية على سبيل الفرض والتقدير ، فالمعنى لو لا إصابة المصائب لهم ، واحتجاجهم على سبيل الفرض والتقدير ، لما أرسلناك إليهم ، فهو بمعنى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) الآية. قوله : (قالُوا) أي تعنتا. قوله : (أو الكتاب جملة) أشار بذلك إلى قول آخر في تفسير المثل. قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي قبل ظهورك.

قوله : (لَساحِرانِ) خبر لمحذوف أي هما. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (تعاونا) أي بتصديق كل منهما الآخر ، وذلك أن كفار مكة ، بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود بالمدينة في عيد لهم ، فسألوهم عن شأنه عليه‌السلام فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ما ذكر. قوله : (والكتابين) الواو بمعنى أو. قوله : (قل فأتوا بكتاب) الخ ، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين ، فائتوا بكتاب من عند الله واضح في هداية الخلق ، فإن أتيتم به اتبعته ، وهذا تنزل للخصم زيادة في إقامة الحجة عليهم. قوله : (أَتَّبِعْهُ) مجزوم في جواب شرط مقدر تقديره إن أتيتم به أتبعه.

قوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي لم يفعلوا ما أمرتهم به. قوله : (أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي

١٥٤

مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أضل منه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠) الكافرين (وَلَقَدْ وَصَّلْنا) بينا (لَهُمُ الْقَوْلَ) القرآن (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١) يتعظون فيؤمنون (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) أيضا نزلت في جماعة أسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره ومن النصارى قدموا من الحبشة ومن الشام (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) القرآن (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (٥٣) موحدين (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بإيمانهم بالكتابين (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على العمل بهما (وَيَدْرَؤُنَ) يدفعون (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) منهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٥٤) يتصدقون (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) الشتم والأذى من الكفار (أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلام

____________________________________

ليس لهم مستند إلا اتباع هواهم الفاسد. قوله : (لا أضل منه) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا) العامة على تشديد الصاد ، وهو مأخوذ إما من وصل الشيء بالشيء ، بمعنى جعله تابعا له ، لأن القرآن تابع بعضه بعضا ، قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أو من وصل الحبل جعله أوصالا أي أنواعا ، لأن القرآن أنواع ، كالوعد والوعيد ، والقصص والعبر والمواعظ.

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) الاسم الموصول مبتدأ ، و (آتَيْناهُمُ) صلته ، وهم مبتدأ ثان وبه متعلق بيؤمنون ، و (يُؤْمِنُونَ) خبر الثاني ، وهو وخبره خبر الأول. قوله : (أيضا) أي كما آمنوا بكتابهم. قوله : (نزلت في جماعة أسلموا من اليهود) الخ ، قال ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب ، أربعون من نجران ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من أهل الشام ، وقيل إنها نزلت في أربعين رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الحاجة والخصاصة قالوا : يا رسول الله إن لنا أموالا ، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين ، فأذن لهم فانصرفوا ، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، والمقصود من قصد هؤلاء الثناء عليهم والفخر بهم على المشركين. قوله : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أي فإسلامنا ليس بمتجدد ، بل هو موافق لما عندنا ، لأن في كتبهم صفة النبي ونعته ، فتمسكوا بكتابهم ولم يغيروا ولم يبدلوا إلى أن بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظروا في صفاته وأحواله ، فلما وجدوها مطابقة لما عندهم ، أظهروا ما كان عندهم من الإسلام. قوله : (بصبرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية ، وقوله : (على العمل بهما) أي أو على أذى المشركين ومن عاداهم من أهل دينهم.

قوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون الكلام القبيح ، كالسب والشتم الحاصل لهم من أعدائهم بالحسنة ، أي الكلمة الطيبة الجميلة ، أو المعنى إذا وقعت منهم معصية أتبعوها بطاعة كالتوبة. قوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) الخ ، وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبّا لكم ، أعرضتم عن دينكم وتركتموه ، فيعرضون عنهم ويقولون (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) قوله :

١٥٥

متاركة أي سلمتم منا من الشتم وغيره (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥) لا نصحبهم. ونزل في حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمان عمه أبي طالب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ) أي عالم (بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) (وَقالُوا) أي قومه (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي ننتزع منها بسرعة قال تعالى (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) يأمنون فيه من الإغارة والقتل الواقعين من بعض العرب على بعض (يُجْبى) بالفوقانية والتحتانية (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كل أوب (رِزْقاً) لهم (مِنْ لَدُنَّا) أي عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) أن ما

____________________________________

(سلام متاركة) أي إعراض وفراق لا سلام تحية. قوله : (لا نصحبهم) الأوضح أن يقول : لا نطلب صحبتهم. قوله : (ونزل في حرصه) الخ ، وذلك أنه لما احتضرته الوفاة ، جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ، فقال : يا ابن أخي ، قد علمت أنك لصادق ، ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ، ولو لا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ، ثم أنشد :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ : عبد المطلب وهاشم وبني عبد مناف ثم مات ، فأتى علي ابنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : عمك الضال قد مات ، فقال له : اذهب فواره» وما تقدم من أنه لم يؤمن حتى مات هو الصحيح ، وقيل : إنه أحيي وأسلم ثم مات ، ونقل هذا القول عن بعض الصوفية. قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي لا تقدر على هدايته. إن قلت : إن بين هذه الآية وآية (إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تناف. أجيب : بأن المنفي هنا خلق الاهتداء ، والمثبت هناك الدلالة على الدين القويم. قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فسلم أمرك لله ، فإنه أعلم بأهل السعادة وأهل الشقاوة ، ولا يبالي بأحد. قوله : (أي قومه) أي وهم بعض أهل مكة ، كالحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، فإنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إنا نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب ، أن يتخطفونا من أرضنا. قوله : (الْهُدى) أي وهو دين الإسلام.

قوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أي نجعل مكانهم حرما ذا أمن ، وعدي بنفسه لأنه بمعنى جعل ، يدل عليه الآية الأخرى وهي : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً). قوله : (يأمنون فيه) أشار بذلك إلى أن في الكلام مجازا عقليا. قوله : (تجبى) أي تحمل وتساق. قوله : (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) مجاز عن الكثرة كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قال بعض العارفين : من يتعلق ببيت الله الحرام ويسعى إليه ، فهو من خيار الخلق ، لقوله في الآية : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ). قوله : (من كل أوب) أي ناحية وطريق وجهة. قوله : (رِزْقاً) إما بمعنى مرزوقا ، فيكون منصوبا على الحال من ثمرات ، أو باق على مصدريته ، فيكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمعنى يجبى ، أي نرزقهم رزقا. قوله : (أن ما نقوله حق) قدره إشارة إلى أن مفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف.

١٥٦

نقوله حق (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي عيشها وأريد بالقرية أهلها (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) للمارّة يوما أو بعضه (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) منهم (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) بظلم منها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي أعظمها (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩) بتكذيب الرسل (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي تتمتعون وتتزينون به أيام حياتكم ثم يفنى (وَما عِنْدَ اللهِ) أي ثوابه (خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠) بالتاء والياء أن الباقي خير من الفاني (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً

____________________________________

قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) رد بذلك على الكفار ، وبيّن لهم أن العبارة بالعكس ، وأن خوف التخطف يكون بالكفر لا بالإيمان ، وأنهم ما داموا مصرين على كفرهم ، يحل بهم وبال بطرهم كما حصل لمن قبلهم. قوله : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي كفرت نعمة ربها في زمن معيشتها أي حياتها. قوله : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) أي خربة بسبب ظلمهم ، والإشارة إلى قوم لوط وصالح وشعيب وهود ، فإن السفار تمر على تلك المساكن ، وتنزل بها في بعض الأوقات. قوله : (للمارة يوما أو بعضه) أي لأن المار في الطريق ، إذا نزل للاستراحة ، إنما يستمر في الغالب يوما أو بعضه.

قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) الخ ، بيان للحكمة الإلهية التي سبقت بها مشيئته تعالى ، والمعنى ما ثبت في حكمه أن يهلك قرية قبل الإنذار. قوله : (أي أعظمها) أي وهي المدن بالنسبة لما حواليها ، فجرت عادة الله أن يبعث الرسول من أهل المدائن ، لأنهم أعقل وأفطن ، ويتبعهم غيرهم ، ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا لجميع الخلق ، كانت بلده أفضل البلاد على الإطلاق ، وقبيلته أشرف القبائل على الإطلاق. قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي لقطع الحجج والمعاذير. قوله : (إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) استثناء من عموم الأحوال ، كأنه قال : ما كنا نهلكهم في حال من الأحوال ، إلا في حال كونهم ظالمين. قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الخ (ما) اسم موصول مبتدأ ، و (أُوتِيتُمْ) صلته ، و (مِنْ شَيْءٍ) بيان لما ، وقوله : (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) خبره ، وقرن بالفاء لما في المبتدإ من معنى العموم ، ويصح أن تكون (ما) شرطية ، وقوله : (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف ، والجملة جواب الشرط. قوله : (ثم يفنى) أي يذهب بفنائكم ، فجميع ما في الدنيا عرض زائل ، يذهب بذهاب أهله ، ولا يبقى إلا جزاؤه ، فحلال الدنيا حساب ، وحرامها عقاب. قوله : (وهو ثوابه) أي ثواب الأعمال التي قصد بها وجهه سبحانه وتعالى. قوله : (خَيْرٌ وَأَبْقى) أي دائم بدوام الله. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أتركتم التدبر في أحوالكم فلا تعقلون ، فمن آثر الفاني على الباقي ، فلا عقل عنده ، لما في الحديث : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» ، ولله در الشافعي حيث قال :

إن لله عبادا فطنا

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا

أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجة واتخذوا

صالح الأعمال فيها سفنا

١٥٧

حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ) مصيبه وهو الجنة (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فيزول عن قريب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١) النار ، الأول المؤمن ، والثاني الكافر ، أي لا تساوي بينهما (وَ) اذكر (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) الله (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦٢) هم شركائي (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بدخول النار وهم رؤساء الضلالة (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) هم مبتدأ وصفة (أَغْوَيْناهُمْ) خبره فغووا (كَما غَوَيْنا) لم نكرههم على الغي (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم

____________________________________

وليس المراد من ذلك ترك الدنيا رأسا والخروج عنها بالمرة ، بل المراد لا يجعلها أكبر همه ولا مبلغ علمه ، وإنما يطلب الدنيا ليستعين بها على خدمة ربه ، لتكون مزرعة لآخرته ، لما في الحديث : «نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح» فالمضر شغل القلب والنية السوء. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أن الباقي خير من الفاني) قدره إشارة إلى أن مفعول يفعلون محذوف ، واستفيد منه أن عقل الناس المشتغلون بطاعة الله ، الذين اختاروا الباقي على الفاني ، ومن هنا قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس ، صرف إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى. قوله : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) الخ ، من مبتدأ ، وجملة (وَعَدْناهُ) صلتها ، وقوله كمن وعدناه الخ ، خبر المبتدأ ، والمعنى أيستوي من وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه ، بمن انهمك في طلب الفاني ، حتى صار يوم القيامة من المحضرين للعذاب ، فهو نظير قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). قوله : (مصيبة) أي مدركه لا محالة ، لأن وعده لا يتخلف. قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي المشوب بالأكدار. قوله : (الأول) أي وهو من (وَعَدْناهُ) والثاني وهو من (مَتَّعْناهُ). قوله : (أي لا تساوي بينهما) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي المشركين الذين عبدوا غير الله على لسان ملائكة العذاب ، أو النداء من الله لهم والمنفي في آية (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كلام الرضا والرحمة ، فلا ينافي أنه يكلمهم كلام غضب وسخط. قوله : (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) تفسير للنداء. قوله : (تَزْعُمُونَ) (شركائي) أشار بذلك إلى أن مفعولي تزعمون محذوفان. قوله : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا قالوا؟ وجواب هذا السؤال : أنه حصل التنازع والتخاصم بين الرؤساء والأتباع فقال الأتباع : إنهم أضلونا ، وقال الرؤساء (رَبَّنا هؤُلاءِ) الخ ، فهو بمعنى قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) الخ ، وبمعنى (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) الخ. قوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبت وتحقق وهو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). قوله : (وهم رؤساء الضلال) أي الذين أطاعوهم في كل ما أمروهم به ونهوهم عنه.

قوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) الخ ، اسم الإشارة مبتدأ ، والموصول نعته ، و (أَغْوَيْنا) صلته ، والعائد محذوف قدره المفسر ، و (أَغْوَيْناهُمْ) خبره ، وصح الإخبار به لتقييده بقوله : (كَما غَوَيْنا) ففيه زيادة فائدة على الصلة ، والمعنى تسببنا لهم في الغي ، فقبلوا منا ولم يتبعوا الرسل وما أنزل

١٥٨

(ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣) ما نافية وقدم المفعول للفاصلة (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الأصنام الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء الله (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) دعاءهم (وَرَأَوُا) هم (الْعَذابَ) أبصروه (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٦٤) في الدنيا لما رأوه في الآخرة (وَ) اذكر (يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) إليكم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) الأخبار المنجية في الجواب (يَوْمَئِذٍ) أي لم يجدوا خبرا لهم فيه نجاة (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) عنه فيسكتون (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) صدق بتوحيد الله (وَعَمِلَ صالِحاً) أدّى الفرائض (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧) الناجين بوعد الله (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ما يشاء (ما كانَ لَهُمُ) للمشركين (الْخِيَرَةُ) الاختيار في شيء (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨) عن إشراكهم

____________________________________

عليهم من الكتب التي فيها المواعظ والأوامر والنواهي ، فلم نخيرهم عن أنفسنا ، بل اخترنا لهم ما اخترناه لأنفسنا ، فاتبعونا بهواهم. قوله : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) (منهم) هذا تقرير لما قبله. قوله : (وقدم المفعول) أي وهو قوله : (إِيَّانا). قوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي استغيثوا بآلهتكم متى عبدتموها لتنصركم وتدفع عنكم ما نزل بكم ، وهذا القول للتهكم والتبكيت لهم. قوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي نازلا بهم. قوله : (ما رأوه) هو جواب (لَوْ).

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) معطوف على ما قبله فتحصل أنهم يسألون عن إشراكهم وجوابهم للرسل. قوله : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي خفيت عليهم فلم يهتدوا لجواب فيه راحة لهم ، أو الكلام على القلب ، والأصل فعموا عن الأنباء ، أي ضلوا وتحيروا في ذلك ، فلم يهتدوا إلى جواب به نجاتهم. قوله : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (عنه) أي عن الخبر المنجي لحصول الدهشة لهم ولقنوطهم من رحمة الله حينئذ. قوله : (فَأَمَّا مَنْ تابَ) الخ ، أي رجع عن كفره في حال الحياة. قوله : (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الترجي في القرآن بمنزلة التحقق لأنه وعد كريم ، ومن شأنه لا يخلف وعده.

قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، استعظم النبوة ونزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، فنزلت هذه الآية ردا عليه ، واختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على أقوال كثيرة ، فقيل يخلق ما يشاء من خلقه ويختار ما يشاء منهم لطاعته ، وقيل يخلق ما يشاء من خلقه ، ويختار ما يشاء لنبوته ، وقيل يخلق ما يشاء محمدا ، ويختار الأنصار لدينه ، وقيل يخلق ما يشاء محمدا ، ويختار ما يشاء أصحابه وأمته لما روي : «إن الله اختار أصحابي على العالمين ، سوى النبيين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ، فجعلهم أصحابي ، وفي أصحابي كلهم خير ، واختار أمتي على سائر الأمم ، واختار لي من أمتي أربعة قرون» ا ه ، فقد اختار محمدا على سائر المخلوقات ، واختار أمته على سائر الأمم ، فكما هو أفضل الخلق على الإطلاق ، أمته أفضل الأمم على الإطلاق.

قوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بالتحريك والإسكان معناهما واحد وهو الاختيار ، و (ما) نافية ،

١٥٩

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تسر قلوبهم من الكفر وغيره (وَما يُعْلِنُونَ) (٦٩) بألسنتهم من ذلك (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) الدنيا (وَالْآخِرَةِ) الجنة (وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء

____________________________________

و (كانَ) فعل ناقص ، والجار والمجرور خبرها مقدم ، و (الْخِيَرَةُ) اسمها مؤخر ، والجملة مستأنفة ، فالوقف على بختار ، والمعنى ليس للخلق جميعا الاختيار في شيء ، لا ظاهرا ولا باطنا ، بل الخيرة لله تعالى في أفعاله ، لما في الحديث القدسي : «يا عبدي أنت تريد ، وأنا أريد ، ولا يكون إلا ما أريد ، فإن سلمت لي ما أريد أعطيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي ما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد» وإنما خص المفسر المشركين بذلك مراعاة لسبب النزول ، ويصح أن تكون (ما) مصدرية ، وما بعدها مؤول بمصدر ، والمعنى يختار اختيارهم فيه ، ويصح أن تكون موصولة والعائد محذوف ، والتقدير ويختار الذي لهم فيه الاختيار ، وحينئذ فلا يصح الوقف على يختار ، والأول أظهر ، فالواجب على الإنسان ، أن يعتقد أنه لا تأثير لشيء من الكائنات في شيء أبدا ، وإنما يظهر على أيدي الخلق أسباب عادية يمكن تخلفها.

قوله : (سُبْحانَ اللهِ) أي تنزيها له عما لا يليق به. قوله : (من الكفر وغيره) أي كالإيمان ، فيجازي الكافر بالخلود في الجنة. قوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي هو مستحق للثناء بالجميل في الدنيا والجنة ، لأنه لا معطي للنعم فيهما ، إلا هو سبحانه تعالى ، فالمؤمنون يحمدونه في الجنة بقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، كما حمدوه في الدنيا ، لكن الحمد لله في الدنيا مكلفون به ، وأما في الآخرة فهو تلذذ لانقطاع التكليف بالموت. قال العلماء : لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا والآخرة ، حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك ، وذلك بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة ، يقرأ في الركعة الأولى بعد أم القرآن (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) الآية ، وفي الثانية (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الآية ، ثم يدعو بالدعاء الوارد في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ، كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : «إذا هم أحدكم بالأمر ، فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علّام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال في عاجل أمري وآجله ، فاقدره لي ويسره لي ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، أو قال في عاجل أمري وآجله ، فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ، قال : ويسمي حاجته». وروي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا أنس إذا هممت بأمر ، فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى ما يسبق إلى قلبك واعمله ، فإن الخير فيه» انتهى ، فإن لم يكن يحفظ الشخص هاتين الآيتين فليقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) والإخلاص ، فإن لم يكن يحفظ هذا الدعاء فليقرأ : اللهم خر لي ، واختر لي ، كما روي عن عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهما. واعلم أن هذه الكيفية هي الواردة في الحديث الصحيح ، وأما الاستخارة بالمنام أو بالمصحف أو السبحة ، فليس واردا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذا كرهه العلماء وقالوا : إنه نوع من الطيرة.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ) الخ (أَرَأَيْتُمْ) ، و (جَعَلَ) تنازعا في الليل ، أعمل الثاني

١٦٠