حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

ومقعده من الجنة لو آمن (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (٩٩) الجمع للتعظيم (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) بأن أشهد أن لا إله إلا الله يكون (فِيما تَرَكْتُ) ضيعت من عمري أي في مقابلته ، قال تعالى (كَلَّا) أي لا رجوع (إِنَّها) أي رب ارجعون (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي ولا فائدة فيها (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أمامهم (بَرْزَخٌ) حاجز يصدهم عن الرجوع (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠) ولا رجوع بعده (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) القرن النفخة الأولى أو الثانية (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) يتفاخرون بها (وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١) عنها خلاف حالهم في الدنيا لما يشغلهم من عظم الأمر عن ذلك في بعض مواطن القيامة وفي بعضها يفيقون وفي آية فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالحسنات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٢) الفائزون (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بالسيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فهم (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (١٠٣) (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تحرقها (وَهُمْ

____________________________________

الردع والزجر. قوله : (أي رب ارجعون) أي وما بعدها.

قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) الجمع باعتبار معنى أحد. قوله : (بَرْزَخٌ) هو المدة التي من حين الموت إلى البعث ، والمعنى أن بينهم وبين الرجعة حجابا ومانعا من الرجوع وهو الموت ، إذا علمت ذلك ، فالأموات لا تعود أجسامهم في الدنيا بأرواحهم كما كانوا أبدا وإنما يبعثون يوم القيامة ، لا فرق بين الأنبياء وغيرهم ، وما ورد عن بعض الصالحين ، من أنهم يجتمعون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقظة ، فالمراد أن روحه الشريفة ، تشكلت بصورة جسده الشريف ، وكذا يقال في الأولياء والشهداء ، لأن أرواح المطيعين مطلقة غير محبوسة ، وأما الكفار فأرواحهم محبوسة لا تسعى في الملكوت. قوله : (ولا رجوع بعده) أي يوم البعث. قوله : (النفخة الأولى) هو قول ابن عباس ، وقوله : (أو الثانية) هو قول ابن مسعود. قوله : (يتفاخرون بها) جواب عما يقال : إن الأنساب ثابتة بينهم لا يصح نفيها ، فأجاب : بأن المعنى لا أنساب بينهم لا يتفاخرون بأنسابهم. وأجيب أيضا : بأن معنى لا أنساب بينهم ، لا أنساب تنفعهم ، لزوال التراحم والتعاطف من شدة الحسرة والدهشة. قوله : (خلاف حالهم في الدنيا) أي لأنهم كانوا يسألون عن بعضهم في الدنيا. قوله : (لما يشغلهم من عظم) علة لقوله : (وَلا يَتَساءَلُونَ) ودفع بذلك ما يقال : كيف الجمع بين هذه الآية وآية (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فجمع المفسر بأن القيامة مواطن مختلفة ، وهذا مبني على أن المراد النفخة الثانية ، وأما على أن المراد النفخة الأولى ، فوجه الجمع أن نفي السؤال ، إنما هو عند النفخة الأولى لموتهم حينئذ وإثباته ، وإنما هو بعد النفخة الثانية.

قوله : (مَوازِينُهُ) الجمع إما للتعظيم أو باعتبار الموزون. قوله : (بالحسنات) الباء سببية أي بسبب ثقل الحسنات. قوله : (بالسيئات) أي بسبب ثقل السيئات ، والمعنى فمن رجحت حسناته (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، ومن رجحت سيئاته (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا) الخ. قوله : (فهم) (فِي جَهَنَّمَ) أشار المفسر إلى أن قوله : (فِي جَهَنَّمَ) أشار المفسر إلى أن قوله : (فِي جَهَنَّمَ) خبر لمحذوف. قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ) اللفح الإصابة بشدة. قوله : (شمرت شفاههم) الخ ، فالكلوح تشمر الشفة العليا واسترخاء السفلى لما ورد : أنه تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي السفلى حتى تبلغ سرته.

٢١

فِيها كالِحُونَ) (١٠٤) شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم ويقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) من القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ) تخوفون بها (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) وفي قراءة شقاوتنا بفتح أوله وألف وهما مصدران بمعنى (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦) عن الهداية (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا) إلى المخالفة (فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧) (قالَ) لهم بلسان مالك بعد قدر الدنيا مرتين (اخْسَؤُا فِيها) ابعدوا في النار أذلاء (وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) في رفع العذاب عنكم فينقطع رجاؤهم (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) هم المهاجرون (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١٠٩) (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بضم السين وكسرها مصدر بمعنى الهزء منهم بلال وصهيب وعمار وسلمان (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) فتركتموه لاشتغالكم بالاستهزاء بهم فهم سبب الإنساء فنسب إليهم (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠) (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ) النعيم المقيم (بِما صَبَرُوا) على استهزائكم بهم وأذاكم إياهم (أَنَّهُمْ) بكسر الهمزة (هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١) بمطلوبهم استئناف وبفتحها مفعول ثان لجزيتهم (قالَ) تعالى لهم بلسان مالك وفي قراءة قل (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) في الدنيا وفي قبوركم (عَدَدَ سِنِينَ) (١١٢) تمييز (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ

____________________________________

قوله : (تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي في الدنيا. قوله : (وفي قراءة) وهي سبعية أيضا. قوله : (وهما مصدران بمعنى) أي وهو سوء العاقبة. قوله : (بعد قدر الدنيا مرتين) أي وقدرها قيل سبعة آلاف سنة بعدد الكواكب السيارة ، وقيل اثنا عشر الف سنة بعدد البروج ، وقيل ثلاثمائة الف سنة وستون سنة بعدد أيام السنة. قوله : (اخْسَؤُا فِيها) أي اسكتوا سكوت هوان وذل. قوله : (فينقطع رجاؤهم) أي وهذا آخر كلامهم في النار ، فلا يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير والشهيق والنباح كنباح الكلاب. قوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ) تعليل لما قبله. قوله : (بضم السين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وسلمان) المناسب أن يقول بدله وخباب ، لأن سلمان ليس من المهاجرين. قوله : (فنسب اليهم) أي وحقه أن ينسب إلى الاستهزاء.

قوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي وذلك غاية الاستهزاء. قوله : (بكسر الهمزة وبفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بلسان مالك) دفع بذلك ما يقال إن قوله : (قالَ) يقتضي أن الله يكلمهم ، مع أنه قال في آية آخرى (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) فأجاب بأن المكلم لهم الملك عن الله. قوله : (وفي قراءة قل) أي وهي سبعية أيضا. والحاصل أن هنا وفيما يأتي في قوله : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ) ثلاث قراءات سبعيات ، الأمر فيهما والماضي فيهما ، والأمر في الأول ، والماضي في الثاني. قوله : (كَمْ لَبِثْتُمْ كَمْ) في محل نصب على الظرفية الزمانية ، وقوله : (عَدَدَ سِنِينَ) هو مميزها ، والمعنى لبثتم كم عددا من السنين ، والقصد من هذا السؤال ، التوبيخ والتبكيت عليهم ، لأنهم كانوا يعتقدون بقاءهم في الدنيا ، ويعولون على اللبث فيها ، وينكرون البعث ، فلما أدخلوا النار ، وأيقنوا دوامها وخلودهم فيها ، سألهم عن لبثهم في الدنيا ، زيادة في تحسرهم على ما كانوا يعتقدونه ، حيث ظهر خلافه.

٢٢

يَوْمٍ) شكوا في ذلك واستقصروه لعظم ما هم فيه من العذاب (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (١١٣) أي الملائكة المحصين أعمال الخلق (قالَ) تعالى بلسان مالك وفي قراءة أيضا قل (إِنْ) أي ما (لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤) مقدار لبثكم من الطول كان قليلا بالنسبة إلى لبثكم في النار (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) لا لحكمة (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) بالبناء للفاعل وللمفعول لا بل لنتعبدكم بالأمر والنهي وترجعوا إلينا ونجازي على ذلك وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (فَتَعالَى اللهُ) عن العبث وغيره مما لا يليق به (الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦) الكرسي ، هو السرير الحسن (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) صفة كاشفة لا مفهوم لها (فَإِنَّما حِسابُهُ) جزاؤه (عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (١١٧) لا يسعدون (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) المؤمنين في الرحمة زيادة على المغفرة (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨) أفضل راحم.

____________________________________

قوله : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) بالتشديد جمع عاد من العدد ، وهذا من جملة كلامهم ، لأنه غشيهم من الهول والعذاب ، ما يشغلهم عن ضبط ذلك وإحصائه. قوله : (قالَ) (تعالى) أي تقريعا وتوبيخا وتصديقا لهم. قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ لَوْ) هنا امتناعية ، ومفعول العلم محذوف قدره المفسر بقوله : (مقدار لبثكم) ، وجواب (لَوْ) محذوف أيضا قدره المفسر بقوله : (كان قليلا) أي في علمكم ، والمعنى لو أنكم كنتم تعلمون مقدار لبثكم من الطول ، لعلمتم قلة لبثكم في الدنيا ، قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أجهلتم فحسبتم ، وحسب بمعنى ظن ، والاستفهام للتوبيخ والإنكار. قوله : (عَبَثاً) إما حال مؤول باسم الفاعل أي عابثين ، أو مفعول لأجله ، والعبث اللعب وكل ما ليس فيه غرض صحيح ، فقوله : (لا لحكمة) تفسير للعبث. قوله : (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) عطف على (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) فيكون حسب مسلطا عليه. قوله : (بالبناء للفاعل وللمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (لا) قدره جوابا للاستفهام. قوله : (بل لنتعبدكم) أي لنكلفكم. قوله : (على ذلك) أي على امتثال التعبد المذكور. قوله : (إلا ليعبدون) أي حكمة خلقي لهم ، كونهم يمتثلون أوامري ويجتنبون نواهي.

قوله : (فَتَعالَى اللهُ) أي تنزه. قوله : (الْمَلِكُ الْحَقُ) أي الذي يحق له التصرف في ملكه ، بالإيجاد والإعدام والثواب والعقاب وغير ذلك ، فكل ما سواه مقهور ، وهو القاهر فوق عباده. قوله : (الْكَرِيمِ) بالجر صفة للعرش ، لأن كل بركة ورحمة وخير نازلة منه ، وقرىء شذوذا بالرفع على أنه نعت مقطوع للمدح. قوله : (الكرسي) تقدم أن المناسب ابقاؤه على ظاهره. قوله : (هو السرير الحسن) هكذا في بعض النسخ ، وفي بعضها اسقاطها. قوله : (صفة كاشفة) أي بيان للواقع ، لأن كل من ادعى مع الله إلها آخر ، لا بد أن يكون لا برهان له به. قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) هو جواب الشرط. قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الجمهور على كسر إن استئنافا ، وفيه معنى العلة ، وقرىء شذوذا بالفتح على أنه خبر حسابه ، والأصل حسابه أنه لا يفلح هو ، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم. قوله : (في الرحمة زيادة على المغفرة) أي فذكر الرحمة بعد المغفرة تحلية بعد تخلية ، ففي الغفران محو السيئات ، وفي الرحمة رفع الدرجات. قوله : (أفضل رحمة) بالنصب على التمييز.

٢٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّور

مدنيّة

وهي اثنتان أو أربع وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذه (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) مخففا ومشددا لكثرة المفروض فيها (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدلالات (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) بإدغام

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النور

مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية

سميت بذلك لذكر النور فيها ، وفي هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر وغيرها من الأحكام الدينية المفصلة ، ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى الكوفة : علموا نساءكم سورة النور وقالت عائشة رضي الله عنها : لا تنزلوا النساء في الغرف ، ولا تعلموهن الكتاب ، وعلموهن سورة النور والغزل. قوله : (هذه) (سُورَةٌ) أشار المفسر إلى أن (سُورَةٌ) خبر لمحذوف قدره بقوله : (هذه) والاشارة لما في علم الله لكونها في حكم الحاضر المشاهد ، ويصح أن تكون (سُورَةٌ) مبتدأ وجملة (أَنْزَلْناها) صفة لها والخبر قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) والمعنى السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا ، والخبر محذوف ، والتقدير فيما يتلى عليكم ، وهذا على قراءة الرفع ، وهي لعامة القراء ، وقرىء سورة بالنصب بفعل مضمر يفسره (أَنْزَلْنا) فهو من باب الاشتغال أو على الإغراء ، أي دونك سورة. قوله : (وَفَرَضْناها) أي أوجبنا ما فيها من الأحكام ايجابا قطعيا. قوله : (مخففا ومشددا) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَأَنْزَلْنا) كرر الإنزال لكمال الاعتناء بشأنها. قوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلائل على وحدانية الله تعالى ، وقد ذكر في أول هذه السورة أنواع من الأحكام والحدود ، وفي آخرها دلائل التوحيد ،

٢٤

التاء الثانية في الذال تتعظون (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي ضربة ، يقال جلده ضرب جلده ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام ، والرقيق على النصف مما ذكر (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي حكمه بأن تتركوا شيئا من حدهما (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم البعث وفي هذا تحريض على ما قبل الشرط وهو جوابه أو دال على جوابه (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي الجلد (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) قيل ثلاثة وقيل أربعة عدد شهود الزنا (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) يتزوج (إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي المناسب لكل منهما ما ذكر (وَحُرِّمَ ذلِكَ) أي نكاح الزواني (عَلَى

____________________________________

فقوله : (وَفَرَضْناها) إشارة إلى الأحكام ، وقوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) إشارة إلى الأدلة. قوله : (بإدغام التاء الثانية) أي بعد قلبها دالا فذالا أي وبتسكينها ، أي فهما قراءتان سبعيتان ، وبقيت ثالثة سبعية أيضا وهي حذف إحدى التاءين.

قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم أو جملة (فَاجْلِدُوا) ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط ، وعليه درج المفسر ، وقدمت المرأة في حد الزنا ، وأخرت في آية حد السرقة ، لأن شهوة الزنا في المرأة أقوى وأكثر ، والسرقة ناشئة من الجسارة والقوة ، وهي في الرجل أقوى وأكثر. قوله : (لرجمهما بالسنة) أشار بذلك إلى أن الزانية والزاني لفظ عام يشمل المحصن وغيره ، فالسنة أخرجت المحصن وبينت أن حده الرجم ، فصار الكلام في غيره. قوله : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) الخ ، أي بسوط لين له رأس واحدة ، ويجرد الرجل من ثيابه ، والمرأة مما يقيها ألم الضرب ، وتوضع في قفة فيها تراب للستر. قوله : (والرقيق على النصف مما ذكر) أي الجلد والتغريب وهذا مذهب الشافعي ، وقال مالك : لا يغرب إلا الذكر الحر ، وأما المرأة والرقيق فلا يغربان.

قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ) قرأ العامة بالتأنيث مراعاة للفظ ، وقرىء شذوذا بالياء التحتية. قوله : (رَأْفَةٌ) بسكون الهمزة وفتحها قراءتان سبعيتان ، وقرىء بالمد بوزن سحابة ، والرأفة أشد الرحمة ، ويقال رؤف بالضم والفتح والكسر ككرم وقطع وطرب. قوله : (بأن تتركوا شيئا من حدهما) أي لأن إقامة الحدود فيها رضا الله لما ورد : إقامة حد الله تعالى في الأرض ، خير من أن تمطروا أربعين صباحا. قوله : (في هذا) أي قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) الخ. قوله : (تحريض) أي حث على ما قبل الشرط وهو قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) فالواجب الغضب لله واستيفاء الحدود اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه قال : «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها». قوله : (وهو جوابه) أي كما هو رأي الكوفيين ، قوله : (أو دال) أي كما هو رأي البصريين.

قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) الأمر للندب ، والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة. قوله : (قيل ثلاثة) الخ ، القولان للشافعي ، وعند مالك أقل ذلك أربعة. قوله : (أي المناسب لكل منهما ما ذكر) أي فهذا زجر لمن يريد نكاح الزانية ، والمعنى أن الزاني يرغب في نكاح الزانية أو المشركة ، والزانية ترغب في

٢٥

الْمُؤْمِنِينَ) (٣) الأخيار ، نزل ذلك لما همّ فقراء المهاجرين أن يتزوجوا بغايا المشركين وهن موسرات لينفقن عليهم ، فقيل التحريم خاص بهم وقيل عام ، ونسخ بقوله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم) (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) العفيفات بالزنا (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) على زناهن برؤيتهم (فَاجْلِدُوهُمْ) أي كل واحد منهم (ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً) في شيء (أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤) لإتيانهم كبيرة (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) عملهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم قذفهم (رَحِيمٌ) (٥) بهم بإلهامهم التوبة ، فبها ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم ، وقيل

____________________________________

نكاح الزاني أو المشرك. قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي لما فيه من المفاسد ، كالطعن في النسب ، والتعرض للتهم ، والتشبه بالفساق ، فالواجب التزوج بالعفيفات لما في الحديث : «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس». قوله : (نزل ذلك) أي الآية ، وحينئذ فالمطابق لسبب النزول هو الجملة الثانية ، وإنما ذكر الأولى زيادة في التنفير. قوله : (وهن موسرات) أي غنيات. قوله : (خاص بهم) أي ولم ينسخ إلى الآن. قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) جمع أيم ، وهي من ليس لها زوج ، بكرا أو ثيبا ، ومن ليس له زوجة ، وهو يشمل الزاني والزانية وغيرهما فغاية الأمر أن نكاح الفاسق والفاسقة مكروه.

قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) تقدم أن الزاني والزانية ، إما أن يرجما إن كانا محصنين ، أو يجلدا إن لم يكونا كذلك ، فتبين أن الزنا أمره عظيم شديد ، لا بد وأن يثبت ، إما بإقرار ، أو بأربعة عدول ، فإن انتفى واحد من ذلك حد المدعي ، فبين هذه الآية وما قبلها شدة مناسبة ، وقوله : (الَّذِينَ) مبتدأ ، و (يَرْمُونَ) صلته ، والخبر ثلاث جمل : الأولى (فَاجْلِدُوهُمْ). الثانية قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً). الثالثة قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، ومعنى (يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) يتهمونهن ، فشبه الاتهام بالرمي ، بجامع التأدية للهلاك في كل ، لأنه إن ثبت ذلك الأمر فقد هلك المرمي ، وإن لم يثبت فقد هلك الرامي ، وقوله : (الْمُحْصَناتِ) لا مفهوم له ، بل وكذا المحصنون ، وإنما خصهن بالذكر ، لأن الشأن قوة شهوة النساء. قوله : (العفيفات) تفسير للمحصنات باعتبار اللغة ، لأن حصان كما يطلق على العفة ، يطلق على التزوج وعلى الحرية ، ومفهوم قوله : (العفيفات) أنه إذا رمي غير عفيف لا يحد ، ويشترط زيادة على العفة ، أن يكون المرمي يتأتى منه الزنا أو اللواط بأن يكون ذا آلة ، فإن رمي مجبوبا عزر ولا يحد ، وأن يكون حرا مسلما مكلفا ، فإن انتفى شرط منها لم يحد القاذف ، إلا رامي الصبي باللواط به أو الصبية المطيقين ، فعند مالك يحد ، وعند الشافعي يعزر. قوله : (بالزنا) أي أو اللواط في آدمي مطيق ، أو جني تشكل بآدمي. قوله : (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي عدول ، وقوله : (برؤيتهم) متعلق بشهداء ، أي يشهدون بأنهم رأوا الذكر في الفرج ، ولا بد أن يتحدوا في الرؤية والأداء ، فإن اختلفوا ولو في أي صفة حد الجميع. قوله : (أَبَداً) أي ما داموا مصرين على عدم التوبة بدليل الاستثناء ، وعلى هذا درج مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تقبل شهادتهم ولو تابوا.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء متصل ، لأن المستثنى منه الذين يرمون والتائبون من جملتهم. قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي القذف. قوله : (فبها ينتهي فسقهم) هذا مبني على رجوع الاستثناء للجملتين

٢٦

لا تقبل رجوعا بالاستثناء إلى الجملة الأخيرة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) عليه (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) وقع ذلك لجماعة من الصحابة (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) مبتدأ (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) نصب على المصدر (بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٦) فيما رمى به زوجته من الزنا (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧) في ذلك ، وخبر المبتدإ تدفع عنه حد القذف (وَيَدْرَؤُا) يدفع (عَنْهَا الْعَذابَ) أي حد الزنا الذي ثبت بشهاداته (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) (٨) فيما رماها به من الزنا (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩) في ذلك (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بالستر في ذلك (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) بقبوله التوبة في ذلك وغيره (حَكِيمٌ) (١٠) فيما حكم به في ذلك وغيره لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أسوأ الكذب على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين

____________________________________

الأخيرتين ، وهو مذهب مالك والشافعي ، فعندهما أن التائب تقبل شهادته ، ويزول عنه اسم الفسق. قوله : (وقيل لا تقبل) هذا مذهب أبي حنيفة ، واتفق الجميع على أن القاذف يجلد ، وإن تاب ، فليس الاستثناء راجعا إلى الجملة الأولى. قوله : (أَزْواجَهُمْ) جمع زوج بمعنى الزوجة ، وحذف التاء أفصح من إثباتها إلا في المواريث.

قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) مفهومه لو كان له بينة فلا لعان بينهما عند مالك ، وقال الشافعي : له ترك البينة ويلاعن. وأجاب عن الآية بأنها خرجت على سبب النزول ، فإنه لم يكن لهم بينة. قوله : (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بالرفع بدل من شهداء. قوله : (وقع ذلك) أي قذف الزوجة بالزنا. قوله : (لجماعة من الصحابة) أي وهم هلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي. قوله : (نصب على المصدر) أي والعامل شهادة ، وفي قراءة سبعية أيضا بالرفع خبر المبتدأ. قوله : (من الزنا) أي أو نفي الحمل ، لأن اللعان كما يكون في رؤية الزنا ، يكون في نفي الحمل. قوله : (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ) الخ ، بالرفع لا غير باتفاق السبعة ، وقوله : (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) بالنصب لا غير باتفاق السبعة ، وقوله : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ) الخ ، يجوز في السبعة رفعه ونصبه ، فتحصل أن الخامسة الأولى بالرفع لا غير ، وفي الثانية الوجهان ، ولفظ أربع الأول فيه الوجهان ، والثاني بالنصب لا غير ، وحكمة تخصيص الرجل باللعنة ، والمرأة بالغضب ، أن اللعن معناه الطرد والبعد عن رحمة الله ، وفي لعانه إبعاد الزوجة والولد ، وفي لعانها إغضاب الرب والزوج والأهل إن كانت كاذبة. قوله : (وخبر المبتدأ) أي الذي قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ). قوله : (في ذلك) أي فيما رماها به

ـ فائدة ـ يترتب على لعانه دفع الحد عنه ، وقطع الولد منه ، وإيجاب الحد عليها ، وعلى لعانها دفع الحد عنها ، وتأبيد تحريمها ، وفسخ نكاحها. قوله : (بالستر) متعلق بكل من فضل ورحمة. قوله : (لبين الحق في ذلك) جواب (لَوْ لا).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) الخ ، شروع في ذكر الآيات المتعلقة بالإفك ، وهي ثماني عشرة

٢٧

بقذفها (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) جماعة من المؤمنين ، قالت : حسان بن ثابت وعبد الله بن أبيّ ومسطح وحمنة بنت جحش (لا تَحْسَبُوهُ) أيها المؤمنون غير العصبة (شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يأجركم

____________________________________

تنتهي بقوله : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أن الله لما ذكر ما في الزنا من الشناعة والقبح ، وذكر ما يترتب على من رمى غيره به ، وذكر أنه لا يليق بآحاد الأمة ، فضلا عن زوجة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر ما يتعلق بذلك. قوله : (أسوأ الكذب) أي أقبحه وأفحشه. قوله : (على عائشة) متعلق بالكذب ، وقد عقد عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وهي بنت ست سنين أو سبع ، ودخل عليها بالمدينة وهي بنت تسع ، وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة. قوله : (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العصبة من العشرة إلى الأربعين ، وإن كان من عينتهم وذكرتهم أربعة فقط ، لأنهم هم الرؤساء في هذا الأمر. قوله : (من المؤمنين) أي ولو ظاهرا ، فإن عبد الله بن أبي من كبار المنافقين. قوله : (قالت) أي عائشة في تعيين أهل الإفك. قوله : (وحمنة بنت جحش) هي زوجة طلحة بن عبيد الله.

قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) المخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعائشة وصفوان تسلية لهم. قوله : (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لظهور كرامتكم على الله وتعظيم شأنكم ، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم ، والثناء على من ظن بكم خيرا. قوله : (يأجركم الله به) أي بسبب الصبر عليه. قوله : (ومن جاء معها) أي يقود بها الراحلة. قوله : (وهم صفوان) أي السلمي بن المعطل. قوله : (في غزوة) قيل هي غزوة بني المصطلق ، وكانت في السنة الرابعة ، وقيل في السادسة. وسببها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه ، وقائدهم الحرث بن ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سمع بذلك خرج اليهم ، حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق ، وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم ، وردها عليهم. قوله : (بعد ما أنزل الحجاب) أي وهو قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ). قوله : (وآذن) بالمد والقصر ، أي أعلم. قوله : (وقضيت شأني) أي حاجتي كالبول مثلا. قوله : (فإذا عقدي انقطع) أي وكان من جزع ظفار ، وهو الخرز اليماني غالي القيمة ، وكان أصله لأمها ، أعطته لها حين تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل لأختها أسماء. قوله : (ألتمسه) أي أفتش عليه. قوله : (فجلست في المنزل الذي كنت فيه) أي وهذا من حسن عقلها وجودة رأيها ، فإن من الآداب ، أن الإنسان إذا ضل عن رفقته ، وعلم أنهم يفتشون عليه ، أن يجلس في المكان الذي فقدوه فيه ولا ينتقل منه ، فربما رجعوا فلم يجدوه. قوله : (فنمت) أي وكانت كثيرة النوم لحداثة سنها. قوله : (وكان صفوان قد عرس) أي وكان صاحب ساقة رسول الله لشجاعته ، وكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم اتبعهم ، فما سقط منهم شيء إلا حمله ، حتى يأتي به أصحابه. قوله : (فسار منه) أي فادلج بالتشديد سار من آخر الليل ، وأما دلج سار من أوله. قوله : (في منزله) أي منزل الجيش الذي مكثت فيه عائشة. قوله : (وطىء على يدها) أي الراحلة خوف أن تقوم. قوله : (موغرين) أي اتينا الجيش في وقت القيلولة. قوله : (فهلك من هلك) أي تكلم بما كان سببا في هلاكه. قوله : (فيّ) أي بسببي. قوله : (ابن أبي ابن سلول) نسب أولا لأبيه ثم لامه. قوله : (انتهى قولها) هذا باعتبار ما اختصره ، وإلا فحديثها له بقية كما في البخاري وهي : فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا ، وهم يفيضون

٢٨

الله به ويظهر براءة عائشة ومن جاء معها منه وهو صفوان ، فإنها قالت : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة بعد ما أنزل الحجاب ، ففرغ منها ورجع ودنا من المدينة ، وآذن بالرحيل ليلة ، فمشيت وقضيت شأني وأقبلت إلى الرحل ، فإذا عقدي انقطع «هو بكسر المهملة القلادة» فرجعت

____________________________________

من قول أصحاب الإفك ، ويريبني في وجعي ، أني لا أرى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم؟ لا أشعر بشيء من ذلك ، حتى نقهت بفتح فكسر ، أي برئت من مرضي ، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا ، لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول ، في البرية أو في التنزه ، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت رهم نمشي ، فعثرت في مرطها ، هو بكسر الميم ، كساء من صوف ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت : أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت : يا هنتاه ، أي قليلة المعرفة ، ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ، دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كيف تيكم؟ فقلت : ائذن لي إلى أبوي ، قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي : ما يتحدث به الناس؟ قالت : يا بنيتي هوني على نفسك الشأن ، فو الله قلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت : فبت تلك الليلة ، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ، يستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار اليه بالذي يعلم من نفسه بالود لهم ، فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيرا ، وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، واسأل الجارية تصدقك ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة : لا والذي بعثك بالحق نبيا ، إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها ، هو بهمزة مفتوحة فغين معجمة فصاد مهملة ، أي أعيبه وأنكره ، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فيأتي الداجن ، وهو بدال مهملة ثم جيم ، ما يألف البيوت من الشاة والدجاج ونحو ذلك فيأكله ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نومه ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، فو الله ما علمت في أهلي إلا خيرا ، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ وقال : يا رسول الله أنا والله أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك ، فقام أسيد بن حضير فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان : الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت ، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، فأصبح عندي أبواي ، وقد بكيت ليلتي ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي ، قالت : فبينما هما جالسان وأنا أبكي ، إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن كذلك ، إذ دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس ، ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل

٢٩

ألتمسه ، وحملوا هودجي «هو ما يركب فيه» على بعيري يحسبونني فيه ، وكانت النساء خفافا إنما يأكلن العلقة «هو بضم المهملة وسكون اللام من الطعام أي القليل» ووجدت عقدي ، وجئت بعدما ساروا ، فجلست في المنزل الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فغلبتني عيناي فنمت ، وكان صفوان قد عرس من وراء الجيش فأدلج. هما «بتشديد الراء والدال» أي نزل من آخر الليل للاستراحة ، فسار منه فأصبح في منزله ، فرأى سواد إنسان نائم ، أي شخصه ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، أي قوله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فخمرت وجهي بجلبابي ، أي غطيته بالملاءة ، والله ما كلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ووطىء على يدها ، فركبتها ،

____________________________________

قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى اليه في شأني شيء ، قالت : فتشهد ثم قال : يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب ، فاستغفري الله وتوبي اليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب ، تاب الله عليه ، فلما قصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته قلص دمعي ، أي انقطع جريانه حتى ما أحس منه بقطرة وقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قال : قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : وأنا جارية حديثة السن لا اقرأ كثيرا من القرآن فقلت : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث به الناس ، ووقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة ، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم إني لبريئة لتصدقنني ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلى أبا يوسف إذ قال : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي ، وأنا أرجو أن يبرئني الله ، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحي ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيّ اليوم رؤيا يبرئني الله بها ، فو الله ما رام أن برح مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل عليه الوحي ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء أو الشدة والكرب ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان ، أي اللؤلؤ من العرق في يوم شات ، فلما سري أي كشف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله ، فقالت أمي : قومي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلا الله ، فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيات. فلما أنزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه : والله لا أنفق على مسطح بشيء أبدا بعد ما قال في عائشة ، فأنزل الله عزوجل : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) الآية إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال : يا زينب ما علمت ما رأيت؟ فقالت : يا رسول الله احمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا ، قالت : وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع. انتهى.

٣٠

فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، أي من أوغر ، واقفين في مكان وعر من شدة الحر ، فهلك من هلك فيّ ، وكان الذي تولى كبره منهم ، عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، اه قولها ، رواه الشيخان ، قال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي عليه (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) في ذلك (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) أي تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو عبد الله بن أبيّ (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١) هو النار في الآخرة (لَوْ لا) هلا (إِذْ) حين (سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) أي ظن بعضهم ببعض (خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١٢) كذب بين ، فيه التفات عن الخطاب ، أي ظننتم أيها العصبة وقلتم (لَوْ لا) هلا (جاؤُ) أي العصبة (عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) شاهدوه (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣) فيه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ

____________________________________

قوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من العصبة. قوله : (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب من الإثم في الدنيا ، وهو لغير عبد الله بن أبيّ ، فإنهم قد حدوا حد القذف ، وعمي حسان وشلت يده في آخر عمره ، وعمي مسطح أيضا ، أو في الدنيا والآخرة وهو لابن أبيّ ، فعذبه الله بخزي الدنيا والخلود في النار. قوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) لما بين سبحانه وتعالى حال الخائضين في الإفك ، وأنهم اكتسبوا الإثم ، شرع في توبيخهم وزجرهم بتسعة زواجر : الأول هذا ، والثاني (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) الخ ، والثالث (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) الخ ، الرابع (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) الخ ، الخامس (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) الخ ، السادس (يَعِظُكُمُ اللهُ) الخ ، السابع (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) الخ ، الثامن (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) الخ ، التاسع (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ـ إلى ـ (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ولو لا هنا للتوبيخ لدخولها على الماضي ، لأن لو لا لها ثلاثة أحوال : إذا دخلت على ماض كان معناها التوبيخ ، وإذا دخلت على مضارع كان معناها التحضيض ، وإذا دخلت على جملة اسمية كانت امتناعية ، وقد كررت هنا في ست مواضع : الأول والثاني والرابع توبيخية لا جواب لها ، والثالث والخامس والسادس شرطية ، ذكر جوابها في الثالث والسادس ، وحذف في الخامس فتدبر ، وإذا ظرف لظن ، والمعنى كان ينبغي لكم بمجرد سماعه ، أن تحسنوا الظن في أم المؤمنين ، ولا تصروا على الأمر القبيح بعد سماعه. قوله : (بِأَنْفُسِهِمْ) أي بأبناء جنسهم في الايمان والصحبة. قوله : (فيه التفات عن الخطاب) أي إلى الغيبة ، إذ كان مقتضى الظاهر ظننتم ، وحكمته التسجيل عليهم والمبالغة في توبيخهم.

قوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) أي الإفك. قوله : (شاهدوه) أي عاينوا الزنا. قوله : (في حكمه) أي الشرعي لأن مداره على الشهادة والأمر الظاهر ، وهذا جواب عما يقال : إنهم كاذبون عند الله مطلقا ولو أتوا بشهداء ، فأجاب : بأنهم كاذبون باعتبار حكم الشرع ، ولا شك أنهم لو أتوا ببينة معتبرة ، لكان حكم الله أنهم صادقون في الظاهر ، فأراد الله أن يكذبهم ظاهرا وباطنا.

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَوْ لا) امتناعية وجوابها قوله : (لَمَسَّكُمْ) والمعنى

٣١

فِيما أَفَضْتُمْ) أيها العصبة أي خضتم (فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤) في الآخرة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يرويه بعضكم عن بعض ، وحذف من الفعل إحدى التاءين ، وإذ منصوب بمسكم أو بأفضتم (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) لا إثم فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥) في الإثم (وَلَوْ لا) هلا (إِذْ) حين (سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ) ما ينبغي (لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ) هو للتعجب هنا (هذا بُهْتانٌ) كذب (عَظِيمٌ) (١٦) (يَعِظُكُمُ اللهُ) ينهاكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧) تتعظون بذلك (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) في الأمر والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يأمر به وينهى عنه (حَكِيمٌ) (١٨) فيه (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) باللسان (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بنسبتها إليهم وهم العصبة (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بحد القذف (وَالْآخِرَةِ) بالنار لحق الله (وَاللهُ يَعْلَمُ) انتفاءها عنهم (وَأَنْتُمْ) أيها العصبة بما قلتم من الإفك (لا تَعْلَمُونَ) (١٩) وجودها فيهم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها العصبة (وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢٠) بكم لعاجلكم بالعقوبة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي طرق تزيينه (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ) أي المتبع (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي القبيح (وَالْمُنْكَرِ)

____________________________________

امتنع مس العذاب لكم ، لوجود فضل الله ورحمته عليكم. قوله : (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي بسببه وما اسم موصول و (أَفَضْتُمْ) صلته أو مصدرية ، أي بسبب الذي أفضتم فيه أو بسبب إفاضتكم. قوله : (عَذابٌ عَظِيمٌ) أي لغير ابن سلول فإن عذابه محتم.

قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي تتلفظون به باللسان فقط ، دون اعتقاده بالقلب فهم يعتقدون براءتها ، وإنما تلفظهم بالإفك محض حسد وعناد.

قوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ لَوْ لا) توبيخه ، و (إِذْ) ظرف لقلتم ، والمعنى كان الواجب عليكم حين سمعتم هذا الأمر ، أن تقولوا سبحانك وفصل بالظرف بين (لَوْ لا) و (قُلْتُمْ) لأنه يغتفر في الظروف ما لا يغتفر في غيرها. قوله : (هو للتعجب هنا) أي مع التنزيه والمعنى تنزيها لك من انتهاك حرماتك ، فإنه غير لائق بك ولا بأحبابك الذين قلت فيهم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). قوله : (ينهاكم) أشار بذلك إلى أنه ضمن (يَعِظُكُمُ) معنى (ينهاكم) فعداه بعن. قوله : (أَبَداً) أي مدة حياتكم. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي فلا تعودوا لمثله. قوله : (باللسان) أي فالمراد بإشاعتها إشاعة خبرها. قوله : (بنسبتها إليهم) أشار بذلك إلى أن المراد بالذين آمنوا ، خصوص عائشة وصفوان. قوله : (وهم العصبة) تفسير للذين يحبون. قوله : (لحق الله) أي ذنب الإقدام ، وهو محمول على عبد الله بن أبيّ ، وأما غيره فقد تاب وحسنت توبته. قوله : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف على (فَضْلُ اللهِ). قوله : (لعاجلكم بالعقوبة) جواب (لَوْ لا) ، وخبر المبتدأ محذوف ، والتقدير موجودان. قوله : (خُطُواتِ) بضم الطاء وسكونها قراءتان سبعيتان.

٣٢

شرعا باتباعها (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ) أيها العصبة بما قلتم من الإفك (مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ما صلح وطهر من هذا الذنب بالتوبة منه (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) يطهر (مَنْ يَشاءُ) من الذنب بقبول توبته منه (وَاللهُ سَمِيعٌ) بما قلتم (عَلِيمٌ) (٢١) بما قصدتم (وَلا يَأْتَلِ) يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ) أي أصحاب الغنى (مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ) لا (يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) نزلت في أبي بكر حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالته مسكين مهاجر بدري لما خاض في الإفك بعد أن كان ينفق عليه وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) عنهم في ذلك (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ

____________________________________

قوله : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) شرط حذف جوابه تقديره فلا يفلح أبدا ، وقوله : (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) الخ ، تعليل للجواب. قوله : (أي المتبع) هكذا بصيغة اسم المفعول وهو الشيطان ، قوله : (باتباعها) متعلق بيأمر. قوله : (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) هذا يفيد أنهم تابوا وطهروا ، وهو كذلك ، إلا عبد الله بن أبيّ ، فإنه استمر على النفاق حتى هلك كافرا.

قوله : (وَلا يَأْتَلِ لا) ناهية ، والفعل مجزوم بحذف الياء. قوله : (أي أصحاب الغنى) في تفسير الفضل بالغنى نوع تكرار مع قوله : (وَالسَّعَةِ) وحينئذ فالمناسب تفسير (الْفَضْلِ) بالعلم والدين والإحسان ، وكفى به دليلا على فضل الصديق. قوله : (أَنْ) (لا) (يُؤْتُوا) أشار المفسر إلى أن الكلام على تقدير (لا) النافية. قوله : (أُولِي الْقُرْبى) أي القرابة ، وقوله : (وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) معطوف على (أُولِي) فهذه الأوصاف الثلاثة لموصوف واحد وهو مسطح قوله : (حلف أن لا ينفق على مسطح) أي فبعد ذلك تاب وجاء إلى أبي بكر واعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجلس حسان واسمع منه ولا أقول ، فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ، وكفر عن يمينه.

لطيفة : وقع لابن المقري ، أنه وقع منه هفوة ، فقطع والده ما كان يجريه له من النفقة ، فكتب الولد لأبيه :

لا تقطعن عادة بر ولا

تجعل عقاب المرء في رزقه

فإن أمر الإفك من مسطح

يحط قدر النجم من أفقه

وقد جرى منه الذي قد جرى

وعوتب الصديق في حقه

فكتب اليه والده :

قد يمنع المضطر من ميتة

إذا عصى بالسير في طرقه

لأنه يقوى على توبة

توجب إيصالا إلى رزقه

لو لم يتب مسطح من ذنبه

ما عوتب الصديق في حقه

انتهى. قوله : (لما خاض في الأفك) ظرف لقوله : (حلف). قوله : (وَلْيَعْفُوا) أي أولو الفضل. قوله : (وَلْيَصْفَحُوا) أي ليعرضوا عن لومهم. قوله : (ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه) أي وحلف.

٣٣

اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢) للمؤمنين قال أبو بكر بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ) بالزنا (الْمُحْصَناتِ) العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش بأن لا يقع في قلوبهن فعلها (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢٣) (يَوْمَ) ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم (تَشْهَدُ) بالفوقانية والتحتانية (عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) من قول وفعل وهو يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥) حيث حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكون فيه ومنهم عبد الله بن أبيّ. والمحصنات هنا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يذكر في قذفهن توبة ومن ذكر في قذفهن أول السورة التوبة غيرهن. (الْخَبِيثاتُ) من النساء ومن الكلمات (لِلْخَبِيثِينَ) من الناس (وَالْخَبِيثُونَ) من الناس (لِلْخَبِيثاتِ) مما ذكر (وَالطَّيِّباتُ) مما ذكر (لِلطَّيِّبِينَ) من الناس (وَالطَّيِّبُونَ) منهم (لِلطَّيِّباتِ) مما ذكر أي اللائق

____________________________________

أن لا ينزع نفقته منه أبدا ، ومسطح هو ابن اثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف ، وقيل اسمه عوف ، ومسطح لقبه. قوله : (الْغافِلاتِ) (عن الفواحش) أي لسلامة صدورهن ، ونقاء قلوبهن ، واستغراقهن في مشاهدة الله تعالى. قوله : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا) أي بعدوا فيها عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين ، وقوله : (وَالْآخِرَةِ) أي بالعذاب إن لم يتوبوا. قوله : (ناصبة الاستقرار) الخ أي والتقدير وعذاب عظيم كائن لهم يوم تشهد. قوله : (بالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (يَوْمَئِذٍ) معمول ليوفيهم أو ليعلمون. قوله : (جزاءهم الواجب عليهم) أشار بذلك إلى أن المراد بالدين الجزاء لما في الحديث : «كما تدين تدان». قوله : (هُوَ الْحَقُ) أي الثابت الذي لا يقبل الزوال أزلا ولا أبدا. قوله : (ومنهم عبد الله بن أبيّ) يأتي بهذا ليصح قوله : (كانوا يشكون فيه) فالشك من بعضهم ، وأما حسان ومسطح وحمنة فهم مؤمنون لا يترددون في الجزاء. قوله : (أزواج النبي) أي لأن من قذف واحدة منهن فقد قذف الجميع ، لاشتراكهن في العفة والصيانة والنسبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (لم يذكر في قذفهن توبة) أي مثل ما ذكر فيما تقدم في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا). قوله : (ومن ذكر) مبتدأ و (غيرهن) خبره ، وهذا من باب التهويل والتعظيم لأمر الإفك ، وإلا فهو كغيره من سائر المعاصي التي تمحى بالتوبة ، وأما بعد نزول الآيات ، فقد صار قذف عائشة رضي الله عنها بصفوان كفرا ، لمصادمة القرآن العظيم ، فاعتقاد براءتها شرط في صحة الإيمان.

قوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) كلام مستأنف سيق لتأكيد البراءة لعائشة ، وتقبيحا على من تكلم فيها. والمعنى أن المجانسة من دواعي الانضمام ، فالخبيث لا يكاد يألف غير جنسه ، والطيب كذلك ، وهو بمعنى قولهم : وكل إناء بالذي فيه ينضح. قوله : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) الإشارة بذلك لرسول الله وعائشة ، أي فحيث كان رسول الله أطيب الطيبين ، تبين بذلك أن عائشة من أطيب الطيبات. (من الناس ومن الكلمات) هذان قولان في تفسير (الْخَبِيثاتُ) وقوله : (مما ذكر) أي من الناس والكلمات.

٣٤

بالخبيث مثله وبالطيب مثله (أُولئِكَ) الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة وصفوان (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم (لَهُمْ) للطيبين والطيبات (مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦) في الجنة ، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها أنها خلقت طيبة ووعدت مغفرة ورزقا كريما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي

____________________________________

قوله : (أي اللائق بالخبيث مثله) أي من نساء أو كلمات. قوله : (وقد افتخرت عائشة بأشياء) منها أن جبريل عليه‌السلام ، أتى بصورتها في سرقة حرير وقال : هذه زوجتك ، ويروى أنه أتى بصورتها في راحته ، ومنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتزوج بكرا غيرها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرها وفي يومها ، ودفن في بيتها وكان ينزل الوحي عليه وهي معه في اللحاف ، ونزلت براءتها من السماء ، وأنها ابنة الصديق خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلقت طيبة ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما ، وفي القرطبي قال بعض أهل التحقيق : إن يوسف عليه الصلاة والسّلام لما رمي بالفاحشة ، برأه الله على لسان صبي في المهد ، وإن مريم لما رميت بالفحشاء ، برأها الله على لسان ولدها عيسى عليهما‌السلام ، وإن عائشة لما رميت بالفحشاء ، برأها الله بالقول ، فما رضي لها براءة صبي ولا نبي ، حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان ، انتهى.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الخ ، لما ذكر الله أحكام العفاف ، وكان من جملة العفاف ، عدم دخول منازل الغير إلا بإذن أهلها ذكر الاستئذان عقب ذلك. وسبب نزولها أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد ، فيأتي الأب فيدخل علي ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحالة ، فنزلت. قوله : (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) أي غير محل سكنكم ، وحينئذ فقد خرج مالك ذات الدار إذا دخل على مكتريها ، فيجب عليه الاستئذان ، لأنه قد صدق عليه أنه غير بيته. قوله : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) من الاستئناس وهو ضد الاستيحاش ، سمي بذلك لأن المستأذن مستوحش ، فإذا أذن له فقد زال الاستيحاش. قوله : (فيقول الواحد السّلام عليكم أأدخل) أشار بذلك إلى أن السّلام مقدم على الاستئذان ، وهو قول الأكثر والحق التفصيل ، فإن وقع بصره على أحد في البيت قدم السّلام ، وإلا قدم الاستئذان ثم يسلم ، ويكون كل من السّلام والاستئذان ثلاث مرات ، يفصل بين كل مرتين بسكوت يسير ، الأول إعلام ، والثاني للتهيؤ ، والثالث استئذان في الدخول أو الرجوع ، وإذا أتى الباب ، لا يستقبله من تلقاء وجهه ، بل يجيء من جهة ركنه الأيمن أو الأيسر ، وإذا طلب منه التعيين فليعين نفسه بصفة تميزه ، ولا يكتف بقوله أنا مثلا ، لما روي عن جابر بن عبد الله قال : استأذنت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من هذا؟ فقلت : أنا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا أنا ، كأنه كره ذلك لعدم إفادته ، فالواجب أن يفعل الشخص كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أراد الدخول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مشربة فقال : السّلام عليك يا رسول الله ، السّلام عليكم ، أيدخل عمر؟ قوله : (من الدخول بغير استئذان) أي ومن تحية الجاهلية ، حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول : حييتكم صباحا ، حييتكم مساء ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. قوله : (بإدغام التاء الثانية في الذال) أي بعد قلبها دالا فذالا. قوله : (أَحَداً) (يأذن لكم) السالبة تصدق بنفي الموضوع ، فهو صادق بأن لا يكون فيها أحد أصلا ، أو فيها من لا يصلح للإذن ، أو فيها من

٣٥

تستأذنوا (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) فيقول الواحد : السّلام ، عليكم ، أأدخل؟ كما ورد في حديث (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من الدخول بغير استئذان (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧) بإدغام التاء الثانية في الذال خيريته فتعملون به (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يأذن لكم (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ) بعد الاستئذان (ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ) أي الرجوع (أَزْكى) أي خير (لَكُمْ) من القعود على الباب (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدخول بإذن وغير إذن (عَلِيمٌ) (٢٨) فيجازيكم عليه (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ) أي منفعة (لَكُمْ) باستكنان وغيره كبيوت الربط والخانات المسبلة (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) تظهرون (وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩) تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره ، وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم يسلمون على أنفسهم (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) عما لا يحل لهم نظره ، ومن زائدة (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عما لا

____________________________________

يصلح ، لكن لم يأذن. قوله : (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي حتى يأتيكم الإذن ، ولو مع خادم يوثق به. قوله : (هُوَ أَزْكى) أي أطهر للأمن من الرذائل والدناءات.

قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) هذا كالاستثناء من قوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) وسبب نزولها : أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت آية الاستئذان قال : يا رسول الله كيف بالبيوت التي بين مكة والشام على ظهر الطريق والخانات ، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت. قوله : (غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) أي غير معدة لسكنى طائفة مخصوصة ، كالربط والخانات والحمامات والحوانيت ونحوها. قوله : (باستكنان) أي طلب كن يستتر فيه من الحر والبرد ، وقوله : (وغيره) كالبيع والشراء. قوله : (المسبلة) اقتصر عليها ، لأن مورد سؤال أبي بكر في الخانات المسبلة التي بين مكة والشام. قوله : (وسيأتي) أي في آخر السورة في قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي قولوا السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإن الملائكة ترد عليكم ، أي وإن كان بها أهل فسلموا عليهم.

قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) الخ ، شروع في ذكر أحكام تعم المستأذنين وغيرهم. قوله : (يَغُضُّوا) أي يخفضوا. قوله : (ومن زائدة) أي يغضوا أبصارهم ، وحكمة دخول من في غض البصر دون حفظ الفرج ، الاشارة إلى أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج. قوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي لأنه أبعد للريبة ، ولا مفهوم للبصر والفرج ، بل باقي الجوارح كذلك ، وخص البصر والفرج بالذكر ، لأنهما مقدمتان لغيرهما من الجوارح. قوله : (فيجازيهم عليه) أي فالغاض يجازى بالحسنات ، وغيره يجازى بالسيئات.

قوله : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنات ، بغض الأبصار وحفظ الفروج ، وبسط الكلام في شأنهن ، لأن النساء شأنهن التبرج والخيلاء والعجب لما روي : إذا أقبلت المرأة ، جلس إبليس على رأسها فزينها لمن ينظر ، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن ينظر ، وقد اشتملت هذه الآية على خمس وعشرين ضميرا للإناث ، ما بين مرفوع ومجرور ، ولم يوجد لها

٣٦

يحل لهم فعله بها (ذلِكَ أَزْكى) أي خير (لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠) بالأبصار والفروج فيجازيهم عليه (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) عما لا يحل لهن نظره (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) عما لا يحل لهن فعله بها (وَلا يُبْدِينَ) يظهرن (زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين ، والثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة ، ورجح حسما للباب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الخفية وما عدا الوجه والكفين (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) جمع بعل أي زوج (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة فيحرم نظره لغير الأزواج ، وخرج بنسائهن الكافرات فلا يجوز للمسلمات الكشف لهنّ ، وشمل ما ملكت أيمانهن العبيد (أَوِ التَّابِعِينَ) في فضول الطعام (غَيْرِ) بالجر صفة والنصب استثناء (أُولِي الْإِرْبَةِ)

____________________________________

نظير في القرآن في هذا الشأن. قوله : (عما لا يحل لهن فعله بها) أي عن الأمر الذي لا يحل فعله بالفروج ، كأن تمكن المرأة من فرجها غير زوجها نظرا أو فعلا. قوله : (زِينَتَهُنَ) أي موضع زينتهن. قوله : (فيجوز نظره لأجنبي) الخ ، هذا مذهب مالك ، وأحد قولين عند الشافعي. قوله : (حسما للباب) أي سدا للذريعة.

قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَ) أي يلقين خمرهن على موضع جيوبهن ، وهو العنق ، والجيب في الأصل طوق القميص ، وكانت النساء على عادة الجاهلية ، يسدلن خمرهن من خلفهن ، فتبدو نحورهن وقلائدهن من جيوبهن لسعتها ، فأمرن بإرسال خمرهن على جيوبهن سترا لما يبدو منها. قوله : (زِينَتَهُنَ) ، أي موضع زينتهن. قوله : (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) حاصل هذه المستثنيات اثنا عشر نوعا آخرها أو الطفل.

قوله : (أَوْ آبائِهِنَ) أي وإن علوا. قوله : (أَوْ أَبْنائِهِنَ) أي ولو من الرضاع وإن سفلوا. قوله : (أَوْ إِخْوانِهِنَ) جمع أخ كان من نسب أو رضاع. قوله : (أَوْ نِسائِهِنَ) أي نساء جنسهن اللاتي اشتركن. معهن في الايمان ، فيخرج الكافرات. قوله : (فيجوز لهم نظره) أي يجوز للرجال المحارم رؤية ما عدا ما بين السرة والركبة من محارمهم النساء. ويجوز لهن نظر ذلك منهم ، وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك لا يحل للرجال المحارم إلا نظر الوجه والأطراف من النساء المحارم ، وأما النساء فيحل لهن نظر ما عدا ما بين السرة والركبة من الرجال المحارم. قوله : (فلا يجوز للمسلمات الكشف لهن) أي باتفاق مالك والشافعي ، لئلا تصفها الكافرة لأهل دينها فتحصل المفاسد. قوله : (العبيد) أي فيجوز أن يكشفن لهم ، ما عدا ما بين السرة والركبة ، لكن بشرط العفة وعدم الشهوة من الجانبين ، وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك يفرق بين الوغد وغيره ، فالوغد يرى من سيدته الوجه والأطراف ، وغيره كالحر الأجنبي يرى منها الوجه والكفين.

قوله : (أَوِ التَّابِعِينَ) الحق أن المراد بالتابع الشيخ الهرم الذي لا يشتهي النساء ، أو الأبله الذي لا

٣٧

أصحاب الحاجة إلى النساء (مِنَ الرِّجالِ) بأن لم ينتشر ذكر كل (أَوِ الطِّفْلِ) بمعنى الأطفال (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) يطلعوا (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) للجماع فيجوز أن يبدين لهم ما عدا ما بين السرة والركبة (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) من خلخال يتقعقع (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) تنجون من ذلك لقبول التوبة منه ، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) جمع أيم وهي من ليس لها زوج ، بكرا كانت أو ثيبا ، ومن ليس له زوج وهذا في الأحرار والحرائر (وَالصَّالِحِينَ) أي المؤمنين (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) وعباد من جموع عبد (إِنْ يَكُونُوا)

____________________________________

يعرف الأرض من السماء ، ولا الرجل من المرأة. قوله : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) بالكسر الحاجة. قوله : (مِنَ الرِّجالِ) حال من التابعين ، أي فيجوز لمن ذكر نظر ما عدا ما بين السرة والركبة عند الشافعي ، وعند مالك يحل نظر الوجه والأطراف فقط.

قوله : (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) اعلم أن الصبي إما أن لا يبلغ أن يحكي ما رأى ، وهذا غيبته كحضوره ، أو أن يبلغه وليس فيه ثوران شهوة وهذا كالمحرم ، أو يعرف أمر الجماع والشهوة ، وهذا كالبالغ باتفاق مالك والشافعي. قوله : (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي فإن ذلك يورث الرجال ميلا. إليهن ، وهذا من باب سد الباب وتعليم الأحوط ، وإلا فصوت الخلخال مثلا ليس بعورة. قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) هذا حسن اختتام لهذه الآية ، كأن الله يقول : لا تقنطوا من رحمتي ، فمن كان قد وقع منه شيء مما نهيته عنه فليتب ، فإن التوبة فيها الفلاح والظفر بالمقصود. قوله : (تغليب الذكور) أي في قوله : (وَتُوبُوا) الخ.

قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) الخ ، الخطاب للأولياء والسادات ، والإنكاح تزويج الغير. قوله : (جمع أيم) أي بوزن فيعل ، قيل غير مقلوب ، وقيل إن الأصل أيائم فقلب. قوله : (هي من ليس لها زوج) الخ ، أي فلفظ الأيم يطلق على كل من الرجل والمرأة الغير المتزوجين ، سواء سبق لهما تزوج أو لا ، والأمر للوجوب إن خيف الزنا على المرأة أو الرجل ، أو اضطرت المرأة للنفقة ، لكن المرأة يزوجها وليها ، والرجل يتزوج بنفسه ، إن كان رشيدا أو أذن له وليه ، وهذا مذهب مالك والشافعي ، وعند أبي حنيفة تزوج المرأة نفسها ، فإن لم تخف الزنا ، أو لم تضطر المرأة ، كان مباحا عند الشافعي ، ومندوبا عند مالك وأبي حنيفة. واعلم أن النكاح تعتريه الأحكام الأربعة ، فتارة يجب وذلك إذا خاف الزنا ، ولو كان ينفق عليها من حرام ، وتارة يندب إذا كان راغبا فيه ولم يخش الزنا وراجيا النسل ، وتارة يحرم ، كما إذا كان يقطعه عن عبادة واجبة ، أن ينفق عليها من حرام مع كونه لم يخش الزنا ، وتارة يكره كما إذا كان يقطعه عن عبادة مندوبة. قوله : (وهذا في الأحرار) الخ ، أي بقرينة قوله : (وَإِمائِكُمْ). قوله : (أي المؤمنين) أي فالعبيد المؤمنون يزوجون وجوبا ، إن خيف بتركه الزنا ، وهذا عند الشافعي ، وعند مالك لا يجب على السيد تزويج عبده ، ولو خاف العبد الزنا ، وحينئذ فالأمر عنده للندب. قوله : (مِنْ عِبادِكُمْ) أي فيزوجه سيده ولو بحرة ، وقوله : (وَإِمائِكُمْ) أي فيزوج السيد أمته لرقيق وكذا لحر ، بشرط أن لا يجد

٣٨

أي الأحرار (فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ) بالتزوج (مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ) لخلقه (عَلِيمٌ) (٣٢) بهم (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي ما ينكحون به من مهر ونفقة عن الزنا (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ) يوسع عليهم (مِنْ فَضْلِهِ) فينكحون (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) بمعنى المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي أمانة وقدرة على الكسب لأداء مال الكتابة. وصيغتها ، مثلا : كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف ، فإذا أديتهما فأنت حر ، فيقول قبلت (وَآتُوهُمْ) أمر للسادة (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم ، وفي معنى الإيتاء حط شيء مما التزموه (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) أي إمائكم (عَلَى الْبِغاءِ) أي الزنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا عنه ، وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط

____________________________________

للحرائر طولا ، وأن يخشى الزنا ، ومحل الشرطين إن لم يكن عقيما. قوله : (من جموع عبد) أي وله جموع أخر ، كعبيد وأعابد وأعبد ، ونحو ذلك.

قوله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي فإن في فضل الله كفاية عن المال ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «اطلبوا الغنى بالتزوج» ، فالمهم تزوج الصالحين من عباد الله نساء ورجالا ، وإن كانوا فقراء لما في الحديث : «تنكح المرأة لما لها وجمالها ودينها ، فعليك بذات الدين تربت يداك». قوله : (وَاللهُ واسِعٌ) أي ذو العطايا العظيمة التي لا تنفد. قوله : (عَلِيمٌ) (بهم) أي بحالهم فيغنيهم. قوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي ليجتهدوا في طلب العفة وتحصيل أسبابها ، وذلك يكون بالتباعد عن الغلمان والنساء ، ويكون بملازمة الصوم والرياضة ، لما في الحديث : «من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ، ويكون بترك استعمال العقاقير التي تقوي الشهوة واستعمال ضدها». قوله : (أي ما ينكحون به) أي فالمصدر بمعنى اسم المفعول ككتاب بمعنى مكتوب. قوله : (عن الزنا) قدرة إشارة إلى أن متعلق يستعفف محذوف.

قوله : (وَالَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ و (يَبْتَغُونَ) صلته و (الْكِتابَ) معمول ليبتغون ، وقوله : (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) حال من فاعل (يَبْتَغُونَ) ، وقوله : (فَكاتِبُوهُمْ) الجملة خبر ، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط. قوله : (بمعنى المكاتبة) أي وهي مفاعلة ، لأن السيد كتب على نفسه العتق ، والعبد كتب على نفسه النجوم. قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) الأمر للندب. قوله : (أي أمانة) أي في دينه. قوله : (وقدرة على الكسب) أي بحرفة وغيرها. قوله : (وَآتُوهُمْ) الأمر قيل للندب وقيل للوجوب. قوله : (حط شيء) أي وهو أفضل من الإعطاء ، لأنه قد يصرفه في غير جهة الكتابة ، والأفضل أن يكون ذلك الحط في آخر نجم.

قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) جمع فتاة ، ولا مفهوم للإكراه ، بل الرضا بالزنا من الكبائر ، وإنما عبر به لأنه سبب النزول. قوله : (عَلَى الْبِغاءِ) هو مصدر بغت المرأة تبغي بغاء ، أي زنت ، وهو مختص بزنا النساء. قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لا مفهوم له ، بل يحرم الإكراه على الزنا وإن لم يردن التحصن ،

٣٩

(لِتَبْتَغُوا) بالإكراه (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) نزلت في عبد الله بن أبيّ كان يكره جواريه على الكسب بالزنا (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) لهن (رَحِيمٌ) (٣٣) بهن (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء وكسرها في هذه السورة بين فيها ما ذكر أو بينة (وَمَثَلاً) خبرا عجيبا وهو خبر عائشة (مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من جنس أمثالهم ، أي أخبارهم العجيبة كخبر يوسف ومريم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤) في قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) الخ ، (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) الخ ، (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) الخ ، (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا) الخ ، وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منورهما بالشمس والقمر (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفته في قلب المؤمن (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي

____________________________________

وإنما نص على ذلك ، لأنه الواقع من عبد الله بن أبي الذي نزلت في حقه الآية. قوله : (محل الإكراه) أي فلا يتحقق الإكراه إلا عند تلك الارادة ، وأما عند ميلهن له فذلك باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ ، فالتقييد لأجل صحة قوله : (تُكْرِهُوا). قوله : (كان يكره جواريه) أي وكن ستا فشكا ثنتان منهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية. قوله : (غَفُورٌ) (لهن) أي ما وقع منهن ، لأن المكره وإن لم يكن آثما ، فلربما يحصل منه بعض ميل ، والإكراه المبيح للزنا هو خوف القتل أو الضرب المؤدي له أو لتلف عضو ، وأما القتل فلا يباح تخوف القتل ، بل يسلم نفسه ولا يقتل غيره ، وأما ترك الصلاة مثلا ، فالإكراه عليه يحصل بالضرب ونحوه. قوله : (بفتح الياء وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بين فيها ما ذكر) راجع للفتح ، وقوله : (أو بينة) راجع للكسر. قوله : (وَمَثَلاً) عطف على آيات. قوله : (أي من جنس أمثالهم) أشار بذلك إلى أن في الآية حذف مضافين ، والأصل (وَمَثَلاً) من جنس أمثال الذين خلوا.

قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعلم أن حقيقة النور كيفية تدركها الباصرة أو لا ، وتدرك بواسطتها سائر المبصرات ، كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لها ، وهو بهذا المعنى مستحيل إطلاقه على الله ، وحينئذ فيجاب عن الآية بأن معنى قوله : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالق النور في السّماوات بالشمس والقمر والنجوم والكواكب والعرش والملائكة ، وفي الأرض بالمصابيح والسرج والشموع والأنبياء والعلماء والصالحين ، وأفاد هذا المفسر بقوله : (أي منورهما) وقيل معنى (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مظهرهما ، لأن النور كما يطلق على الكيفية ، يطلق على الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، وهو بهذا المعنى يصح إطلاقه على الله تعالى ، فهو سبحانه وتعالى نور بمعنى مظهر للأشياء من العدم إلى الوجود ، قال ابن عطاء الله في الحكم : الكون كله ظلمة ، أناره ظهور الحق فيه ، فوجود العالم بوجود الله ، إذ لو لا وجود الله ، ما وجد شيء من العالم.

قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) مبتدأ ، وقوله : (كَمِشْكاةٍ) خبر ، والمثل بمعنى الصفة ، والكلام على حذف مضاف ، أي كمثل مشكاة. قوله : (أي صفته في قلب المؤمن) أشار بذلك إلى أن في الكلام شبه استخدام ، حيث ذكر النور أولا بمعنى ، ثم ذكره ثانيا بمعنى آخر ، فتحصل أنه فسر النور أولا بالحسيّ ، وثانيا بالمعنويّ. قوله : (كَمِشْكاةٍ) اختلف في هذه اللفظة ، قيل عربية وقيل حبشية معربة. قوله : (فِي

٤٠