حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) يسأله من وعد به ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، أو تسأله لهم الملائكة ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) بالنون والتحتانية (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره من الملائكة وعيسى وعزير والجن (فَيَقُولُ) تعالى بالتحتانية والنون للمعبودين إثباتا للحجة على العابدين (أَأَنْتُمْ) بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية ألفا وتسهيلها وإدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه (أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) أوقعتموهم في الضلال بأمركم إياهم بعبادتكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧) الحق بأنفسهم (قالُوا سُبْحانَكَ) تنزيها لك عما لا يليق بك (ما كانَ يَنْبَغِي) يستقيم (لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ) أي غيرك (مِنْ أَوْلِياءَ) مفعول أول ، ومن

____________________________________

قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي من النعم اللائقة بهم ، وأما ما لا يليق بهم فلا يخطر ببالهم ، فكل إنسان يرضيه الله بما أعطاه ، ولا يلتفت إلى عطاء من هو أشرف منه ، ولا يخطر بباله سؤاله ، وبهذا اندفع ما قيل : إن مقتضى الآية ، أن الإنسان يتمنى مراتب الأنبياء في الجنة ويعطاها. قوله : (حال) أي من الهاء في لهم ، أو من الواو في (يَشاؤُنَ). قوله : (كانَ) (وعدهم ما ذكر) أشار بذلك إلى أن اسم (كانَ) يعود على الوعد المفهوم من قوله : (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ). قوله : (رَبَّنا وَآتِنا) أي كما قال تعالى حكاية عن دعائهم لأنفسهم وقوله : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) أي كما قال تعالى حكاية عن دعاء الملائكة للمؤمنين.

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) ظرف مفعول لمحذوف تقديره اذكر ، والضمير في نحشرهم للعابدين لغير الله. قوله : (بالنون) أي مع النون في نقول أو الياء ، وقوله : (والتحتانية) أي مع التحتانية في يقول ، فالقراءات ثلاث سبعيات ، خلافا لما يوهمه المفسر من أنها أربع. قوله : (وَما يَعْبُدُونَ) معطوف على مفعول (يَحْشُرُهُمْ) ، وأوقع (ما) على العقلاء وهو قليل ، وهذا ما يفيده المفسر بالتمثيل ، ويصح أن يراد من (ما) العاقل وغيره كالأصنام ، وغلب غير العاقل على العقال لكثرته. قوله : (إثباتا للحجة على العابدين) أي وتبكيتا لهم ، وهو جواب عما يقال : إن الله عالم في الأزل بما ذكر ، فما فائدة هذا السؤال. قوله : (بتحقيق الهمزتين) أي مع ادخال ألف بينهما وتركه ، فالتحقيق فيه قراءتان ، والتسهيل كذلك ، والإبدال واحدة ، فتكون خمسا ، خلافا لما يوهمه المفسر من أنها أربع وكلها سبعية ، إن قلت على قراءة الإبدال ، يلزم عليه التقاء الساكنين على غير حده وهو ممنوع. أجيب : بأن محل منعه ما لم يكن مسموعا ، وهذا مسموع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (هؤُلاءِ) نعت لعبادي ، أو عطف بيان أو بدل منه.

قوله : (قالُوا) أي المعبودين ، وهو كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قالوا في الجواب. قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) أي أتباعا يعبدوننا ، ويصح أن يراد بالأولياء المتبوعون أي معبودون لنا ، لأن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ، كالمولى يطلق على الأعلى والأسفل ، وكلام المفسر يفيد المعنى الثاني ، إذا علمت ذلك فالتبري حاصل في هذه الآية من الأولياء ، بمعنى المعبودين أو العابدين لغير الله ، وأما بمعنى من تولوا خدمة الله ، أو من تولاهم الله ، فلم يكلهم لغيره ، فقد اتخذهم الله وأمر بالتعلق بأذيالهم. قوله : (مفعول أول) أي لنتخذ قوله : (وما قبله) أي وهو قوله : (مِنْ دُونِكَ). قوله : (فكيف نأمر بعبادتنا) أي بعبادتهم إيانا ، فنحن لم نضلهم.

٦١

زائدة لتأكيد النفي ، وما قبله الثاني فكيف نأمر بعبادتنا (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨) هلكى ، قال تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) أي كذب المعبودون العابدين (بِما تَقُولُونَ) بالفوقانية أنهم آلهة (فَما تَسْتَطِيعُونَ) بالتحتانية والفوقانية أي لا هم ولا أنتم (صَرْفاً) دفعا للعذاب (وَلا نَصْراً) منعا لكم منه (وَمَنْ يَظْلِمْ) يشرك (مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩) شديدا في الآخرة (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل لهم مثل ما قيل لك (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) بلية ابتلي الغني بالفقير

____________________________________

قوله : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) الخ ، استدراك لرفع ما يتوهم ثبوته ، والمعنى أنت أنعمت عليهم بنعم عظيمة ، فجعلوا ذلك سببا للضلال ، وليس لنا مدخل في ذلك ، وفي هذا الاستدراك رجوع للحقيقة. قوله : (تركوا الموعظة) أي غفلوا عن التذكر في آياتك ، فالنسيان معناه الترك. قوله : (بُوراً) يحتمل أنه جمع بائرا ، ومصدر من البوار وهو الهلاك. قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) خطاب للعابدين فالواو واقعة على المعبودين ، والكاف على العابدين ، وقوله : (بِما تَقُولُونَ) أي فيما تقولون ، وقوله : (بالفوقانية) أي باتفاق العشرة ، وقوله : (إنهم آلهة) مقول القول. قوله : (أي لا هم) راجع للتحتانية ، وقوله : (ولا أنتم) راجع للفوقانية.

قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أي أيها المكلفون من العابدين والمعبودين ، فظلم العابد بعبادته غير الله ، وظلم المعبود برضاه بذلك. قوله : (نُذِقْهُ) بنون العظمة في قراءة العامة. قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) الخ ، المقصود من هذه الآية ، تسليته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرد على المشركين حيث قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) الخ. قوله : (إِلَّا إِنَّهُمْ) الجملة حالية ، وإن مكسورة باتفاق القراء ، واللام للابتداء زحلقت للخبر. والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال من الأحوال ، إلا في حالة أكلهم الطعام ، ومشيهم في الأسواق ، أي فهذه عادتهم ودأبهم ، فإن هجوك بذلك فقد هجوا جميع الأنبياء فلا تحزن.

قوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، ليظهر الصابر من غيره. قوله : (ابتلي الغني بالفقير) الخ ، فالغني ممتحن بالفقير يحسده ، والفقير ممتحن بالغني يسخر به ويحتقره ، والصحيح ممتحن بالمريض. يقول : لم لم نعاف ، ونصير مثل هذا ، والمريض ممتحن بالصحيح يتكبر عليه ويغتر بصحته ، والشريف كالأنبياء والعلماء والصلحاء ، ممتحن بالوضيع يحسده على ما أعطاه الله وهكذا ، والمخلص من ذلك الصبر على أحكام الله والرضا بها ، لأن الواجب على الإنسان أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه ، ولا ينظر إلى من هو فوقه ، لئلا يزدري نعمة الله عليه ، وفي أمور الآخرة إلى من هو فوقه ، ليصرف نفسه فيرجع عليها باللوم والندم ، ومن هنا ينبغي صحبة الصالحين والمساكين ومرافقتهم ليقتدى بهم. قوله : (يقول الثاني) أي الفقير والمريض والوضيع ، وقوله : (في كل) أي من الأقسام الثلاثة ، وبالجملة فالفتنة أن يحسد المعافى المبتلى ، والصبر أن يحبس كل

٦٢

والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع يقول الثاني في كل ما لي لا أكون كالأول في كل (أَتَصْبِرُونَ) على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم؟ استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) بمن يصبر وبمن يجزع (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) لا يخافون البعث (لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فكانوا رسلا إلينا (أَوْ نَرى رَبَّنا) فنخبر بأن محمدا رسوله ، قال تعالى (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) تكبروا (فِي) شأن (أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا) طغوا (عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١) بطلبهم رؤية الله تعالى في الدنيا ، وعتوا بالواو على أصله بخلاف عتيا بالإبدال في مريم (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) في جملة الخلائق يوم القيامة ، ونصبه باذكر مقدرا (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين

____________________________________

منهما نفسه ، هذا عن البطر ، وهذا عن الضجر ، عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للجاهل من العالم ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للمملوك من المالك ، وويل للشديد من الضعيف ، وويل للضعيف من الشديد ، وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان ، بعضكم لبعض فتنة» ، وهو قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ). قوله : (استفهام بمعنى الأمر) هذا أحد وجهين ، والوجه الآخر أن الاستفهام على حقيقته ، أي لينظر أيحصل منكم صبر أم لا ، فيجازيكم على ذلك.

قوله : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) في ذلك تأنيس للعبد ، أي إن الله بصير ومطلع على من يصبر ومن يجزع ، فلا تنبغي الشكوى للخلق ، ولا إظهار ما في القلوب ، بل إن وجد الشخص في نفسه صبرا فليشكر الله ، وإن وجد غير ذلك ، فعليه أن يرجع إلى ربه بالندم والتوبة. قوله : (لا يخافون البعث) أي لأنهم منكرون له. فهم يزعمون أنهم آمنون منه. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن (لَوْ لا) تحضيضية. قوله : (فكانوا رسلا الينا) أي بالشرائع ونحوها بدل محمد.

قوله : (أَوْ نَرى رَبَّنا) أي يكشف الحجاب لنا فنراه عيانا. قوله : (فنخبر) بالبناء للمفعول أي يخبرنا هو بأن محمدا رسوله. قوله : (قال تعالى) أي ردا عليهم مقالتهم. قوله : (تكبروا) أي حيث لم يرضوا بأن يكون رسولهم من البشر ، بل طمعوا أن يكون من الملائكة. قوله : (فِي) (شأن) (أَنْفُسِهِمْ) أي أنهم عدوا أنفسهم كبيرة لأمر قام بها. قوله : (بطلبهم رؤية الله) متعلق بعتوا والباء للسببية ، ولم يذكر متعلق (اسْتَكْبَرُوا) وقد علمته ، وفي الآية لف ونشر مرتب ، فالاستكبار راجع لطلبهم نزول الملائكة ، والعتق راجع لطلبهم رؤية الله. قوله : (على أصله) أي من غير إبدال. قوله : (بالإبدال في مريم) أي لمناسبة رؤوس الآي ، وأصله عتووا ، كسرت التاء فوقعت الواو ساكنة إثر كسرة قلبت ياء ، ثم اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.

قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) أي المتولين عذابهم. قوله : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) هذه الجملة مقولة لقول محذوف حال من الملائكة ، تقديره قائلين لهم لا بشرى. قوله : (فلهم البشرى بالجنة) أي لقوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). قوله : (وَيَقُولُونَ) معطوف على (يَرَوْنَ) فالضمير للكفار. قوله : (حِجْراً مَحْجُوراً) العامة على كسر الحاء ، وقرىء شذوذا بفتحها وضمها.

٦٣

بخلاف المؤمنين فلهم البشرى بالجنة (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٢) على عادتهم في الدنيا إذا نزلت بهم شدة أي عوذا معاذا يستعيذون من الملائكة ، قال تعالى (وَقَدِمْنا) عمدنا (إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) من الخير كصدقة وصلة رحم وقرى ضيف وإغاثة ملهوف في الدنيا (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) هو ما يرى في الكوى التي عليها الشمس كالغبار المفرق أي مثله في عدم النفع به إذ لا ثواب فيه لعدم شرطه ويجازون عليه في الدنيا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) من الكافرين في الدنيا (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) منهم أي موضع قائلة فيها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر ، وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار كما ورد في حديث (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) أي كل سماء (بِالْغَمامِ) أي معه ، وهو غيم أبيض (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) من كل سماء

____________________________________

قوله : (يستعيذون من الملائكة) أي يطلبون من الله إنقاذهم منهم بهذه العبارة. قوله : (عمدنا) أي تعلقت إرادتنا ، ودفع بذلك ما قيل إن القدوم من صفات الحوادث ، وهو محال على الله تعالى ، ففسره بلازمه وهو القصد ، والمراد من القصد في حقه تعالى ، تعلق إرادته بالشيء. قوله : (وقرى ضيف) بكسر القاف مع القصر ، أو فتحها مع المد ، ومعناه الإحسان اليه. قوله : (في الدنيا) متعلق بعملوا. قوله : (في الكوى) جمع كوة وهي الطاقة في الحائط ، بفتح الكاف وضمها. قوله : (لعدم شرطه) أي وهو الإيمان. قوله : (ويجازون عليه في الدنيا) أي بإعطاء المال والولد والعافية وغير ذلك من ملاذ الدنيا ، فأعمال الكافر الحسنة التي لا تتوقف على نية ، يعطى جزاءها في الدنيا ، وأما ما تتوقف على نية ، فلا يجد لها جزاء أصلا لعدم صحتها.

قوله : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (من الكافرين) أي أن مستقر المؤمنين في الجنة ، خير من مستقر الكافرين في الدنيا ، فأفعل التفضيل على بابه ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله : (في الدنيا) فهو جواب عما يقال : إن مستقر أهل النار لا خير فيه ، ويصح أن يراد استقرار كل في الآخرة ، والتفضيل ليس مرادا ، بل المقصود التقريع والتوبيخ للكفار. قوله : (من ذلك) أي من قوله : (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قوله : (كما ورد في الحديث) قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة ، حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله تعالى قال : (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) والجنة لا نوم فيها ، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس.

قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ يَوْمَ) ظرف معمول لمحذوف تقديره اذكر كما قاله المفسر. قوله : (أي كل سماء) أشار إلى أن أل في السماء استغراقية. قوله : (أي معه) أشار بذلك إلى أن الباء بمعنى مع ، ويصح أن تكون للسببية أو للملابسة ، أو بمعنى عن. قوله : (وهو غيم أبيض) أي سحاب فوق السماوات السبع ، ثخنه كثخن السماوات السبع ، وثقله كثقلها ، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله ، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض ، وفيه ملائكة كل سماء ، فينزل أولا ملائكة سماء الدنيا ، وهم مثل الأرض عشر مرات ، ثم ملائكة السماء الثانية ، وهم مثلهم عشرين مرة وهكذا ، وإذ نزل ملائكة السماء الدنيا ، اصطفوا حول العالم المجموع في الحشر صفا ، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية ، اصطفوا خلف هذا الصف

٦٤

(تَنْزِيلاً) (٢٥) هو يوم القيامة ، ونصبه باذكر مقدرا ، وفي قراءة بتشديد شين تشقق بإدغام التاء الثانية في الأصل ، وفي أخرى وننزل بنونين الثانية ساكنة وضم اللام ونصب الملائكة (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) لا يشركه فيه أحد (وَكانَ) اليوم (يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦) بخلاف المؤمنين (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) المشرك عقبة بن أبي معيط كان نطق بالشهادتين ثم رجع إرضاء لأبي ابن خلف (عَلى يَدَيْهِ) ندما وتحسرا في يوم القيامة (يَقُولُ يا) للتنبيه (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ

____________________________________

صفا آخر ، وهكذا حتى تصير الصفوف سبعة ، كلهم يحرسون أهل المحشر من الفرار ، ويطردون عنهم النار ، وتقدم بسط ذلك في سورة إبراهيم عند قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) الخ ، قوله : (ونصبه باذكر مقدرا) أي وهو معطوف على (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) وكذا قوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ). قوله : (في الأصل) أي قبل قلبها شينا وتسكينها وإدغامها في الشين. قوله : (وفي أخرى وننزل بنونين) الخ ، هذه القراءة إنما تأتي عند تشديد الشين ، فتحصل أن القراءات ثلاث سبعيات ، فعند تشديد الشين يجوز في ننزل القراءتان ، وعند التخفيف يجوز في ننزل قراءة واحدة ، وهي كونه ماضيا مبنيا للمفعول ، خلافا لما يوهمه المفسر من أنها أربع قراءات.

قوله : (الْمُلْكُ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرف له ، و (الْحَقُ) نعت له ، و (لِلرَّحْمنِ) خبره. والمعنى أن الملك يوم القيامة لله وحده ، وحكمة التقييد بهذا اليوم ، وإن كان الملك لله في كل زمن ؛ أن ثبوت الملك له خاصة في ذلك اليوم ، فليس لأحد ملك ظاهر أبدا ، وأما فيما عداه من أيام الدنيا ، فيكون للخلق تصرف صوري ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله : (لا يشركه فيه أحد). قوله : (بخلاف المؤمنين) أي فليس عليهم عسيرا لما ورد : أنه يهون عليهم حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة.

قوله : (وَيَوْمَ) منصوب باذكر ، أو معطوف على (يَوْمَ يَرَوْنَ) كما تقدم. قوله : (يَعَضُّ الظَّالِمُ) هو من باب تعب ونفع. والمعنى أن الكافر حين يرى النار ويسمع تغيظها وزفيرها يعض على يديه ، قال عطاء : يأكل الظالم يديه حتى يأكل مرفقيه ، ثم ينبتان ، ثم يأكلهما ، وهكذا كلما نبتت يداه يأكلهما. قوله : (عقبة بن أبي معيط) أشار المفسر بذلك إلى أن الآية نزلت في ظالم خاص ، ويقاس عليه كل ظالم ، وهو أحد قولين ، وقيل نزلت في الظالمين عموما. قوله : (كان نطق بالشهادتين) الخ ، وذلك أنه صنع طعاما ودعا الناس اليه ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما قدم الطعام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بآكل طعامك ، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ، ففعل ، فأكل رسول الله من طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبي ابن خلف ، فلما أخبر بذلك قال له : يا عقبة صبأت؟ قال : لا ، ولكن دخل علي رجل ، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، فقال : ما أنا راض عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ، ففعل عقبة ، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أراك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فأسر يوم بدر ، فأمر عليا فقتله ، وطعن النبي أبيا بأحد في المبازر ، فرجع إلى مكة ومات ، وحكم الآية عام في كل صاحبين اجتمعا على معصية الله تعالى لما روي : «يحشر المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل».

٦٥

الرَّسُولِ) محمد (سَبِيلاً) (٢٧) طريقا إلى الهدى (يا وَيْلَتى) ألفه عوض عن ياء الإضافة أي ويلتي ومعناه هلكتي (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً) أي أبيا (خَلِيلاً) (٢٨) (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي القرآن (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) بأن ردني عن الإيمان به قال تعالى (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ) الكافر (خَذُولاً) (٢٩) بأن يتركه ويتبرأ منه عند البلاء (وَقالَ الرَّسُولُ) محمد (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) قريشا (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (٣٠) متروكا قال تعالى (وَكَذلِكَ) كما جعلنا لك عدوا من مشركي قومك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍ) قبلك (عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) المشركين فاصبر كما صبروا (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) لك (وَنَصِيراً) (٣١) ناصرا لك على أعدائك (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا) هلا (نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) كالتوراة والإنجيل والزبور ، قال تعالى نزلناه (كَذلِكَ) أي متفرقا (لِنُثَبِّتَ

____________________________________

قوله : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي) الجملة حالية من فاعل (يَعَضُ). قوله : (للتنبيه) أي وليست للنداء ، لأن المنادى شرطه أن يكون اسما ، وليت حرف تمن أو للنداء ، والمنادى محذوف أي يا قوم. قوله : (عوض عن ياء الاضافة) أي وأصله ويلتي بكسر التاء وفتح الياء ، فتحت التاء فتحركت ، وانفتح ما قبلها قلبت ألفا ، فيقال في إعرابه ويلتا مضاف ، والألف مضاف اليه في محل جر ، وليس لنا ألف في محل جر ، إلا ما كانت عوضا عن ياء المتكلم. قوله : (لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) فلان كناية عن علم من يعقل من الذكور ، وفلانة عن علم من يعقل من الإناث. قوله : (لَقَدْ أَضَلَّنِي) علة لتمنيه ، وأكده باللام القسمية ، إظهارا لندمه وتحسره. قوله : (أي القرآن) أي وقيل كلمة الشهادة. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ) الخ ، جملة مستأنفة من كلامه تعالى ، وكلام الظالم تم عند قوله : (جاءَنِي). قوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ) أي هو كل عات متمرد صد عن سبيل الله من الجن والإنس. قوله : (بأن يتركه) أي يترك نصره.

قوله : (وَقالَ الرَّسُولُ) عطف على قوله : (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه ، وبيان ما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال ، وهذا القول قيل صدر منه في الدنيا ، وعليه يحمل قول المفسر (فاصبر كما صبروا) وقيل سيقع منه في الآخرة حال إقامة الحجة عليهم ، ولذا ورد أنه يقول حين يشاهد نزول العذاب بهم سحقا. قوله : (مَهْجُوراً) أي فأعرضوا عنه ولم يؤمنوا به ، فهذه الآية وردت في الكفار المعرضين عن القرآن الذين لم يؤمنوا به ، لا فيمن حفظه من المؤمنين ثم نسيه ، وإن كان يعاتب عليه في الآخرة لما ورد : «من تعلم القرآن وعلق مصحفه ، لم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا ، اقض بيني وبينه».

قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) الخ ، شروع في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى كما جعلنا قومك يعادونك ويكذبونك ، جعلنا لكل نبي عدوا. قوله : (بِرَبِّكَ) الباء زائدة في الفاعل. قوله : (هادِياً) أي موصلا لك إلى الطريق القويم. قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، حكاية عن بعض قبائح كفار مكة ، وشبههم التي تتعلق بالقرآن ، ولما كانت تلك الشبهة ، ربما تدخل على بعض الضعفاء ، اعتنى الله بردها والتوبيخ لمن أبداها. قوله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ نُزِّلَ) بمعنى أنزل ، لأن نزل بالتشديد معناه الإنزال

٦٦

بِهِ فُؤادَكَ) نقوي قلبك (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) أي أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لتيسر فهمه وحفظه (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) في إبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الدافع له (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣) بيانا هم (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي يساقون (إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) هو جهنم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤) أخطأ طريقا من غيرهم وهو كفرهم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة

____________________________________

مفرقا ، وأنزل معناه الإنزال جملة ، فلو لم يجعل بمعنى أنزل لناقضه. قوله : (جُمْلَةً) يؤيده قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) حيث عبر بأنزلنا دون نزلنا ، لأن المراد نزوله جملة في سماء الدنيا. قوله : (قال تعالى) أي ردا لتلك الشبهة بأمور ثلاثة ، مقتضيا لنزوله مفرقا ، الأول تثبيت فؤاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الثاني ترتيله ليسهل حفظه ، الثالث قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً). قوله : (نزلناه) (كَذلِكَ) أشار بذلك إلى أن قوله : (كَذلِكَ) نعت لمصدر محذوف ، والمعنى نزلناه تنزيلا مثل ذلك التنزيل.

قوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) علة للمحذوف الذي قدره المفسر ، والمعنى أنزلناه مفرقا ليتقوى قلبك على تلقيه ، فلا يحصل لك منه ثقل ، لأن القرآن في نفسه ثقيل ، سيما على من لم يقرأ ولم يكتب ، قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ولذك لما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اقرأ) فتر الوحي ثلاث سنين ليشتاق للتلقي ، فإن الشيء إذا جاء على شوق كان أثبت.

قوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي فرقناه آية بعد آية ، وشيئا بعد شيء ، في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة. قوله : (لتيسر فهمه وحفظه) أي لك ولأمتك عن ظهر قلب ، وهذه عطية لهذه الأمة المحمدية لم يعطها غيرهم ، ولذا ورد : «وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم» ومن هنا كان تعليم القرآن بالتدريج سيما للأطفال ، ليثبت في قلوبهم ، واغتفر التنكيس في تعليمه ليسهل حفظه ، فإن الطفل إذا رأى السورة قصيرة ، قوي على حفظها ونشط لما بعدها. قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي سؤال عجيب ، يريدون به القدح في نبوتك.

قوله : (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) استثناء مفرغ من عموم الأحوال كأنه قيل : لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال ، إلا في حال إتياننا اليك بالحق ، وبما هو أحسن بيانا له ، والمعنى كلما أوردوا شبهة ، أو أتوا بسؤال عجيب ، أجبنا عنه بجواب حسن ، يرده ويدفعه من غير كلفة عليك فيه ، فلو نزل القرآن جملة ، لكان النبي هو الذي يبحث في القرآن عن رد تلك الشبهة ، كالعالم الذي يكشف في الكتب عن جواب المسائل التي يسأل عنها ، فيكون الأمر موكولا له ، فتكون الكلفة عليه ، وما كان موكولا إلى الله ، كان أتم مما هو موكول إلى العبد ، وفيه قمع للمعاندين. قوله : (وَأَحْسَنَ) معطوف على الحق ، فهو مجرور بالفتحة للوصفية ووزن الفعل. قوله : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : (هم). قوله : (أي يساقون) أي يسحبون مقلوبين يطؤون الأرض برؤوسهم ووجوههم ، وترتفع أقدامهم بقدرة الله تعالى. قوله : (من غيرهم) متعلق بكل من (شَرٌّ) و (أَضَلُ) ، والمراد بغيرهم باقي الكفار ، والمعنى أن من عانده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو في أسوأ الأحوال وأشرها في الآخرة. قوله : (وهو كفرهم) الضمير عائد على السبيل.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) شروع في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكائد قومه ، بذكر بعض قصص

٦٧

(وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) (٣٥) معينا (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي القبط فرعون وقومه ، فذهبا إليهم بالرسالة فكذبوهما (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) (٣٦) أهلكناهم إهلاكا (وَ) اذكر (قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) بتكذيبهم نوحا لطول لبثه فيهم فكأنه رسل ، أو لأن تكذيبه تكذيب لباقي الرسل لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد (أَغْرَقْناهُمْ) جواب لما (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ) بعدهم (آيَةً) عبرة (وَأَعْتَدْنا) في الآخرة (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين (عَذاباً أَلِيماً) (٣٧) مؤلما سوى ما يحل بهم في الدنيا (وَ) اذكر (عاداً) قوم هود (وَثَمُودَ) قوم صالح (وَأَصْحابَ الرَّسِ) اسم بئر ونبيهم قيل شعب وقيل غيره كانوا قعودا حولها فانهارت بهم وبمنازلهم (وَقُرُوناً)

____________________________________

الأنبياء على سبيل الإجمال ، والمعنى لا تحزن يا محمد ، فإن من خالفك وعاندك ، يحل به الدمار ، كما حل بالمخالف من الأمم المتقدمة. قوله : (وَجَعَلْنا مَعَهُ) معطوف على (آتَيْنا) والواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا ، فإن إتيان موسى التوراة ، كان بعد رسالة هارون ، وهلاك فرعون وقومه ، ويمكن أن يجاب عن الآية ، بأن المراد بقوله : (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) قدرنا له أن يأتيه في علمنا ، فهو إخبار عما سيحصل ، فالماضي بالنسبة لما سبق في علم الله. قوله : (أَخاهُ) مفعول أول لجعلنا ، و (هارُونَ) بدل منه ، و (وَزِيراً) مفعول ثان لجعلنا هارون معينا لموسى ، بوحي مثاله في دعوى القوم إلى التوحيد وإعلاء الكلمة ، فهو نبي ورسول بما جاء به موسى ، بخلاف وزارة علي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المستفادة من قوله عليه الصلاة والسّلام له : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» فالمراد منها مطلق الإعانة لا المشاركة في الاتصاف بالرسالة ، فإن من أثبتها لعلي فقد كفر. قوله : (بِآياتِنا) أي أدلة توحيدنا لا خصوص التسع.

قوله : (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) عطف على محذوف قدره المفسر بقوله : (فذهبا) الخ. قوله : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ لَمَّا) شرطية ، وجوابها قوله : (أَغْرَقْناهُمْ) كما قال المفسر. قوله : (لطول لبثه) دفع بذلك ما يقال : لم جمع الرسل مع أنه رسول واحد وهو نوح؟ فأجاب بجوابين : الأول أنه جمعه لطول مدته في قومه ، فكأنه رسل متعددة. الثاني أن من كذب رسولا ، فقد كذب بالرسل. قوله : (وَجَعَلْناهُمْ) أي جعلنا هلاكهم وما وقع منهم. قوله : (لِلظَّالِمِينَ) وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلا عليهم بوصف الظلم. قوله : (سوى ما يحل) أي ينزل بهم ، وهو بهذا المعنى بضم الحاء وكسرها ، بخلاف سائر معانيه ، فهو بالكسر لا غير.

قوله : (وَثَمُودَ) بالصرف على معنى الحي ، وتركه على معنى القبيلة ، قراءتان سبعيتان. قوله : (اسم بئر) اختلف هل هي اسم البئر التي لم تطو ، أو للبئر مطلقا ، وما قاله المفسر أحد أقوال في الرس ، وقيل هو قرية باليمن ، كان فيها بقايا ثمود ، فبعث اليهم نبي فقتلوه فهلكوا ، وقيل الأخدود ، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ، ابتلاهم الله بطير عظيم فيه من كل لون ، فسموه العنقاء لطول عنقها ، وكانت تسكن الجبال وتخطف صبيانهم ، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ، ثم إنهم قتلوه فأهلكوا. قوله : (وقيل غيره) أي وهو حنظلة. قوله : (فانهارت) أي انخسفت بهم.

٦٨

أقواما (بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) (٣٨) أي بين عاد وأصحاب الرس (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) (٣٩) أهلكنا إهلاكا بتكذيبهم أنبياءهم (وَلَقَدْ أَتَوْا) أي مرّ كفار مكة (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) مصدر ساء أي بالحجارة وهي عظمى قرى قوم لوط فأهلك الله أهلها لفعلهم الفاحشة (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في سفرهم إلى الشام فيعتبرون؟ والاستفهام للتقرير (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ) يخافون (نُشُوراً) (٤٠) بعثا فلا يؤمنون (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ) ما (يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) مهزوءا به يقولون (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١) في دعواه محتقرين له عن الرسالة (إِنْ) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي إنه (كادَ لَيُضِلُّنا) يصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) لصرفنا عنها ، قال تعالى (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) عيانا في الآخرة (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٢) أخطأ طريقا أهم أم

____________________________________

قوله : (وَكُلًّا) منصوب بفعل محذوف يلاقي (ضَرَبْنا) في معناه ، تقديره وخوفنا كلا ضربنا له الأمثال ، والمعنى بينا لكل القصص العجيبة فلم يؤمنوا (فتّبرناهم تتبيرا) أي فتتناهم تفتيتا فجعلناهم كالتبر ، وهو قطع الذهب والفضة المفتتة. قوله : (مروا) أشار بذلك إلى أنه ضمن أتوا معنى مروا ، فعدي بعلى ، وإلا فأتى يتعدى بنفسه أو بإلى ، والمعنى : مروا في أسفارهم إلى الشام. قوله : (مصدر ساء) أي بحسب الأصل ، والمراد في الآية بالمطر السوء الرمي بالحجارة. قوله : (وهي عظمى قرى قوم لوط) أي واسمها سدوم ، وتقدم أن القرى خمسة ، وقيل إن أل في القرية للجنس فيشمل جميعها ، لأن الخسف ونزول الأحجار عم جميعها ، وقيل نجت منها واحدة كانت لا تعمل الخبائث. قوله : (يَرَوْنَها) أي يرون آثارها. قوله : (والاستفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه.

قوله : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي كانوا كفارا لا يتوقعون نشورا ولا عاقبة ، فهو إضراب انتقالي من توبيخهم إلى ذكر بعض قبائحهم وهو عدم إيمانهم بالبعث وعدم خوفهم منه. قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) جواب (إِذا). قوله : (إِلَّا هُزُواً) مفعول ثان ليتخذون ، وقوله : (مهزوءا به) أشار به إلى أن المصدر مؤول باسم المفعول ، لأن المفعول الثاني في الأصل خبر ، والمصدر لا يصح الإخبار به إلا بتأويل. قوله : (أَهذَا الَّذِي) الخ الجملة في محل نصب مقول لقول محذوف قدره المفسر. قوله : (في دعواه) (رَسُولاً) قدر ذلك دفعا لما يقال هم لا يعترفون برسالته ، فكيف يقولون ما ذكر؟ قوله : (لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) أي بكثرة الأدلة والمعجزات. قوله : (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي ثبتنا واستمسكنا بعبادتها. قوله : (قال تعالى) أي ردا لقولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا). قوله : (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً مَنْ) اسم استفهام مبتدأ ، و (أَضَلُ) خبره ، و (سَبِيلاً) تمييز ، وقد أشار المفسر إلى ذلك بقوله : (أهم أم المؤمنون). قوله : (قدم المفعول الثاني) أي وقيل : لا تقديم ولا تأخير ، لاستوائهما في التعريف. قوله : (وجملة من) الخ ، أي بحسب الصورة ، وإلا فهي وصلتها في قوة المفرد. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري.

قوله : (أَمْ تَحْسَبُ أَمْ) منقطعة تفسر ببل ، والهمزة والاستفهام فيها إنكاري. قوله : (أَنَ

٦٩

المؤمنون (أَرَأَيْتَ) أخبرني (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي مهويه قدم المفعول الثاني لأنه أهم ، وجملة من اتخذ مفعول أول لرأيت ، والثاني (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٤٣) حافظا تحفظه عن اتباع هواه؟ لا (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقول لهم (أَنَ) ما (هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤) أخطأ طريقا منها لأنها تنقاد لمن يتعهدها وهم لا يطيعون مولاهم المنعم عليهم (أَلَمْ تَرَ) تنظر (إِلى) فعل (رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) من وقت الأسفار إلى وقت طلوع الشمس (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) مقيما لا يزول بطلوع الشمس (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي الظل (دَلِيلاً) (٤٥) فلو لا الشمس ما عرف الظل (ثُمَّ قَبَضْناهُ) أي

____________________________________

أَكْثَرَهُمْ) استفيد منه أن الأقل سمع وعقل فآمن. قوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي في عدم انتفاعهم بالآيات. قوله : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أي لأن الأنعام تنقاد لمن يتعهدها ، وتمييز من يحسن اليها ممن يسيء اليها ، وتطلب ما ينفعها وتهرب ما يضر بها ، وهؤلاء ليسوا كذلك.

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) أقام الله سبحانه وتعالى ، أدلة محسوسة على انفراده تعالى بالألوهية ، وذكر منها خمسة : الأول هذا ، والثاني قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) ، الثالث قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) ، الرابع قوله : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) ، الخامس قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) ، وهذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل عاقل ، فإن من تأمل في تلك الأدلة حق التأمل ، عرف أن موجدها فاعل مختار منفرد بالكمال. قوله : (تنظر) أشار بذلك إلى أن الرؤية بصرية ، فقوله : (كَيْفَ) منصوب بمد على الحال. والمعنى ألم تنظر إلى صنع ربك مد الظل كيف؟ أي على حالة ، وقدر المفسر (فعل) إشارة إلى أن المراد رؤية المصنوعات لا رؤية الذات ، لأن المقصود نصب الأدلة ، ليستدل بها على مؤثرها ، فإن كل صنعة لا بد لها من صانع ، وإن كان يلزم من التفكر في تلك الأشياء رؤية الله بعين القلب ، لأنه لا يغيب عن مخلوقه طرفة عين ، ومن هنا قيل : العارف يرى الله في كل شيء ، فالآثار كالمرآة للناظر ، فمن تأمل فيها رأى مؤثرها ، ولا تحجب إلا من سبقت له الشقاوة. قوله : (من وقت الأسفار) الخ ، المناسب أن يقول : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، إذ هو أحد أقوال ثلاثة للمفسرين ، ثانيها من غروب الشمس إلى طلوعها ، ثالثها من طلوع الشمس إلى أن تزول ، ومن زوالها إلى غروبها ، وأما ما قاله المفسر ، فلم يوافقه عليه أحد من المفسرين ، وهذا الوقت أعني من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، أطيب الأوقات وأفضلها ، ولذا وصفت به الجنة ، قال تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وفيه يجد المريض راحته ، والمسافر وكل ذي علة ، وفيه ترد أرواح الأموات منهم إلى الأجساد ، وطيب نفوس الأحياء ، قال أبو العالية : نهار الجنة هكذا ، وأشار إلى ساعة يصلون صلاة الفجر.

قوله : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا مستقرا لا يذهب عن وجه الأرض. قوله : (لا يزول بطلوع الشمس) أي بأن لا تطلع ، فلا يزول بأن يستمر الليل مقيما ، أو تطلع من غير ضوء. قوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي الشمس دليلا على الظل ليلا ونهارا ، فالمراد بالظل ما قابل نور الشمس ، وكل من الظل ونور الشمس عرض لقيامه بغير ، وأما ذات الشمس فجوهر. قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً

٧٠

الظل الممدود (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦) خفيا بطلوع الشمس (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) سائرا كاللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع الأعمال (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧) منشورا فيه لابتغاء الرزق وغيره (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وفي قراءة الريح (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي متفرقة قدّام المطر ، وفي قراءة بسكون الشين تخفيفا ، وفي أخرى بسكونها وفتح النون مصدرا ، وفي أخرى بسكونها وضم الموحدة بدل النون أي مبشرات ، ومفرد الأولى نشور كرسول والأخيرة نشير (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨) مطهرا (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) بالتخفيف يستوى فيه المذكر والمؤنث ، ذكره باعتبار المكان (وَنُسْقِيَهُ) أي الماء (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً)

____________________________________

يَسِيراً) أي قليلا شيئا فشيئا ، وذلك أن الشمس إذا طلعت ، ظهر لكل شخص ظل إلى جهة المغرب ، فكلما ارتفعت في الأفق ، نقص الظل شيئا فشيئا ، إلى أن تصل الشمس وسط السماء ، فعند ذلك ينتهي نقص الظل ، فبعض البلاد لا يبقى فيها ظل أبدا في بعض أيام السنة ، كمكة وزبيد ، وما عداها تبقى له بقية ، وهذا على حسب الأشهر القبطية ، وضبط ذلك بعضهم بقوله طزه جبا أبدوحي ، فالطاء بتسعة لطوبة ، فظل الزوال فيه تسعة أقدام ، والزاي بسبعة لأمشير ، والهاء بخمسة لبرمهات ، والجيم بثلاثة لبرمودة ، والباء باثنين لبشنس ، والألف بواحدة لبؤنة ، والألف الثانية بواحد لأبيب ، والباء باثنين لمسرى ، والداخل بأربعة لتوت ، والواو بستة لبابة ، والحاء بثمانية لهاتور ، والياء بعشرة لكيهك ، فإذا زالت الشمس ، زاد الظل جهة المشرق شيئا فشيئا ، حتى تغرب الشمس. قوله : (كاللباس) أشار بذلك إلى أنه من التشبيه البليغ بحذف الأداة ، والجامع بين المشبه والمشبه به الستر في كل. قوله : (وَالنَّوْمَ سُباتاً) من السبت وهو القطع لقطع الأعمال فيه كما قال المفسر. قوله : (بقطع الأعمال) الباء سببية ، والجار والمجرور متعلق براحة. قوله : (لابتغاء الرزق) أي طلبه.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) أي المبشرات وهي ثلاث : الشمال وتأتي من جهة القطب ، والجنوب تقابلها ، والصبا وتأتي من مطلع الشمس ، والدبور تأتي من المغرب وبها أهلكت قوم عاد. قوله : (وفي قراءة الريح) أي وهي سبعية أيضا ، وأل فيها للجنس. قوله : (وفي قراءة بسكون الشين) الخ ، حاصل ما ذكره المفسر من القراءات أربع ، وكلها سبعية ، الأولى والثانية جمع نشور كرسول ، والثالثة مصدر نشر ، والرابعة جمع نشير. قوله : (ومفرد الأولى) أي والثانية. قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) فيه التفات من الغيبة للتكلم. قوله : (طَهُوراً) أي طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. قوله : (بَلْدَةً) أي أرضا. قوله : (بالتخفيف) أي لا غير ، لأن المخفف لما ليس ذا روح غالبا ، وأما بالتشديد لما كانت فيه الروح ، قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ). وقال بعضهم :

أيا سائلي تفسير ميت وميت

فدونك قد فسرت ما عنه تسأل

فما كان ذا روح فذلك ميت

وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

قوله : (يستوي فيه المذكر) الخ ، جواب عما يقال : لم ذكر ميتا ، مع أنه نعت لبلدة وهي مؤنثة؟ وقوله : (ذكره) الخ ، جواب ثان ، فكان المناسب أن يأتي بأو. قوله : (أَنْعاماً) خصها بالذكر لأنها عزيزة عند أهلها ، لكونها سببا لحياتهم ومعاشهم. قوله : (جمع إنسان) هو الراجح ، وقيل جمع إنسي وهو معترض

٧١

إبلا وبقرا وغنما (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (٤٩) جمع إنسان وأصله أناسين فأبدلت النون ياء وأدغمت فيها الياء أو جمع إنسي (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) أي الماء (بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) أصله يتذكروا أدغمت التاء في الذال ، وفي قراءة ليذكروا بسكون الذال وضم الكاف أي نعمة الله به (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (٥٠) جحودا للنعمة حيث قالوا : مطرنا بنوء كذا (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (٥١) يخوف أهلها ولكن بعثناك إلى أهل القرى كلها نذيرا ليعظم أجرك (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) في هواهم (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) أي القرآن (جِهاداً كَبِيراً) (٥٢) (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أرسلهما متجاورين (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) شديد العذوبة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما

____________________________________

بأن الياء في إنسي للنسب ، وهو لا يجمع على فعالي ، كما قال ابن مالك : واجعل فعالي لغيري ذي نسب. قوله : (وأصله أناسين) أي كسرحان وسراحين. قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) أي فرقناه في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة ، على حسب ما قدر في سابق علمه ، روي عن ابن مسعود أنه قال : ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله عزوجل قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ، وإذا عمل قوم بالمعاصي ، حول الله ذلك إلى غيرهم ، وإذا عصوا جميعا ، صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار. قوله : (أدغمت التاء في الذال) أي بعد قلبها دالا ، فذالا. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (أي نعمة الله به) أي فيقوموا بشكرها ليزدادوا خيرا. قوله : (جحودا للنعمة) أي حيث أضافوها لغير خالقها. قوله : (مطرنا بنوء كذا) النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب ، وطلوع رقيبه من المشرق في ساعته في عدة أيام معلومة لهم ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط ، وقيل إلى الطالع ، واعتقاد تأثير تلك الأشياء في المصنوعات كفر ، لأنه لا أثر لشيء في شيء ، بل المؤثر هو الله وحده ، وإنما تلك الأشياء ، من جملة الأسباب العادية التي توجد الأشياء عندها لا بها ، ويمكن تخلفها ، كالإحراق للنار ، والري للماء ، والشبع للأكل.

قوله : (لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) أي في زمنك. قوله : (ليعظم أجرك) أي فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له مثل أجر من آمن به ، من بعثه إلى يوم القيامة. قوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي بل اصبر على أحكام ربك. قوله : (جِهاداً كَبِيراً) أي لأن مجاهدة السفهاء بالحجج ، أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. قوله : (أرسلهما متجاورين) أي أجراهما متلاصقين لا يتمازجان ، ولا يبغي أحدهما على الآخر. قوله : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) هذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة ، جواب سؤال مقدر كأنه قيل : كيف مرجهما؟ ويحتمل أن تكون حالية بتقدير القول ، أي مقولا فيهما هذا عذب الخ ، وسمي الماء العذب فراتا ، لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه. قوله : (شديد الملوحة) أي وقيل شديد الحرارة ، وقيل شديد المرارة ، وهذا من أحسن المقابلة حيث قال : عذب فرات ، وملح أجاج. قوله : (حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر) أي فالماء العذب داخل في الملح وجار في خلاله ، ومع ذلك لا يتغير طعمه ولا يختلطان ، بل يبقى على كل ما هو عليه ، بسبب منع الله لكل منهما عن الآخر بحاجز معنوي لا يحس بل بمحض قدرته تعالى ، وهذا أكبر الأدلة على انفراد الله تعالى بالألوهية.

٧٢

بَرْزَخاً) حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر (وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٥٣) أي سترا ممنوعا به اختلاطهما (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) من المني إنسانا (فَجَعَلَهُ نَسَباً) ذا نسب (وَصِهْراً) ذا صهر بأن يتزوج ذكرا كان أو أنثى طلبا للتناسل (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (٥٤) قادرا على ما يشاء (وَيَعْبُدُونَ) أي الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) بعبادته (وَلا يَضُرُّهُمْ) بتركها وهو الأصنام (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥) معينا للشيطان بطاعته (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) بالجنة (وَنَذِيراً) (٥٦) مخوفا من النار (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ ما أرسلت به (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا) لكن (مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧) طريقا بإنفاق ماله في مرضاته تعالى فلا أمنعه من ذلك (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ) متلبسا (بِحَمْدِهِ) أي قل سبحان الله

____________________________________

قوله : (وَحِجْراً مَحْجُوراً) تقدم أن معناه تعوذنا تعوذا ، والمراد هنا الستر المانع ، فشبه البحرين بطائفتين متعاديتين ، كل منهما تتحصن من الأخرى ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو قوله : (حِجْراً مَحْجُوراً) على طريق الاستعارة المكنية. قوله : (بَشَراً) أي خلقا كاملا مركبا من لحم وعظم وعصب وعروق ودم على شكل حسن ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). قوله : (ذا نسب) الخ ، أي فقسمه قسمين ، ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر ، أي أناسا يصاهر بهن ، وأخر الصهر لأنه لا يحصل إلا بعد الكبر والتزوج. قوله : (ذا صهر) صهر الرجل أقارب زوجته ، وصهر المرأة أقارب زوجها. قوله : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي حيث خلق من مادة واحدة ، إنسانا ذا أعضاء مختلفة ، وطباع متباعدة ، وأخلاق متعددة ، وجعله قسمين متقابلين ، فمن كان قادرا على ذلك وأمثاله ، فهو حقيق بأن لا يعبد غيره.

قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) شروع في ذكر قبائح المشركين ، مع ظهور تلك الأدلة. قوله : (ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) قدم النفع في بعض الآيات وأخره في بعضها تفننا. قوله : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي يعاون الشيطان ويتابعه بالعداوة والشرك ، وأل في الكافر للجنس ، فالمراد كل كافر ، وقيل معنى ظهيرا مهينا لا يعبأ به ، فعلى بمعنى عند ، والمعنى : وكان الكافر عند ربه مهانا لا حرمة له ، مأخوذ من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك. قوله : (بطاعته) أي الشيطان ، والباء سببية ، والمعنى صار الكافر معينا للشيطان على معصية الله ، بسبب طاعته إياه ، والخروج عن طاعة الله.

قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي لم نرسلك في حال من الأحوال ، إلا في حال كونك مبشرا ونذيرا ، فمن آمن فقد تحقق بالبشارة ، ومن استمر على الكفر فله النذارة. قوله : (على تبليغ ما أرسلت به) أي المفهوم من قوله : (أَرْسَلْناكَ). قوله : (لكن) (مَنْ شاءَ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، والمعنى لا أطلب من أموالكم جعلا لنفسي ، لكن من شاء أن ينفق أمواله لوجه الله تعالى طلبا لمرضاته فليفعل. قوله : (في مرضاته تعالى) أي كالصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى. قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) لما قدم أن الكافر خارج عن طاعة ربه ، وعن طاعة رسوله ، وأمر

٧٣

والحمد لله (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨) عالما تعلق به بذنوب هو (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثم شمس ، ولو شاء لخلقهن في لمحة ، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو في اللغة سرير

____________________________________

الرسول أن لا يسألهم أجرا على تبليغه ، أمره بالاعتماد عليه تعالى ، ليكفيه شرورهم ويغنيه عن أجورهم ، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون ، فإنهم إذا ماتوا ، ضاع من توكل عليهم ، والتوكل هو وثوق القلب بالله تعالى في جميع الأمور ، من غير اعتماد على الأسباب وإن تعاطاها. قوله : (الَّذِي لا يَمُوتُ) صفة كاشفة ، لأن معنى الحي في حقه تعالى ، ذو الحياة الأبدية التي يستحيل عليها الموت والفناء ، ووصفه بالحياة بهذا المعنى مستلزم ، لاتصافه بوجوب الوجود والقدم والبقاء وجميع الصفات الوجودية والسلبية.

قوله : (وَسَبِّحْ) أي نزهه عن كل نقص. قوله : (بِحَمْدِهِ) الباء للملابسة كما قال المفسر ، أي وصفه بالكمالات. قوله : (أي قل سبحان الله والحمد لله) أي فذلك بجمع التسبيح والتحميد ، لأن معنى تسبيح الله ، تنزيه الله عن كل نقص ، ومعنى الحمد لله ، كل كمال ثابت لله ، فهاتان الكلمتان من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهما من جملة الباقيات الصالحات وغراس الجنة التي بقيتها لا إله إلا الله والله أكبر ، وحكمة تأخير لا إله إلا الله عن هاتين الجملتين ، ليكون النطق بها عن معرفة ويقين ، فهي نتيجة ما قبلها ، والله أكبر نتيجة الثلاث فيها ، لأنه إذا تنزه عن النقائص ، واتصف بالكمالات ، وثبت أنه لا إله غيره ، فقد انفرد بالكبرياء والعظمة. وحكمة الاقتصار هنا على التسبيح والتحميد ، لأنهما مستلزمتان للجملتين بعدهما. قوله : (وَكَفى بِهِ) الباء زائدة في الفاعل. قوله : (عالما) أي بالمذنب والطائع. قوله : (تعلق به) أي بخبيرا. قوله : (بذنوب) أي لفظ بذنوب وقدم لرعاية الفاصلة ، والمعنى أن الله قادر على مجازاة الخلق في كل وقت ، فلا ينظر الإنسان لعيوب الناس ولا طاعاتهم ، بل عليه بنفسه ، ويفوض أمره اليه. قوله : (هو) (الَّذِي) أشار بذلك إلى أن الموصول خبر لمحذوف ، وهذه الجملة سيقت تحريضا للتوكل عليه تعالى ، فإن من كان قادرا على ذلك ، فهو حقيق بالتوكل عليه.

قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي فالأرض في يومين الأحد والاثنين ، وما عليهما في يومين الثلاثاء والأربعاء ، والسماوات في يومين الخميس والجمعة ، وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة. قوله : (أي في قدرها) دفع بذلك ما يقال : إن الأيام لم تكن موجودة إذ ذاك. قوله : (والعدول عنه) أي عن الخلق في لمحة. قوله : (التثبت) أي التأني والتؤدة في الأمور ، وعدم العجلة فيها ، لما ورد : أن العجلة من الشيطان ، واستثنى العلماء من ذلك مسائل اقراء الضيف ، وتزويج البكر ، وتجهيز الميت ، والصلاة في أول وقتها ، وقضاء الدين ، وتعجيل الأوبة للمسافر بعد قضاء حاجته ، والتوبة من الذنب. قوله : (هو في اللغة سرير الملك) أي ومنه قوله : (أيكم يأتيني بعرشها) والمراد هو جسم عظيم محيط بالعالم فوق السماوات السبع. قوله : (بدل من ضمير استوى) ويصح أن يكون خبر المحذوف ، أو خبر الذي خلق. قوله : (أي استواء يليق به) هذا إشارة لمذهب السلف وهم من كانوا قبل الخمسمائة ، ومذهب الخلف تفسير الاستواء بالاستيلاء عليه والتصرف فيه ، وهو أحد معاني الاستواء ، واستدلوا لذلك بقول الشاعر :

٧٤

الملك (الرَّحْمنُ) بدل من ضمير استوى أي استواء يليق به (فَسْئَلْ) أيها الإنسان (بِهِ) بالرحمن (خَبِيراً) (٥٩) يخبرك بصفاته (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) لكفار مكة (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) بالفوقانية والتحتانية ، والآمر محمد ولا نعرفه؟ لا (وَزادَهُمْ) هذا القول لهم (نُفُوراً) (٦٠) عن الإيمان. قال تعالى (تَبارَكَ) تعاظم (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً)

____________________________________

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وفي قوله : (الرَّحْمنُ) إشارة إلى أن الله تعالى استوى على العرش بوصف الرحمة فوسع العالمين ، وكان سقف الجنة لا بوصف الجلال ، وإلا لذاب ولم يبق له أثر. قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً بِهِ) متعلق بخبيرا ، قدم لرعاية الفاصلة. والمعنى اسأل يا محمد خبيرا بصفاته تعالى ، وليس خبيرا بصفاته إلا هو سبحانه وتعالى ، ويصح أن يكون الجار والمجرور متعلقا باسأل ، والباء بمعنى عن. والمعنى اسأل عنه خبيرا ، أي عالما بصفاته ، يطلعك على ما خفي عليك ، والخبير يختلف باختلاف السائل ، فإن كان السائل النبي عليه الصلاة والسّلام ، فالخبير هو الله ، وإن كان السائل أصحابه ، فالخبير النبي ، وإن كان السائل التابعين فالخبير الصحابة عن الله وهكذا ، فآل الأمر إلى أن المشايخ العارفين ، يفيدون الطالب عن الله ، وفيه دليل على وجوب معرفة التوحيد.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لكفار مكة. قوله : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أي ظنا منهم أن المراد به غيره تعالى ، لأنهم كانوا يطلقون الرحمن على مسيلمة الكذاب. قوله : (وبالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (والآمر محمد) أي على كل من القراءتين. قوله : (ولا نعرفه) راجع لقوله : (لِما تَأْمُرُنا) فكان المناسب ذكره بلصقه. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (تعاظم) أي انفرد بالعظمة ، لأن من كانت هذه أوصافه ، فهو منفرد بالكبرياء والعظمة ، وتقدم أن لفظة تبارك من الصفات الجامعة ، تفسر في كل مقام بما يناسبه.

قوله : (بُرُوجاً) جمع برج وهو في الأصل القصر العالي ، سميت هذه المنازل بروجا ، لأنها للكواكب السبعة السيارة ، كالمنازل الرفيعة التي هي كالقصور لسكانها ، فالمراد بالبروج الطرق والمنازل للكواكب السيارة. قوله : (الحمل) أي ويسمى بالكبش. قوله : (والأسد) أي ويسمى بالليث أيضا ، وقوله : (والدلو) ويسمى الدلى أيضا. قوله : (المريخ) بكسر الميم. قوله : (وله) أي من البروج المذكورة ، والحاصل أن خمسة من الكواكب السبعة أخذت عشر بروج ، كل واحد اثنين واثنان من السبعة وهما الشمس والقمر ، كل واحد منهما أخذ واحدا من البروج ، وتقدم في سورة الحجر نظم الكواكب والبروج ، وتقدم أن زحل نجم في السّماء السابعة ، والمشتري في السادسة ، والمريخ في الخامسة ، والشمس في الرابعة ، والزهرة في الثالثة ، وعطار في الثانية ، والقمر في الأولى ، وتخصيص الشمس بالأسد لكونه بيتها المنسوب لها ، فلا ينافي سيرها في البروج كلها ، وكذا غيرها من باقي الكواكب السبعة ، وذلك لأن البروج أصلها في سماء الدنيا وتمتد للسماء السابعة ، فالبروج كلها طرق للكواكب السبعة كلها. قوله : (والزهرة) بفتح الهاء. قوله : (وعطارد) بضم العين ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع. قوله : (وزحل) ممنوع.

٧٥

اثني عشر الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وهي منازل الكواكب السبعة السيارة : المريخ وله الحمل والعقرب ، والزهرة ولها الثور والميزان ، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر وله السرطان ، والشمس ولها الأسد ، والمشتري وله القوس والحوت ، وزحل وله الجدي والدلو (وَجَعَلَ فِيها) أيضا (سِراجاً) هو الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١) وفي قراءة سرجا بالجمع أي نيرات ، وخص القمر منها بالذكر لنوع فضيلة (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف كل منهما الآخر (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) بالتشديد والتخفيف كما تقدم ما فاته في أحدهما من خير فيفعله في الآخر (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢) أي شكرا لنعمة ربه عليه فيهما (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) مبتدأ وما بعده صفات له إلى : أولئك يجزون غير المعترض

____________________________________

من الصرف للعلمية والعدل كعمر ، وقد جعل الله تعالى بهذه الكواكب النفع في العالم السفلي كالأكل والشرب ، يوجد النفع عندها لا بها ، فهي من جملة الأسباب العادية ، فمن اعتقد تأثيرها بطبعها فقد كفر ، أو بقوة جعلها الله فيها فقد فسق.

قوله : (وَجَعَلَ فِيها) أي السماء. قوله : (أي نيرات) صفة لموصوف محذوف ، أي كواكب نيرات ودخل فيها القمر ، فلذلك قال : (وخص القمر) الخ. قوله : (لنوع فضيلة) أي لأن مواقيت العبادة تبنى على الشهور القمرية قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ). قوله : (أي يخلف كل منهما الآخر) أي بأن يقوم مقامه ، فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. قوله : (بالتشديد) أي فأصله يتذكر قلبت التاء دالا وأدغمت في الذال. قوله : (والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (كما تقدم) أي في قوله : (لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا). قوله : (ما فاته في أحدهما من خير) الخ ، أي فمن فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل من فرائض وسنن وغيرها. قوله : (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أو مانعة خلو تجوز الجمع.

قوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) الخ ، لما ذكر أحوال المنافقين والكفار وما آل اليه أمرهم ، ذكر هنا أوصاف المؤمنين الكاملين ، ووصفهم بأوصاف ثمانية ، بها تنال المراتب العالية ، وإضافتهم اليه تعالى للتشريف ، وإلا فكل المخلوقات عباد الله ، ويقال إضافتهم له من حيث كونه رحمانا ، لكونهم مظهر الرحمة ، وستختص بهم في الآخرة. قوله : (وما بعده) أي من الموصولات الثمانية التي أولها. قوله : (الَّذِينَ يَمْشُونَ) وآخرها قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا). قوله : (إلى أولئك) أي وهي الخبر كما سيذكره هناك. قوله : (غير المعترض فيه) أي وهو قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) إلى قوله : (مَتاباً) وهو ثلاث آيات. وحاصل ما ذكره من الأوصاف ، أن بعضها متعلق بالخلق ، وبعضها متعلق بالخالق. قوله : (هَوْناً) هو مصدر هان كقال. قوله : (أي بسكينة) أي تؤدة وتأن. قوله : (الْجاهِلُونَ) أي السفهاء. قوله : (قالُوا سَلاماً) أي مع القدرة على الانتقام ، فالمراد الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ، وهذا الخلق من أعظم الأخلاق لما في الحديث : «كاد الحليم أن يكون نبيا». وفي الحديث : «يبلغ الحليم بحلمه ما لا يبلغه الصائم القائم». والآثار في ذلك كثيرة.

٧٦

فيه (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي بسكينة وتواضع (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بما يكرهونه (قالُوا سَلاماً) (٦٣) أي قولا يسلمون فيه من الإثم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً) جمع ساجد (وَقِياماً) (٦٤) بمعنى قائمين أي يصلون بالليل (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (٦٥) أي لازما (إِنَّها ساءَتْ) بئست (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٦٦) هي ، أي موضع استقرار وإقامة (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) على عيالهم (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) بفتح أوله وضمه أي يضيقوا (وَكانَ) إنفاقهم (بَيْنَ ذلِكَ) الإسراف والإقتار (قَواماً) (٦٧) وسطا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها (إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي واحدا من الثلاثة (يَلْقَ أَثاماً) (٦٨) أي عقوبة (يُضاعَفْ) وفي قراءة يضعف بالتشديد (لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ) بجزم الفعلين بدلا وبرفعهما استئنافا (مُهاناً) (٦٩) حال (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) منهم (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ) المذكورة (حَسَناتٍ) في

____________________________________

قوله : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) شروع في ذكر معاملتهم للخالق اثر معاملتهم للخلق ، وخص البيتوتة بالذكر ، لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء ، وفي الحديث : «لا زال جبريل يوصيني بقيام الليل ، حتى علمت أن أمتي لا ينامون» ، وأخر الليل مراعاة للفواصل. قوله : (أي يصلون بالليل) هذا صادق بصلاة العشاء والصبح في جماعة ، ولكن كلما كثرت الصلاة بالليل كان خيرا.

قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) الخ ، أي فهم مع حسن المعاملة للخالق وللخلق ، ليس عندهم غرور ولا أمن من مكر الله ، بل هم خائفون من عذابه ، وجلون من هيبته. قوله : (إِنَّ عَذابَها) الخ ، تعليل لقولهم : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ). قوله : (كانَ غَراماً) أي في علمه تعالى. قوله : (أي لازما) أي لزوما كليا في حق الكفار ، ولزوما بعده خروج في حق عصاة المؤمنين. قوله : (إِنَّها ساءَتْ) الفاعل ضمير مستتر يفسره التمييز المذكور ، والمخصوص بالذم محذوف قدره بقوله قوله : (مُسْتَقَرًّا) هما بمعنى واحد ، وهو الذي يشير اليه المفسر ، وقيل مستقرا ، لعصاة المؤمنين ومقاما للكافرين. قوله : (بفتح أوله) أي مع كسر التاء وضمها ، من باب ضرب ونصر ، وقوله : (وضمه) أي مع كسر التاء لا غير ، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله : (أي يضيقوا) أي على عيالهم مع يسارهم. قوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) هو بمعنى قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية.

قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً) الخ ، شروع في بيان اجتنابهم للمعاصي ، اثر بيان إتيانهم الطاعات. قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا يقتلون النفس المحرمة بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، بأن تكون مستحقة للقتل ، كالمرتد والزاني المحصن والقاتل. قوله : (أي واحدا من الثلاثة) في بعض النسخ أي ما ذكر ، وهو المناسب لقوله : (يُضاعَفْ) لأن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك تضاعف له العقوبة. قوله : (وفي قراءة يضعف) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وكل منهما مع جزم الفعل ورفعه ، فالقراءات أربع سبعيات. قوله : (بدلا) أي من يلق بدل اشتمال. قوله : (مُهاناً) أي ذليلا حقيرا.

٧٧

الآخرة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠) أي لم يزل متصفا بذلك (وَمَنْ تابَ) من ذنوبه غير من ذكر (وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١) أي يرجع إليه رجوعا فيجازيه خيرا (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي الكذب والباطل (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) من الكلام القبيح وغيره (مَرُّوا كِراماً) (٧٢) معرضين عنه (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) وعظوا (بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي القرآن (لَمْ يَخِرُّوا) يسقطوا (عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) بل خروا سامعين ناظرين منتفعين (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا) بالجمع والإفراد (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لنا بأن نراهم مطيعين لك (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) في الخير (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) الدرجة العليا في الجنة (بِما صَبَرُوا) على طاعة الله (وَيُلَقَّوْنَ) بالتشديد والتخفيف مع فتح الياء (فِيها) في الغرفة (تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٧٥) من

____________________________________

قوله : (إِلَّا مَنْ تابَ) استثناء متصل من الضمير في يلق. قوله : (فَأُوْلئِكَ) اسم الإشارة راجع لقوله من تاب. قوله : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ) أي يمحو ما سبق منهم من المعاصي بسبب التوبة ، ويثبت مكانها الطاعات أو نيتها ، وفي القرطبي : ولا يبعد في كلام الله تعالى إذا صحت توبة العبد ، أن يصنع مكان كل سيئة حسنة.

قوله : (وَمَنْ تابَ) أي عن المعاصي بتركها والندم عليها. قوله : (وَعَمِلَ صالِحاً) أي فعل الطاعات ولو بالنية ، كمن فجأه الموت عقب التوبة. قوله : (فيجازيه خيرا) دفع بذلك ما يتوهم اتحاد الشرط والجزاء كأنه قال : من تاب وعمل صالحا ، فإنه يرجع إلى جزاء الله في الآخرة الجزاء الحسن. قوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يحضرونه أو لا يشهدون به. قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي من غير تقصد منهم له. قوله : (وغيره) أي وهو الفعل القبيح. قوله : (مَرُّوا كِراماً) أي مكرمين أنفسهم بالغض عن الفواحش. قوله : (بل خروا سامعين) الخ ، أشار بذلك إلى أن النفي مسلط على القيد فقط وهو قوله : (صُمًّا وَعُمْياناً) والمعنى إذا قرىء عليهم القرآن ، ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا ، حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر. قوله : (مِنْ أَزْواجِنا مِنْ) للبيان. قوله : (بالجمع والإفراد) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي ما يحصل به سرورها. قوله : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي اجعلنا هداة يقتدى بنا في مواسم الخيرات والطاعات ، بأن تصفي بواطننا من غيرك ، حتى يكون حالنا سببا في هداية الخلق ، ولذا قيل : حال رجل في ألف رجل ، أنفع من وعظ ألف رجل في رجل ولفظ إمام يستوي فيه الجمع وغيره ، فالمطابقة حاصلة.

قوله : (أُوْلئِكَ) اسم الإشارة عائد على المتصفين بالأوصاف الثمانية. قوله : (الْغُرْفَةَ) اسم جنس أريد به الجمع ، والغرفة أعلى منازل الجنة وأفضلها ، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. قوله : (بالتشديد) أي ومعناه يعطون ، والفاعل الله ، وقوله : (والتخفيف) أي فمعناه يجدون ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (تَحِيَّةً وَسَلاماً) جمع بينهما لأن المراد بالتحية الإكرام بالهدايا والتحف ، وبالسلام سلامه

٧٨

الملائكة (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦) موضع إقامة لهم ، وأولئك وما بعده خبر عباد الرحمن المبتدأ (قُلْ) يا محمد لأهل مكة (ما) نافية (يَعْبَؤُا) يكترث (بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إياه في الشدائد فيكشفها (فَقَدْ) أي فكيف يعبأ بكم وقد (كَذَّبْتُمْ) الرسول والقرآن (فَسَوْفَ يَكُونُ) العذاب (لِزاماً) (٧٧) ملازما لكم في الآخرة بعد ما يحل بكم في الدنيا فقتل منم يوم بدر سبعون ، وجواب لو لا دل عليه ما قبلها.

____________________________________

تعالى عليهم بالقول ، أو سلام الملائكة ، أو سلام بعضهم على بعض. قوله : (الملائكة) أي أو من الله أو من بعضهم لبعض ، والمعنى تحييهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات ، فتحصل أن قوله : (تَحِيَّةً وَسَلاماً) قيل هما بمعنى واحد ، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما ، وقيل متخالفان ، فالتحية الإكرام بالهدايا والتحف ، والسّلام الدعاء ، إما من الملائكة ، أو من الله ، أو من بعضهم لبعض. قوله : (خالِدِينَ فِيها) أي لا يموتون ولا يخرجون. قوله : (وأولئك) أي الواقع مبتدأ ، وقوله : (وما بعده) أي قوله : (يُجْزَوْنَ) الواقع خبره.

قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) الخ ، لما ذكر أوصاف المؤمنين الكاملين ، أفاد أن المدار على تلك الأوصاف التي بها العبادة لله ، فلو لا العبادة الواقعة من الخلق ، لم يكترث بهم ولم يعتد بهم عنده ، فإن الإنسان خلق ليعرف ربه ويعبده ، وإلا فهو شبيه بالبهائم ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ففي العبادة يتنافس المتنافسون ، وبها يفوز الفائزون. قوله : (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (إياه) أشار بذلك إلى أن المصدر مضاف لفاعله.

قوله : (فَسَوْفَ يَكُونُ) (العذاب) أي الذي دل عليه قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ). قوله : (لِزاماً) مصدر لازم كقاتل قتالا ، والمراد هنا اسم الفاعل ، وفي الآية تهديد لكفار مكة. قوله : (فقتل منهم يوم بدر سبعون) الخ ، روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال : خمس قد مضين ، الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر ، وقوله خمس أي خمس علامات دالة على قيام الساعة قد وقعن بالفعل ، فالدخان هو قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) والمراد به شيء يشبه الدخان ، وقد نزل بقريش من شدة الجوع ، صار الواحد يرى كأن بينه وبين السماء دخانا ، والقمر في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) والروم في قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) والبطشة في قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) وهي القتل يوم بدر ، واللزام هو الأسر يومها. قوله : (دل عليه ما قبلها) أي وهو قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) والتقدير لو لا دعاؤكم ، أي طلبكم من الله رفع الشدائد ، وأنتم تتعلقون بأستار الكعبة ، ما يعبأ بكم ، أي ما يكترث بكم فلا يرفعها عنكم ، وقوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي دمتم على تكذيبه بعد إخراجه من بينكم ، فسوف يكون العذاب لازما لكم ، لا يرد عنكم ، ولا يقبل منكم دعاء فتدبر.

٧٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشّعراء

مكيّة

الا (وَالشُّعَراءُ) الى آخرها ـ فمدني

وهي مائتان وسبع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم) (١) الله أعلم بمراده بذلك (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) القرآن ، والإضافة بمعنى من (الْمُبِينِ) (٢) المظهر الحق من الباطل (لَعَلَّكَ) يا محمد

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء مكية

إلا (وَالشُّعَراءُ) إلى آخرها ـ فمدني

وهي مائتان وسبع وعشرون آية

أي السورة التي ذكر فيها الشعراء ، سميت باسم بعضها على عادته تعالى ، وقد ورد في فضل الطواسين أحاديث منها ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المص مكان الإنجيل ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي. قوله : (إلا والشعراء إلى آخرها) أي وجملته أربع آيات.

قوله : (طسم) هكذا كتبت متصلة بعضها ببعض ، وفي مصحف ابن مسعود : ط س م مفصولة من بعضها وبها قرىء ، فيقف على كل حرف وقفة يميز بها كل حرف ، وقرىء هنا وفي القصص بكسر الميم على البناء ، وأمال الطاء بعض القراء. قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) تقدم أن هذا القول أصح وأسلم. قوله : (تِلْكَ) مبتدأ ، و (آياتُ الْكِتابِ) خبره ، واسم الإشارة عائد على آيات هذه السورة. قوله : (بالإضافة بمعنى من) أي والمعنى آيات من الكتاب. قوله : (المظهر الحق من الباطل) أشار بذلك إلى أن المبين من أبان بمعنى أظهر ، ويصح أن يكون من باب اللازم بمعنى ظهر ، أي الظاهر إعجازه.

٨٠