حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجاثية

مكيّة

وآياتها سبع وثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) (١) الله أعلم بمراده به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) القرآن مبتدأ (مِنَ اللهِ) خبره (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَكِيمِ) (٢) في صنعه (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في خلقهما (لَآياتٍ) دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) (وَفِي خَلْقِكُمْ) أي في

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الجاثية مكية

إلا (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وهي ست أو سبع وثلاثون آية

سميت باسم كلمة منها وهي قوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) وتسمى سورة الشريعة لقوله فيها : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ). قوله : (مكية إلا قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، أي إلى قوله : (أَيَّامَ اللهِ) وهو قول ابن عباس وقتادة قالا : إنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عابه عبد الله ابن أبي ، فأراد عمر قتله فنزلت ، وقيل : مكية كلها حتى هذه الآية فإنها نزلت في عمر أيضا ، شتمه رجل في مكة من الكفار ، فأراد قتله فنزلت ، ثم نسخت بآية الجهاد. قوله : (مِنَ اللهِ) (خبره) أي متعلق بمحذوف تقديره كائن. قوله : (الْعَزِيزِ) (في ملكه) أي الغالب على أمره. قوله : (الْحَكِيمِ) (في صنعه) أي الذي يضع الشيء في محله ، فاقتضت حكمته تعالى إنزال أشرف الكتب وهو القرآن ، على أشرف العبيد وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ ، ذكر الله سبحانه وتعالى هنا من الدلائل ستة في ثلاثة فواصل ، وختم الأولى بالمؤمنين ، والثانية بيوقنون ، والثالثة بيعقلون ، ووجه التغاير ، أن الإنسان إذا تأمل في السماوات والأرض ، وأنه لا بد لهما من صانع آمن ، وإذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد يقينا ، وإذا نظر في سائر الحوادث ، كمل عقله واستحكم علمه. قوله : (أي في خلقهما) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، يدل عليه التصريح به في سورة البقرة في قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما في سورة آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قوله : (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) بالنّصب بالكسرة باتفاق القراء ، لأنه اسم إن ، وأما ما يأتي في قوله :

٣

خلق كل منكم من نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن صار إنسانا (وَ) خلق (ما يَبُثُ) يفرق في الأرض (مِنْ دابَّةٍ) هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٤) بالبعث (وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ذهابهما ومجيئهما (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) مطر لأنه سبب الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) تقليبها مرة جنوبا ومرة شمالا وباردة وحارة (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) الدليل فيؤمنون (تِلْكَ) الآيات المذكورة (آياتُ اللهِ) حججه الدالة على وحدانيته (نَتْلُوها) نقصها (عَلَيْكَ بِالْحَقِ) متعلق بنتلو (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) أي حديثه وهو القرآن (وَآياتِهِ) حججه (يُؤْمِنُونَ) (٦) أي كفار مكة أي لا يؤمنون ، وفي قراءة بالتاء (وَيْلٌ) كلمة عذاب (لِكُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب (أَثِيمٍ) (٧) كثير الإثم (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) القرآن (تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) على كفره (مُسْتَكْبِراً) متكبرا عن الإيمان (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨) مؤلم (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) أي القرآن (شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي مهزوءا

____________________________________

(آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) و (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ففيه قراءتان سبعيتان ، الرفع والنصب بالكسرة ، فالرفع على أن قوله : (فِي خَلْقِكُمْ) خبر مقدم ، و (آياتٌ) مبتدأ مؤخر ، والجملة معطوفة على جملة (إِنَّ فِي السَّماواتِ) والنصب على أن (آياتٌ) معطوف على آيات الأول ، الذي هو اسم (إِنَ) وقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) معطوف على قوله : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواقع خبرا لأن ، ففيه العطف على معمولي عامل واحد ، وهو جائز باتفاق. قوله : (وَ) (خلق) (ما يَبُثُ) أشار بذلك إلى أنه معطوف على (خَلْقِكُمْ) المجرور بفي على حذف مضاف. قوله : (هي ما يدب) أي يتحرك. قوله : (وَ) (في) (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أشار المفسر إلى أن حرف الجر مقدر ، يؤيده القراءة الشاذة بإثباته. قوله : (بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها. قوله : (وباردة وحارة) لف ونشر مشوش وترك الصبا والدبور ، فالرياح أربع.

قوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، وجملة (نَتْلُوها) حال. قوله : (الآيات المذكورة) أي وهي السماوات والأرض وما بعدهما. قوله : (متعلق بنتلو) أي على أنه عامل فيه مع كونه حالا ، والياء للملابسة. قوله : (أي لا يؤمنون) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (كلمة عذاب) أي فيطلق على العذاب ، ويطلق على واد في جهنم. قوله : (كذاب) أي كثير الكذب على الله وخلقه. قوله : (كثير الإثم) أي المعاصي. قوله : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) إما مستأنف أو حال من الضمير في (أَثِيمٍ.) قوله : (تُتْلى عَلَيْهِ) حال من (آياتِ اللهِ.) قوله : (ثُمَّ يُصِرُّ) (على كفره) (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، والمعنى : أن إصراره على الكفر ، حاصل بعد تقدير الأدلة المذكورة وسماعه إياها.

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنْ) مخففة على حذف منها ضمير الشأن ، والجملة إما مستأنفة أو حال. قوله : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) سماه بشارة تهكما بهم ، لأن البشارة هي الخبر السار.

قوله : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) أي إذا بلغه شيء وعلم أنه من آياتنا اتخذها هزوا ، إلخ ، وذلك نحو قوله في الزقوم : إنه الزبد والتمر ، وقوله في خزنة جهنم : إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.

٤

بها (أُولئِكَ) أي الأفاكون (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩) ذو إهانة (مِنْ وَرائِهِمْ) أي أمامهم لأنهم في الدنيا (جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) من المال والفعال (شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام (أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠) (هذا) أي القرآن (هُدىً) من الضلالة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ) حظ (مِنْ رِجْزٍ ١١) أي عذاب (أَلِيمٌ) (١١) موجع (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) السفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) بإذنه (وَلِتَبْتَغُوا) تطلبوا بالتجارة (مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر ونجوم وماء وغيره (وَما فِي الْأَرْضِ) من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره أي خلق ذلك لمنافعكم (جَمِيعاً) تأكيد (مِنْهُ) حال أي سخرها كائنة منه تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) فيها فيؤمنون (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ) يخافون (أَيَّامَ اللهِ) وقائعه أي اغفروا للكفار ما وقع

____________________________________

قوله : (اتَّخَذَها هُزُواً) أنث الضمير مع أنه عائد على (شَيْئاً) وهو مذكر مراعاة لمعناه وهو الآية ، ويصح عوده على (آياتِنا). قوله : (أي الأفاكون) جمع باعتبار معنى الأفاك ، وراعى أولا لفظه فأفرد. قوله : (أي أمامهم) أشار بذلك إلى أن الوراء ، كما يطلق على الخلف ، يطلق على الأمام ، كالجون يستعمل في الأبيض والأسود على سبيل الاشتراك. قوله : (ما كَسَبُوا ما) إما مصدرية كسبهم ، أو موصولة أي الذي كسبوه ، وهذان الوجهان يجريان في قوله : (وَلا مَا اتَّخَذُوا) ومقتض عبارة المفسر أنها فيهما موصولة ، حيث قال في الأول (من المال والفعال) وقال في الثاني (أي الأصنام). قوله : (هذا هُدىً) أي لمن اذعن له واتبعه وهم المؤمنون ، ووبال وخسران على الكفار ، قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً).

قوله : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) أي حلوا وملحا ، والمعنى : ذلله وسهل لكم السير فيه ، بأن جعله أملس الظاهر مستويا شفافا ، يحمل السفن ولا يمنع الغوص فيه. قوله : (بإذنه) أي إرادته ومشيئته ، ولو شاء لم تجر. قوله : (بالتجارة) أي والحج والغزو ، وغير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية. قوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تصرفون النعم في مصارفها. قوله : (وغيره) أي كالملائكة فإنهم مسخرون لأهل الأرض ، يدبرون معاشهم ، وهذا سر قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) الآية. قوله : (تأكيد) أي حال مؤكدة. قوله : (حال) أي من ما ، ويصح أن يكون صفة لجميعا ، والمعنى الأول : سخر لكم هذه الأشياء كائنة منه أي مخلوقة له ، وعلى الثاني : جميعا كائنا منه تعالى. قوله : (يَتَفَكَّرُونَ) أي يتأملون في تلك الآيات.

قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) إلخ ، المراد بالغفر لهم ، تحمل أذاهم وعدم مقابلتهم بمثل ما فعلوا ، واختلف في هذه الآية ، فقيل مدنية ، وعليه فسبب نزولها كما قال ابن عباس : أنهم كانوا في غزوة بني المصطلق ، نزلوا على بئر يقال له : المريسيع ، فأرسل عبد الله بن أبي غلامه يستقي الماء ، فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر ، قعد على طرف البئر ، فما ترك أحدا يتسقي حتى ملأ قرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرب أبي بكر ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء ، إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك ، فبلغ

٥

منهم من الأذى لكم ، وهذا قبل الأمر بجهادهم (لِيَجْزِيَ) أي الله وفي قراءة بالنون (قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) من الغفر للكفار أذاهم (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) عمل (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أساء (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥) تصيرون فيجازي المصلح والمسيء (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) التوراة (وَالْحُكْمَ) به بين الناس (وَالنُّبُوَّةَ) لموسى وهارون منهم (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الحالات كالمن والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) عالمي زمانهم العقلاء (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أمر الدين من الحلال والحرام ، وبعثة محمد عليه أفضل الصلاة والسّلام (فَمَا اخْتَلَفُوا) في بعثته (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي لبغي حدث بينهم

____________________________________

ذلك عمر ، فاشتمل بسيفه يريد التوجه له ، فنزلت هذه الآية ، وقيل مكية ، وعليه فسبب نزولها كما قال مقاتل : أن رجلا من بني غفار شتم عمر بمكة ، فهم عمر أن يبطش به ، فنزلت ، أو كما قال السدي : أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة ، كانوا في أذى كثير من المشركين ، قبل أن يؤمروا بالجهاد ، فشكوا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وما ذكره المفسر ، فيه إشارة إلى هذا الأخير.

قوله : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يتوقعون وقائعه من قولهم أيام العرب ، أي وقائعهم ، وهذا ما مشى عليه المفسر ، وقيل : إن الرجاء باق على معناه الأصلي ، والمراد بالأيام مطلق الأوقات ، والمعنى لا يؤملون الأوقات التي جعل الله فيها نصر المؤمنين وثوابهم. قوله : (أي اغفروا للكفار) أشار بذلك إلى أن مقول القول محذوف دل عليه قوله : (يَغْفِرُوا) فهو مجزوم لكونه جواب أمر محذوف ، والتقدير : قل لهم اغفروا يغفروا. قوله : (وهذا قبل الأمر بجهادهم) أي فهو منسوخ بآية القتال ، وهذا على أنها مكية ، وأما على أنها مدنية ، فالكف عن المنافقين خوف أن يقول المشركون : إن محمدا يقتل أصحابه ، حتى جاء الإذن بتمييزهم ، وقيل : إنها ليست منسوخة ، بل هي محمول على ترك المنازعة ، والتجاوز فيما يصدر عنهم من الكلام المؤذي ، قوله : (لِيَجْزِيَ قَوْماً) علة لما قبله ، والقوم هم المؤمنون ، وهو ما مشى عليه المفسر ، وقيل الكافرون ، وقيل كل منهما ، فالتنكير إما للتعظيم ، أو التحقير ، أو التنويع. قوله : (وفي قراءة بالنون) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (أذاهم) مفعول للغفر الواقع مصدرا. قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) جملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) إلخ ، المقصود من ذلك تسليته له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : لا تحزن على كفر قومك ، فإننا آتينا بني اسرائيل الكتاب والنعم العظيمة ، فلم يشكروا بل أصروا على الكفر. قوله : (التوراة) إنما اقتصر عليها لكونها تغني عن غيرها من كتبهم ، ولا يغني غيرها عنها ، فإن فيها أحكام شرعهم ، وإلا ففي الحقيقة كتب بني اسرائيل : التوراة والإنجيل والزبور. قوله : (وَالْحُكْمَ) أي الفصل بين الخصوم ، وهذه نعم دينية ، وقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) نعم دنيوية فلم يشكروا عليها. قوله : (كالمن والسلوى) أي في أيام التيه. قوله : (العقلاء) تقدم ما فيه ، وأن الأولى التعبير بالثقلين.

قوله : (وَآتَيْناهُمْ) أي بني اسرائيل في التوراة ، والمعنى : بينا لهم فيه أمر الشريعة ، وأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنهم يؤمنون به إن ظهر بينهم ، كما أشار له المفسر. قوله : (وَاخْتَلَفُوا) (في بعثته) إلخ ، أي وقد كانوا قبل ذلك متفقين ، فلما جاءهم العلم والشرع في كتابهم اختلفوا ، وكان مقتضاه أن يدوم لهم

٦

حسدا له (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧) (ثُمَّ جَعَلْناكَ) يا محمد (عَلى شَرِيعَةٍ) طريقة (مِنَ الْأَمْرِ) أمر الدين (فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨) في عبادة غير الله (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا) يدفعوا (عَنْكَ مِنَ اللهِ) من عذابه (شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩) المؤمنين (هذا) القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) معالم يتبصرون بها في الأحكام والحدود (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠) بالبعث (أَمْ) بمعنى همزة الأنكار (حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اكتسبوا (السَّيِّئاتِ) الكفر والمعاصي (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً) خبر (مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) مبتدأ ومعطوف ، والجملة بدل من

____________________________________

الاتفاق. قوله : (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بالمؤاخذة والمجازاة. قوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) الكاف مفعول أول لجعلنا ، و (عَلى شَرِيعَةٍ) هو المفعول الثاني ، والشريعة تطلق على مورد الناس من الماء على المذهب والملة ، والمراد هنا ما شرعه الله لعباده من الدين ، سمي شريعة لأنه يقصد ويلجأ إليه ، كما يلجأ إلى الماء من العطش. قوله : (مِنَ الْأَمْرِ) يطلق على مقابل النهي وعلى الشأن ، ويصح إرادة كل منهما هنا ، والمعنى : ثم جعلناك على طريقة من الدين ، وهي ملة الإسلام التي كان عليها إبراهيم ، ولا شك أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح ، وإنما التغاير في الفروع. قوله : (أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي وهم رؤساء قريش حيث قالوا : ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك وأسن.

قوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) تعليل لما قبله ، وقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) عطف على ما قبله من تتمة التعليل. قوله : (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في الدنيا ، والأولى لهم في الآخرة يزيل عنهم العقاب. قوله : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي في الدنيا والآخرة ، لأنهم اتقوا الشرك. قوله : (هذا بَصائِرُ) مبتدأ وخبر ، وجمع الخبر باعتبار أن المبتدأ مشار به إلى ما تقدم من الآيات ، ولا شك أنه جمع. قوله : (معالم) جمع معلم ، وهو في الأصل الأثر الذي يتسدل به على الطريق ، والمراد هنا أن تلك الآيات تبصر الناس في الأحكام وتدلهم عليها.

قوله : (وَهُدىً) أي من الضلالة. قوله : (وَرَحْمَةٌ) أي إحسان. قوله : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين ، وأما الكفار فهو وبال وخسران عليهم. قوله : (أَمْ) (بمعنى همزة الإنكار) أي فهي منقطعة ، تقدر تارة بالهمزة وحدها ، أو ببل وحدها ، أو بهما معا ، والمراد انكار الحسبان أي الظن ، والمعنى : لا ينبغي أن يكون ، وإلا فالظن قد وقع بالفعل. قوله : (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) فاعل حسب ، وجملة (أَنْ نَجْعَلَهُمْ) إلخ سادة مسد المفعولين ، والمراد بالاجتراح الاكتساب كما قال المفسر ، ومنه الجوارح ، قال الكلبي الذين اجترحوا السيئات عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، علي وحمزة وعبيدة بن الحرث رضي الله عنهم ، حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم ، وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الله عنهم في قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى).

قوله : (سَواءً) (خبر) أي على قراءة الرفع ، وقرأ بعض السبعة بالنصب على الحال. قوله :

٧

الكاف والضميران للكفار ، المعنى : أحسبوا أن نجعلهم في الآخرة في خير كالمؤمنين أي في رغد من العيش مساو لعيشهم في الدنيا حيث قالوا للمؤمنين : لئن بعثنا لنعطي من الخير مثل ما تعطون ، قال تعالى على وفق إنكار بالهمزة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١) أي ليس الأمر كذلك فهم في الآخرة في العذاب ، على خلاف عيشهم في الدنيا ، والمؤمنون في الآخرة في الثواب بعملهم الصالحات في الدنيا ، من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك ، وما مصدرية أي بئس حكما حكمهم هذا (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ) خلق (الْأَرْضَ بِالْحَقِ) متعلق بخلق ليدل على قدرته ووحدانيته (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من المعاصي والطاعات ، فلا يساوي الكافر المؤمن (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢) (أَفَرَأَيْتَ) أخبرني (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ما يهواه من حجر بعد حجر يراه أحسن

____________________________________

(والجملة) أي من المبتدأ والخبر. قوله : (بدل من الكاف) أي الداخلة على الموصول. قوله : (أي ليس الأمر كذلك) أشار بذلك إلى أن همزة الإنكار للنفي ، وكان المناسب للمفسر تقديم هذا على قوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) فإنه مرتبط بما قبله ، والمعنى : أم حسبوا أن نجعلهم كائنين مثلهم مستويا ، محياهم ومماتهم؟ كلا لا يستوون في شيء منها ، فإن هؤلاء في عز الإيمان والطاعة ، وشرفهما في المحيا ، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات ، وأولئك في ظل الكفر والمعاصي ، وهو أنهما في المحيا ، وفي لعنة الله والعذاب المخلد في الممات ، ولا يعتبر توسعة العيش في الدنيا ، فإنها بحسب القسمة الأزلية ، للمؤمن والكافر ولكل دابة. قوله : (أي بئس حكما) إلخ ، مقتضى هذا الحل أن (ما) مميزة ، وحينئذ فالفاعل مستتر ، وهو ينافي كونها مصدرية ، لأنها في تلك الحالة تكون فاعلا ، فالمناسب لجعلها مصدرية أن يقول : ساء الحكم حكمهم.

قوله : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) إلخ ، من تتمة قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) إلخ وهو كالدليل له ، كأنه قال : لا يستوي المؤمن والكافر ، بدليل أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ، أي للعبر والاستدلال ، ولم يترك العباد سدى ، وجازى كل نفس بما كسبت ، فلا يستوي جزاء المؤمن بجزاء الكافر. قوله : (متعلق بخلق) أي على أنه حال من الفاعل أو المفعول. قوله : (ليدل على قدرته) إلخ ، قدره إشارة إلى أن قوله : (وَلِتُجْزى) عطف على علة محذوفة. قوله : (وَهُمْ) أي النفوس المدلول عليها بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ.) قوله : (لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص من ثواب المؤمن ، ولا يزاد في العذاب على ما يستحقه الكافر. قوله : (أخبرني) تقدم أن فيه مجازين ، حيث أطلق الرؤية وأراد الإخبار ، ثم أطلق الاستفهام على الإخبار وأراد الأمر به ، وقوله : (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ) إلخ ، مفعول أول لرأيت ، والمعنى : ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى ، فكأنه يعبده. قوله : (من حجر) أي وغيره كالشمس والقمر من كل معبود غير الله ، عاقلا أو غير عاقل ، فالكفر هو العبادة ، بأن يتقرب إلى غيره كما يتقرب إليه ، وأما زيارة الصالحين والأنبياء ، فليس من قبيل العبادة لهم ، بل هي من باب التسبب في نفع الغير ، لأن الترضي عن الأولياء ، والصلاة والسّلام على الأنبياء ، دعا للغير بذلك ، ولا شك أن ذلك الغير ينتفع به ، والمتسبب له مثله ، لما ورد : أن الملك يقول له ولك مثل ذلك ، فآل الأمر إلى أن زيارة الصالحين والتوسل بهم ، من جملة طاعة الله ، وصاحبها محبوب لله ، لأن أحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده ، وصدق عليهم أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، فليست معصية فضلا عن كونها شركا ، كما اعتقده ذوو الجهل المركب والعقيدة

٨

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) منه تعالى ، أي عالما بأنه من أهل الضلالة قبل خلقه (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) فلم يسمع الهدي ولم يعقله (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ظلمة فلم يبصر الهدي ويقدر هنا المفعول الثاني لرأيت أيهتدي (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) بعد إضلاله إياه لا يهتدي (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) تتعظون فيه إدغام إحدى التاءين في الذال (وَقالُوا) أي منكرو البعث (ما هِيَ) أي الحياة (إِلَّا حَياتُنَا) التي في (الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعض ويحيا بعض بأن يولدوا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزمان ، قالت تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ) المقول (مِنْ عِلْمٍ إِنْ) ما (هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) من القرآن الدالة على قدرتنا على البعث (بَيِّناتٍ) واضحات حال (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) أحياء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) أنا نبعث (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) حين كنتم نطفا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) أحياء (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ) شك (فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم القائلون ما ذكر (لا يَعْلَمُونَ) (٢٦)

____________________________________

الزائغة. قوله : (أي عالما بأنه من أهل الضلالة) أشار بذلك إلى أن قوله : (عَلى عِلْمٍ) من الفاعل ، ويصح أن يكون حالا من المفعول ، والمعنى أضله في حال كونه عالما بالحق غير جاهل به ، فهو أشد قبحا.

قوله : (غِشاوَةً) بكسر الغين أو بفتحها ، مع سكون الشين وحذف الألف ، قراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بفتح الغين وضمها ، وإثبات الألف أو بكسر الغين وحذف الألف ، أو بالعين المهملة. قوله : (وبقدر هنا المفعول الثاني) أي وإنما حذف لدلالة (فَمَنْ يَهْدِيهِ) عليه ، ولا حاجة للتقدير ، إذ يصح أن تكون هي المفعول الثاني ، وقد وصفهم الله تعالى بأربعة أوصاف : الأول قوله : (اتَّخَذَ) إلخ ، الثاني قوله : (وَأَضَلَّهُ) إلخ ، الثالث قوله : (وَخَتَمَ) إلخ ، الرابع قوله : (وَجَعَلَ) إلخ ، فكل وصف منها مقتض للضلالة ، فلا يمكن إيصال الهدى إليه بوجه من الوجوه. قوله : (إحدى التاءين) أي الثانية. قوله : (أي الحياة) بيان لمرجع الضمير ، ويقال لهذا الضمير ضمير قصة. قوله : (أي يموت بعض) إلخ ، دفع بذلك ما يقال إن قولهم (نَمُوتُ وَنَحْيا) فيه اعتراف بالحياة بعد الموت ، مع أنهم ينكرونها ، ويجاب أيضا : بأن الآية فيها تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت. قوله : (أي مرور الزمان) أي فكان الجاهلية يقولون : الدهر هو الذي يهلكنا ، وهو الذي يحيينا ويميتنا ، ولذلك رد عليهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان أهل الجاهلية يقولون : وما يهلكنا إلا الليل والنهار ، وهو الذي يحيينا ويميتنا ، فيسبون الدهر ، فقال تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار». والحاصل أن فرقة من الكفار يسمون الدهرية ، ينسبون الفعل ضرا أو نفعا للزمان ، فرد عليهم بما تقدم. قوله : (المقول) أي وهو قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) إلخ. قوله : (واضحات) أي ظاهرات. قوله : (حال) أي من (آياتُنا).

قوله : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) بالنصب خبر (كانَ) وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) اسمها ، أي إلا قولهم ، وتسميتها حجة على سبيل التهكم ، أو على حسب زعمهم. قوله : (ائْتُوا بِآبائِنا) أي الذين ماتوا قبلنا. قوله : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) رد لقولهم : (ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.) قوله : (وهم) أي الأكثر ، وجمع باعتبار

٩

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يبدل منه (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (٢٧) الكافرون أي يظهر خسرانهم بأن يصيروا إلى النار (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ) أي أهل دين (جاثِيَةً) على الركب أو مجتمعة (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) كتاب أعمالها ويقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨) أي جزاؤه (هذا كِتابُنا) ديوان الحفظة (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) نثبت ونحفظ (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) جنته (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (٣٠) البين الظاهر (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقال لهم (أَفَلَمْ

____________________________________

المعنى. قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص. قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ظرف لقوله : (يَخْسَرُ) وقوله : (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَ) قبله للتوكيد ، والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) عوض عن جملة مقدرة ، والتقدير : يومئذ تقوم الساعة ، فهو بدل توكيدي. قوله : (أي يظهر خسرانهم) جواب عما يقال : إن خسرانهم متحتم في الأزل.

قوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) رأى بصرية و (كُلَ) مفعولها و (جاثِيَةً) حال ، واختلف هل الجثي خاص بالكفار ، وبه قال يحيى بن سلام ، وقيل عام للمؤمن والكافر انتظارا للحساب ، ويؤيده ما ورد : إن في القيامة لساعة هي عشر سنين ، يخرّ الناس فيها جثاة على ركبهم ، حتى إن إبراهيم عليه‌السلام ينادي : لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وذلك لأن الحضرة في ذلك اليوم حضرة جلال ، فالجميع يعطونه حقه من الخوف والهيبة ، إلى أن يحصل التمييز ، والجثو وضع الركبتين بالأرض ، مع رفع الألية ونصب القدمين ، ويطلق على الجلوس على أطراف القدمين مع وضع الركب بالأرض ، وكل من المعنيين يدل على كونه مستوفزا غير مطمئن ، وقوله : (أو مجتمعة) أو لحكاية الخلاف ، وقيل معناه متميزة ، وقيل خاضعة. قوله : (كُلَّ أُمَّةٍ) بالرفع في قراءة العامة مبتدأ ، و (تُدْعى) خبرها. قوله : (تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أضيف لهم الكتاب باعتبار أنه مشتمل على أعمالهم. قوله : (ويقال لهم) قدره إشارة إلى أن الجملة مقولة لقول محذوف ، و (الْيَوْمَ) معمول لتجزون ، و (ما كُنْتُمْ) مفعوله الثاني ، ونائب الفاعل مفعول أول.

قوله : (هذا كِتابُنا) قيل من قول الله لهم ، وقيل من قول الملائكة لهم. قوله : (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي يدل عليه لأنهم يقرؤونه ، فيذكرهم بما فعلوه لقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) قوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قيل معناه أن لله ملائكة مطهرين ، ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل يوم ما يكون من أعمال بني آدم في العام كله ، ويعرضونه على الحفظة كل خميس ، فيجدون ما كتبه الحفظة على بني آدم موافقا لما في أيديهم ، وقيل إن الملائكة الحفظة ، إذا رفعت أعمال العباد إلى الله عزوجل ، أمر بأن يثبت عنده منها ما فيه ثواب أو عقاب ، ويسقط ما لا ثواب فيه ولا عقاب. قوله : (نثبت ونحفظ) أي فالمراد بالنسخ الإثبات والنقل ، إما من اللوح المحفوظ ، أو من صحف الكتبة كما علمت.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، تفصيل لما أجمل في قوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قوله : (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي مع السابقين ، فلا ينافي أن المؤمن ، وإن لم يعمل الصالحات

١٠

تَكُنْ آياتِي) أي القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١) كافرين (وَإِذا قِيلَ) لكم أيها الكفار (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌّ وَالسَّاعَةُ) بالرفع والنصب (لا رَيْبَ) شك (فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ) ما (نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) قال المبرد : أصله إن نحن إلا نظن ظنا (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢) أنها آتية (وَبَدا) ظهر (لَهُمْ) في الآخرة (سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) في الدنيا أي جزاؤها (وَحاقَ) نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٣) أي العذاب (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) نترككم في النار (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي تركتم العمل للقائه

____________________________________

يدخل الجنة ، لكن لا مع السابقين ، بل إما بعد الحساب ، أو بعد الشفاعة ، فلا يقال : إن التقييد بالعمل الصالح ، يخرج من مات على الإيمان ولم يعمل صالحا. قوله : (جنته) إنما فسر العام بالخاص ، لأن الجنة أثر الرحمة التي تستقر الخلائق فيها ، وتوصف بالدخول فيها دون غيرها من آثار الرحمة. قوله : (الْفَوْزُ) أي بلوغ الآمال والظفر بالمقصود. قوله : (الْمُبِينُ) أي الخالص من الشوائب. قوله : (فيقال لهم) قدره إشارة إلى أن جواب إما محذوف.

قوله : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي) إلخ ، الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، أي أتركتم الإيمان بالرسل فلم تكن إلخ. قوله : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) هذا من جملة ما يقال لهم ، وحينئذ فيصير المعنى : وكنتم إذا قيل لكم إن وعد الله حق ، إلخ. قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بكسر (إِنَ) في قراءة العامة لحكايتها بالقول ، وقرىء شذوذا بفتحها ، إجراء للقول مجرى الظن في لغة سليم. قوله : (بالرفع والنصب) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالرفع على الابتداء ، وجملة (لا رَيْبَ فِيها) خبره ، والنصب عطفا على اسم (إِنَّ).

قوله : (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) هذا على سبيل الاستغراب والاستبعاد. قوله : (إن نظن إلا ظنا) إن قلت : ما الجمع بين ما هنا وما تقدم في قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) فإن ما تقدم أثبت أنهم جازمون بعدم البعث ، وهنا أفاد أنهم شاكون فيه ، ويمكن الجواب بأن الكفار لعلهم افترفوا فرقتين : فرقة جازمة بنفي البعث وفرقة متحيرة فيه. قوله : (قال المبرد) إلخ ، جواب عما يقال : إن ظاهر الآية وقوع المفعول المطلق استثناء مفرغا ، مع أن المقرر في النحو ، أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع المعمولات ، إلا المفعول المطلق ، فلا يقال : ما ضربت إلا ضربا لاتحاد مورد النفي والإثبات ، لأنه يصير في قوة ما ضربت إلا ضربت ، ولا فائدة في ذلك ، فأجاب المفسر : بأن الآية مؤولة بأن مورد النفي محذوف تقديره (نَحْنُ) ، ومورد الإثبات كونه نظن ظنا ، فكلمة (إِلَّا) مؤخر من تقديم ، والمعنى حصر أنفسهم في الظن ونفي ما عداه.

قوله : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) مبالغة في نفي ما عدا الظن عنهم. قوله : (أي جزاؤها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (نترككم في النار) أشار بذلك إلى أن المراد من النسيان الترك مجازا ، لأن الترك مسبب عن النسيان ، فإن من نسي شيئا تركه ، فسمي السبب باسم المسبب ، لاستحالة حقيقة النسيان عليه تعالى. قوله : (أي تركتم العمل للقائه) أشار بذلك إلى أنه من اضافة المصدر إلى ظرفه على حد مكر الليل ، وفي الكلام حذف قدره المفسر بقوله : (العمل) والمعنى : تركتم العمل للقاء الله

١١

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٤) مانعين منها (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ) القرآن (هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) حتى قلتم : لا بعث ولا حساب (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ) بالبناء للفاعل وللمفعول (مِنْها) من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥) أي لا يطلب منهم أن يرضوا ربهم بالتوبة والطاعة ، لأنها لا تنفع يومئذ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الوصف بالجميل على وفاء وعده في المكذبين (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦) خالق ما ذكر ، والعالم ما سوى الله ، وجمع لاختلاف أنواعه ، ورب بدل (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) العظمة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حال أي كائنة فيهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧) تقدم.

____________________________________

في يومكم هذا ، ولا يصح أن يكون من اضافة المصدر لمفعوله ، لأن التوبيخ على نسيان ما في اليوم من الجزاء ، لا على نفس اليوم. قوله : (ذلِكُمْ) أي العذاب الدائم. قوله : (بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ) إلخ ، أي بسبب اتخاذكم.

قوله : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ) إلخ ، فيه التفات من الخطاب للغيبة ، ونكتته الإشارة إلى أنهم ساقطون عن رتبة الخطاب لهوانهم. قوله : (بالبناء للفاعل وللمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (لأنها لا تنفع يومئذ) أي وأما في الدنيا فالتوبة والطاعة نافعان ، فالذي ينبغي للعاقل المبادرة لذلك قبل الفوات. قوله : (على وفاء وعده في المكذبين) أي وللمؤمنين ، وإنما اقتصر على المكذبين ، دفعا لما يتوهم أنه تعالى إنما يحمد على الفضل ، فأفاد أنه كما يحمد على الفضل ، يحمد على العدل ، لأن أوصافه تعالى جميلة. قوله : (ورب بدل) أي في المواضع الثلاثة ، ويصح أن يكون نعتا للفظ الجلالة.

قوله : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أي آثارها ، لأن وصف الكبرياء قائم بذاته تعالى ، وإنما تظهر آثارها في السماوات والأرض من التصرف والقهر ، فتصرفه سبحانه وتعالى في السماوات والأرض وما فيهما من آثار كبريائه سبحانه وتعالى ، لا يعلم قدره غيره ، ولا يبلغ الواصفون صفته. قوله : (حال) ويصح أن يتعلق بنفس الكبرياء لأنه مصدر. قوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب الذي يضع الشيء في محله.

١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف

مكيّة

وآياتها خمس وثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم) (١) الله أعلم بمراده به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) القرآن مبتدأ (مِنَ اللهِ) خبره (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَكِيمِ) (٢) في صنعه (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا) خلقا (بِالْحَقِ) ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) إلى فنائهما يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) خوّفوا به من العذاب (مُعْرِضُونَ) (٣) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (ما

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف

مكية إلا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الآية. وإلا (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الآية. وإلا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) الثلاث آيات. وهي أربع أو خمس وثلاثون آية.

سيأتي أن الأحقاف واد باليمن ، كانت فيه منازل عاد ، وقيل : إنه جمع حقف وهو التل من الرمل ، ولا منافاة بين القولين ، إذ لا مانع من كون التلال في منازل عاد. قوله : (إلا قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الخ) أي بناء على أن الشاهد عبد الله بن سلام ، إذ لم يظهر منه التصديق بالقرآن إلا بالمدينة ، وأما على أن المراد به موسى عليه‌السلام ، فلا تكون مدنية. قوله : (الثلاث آيات) أي وآخرها قوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وحينئذ فجملة الآيات المستثنيات خمس. قوله : (وهي أربع أو خمس) الخ ، هذا الخلاف مبني على أن (حم) تعد آية مستقلة أولا. قوله : (الله أعلم بمراده به) تقدم غير مرة ، أن هذا القول هو الأسلم ، وهو طريقة السلف في تفويض علم المتشابه لله تعالى.

قوله : (مِنَ اللهِ) أي لم يخترعه من نفسه ، ولم ينقله من بشر ، ولا من جني كما قال الكفار. قوله : (الْحَكِيمِ) (في صنعه) أي الذي أتقن كل شيء. قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) هذا هو مصب النفي ، وهو صفة لمصدر محذوف كما قدره المفسر. قوله : (ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا) أي وباقي الصفات الكمالية ، وتنزهه عن النقائص ، لأن بالخلق يعرف الحق ، لأن كل صنعة تدل على وجود صانعها ، واتصافه بصفات الكمال. قوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) عطف على الحق والكمال على حذف مضاف ، أي وإلا بتقدير أجل مسمى ، لأن الأجل نفسه متأخر عن الخلق ، وفيه رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، و (مُعْرِضُونَ) خبره ، وقوله : (عَمَّا أُنْذِرُوا) متعلق بمعرضون ،

١٣

تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام مفعول أول (أَرُونِي) أخبروني تأكيد (ما ذا خَلَقُوا) مفعول ثان (مِنَ الْأَرْضِ) بيان ما (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) مشاركة (فِي) خلق (السَّماواتِ) مع الله ، وأم بمعنى همزة الإنكار (ائْتُونِي بِكِتابٍ) منزل (مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن (أَوْ أَثارَةٍ) بقية (مِنْ عِلْمٍ) يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام أنها تقربكم إلى الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) في دعواكم (وَمَنْ) استفهام بمعنى النفي أي لا أحد (أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا) يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وهم الأصنام لا يجيبون عابديهم إلى شيء يسألونه أبدا (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ) عبادتهم (غافِلُونَ) (٥) لأنهم جماد لا يعقلون (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا) أي الأصنام (لَهُمْ) لعابديهم (أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ) بعبادة عابديهم (كافِرِينَ) (٦) جاحدين (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أهل مكة (آياتُنا) القرآن (بَيِّناتٍ) ظاهرات حال (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (لِلْحَقِ) أي القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) بين ظاهر

____________________________________

وما اسم موصول ، والعائد محذوف قدره المفسر بقوله : والأولى أن يقدر منصوبا لاختلاف الجار للموصول وللعائد بأن يقول خوفوه. قوله : (تأكيد) أي لقوله : (أَرَأَيْتُمْ.) قوله : (مفعول ثان) أي أن الجملة الاستفهامية سدت مسد المفعول الثاني. قوله : (بيان ما) أشار بذلك إلى أن (ما) اسم استفهام ، و (ذا) اسم موصول خبرها ، و (خَلَقُوا) صلة الموصول ، ويصح أن (ما ذا) اسم استفهام مفعول لخلقوا. قوله : (بمعنى همزة الإنكار) أي وبل الإضرابية فهي منقطعة.

قوله : (ائْتُونِي بِكِتابٍ) الأمر للتبكيت ، وفيه إشارة إلى نفي الدليل النقلي ، بعد الإشارة إلى نفي الدليل العقلي. قوله : (مِنْ قَبْلِ هذا) صفة لكتاب ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره المفسر خاصا بقوله : (منزل) والمناسب أن يقدره عاما من مادة الكون. قوله : (أَوْ أَثارَةٍ) مصدر على وزن كفالة ، وقوله : (مِنْ عِلْمٍ) صفة لأثارة ، وهي مشتقة من الأثر الذي هو الرواية والعلامة ، أو من أثرت الشيء أثيره أثارة ، استخرجت بقيته ، والمعنى : ائتوني برواية أو علامة أو بقية من علم يؤثر عن الأنبياء والصلحاء. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي فائتوني.

قوله : (وَمَنْ أَضَلُ) الخ ، مبتدأ وخبر. قوله : (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ مَنْ) نكرة موصوفة بالجملة بعدها ؛ أو اسم موصول ما بعدها صلتها ، وهي معمولة ل (يَدْعُوا) والمعنى لا أحد أضل من شخص يعبد شيئا لا يجيبه ، أو الشيء الذي لا يجيبه ، ولا ينفعه في الدنيا والآخرة. قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الغاية داخلة في المغيا ، وهو كناية عن عدم الاستجابة في الدنيا والآخرة. قوله : (وهم الأصنام) عبر عنهم بضمير العقلاء ، مجاراة لما يزعمه الكفار. قوله : (لأنهم جماد) أشار بذلك إلى أن المراد بالغفلة عدم الفهم. قوله : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) أي جمعوا بعد إخراجهم من القبور. قوله : (جاحدين) أي منكرين ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) قوله : (حال) أي من آياتنا. قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أظهر في مقام الإضمار ، لبيان وصفهم بالكفر ، ووصف الآيات بالحق ، وإلا فمقتضى الظاهر : قالوا لها. قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين جاءهم. قوله : (ظاهر) أي باهر لا يعارض إلا بمثله.

١٤

(أَمْ) بمعنى بل وهمزة الإنكار (يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي القرآن (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) فرضا (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً) أي لا تقدرون على دفعه عني إذا عذبني الله (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) تقولون في القرآن (كَفى بِهِ) تعالى (شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن تاب (الرَّحِيمُ) (٨) به فلم يعاجلكم بالعقوبة (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً) بديعا (مِنَ الرُّسُلِ) أي أول مرسل ، قد سبق قبلي كثير منهم فكيف تكذبوني (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الدنيا أأخرج من بلدي أم أقتل كما فعل بالأنبياء قبلي أم ترموني بالحجارة أم يخسف بكم كالمكذبين قبلكم (إِنْ) ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي القرآن ولا أبتدع من عندي شيئا (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩) بين الإنذار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني ماذا حالكم (إِنْ كانَ) أي القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ

____________________________________

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) الخ ، ترق في الانكار ، وانتقال إلى ما هو أشنع. قوله : (فرضا) أي على سبيل الفرض والتقدير. قوله : (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي فهو المتولي أموري ، لا أحد يقدر على دفع ما أصابني منه غيره. قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي تخوضون وتقدحون في القرآن بقولكم : هو شعر ، هو سحر ، وغير ذلك. قوله : (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي فيشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والأنكار. قوله : (الرَّحِيمُ) (به) المناسب أن يقول : الرحيم بعباده ، ليحسن ترتيب قوله : (فلم يعاجلكم) الخ ، عليه. قوله : (فلم يعاجلكم بالعقوبة) أي بل أمهلكم لتتوبوا وترجعوا ، عما أنتم عليه ، ففيه وعد حسن بالمغفرة للتائبين ، والرحمة بجميع العباد ، إشارة إلى أن حلم الله ورحمته شاملة لهم ، مع عظم خوفهم. قوله : (بديعا) أشار بذلك إلى أن (بِدْعاً) صفة كحق وحقيق ، وهو من الابتداع والاختراع ، ويصح أن يكون مصدرا على حذف مضاف ، أي ذا بدع ، وقرىء شذوذا بكسر الباء وفتح الدال جمع بدعة ، أي ما كنت صاحب بدع ، وبفتح الباء وكسر الدال ، وصف كحذر.

قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ما) استفهامية مبتدأ ، والجملة بعدها خبرها ، وهي معلقة لأدري عن العمل ، فهي سادة مسد مفعوليها ، ولما نزلت هذه الآية ، فرح المشركون والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا؟ وإنه لا فضل له علينا ، ولو لا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه ، لأخبره الذي بعثه بما يفعله به ، فنسخت هذه الآية ، وأرغم الله أنف الكفار بنزول قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) الآيات ، فقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك ، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الآية. ونزلت (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) فهذه الآية نزلت في أوائل الإسلام ، قبل بيان مآل النبي والمؤمنين والكافرين ، وإلا فما خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدنيا ، حتى أعلمه الله في القرآن ، ما يحصل له وللمؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة ، إجمالا وتفصيلا.

قوله : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الحصر إضافي ، أي منذر عن الله ، لا مخترع من تلقاء نفسي ، فلا ينافي أنه بشير أيضا. قوله : (ما ذا حالكم) أشار بذلك إلى أن مفعولي (أَرَأَيْتُمْ) محذوفان دلت عليهما

١٥

وَكَفَرْتُمْ بِهِ) جملة حالية (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) هو عبد الله بن سلام (عَلى مِثْلِهِ) أي عليه أنه من عند الله (فَآمَنَ) الشاهد (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن الإيمان ، وجواب الشرط بما عطف عليه ألستم ظالمين؟ دل عليه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي في حقهم (لَوْ كانَ) الإيمان (خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا) أي القائلون (بِهِ) أي بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا) أي القرآن (إِفْكٌ) كذب (قَدِيمٌ) (١١) (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي القرآن (كِتابُ مُوسى) أي التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) للمؤمنين به حالان (وَهذا) أي القرآن (كِتابٌ مُصَدِّقٌ) للكتب قبله (لِساناً عَرَبِيًّا) حال من الضمير في مصدق (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) مشركي مكة (وَ) هو (بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) (١٢) المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)

____________________________________

الجملة. قوله : (جملة حالية) أي وكذا ما بعدها من الجمل الثلاث ، ويصح جعل الجمل الأربعة معطوفات على فعل الشرط ، فقول المفسر فيما يأتي بما عطف عليه ، يعني من الجمل الأربع فيه تلفيق ، ويمكن أن يجاب بأن المراد العطف اللغوي. قوله : (هو عبد الله بن سلام) وقيل : الشاهد موسى ، وشهادته ما في التوراة من نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (أي عليه) أشار بذلك إلى أن مثل صلة. قوله : (ألستم ظالمين) المناسب للمفسر تقدير الفاء ، لأن الجملة التي فعلها جامدة ، إذا وقعت جوابا للشرط ، لزمت الفاء.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، هذا من جملة قبائح الكفار ، وزعما منهم أن عز الآخرة تابع لعز الدنيا ، ولم يعلموا أن رحمة الله يخص بها من يشاء ، ولا سيما من لم تكن الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ، ورد أن القائل ذلك جملة من العرب وهم : بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع ، ولما أسلم جهينة ومزينة أو أسلم وغفار. قوله : (أي في حقهم) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى في ، ويصح أن تبقى على بابها. قوله : (لَوْ كانَ) (الإيمان) الخ ، أشار بذلك إلى أن الضمير في (كانَ) عائد على (الإيمان) ويصح عوده على القرآن أو على الرسول ، وكلها معان متلازمة. قوله : (ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وكان مقتضى الظاهر ما سبقتمونا إليه ، والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على ما عاد عليه ضمير (كانَ).

قوله : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) ظرف لمحذوف تقديره زادوا طغيانا ، وليس قوله : (فَسَيَقُولُونَ) عاملا فيه لأمرين : وجود الفاء. وكون الفعل مستقبلا ، لأن ما بعد الفاء ، لا يعمل فيما قبلها وبين الماضي ، والاستقبال تضاد ، فإن الفعل مستقبل و (إِذْ) للماضي. قوله : (إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي من قول الأقدمين : أتى به هو ونسبة إلى الله تعالى ، فهو كقولهم (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ) خبر مقدم ، و (كِتابُ) مبتدأ مؤخر ، والجملة حالية أو مستأنفة ، وهو رد لقولهم (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) والمعنى : لا يصح كونه إفكا قديما ، مع كونكم سلمتم كتاب موسى ورجعتم إلى حكمه ، فإن القرآن مصدق لكتاب موسى وغيره ، وفيه قصص المتقدمين من الرسل وغيرهم والمتأخرين. قوله : (حالان) أي من كتاب موسى. قوله : (مُصَدِّقٌ) (للكتب قبله) أي كتاب موسى وغيره من باقي الكتب السماوية. قوله : (حال من الضمير في مصدق) ويصح أن يكون حالا من (كِتابُ ،) و (عَرَبِيًّا) صفة ل (لِساناً.) قوله : (لِيُنْذِرَ) متعلق ب (مُصَدِّقٌ) قوله : (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أشار المفسر بتقدير الضمير إلى أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حالية ، ويصح أن يكون معطوفا على (مُصَدِّقٌ) فهو مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها

١٦

على الطاعة (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣) (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) حال (جَزاءً) منصوب على المصدر بفعله المقدر أي يجزون (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) وفي قراءة إحسانا أى أمرناه أن يحسن إليهما ، فنصب إحسانا على المصدر بفعله المقدر ، ومثله حسنا (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي على مشقة (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) من الرضاع (ثَلاثُونَ شَهْراً) ستة أشهر أقل مدة الحمل ، والباقي مدة الرضاع ، وقيل : إن حملت به ستة أو تسعة أرضعته الباقي (حَتَّى) غاية لجملة مقدرة أي وعاش حتى (إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) هو كمال

____________________________________

التعذر ، أو منصوب عطف على محل قوله : (لِيُنْذِرَ) كأنه قال للإنذار والبشارة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي وحدوا ربهم ، وقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) الاستقامة هي العلم والعمل ، وأتى بثم اشارة إلى أن اعتبار العلم والعمل ، إنما يكون بعد التوحيد ، وللدلالة على الاستمرار على الاستقامة ، فليس المراد حصول الاستقامة مدة ، ثم يرجع للمخالفات. قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي من وقت حضور الموت ، إلى ما لا نهاية له ، فيأمنون من الفتانات ، وسؤال الملكين ، وعذاب القبر ، وهو الموقف والنار. قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي على ما فاتهم في الدنيا. قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي هي لهم بالأصالة. قوله : (حال) أي من ضمير أصحاب الجنة.

قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) لما كان حق الوالدين مطلوبا ، بعد حق الله تعالى ، ذكر الوصية بهما ، ثم ما يتعلق بحقوقه تعالى ، ومناسبة ذكر الوصية بالوالدين ، ، عقب ذكر صفات أهل الجنة وأهل النار ، لأن الإنسان يختلف حاله مع أبويه ، فقد يبرهما فيكون ملحقا بأهل الجنة ، وقد يعقهما فيكون ملحقا بأهل النار. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية أيضا. قوله : (أي أمرناه) الخ ، تفسير لكل من القراءتين. قوله : (فنصب إحسانا) الخ ، بيان لإعراب القراءتين ، على اللف والنشر المشوش ، والحسن والإحسان بمعنى واحد ، وهو جمال القول والفعل ، بأن يعظمها ويوقرهما قولا وفعلا. قوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) الخ ، علة لقوله : (وَصَّيْنَا) واقتضر على ذكر الأم ، لأن حقها أعظم ، ولذلك قيل : إن لها ثلثي الأجر. قوله : (كُرْهاً) بفتح الكاف وضمها ، قراءتان سبعيتان ، ومعناهما واحد. قوله : (أي على مشقة) أي في أثناء الحمل ، إذ لا مشقة في أوله.

قوله : (وَحَمْلُهُ) أي مدة حمله ، وقوله : (ثَلاثُونَ شَهْراً) خبر قوله : (حَمْلُهُ) على حذف مضاف. قوله : (إن حملت به ستة) أي من الشهور ، وقوله : (أرضعته الباقي) أي من الثلاثين ، وهو أربعة وعشرون ، أو أحد وعشرون ، قيل : إن الآية عامة في كل إنسان ، وقيل : إنها خاصة بمن نزلت في حقه ، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لما روي أن أمه حملت به تسعة أشهر ، وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. قوله : (غاية لجملة مقدرة) أي معطوفة على قوله : (وَوَضَعَتْهُ) أو مستأنفة. قوله : (أقله ثلاث وثلاثون سنة) أي لأن هذا الوقت هو الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان. قوله : (الخ) أي وآخرها قوله : (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.) قوله : (نزل) أي المذكور من قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) الخ. وحاصل ذلك : أن أبا بكر صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة ، في تجارة إلى الشام ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك ، فسأله عن

١٧

قوّته وعقله ورأيه أقله ثلاث وثلاثون سنة أو ثلاثون (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي تمامها وهو أكثر الأشد (قالَ رَبِ) الخ ، نزل في أبي بكر الصديق لما بلغ أربعين سنة بعد سنتين من مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمن به ثم آمن أبواه ثم ابنه عبد الرحمن وابن عبد الرحمن أبو عتيق (أَوْزِعْنِي) ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ) بها (عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) وهو التوحيد (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) فكلهم مؤمنون (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥) (أُولئِكَ) أي قائلوا هذا القول أبو بكر وغيره (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ) بمعنى حسن (ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) حال أي كائنين في جملتهم (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦) في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) وفي قراءة بالإدغام أريد به الجنس (أُفٍ) بكسر الفاء وفتحها بمعنى مصدر أي نتنا وقبحا (لَكُما) أتضجر منكما (أَتَعِدانِنِي) وفي قراءة بالإدغام (أَنْ أُخْرَجَ) من القبر (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) الأمم (مِنْ قَبْلِي) ولم تخرج من القبور (وَهُما

____________________________________

الدين فقال له الراهب : من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، فقال الراهب : هذا والله نبي ، وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا ، وهو نبي آخر الزمان ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق وكان لا يفارق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ولا حضر ، فلما بلغ رسول الله أربعين سنة ، وأكرمه الله تعالى بنبوته ، واختصه برسالته ، آمن به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وصدقه ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، فلما بلغ أربعين سنة ، دعا ربه عزوجل فقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) الآية. قوله : (ثم آمن أبواه) أي أبوه عثمان بن عامر بن عمرو ، وكنيته أبو قحافة ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. قوله : (وابن عبد الرحمن) أي واسمه محمد ، وكلهم أدركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يجتمع هذا لأحد من الصحابة غير أبي بكر ، وامرأة أبي بكر اسمها قتيلة بنت عبد العزى ، وامرأة أبيه اسمها قيلة. قوله : (ألهمني) أي رغبني ووفقني. قوله : (فأعتق تسعة) أي افتداهم من أيدي الكفار ، وخلصهم من أذاهم ، فهو عتق صوري ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه.

قوله : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي أجعل الصلاح ساريا فيهم ، وعبر بفي اشارة إلى أنهم كالظرف للصلاح لتمكنه منهم. قوله : (فكلهم مؤمنون) أي فالصلاح مقول بالتشكيك ، يتحقق بأصل الإيمان ، ويتزايدون فيه على حسب مراتبهم. قوله : (أي قائل القول) أشار بذلك إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : الّذين يتقبّل هو ، ويتجاوز بالياء مبنيا للمفعول ، أو بالنون مبنيا للفاعل ، قراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بالياء مبنيا للفاعل. قوله : (بمعنى حسن) أشار بذلك إلى أن اسم التفضيل ليس على بابه. قوله : (حال) أي من ضمير (عَنْهُمْ.) قوله : (وَعْدَ الصِّدْقِ) مصدر منصوب بفعله المقدر ، أي وعد الله وعد الصدق. قوله : (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الدنيا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) الخ ، اسم الموصول معمول لمحذوف تقديره : اذكر يا محمد لقومك

١٨

يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يسألانه الغوث برجوعه ويقولون إن لم ترجع (وَيْلَكَ) أي هلاكك بمعنى هلكت (آمِنْ) بالبعث (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا) أي القول بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) أكاذيبهم (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَ) وجب (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بالعذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (١٨) (وَلِكُلٍ) من جنس المؤمن والكافر (دَرَجاتٌ) فدرجات المؤمنين في الجنة عالية ، ودرجات الكافرين في النار سافلة (مِمَّا عَمِلُوا) أي المؤمنون من الطاعات والكافرون من المعاصي (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) أي الله ، وفي قراءة بالنون (أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها (وَهُمْ لا

____________________________________

الشخص الذي قال لوالديه الخ ، ويحتمل أنه مبتدأ خبره قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الخ ، والمراد منه الجنس لا شخص معين ، ولذا أخبر عنه بالجمع مراعاة لمعناه ، فهي واردة في كل شخص كافر عاق لوالديه المسلمين ، وهذا هو الصحيح ، خلافا لمن شذ وقال : إن هذه الآية نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه ، فإنه كان من أفاضل الصحابة وخيارهم ، وقد كذبت الصديقة من قال ذلك ، ويرده أيضا قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الخ. قوله : (وفي قراءة بالادغام) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بكسر الفاء) أي مع التنوين وتركه ، قوله : (وفتحها) أي من غير تنوين ، فالقراءات ثلاث سبعيات ، وهو مصدر أف يؤف أفا ، بمعنى نتنا وقبحا ، أو هو اسم صوت يدل على تضجر ، أو اسم فعل أتضجر ، والمفسر أشار لاثنين منها بقوله : (بمعنى مصدر) وبقوله : (أتضجر منكما). قوله : (أي نتنا) النتن القذارة والرائحة الكريهة ، وهو كناية عن عدم الرضا بفعلهما والتضجر منهما. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا.

قوله : (أَنْ أُخْرَجَ) هذا هو الموعود به ، والباء محذوفة أي بأن أخرج ، وحذف الجار مع أن مطرد. قوله : (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) الجملة حالية. قوله : (ولم تخرج من القبور) أي زعما منه أن الخروج من القبور لو كان صدقا ، لحصل قبل انقضاء الدنيا. قوله : (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) اعلم أن مادة الاستغاثة تتعدى بنفسها تارة ، وبالباء أخرى ، لكن لم ترد في القرآن إلا متعدية بنفسها. قال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ.) قوله : (يسألانه الغيث) أي اغاثة ذلك الولد بتوفيقه للإسلام. قوله : (وَيْلَكَ) معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (ويقولون) الخ ، وذلك المحذوف حال من فاعل يستغيثان. والمعنى : يستغيثان الله حال كونهما قائلين (وَيْلَكَ) فهو فعل أمر. قوله : (آمِنْ) أي صدق واعترف.

قوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) جملة مستأنفة أو تعليل لما قبلها. قوله : (أكاذيبهم) أي اخترعوها من غير أن يكون لها أصل. قوله : (فِي أُمَمٍ) حال من ضمير (عَلَيْهِمُ) ، والمعنى ثبت عليهم القول في عداد أمم ، الخ. قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي كافرين ابتداء وانتهاء. قوله : (وَلِكُلٍ) خبر مقدم ، و (دَرَجاتٌ) مبتدأ مؤخر. والمعنى لكل شخص من المؤمنين والكفار. قوله : (دَرَجاتٌ) في الكلام تغليب ، لأن مراتب أهل النار يقال لها دركات بالكاف لا بالجيم ، أو تسمح حيث أطلق الدرجات ، وأراد المنازل مطلقا ، علوية أو سفلية ، قوله : (مِمَّا عَمِلُوا) أي من أجل ما عملوا من خير وشر. قوله : (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) عطف علة على معلول ، والمعنى جازاهم بذلك ليوفيهم. قوله : (أي جزاءها) أشار بذلك

١٩

يُظْلَمُونَ) (١٩) شيئا ، ينقص للمؤمنين ويزاد للكفار (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) بأن تكشف لهم يقال لهم (أَذْهَبْتُمْ) بهمزة وبهمزتين ، وبهمزة ومدة ، وبهما ، وتسهيل الثانية (طَيِّباتِكُمْ) باشتغالكم بلذتكم (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ) تمتعتم (بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) تتكبرون (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠) به وتعذبون بها (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) هو هود عليه‌السلام (إِذْ) الخ بدل اشتمال (أَنْذَرَ قَوْمَهُ) خوّفهم (بِالْأَحْقافِ) واد باليمن به منازلهم (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) مضت الرسل

____________________________________

إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (بنقص للمؤمنين) أي من درجاتهم ، بل قد يزاد لهم فيها. قوله : (ويزاد للكفار) أي في دركاتهم ، بل قد يخفف عن بعضهم ، كأبي طالب وأبي لهب.

قوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ) الخ (يَوْمَ) معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (يقال لهم) الخ ، والمعنى يقال لهم أذهبتم الخ ، وقت عرضهم على النار. قوله : (بأن تكشف لهم) أشار بذلك إلى أن الكلام فيه قلب ، والأصل ويوم تعرض النار على الذين كفروا ، أي يكشف لهم عنها ، وأتى به كذلك ، لأن عرض الشخص على النار ، أشد في إهانته من عرض النار عليه لأن عرضه عليها يفيد أنه كالحطب المجعول للإحراق ، وإنما كان فيه قلب ، لأن المعروض عليه شأنه العلم والإطلاع ، والنار ليست كذلك ، وقيل : المراد بالعرض العذاب ، وحينئذ فليس فيه قلب ، وقد أفاد هذا المعنى المفسر آخرا بقوله : (يعذبون بها). قوله : (يقال لهم) هذا المقدر عامل في جملة (أَذْهَبْتُمْ) وناصب ل (يَوْمَ) على الظرفية.

قوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) أي ما قدر لكم من المستلذات ، فقد استوفيتموه في الدنيا ، فلم يبق لكم حظ تأخذونه في الآخرة. قوله : (بهمزة) الخ ، أشار المفسر لخمس قراءات : تحقيق الهمزتين : وتسهيل الثانية بألف بينهما على الوجهين ، وتركه ، وهمزة واحدة وأجمل في ذلك ، فقوله : (بهمزة) وهي إحدى القراءات الخمس ، وقوله : (وبهمزتين) أي محققتين بغير مدّ بينهما ، ثانيتها قوله : (وبهمزة ومدة) المناسب وبهمزتين محققتين ومدة وهي ثالثها ، وقوله : (وبهما وتسهيل الثانية) أي بمدة ودونها فقد تمت الخمس. قوله : (أي الهوان) أشار بذلك إلى أنه من اضافة الموصوف لصفته. قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) وصف كاشف ، لأن الاستكبار لا يكون إلا بغير الحق ، فإن الكبرياء وصف لله وحده. قوله : (به) متعلق ب (تَسْتَكْبِرُونَ) و (تَفْسُقُونَ) وقدره إشارة إلى أن العائد محذوف ويصح أن تكون مصدرية ، أي بكونهم مستكبرين فاسقين ، والمراد بالاستكبار الفواحش الباطنية ، وبالفسق الفواحش الظاهرية. قوله : (ويعذبون بها) عطف على (يُعْرَضُ) عطف تفسير ، فهو تفسير آخر للعرض ، فالمناسب تقديمه و (عَلَى) بمعنى الباء.

قوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) أي في النسب لا في الدين ، لأن هودا هو وقومه ينتسبون لعاد. قوله : (هو هود) أي ابن عبد الله بن رباح ، وتقدم ذكره تفصيلا في سورة هود. قوله : (بدل اشتمال) أي فالمقصود ذكر قصته مع قومه للاعتبار بها. قوله : (بِالْأَحْقافِ) حال من (قَوْمَهُ) أي أنذرهم ، والحال أنهم مقيمون بالأحقاف. قوله : (واد باليمن) أي فهو علم على الوادي لا جمع ، وقوله : (ومنازلهم) تفسير آخر ، وعليه فهو جمع حقف وهو الرمل المستطيل ، وتقدم القولان في أول السورة ، وقيل : إن الأحقاف جبل بالشام.

٢٠