حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

النافذ في كل شيء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠) بالنشور (قُلْ) لأهل مكة (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) بزعمكم (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) نهار تطلبون فيه المعيشة (أَفَلا تَسْمَعُونَ) (٧١) ذلك سماع تفهم فترجعون عن الإشراك (قُلْ) لهم (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) بزعمكم (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ) تستريحون (فِيهِ) من التعب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٧٢) ما أنتم عليه من الخطأ في الإشراك فترجعون عنه (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار بالكسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) النعمة فيهما (وَ) اذكر (يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٧٤) ذكر ثانيا ليبنى عليه (وَنَزَعْنا) أخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيهم يشهد عليهم بما قالوا (فَقُلْنا) لهم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما قلتم من الإشراك (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَ) في الإلهية (لِلَّهِ) لا يشاركه فيه أحد (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥) في الدنيا من أن معه شريكا ، تعالى عن ذلك (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) ابن عمه وابن خالته وآمن به (فَبَغى عَلَيْهِمْ) بالكبر والعلو وكثرة المال (وَآتَيْناهُ مِنَ

____________________________________

وأضمر في الأول وحذف ، وهو مفعوله الأول ، ومفعوله الثاني جملة الاستفهام بعده ، و (إِنْ) حرف شرط ، و (جَعَلَ) فعل الشرط ، و (اللهُ) فاعله ، و (اللَّيْلَ) مفعول أول ، و (سَرْمَداً) مفعول ثان ، وجواب الشرط محذوف تقديره ما ذا تفعلون ، وتقدم الكلام على نظيرتها في الأنعام. قوله : (سَرْمَداً) من السرد وهو المتابعة والاطراد. قوله : (دائما) أي بأن يسكن الشمس تحت الأرض. قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بجعل. قوله : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) (بزعمكم) دفع بذلك ما يقال : إن المقام لهل لأنها لطلب التصديق ، لا من التي لطلب التعيين ، لأنه يوهم وجود آلهة غيره تعالى ، فأجاب : بأنه مجاراة للمشركين في زعمهم وجود آلهة معه. قوله : (سماع تفهم) أي تدبر واعتبار ، لأن مجرد الإبصار لا يفيد. قوله : (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) أي بأن يسكن الشمس في وسط السماء.

قوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي تفضله وإحسانه. قوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) الخ ، أي لأن المرء في الدنيا ، لا بد وأن يحصل له التعب ، ليحصل ما يحتاج إليه في معاشه ، فجعل الله له محل تكسب وهو النهار ، ومحل راحة وسكون ليستريح من ذلك التعب وهو الليل. قوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) استفيد من الآية مدح السعي في طلب الرزق لما ورد : الكاسب حبيب الله. قوله : (ذكر ثانيا ليبنى عليه) (وَنَزَعْنا) الخ ، أي وإشارة إلى أن الشرك أمره عظيم ، لا شيء أجلب منه لغضب الله ، كما أن التوحيد عظيم ، لا شيء أجلب منه لرضا الله. قوله : (يشهد عليهم بما قالوا) أي وأمة محمد يشهدون للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الأمم بالتكذيب. قوله : (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي التوحيد لله خاصة لا لغيره. قوله : (من أن معه شريكا) بيان لما.

قوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) هو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.

١٦١

الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ) تثقل (بِالْعُصْبَةِ) الجماعة (أُولِي) أصحاب (الْقُوَّةِ) أي تثقلهم ، فالباء للتعدية ، وعدتهم قيل سبعون وقيل أربعون وقيل عشرة وقيل غير ذلك ، اذكر (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) المؤمنون من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) بكثرة المال فرح بطر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦) بذلك (وَابْتَغِ) اطلب (فِيما آتاكَ اللهُ) من المال (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تنفقه في طاعة الله (وَلا تَنْسَ) تترك (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي أن تعمل فيها للآخرة (وَأَحْسِنْ) للناس بالصدقة (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ) تطلب (الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) بعمل المعاصي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُ

____________________________________

قوله : (ابن عمه) أي واسم ذلك العم يصهر ، بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ، ابن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ، ويصهر أبو قارون ، وعمران أبو موسى أخوان ، ولدا قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل إن قارون عم موسى. قوله : (وآمن به) أي وكان من السبعين الذين اختارهم موسى للمناجاة ، فسمع كلام الله ثم حسد موسى على رسالته ، وهارون على إمامته. قوله : (بالكبر) أي احتقار ما سواه ، ومن جملة تكبره أن زاد في ثيابه شبرا ، ومن جملة بغيه بالكبر حسده لموسى عليه‌السلام على النبوة ، وكان يسمى المنور لحسن صورته.

قوله : (مِنَ الْكُنُوزِ) سميت كنوزا لما قيل إنه وجد كنزا من كنوز يوسف عليه‌السلام ، وقيل لامتناعه من أداء الزكاة. قوله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) الخ ، (ما) اسم موصول صفة لموصوف محذوف ، و (إِنَ) حرف توكيد ونصب ، و (مَفاتِحَهُ) اسمها ، وجملة (لَتَنُوأُ) خبرها ، والجملة صلة الموصول ، والتقدير وآتيناه من الكنوز الشيء الذي مفاتحه تثقل العصبة أولي القوة ، وكانت مفاتحه أولا من حديد ، فلما كثرت جعلها من خشب فثقلت فجعلها من جلود البقر ، وقيل من جلود الإبل ، كل مفتاح على قدر الأصبع ، وكانت تحمل معه على أربعين وقيل على ستين بغلا. قوله : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) الباء للتعدية ، والمعنى لتثقل المفاتح العصبة. قوله : (فرح بطر) أي لأنه هو المذموم ، وأما الفرح بالدنيا من حيث إنها تعينه على أمور الآخرة ، كقضاء الدين والصدقة وإطعام الجائع وغير ذلك فلا بأس به. قوله : (بأن تنفقه في طاعة الله) أي كصلة الرحم والصدقة وغير ذلك.

قوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي بأن تصرف عمرك في مرضاة ربك ، ولا تدع نفسك من غير خير ، فتصير يوم القيامة مفلسا ، لما في الحديث : «اغتنم خمسا قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وغناك قبل فقرك وحياتك قبل موتك». وقيل المراد بالنصيب الكفن ومؤن التجهيز ، قال الشاعر :

نصيبك مما تجمع الدهر كله

رداءان تدرج فيهما وحنوط

قوله : (وَأَحْسِنْ) (للناس بالصدقة) المناسب حمله على العموم ، ويكون تفسيرا لقوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وقوله : (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) الكاف للتشبيه ، وما مصدرية ، والمعنى وأحسن إحسانا كإحسان الله إليك ، أو للتعليل.

١٦٢

الْمُفْسِدِينَ) (٧٧) بمعنى أنه يعاقبهم (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي المال (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي في مقابلته ، وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة بعد موسى وهرون ، قال تعالى (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الأمم (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال أي وهو عالم بذلك ويهلكهم الله (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨) لعلمه تعالى بها فيدخلون النار بلا حساب (فَخَرَجَ) قارون (عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) بأتباعه الكثيرين ركبانا ، متحلين بملابس الذهب والحرير ، على خيول وبغال متحلية (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا) للتنبيه (لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) في الدنيا (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ) نصيب (عَظِيمٍ) (٧٩) واف فيها (وَقالَ) لهم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بما وعد الله في الآخرة (وَيْلَكُمْ) كلمة زجر (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة بالجنة (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ

____________________________________

قوله : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) جواب لما قالوه من الجمل الخمس ، كأنه ينكر محض الفضل ، والمعنى إنما أوتيته حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي ، فأعطاني الله تلك الأموال لكوني مستحقا لها لفضلي وعلمي. قوله : (وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة) وقيل العلم الذي فضل به هو علم الكيمياء ، فإن موسى علمه ثلثه ، ويوشع ثلثه ، وكالب ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف ما عندهما إلى ما عنده ، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة ، ومن النحاس فيجعله ذهبا ، فكثر بذلك ماله وتكبر ، وعلى هذا فقوله : (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) المراد به علم الكيمياء ، ويكون المعنى اكتسبته بعلمي الذي عندي ، لا من فضل الله كما تقولون. قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، والتقدير أيدعي ولم يعلم أن الله الخ ، والاستفهام للتوبيخ ، والمعنى أنه إذا أراد إهلاكه لم ينفعه ذلك.

قوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي لا يسألهم الله عن ذنوبهم إذا أراد عقابهم. إن قلت : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)؟ أجيب : بأن السؤال قسمان : سؤال استعتاب ، وسؤال توبيخ وتقريع ، فالمنفي سؤال الاستعتاب الذي يعقبه العفو والغفران ، كسؤال المسلم العاصي ، والمثبت سؤال التوبيخ الذي لا يعقبه إلا النار. قوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) عطف على قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) وما بينهما اعتراض ، وكان خروجه يوم السبت ، وقوله : (بأتباعه) قيل كانوا أربعة آلاف ، وقيل تسعين ألفا عليهم المعصفرات ، وهو أول يوم ريء فيه المعصفرات ، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج ، وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر ، وكانت بغلته شهباء بياضها أكثر من سوادها ، سرجها من ذهب ، وكان على سرجها الأرجوان ، بضم الهمزة والجيم وهو قطيفة حمراء.

قوله : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي وكانوا مؤمنين غير أنهم محجوبون. قوله : (كلمة زجر) أي وهي منصوبة بمقدر ، أي ألزمكم الله ويلكم ، والأصل في الويل الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع. قوله : (مما أوتي قارون في الدنيا) أي لأن الثواب منافعه عظيمة. قوله : (وَلا يُلَقَّاها) أي يوفق للعمل بها. قوله : (على الطاعة وعن المعصية) أي وعلى الرضا بأحكامه تعالى.

١٦٣

صالِحاً) مما أوتي قارون في الدنيا (وَلا يُلَقَّاها) أي الجنة المثاب بها (إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) على

____________________________________

قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) قال أهل العلم بالأخبار والسير : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون ، وأقرأهم للتوراة ، وأجملهم وأغناهم ، وكان حسن الصوت ، فبغى وطغى واعتزل بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما ، وهو يؤذيه في كل وقت ، ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى ، حتى بنى دارا ، وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون ، ويطعمهم الطعام ، ويحدثونه ويضاحكونه ، قال ابن عباس : فلما نزلت الزكاة على موسى ، أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار واحد ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وكذلك سائر الأشياء ثم رجع إلى بيته فحسبه ، فوجده شيئا كثيرا فلم تسمح نفسه بذلك ، فجمع بني إسرائيل وقال لهم : إن موسى قد أمركم بكل شيء ، فأطعتموه وهو يريد أن يأخذ أموالكم ، قالت بنو إسرائيل : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت ، قال : آمركم أن تأتونا بفلانة الزانية ، فنجعل لها جعلا ، على أن تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك ، خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه ، فدعوها فجعل لها قارون ألف دينار وألف درهم ، وقيل جعل لها طشتا من ذهب ، وقيل قال لها قارون : أموّلك وأخلطك بنسائي ، على أن تقذفي موسى بنفسك غدا ، إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد ، جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى إلى موسى فقال له : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى ، وهم في براح من الأرض ، فقام فيهم فقال : يا بني إسرائيل ، من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت. قال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا. قال : فإن بني إسرائيل ، يزعمون أنك فجرت بفلانة الزانية ، قال موسى : ادعوها ، فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة ، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله ، فقالت : لا والله ، ولكن جعل لي قارون جعلا ، على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا يبكي ، وقال : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل ، إن الله بعثني إلى قارون ، كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ، فلم يبق مع قارون إلا رجلان ، قال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم الأرض بأقدامهم ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم الأرض إلى أوساطهم ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى قيل إنه ناشده سبعين مرة ، وموسى في ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم. قال قتادة : خسفت به ، فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل ، لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. وفي الخبر : إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة ، نفخ إسرافيل في الصور ، وأصبحت بنو إسرائيل يتحدثون فيما بينهم : إن موسى إنما دعا على قارون ، ليستبد بداره وكنوزه وأمواله ، فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، قال بعضهم : مقتضى هذا الحديث ، أن الأرض لا تأكل جسمه ، فيمكن أن يلغز ويقال لنا : كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون. قوله :

١٦٤

الطاعة وعن المعصية (فَخَسَفْنا بِهِ) بقارون (وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١) منه (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي من قريب (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) يضيق على من يشاء ، ووي اسم فعل بمعنى أعجب ، أي أنا ، والكاف بمعنى اللام (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) بالبناء للفاعل والمفعول (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) لنعمة الله كقارون (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الجنة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) بالبغي (وَلا فَساداً) بعمل المعاصي (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) عقاب الله بعمل الطاعات (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ثواب بسببها وهو عشر أمثالها (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ

____________________________________

(مِنْ فِئَةٍ مِنْ) زائدة ، و (فِئَةٍ) اسم (كانَ) إن كانت ناقصة ، والجار والمجرور خبرها ، أو فاعل بها إن كانت تامة. قوله : (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي الممتنعين بأنفسهم قوله : (أي من قريب) أشار بذلك إلى أن المراد بالأمس الوقت الماضي القريب لا اليوم الذي قبل يومك.

قوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ) الخ ، (وَيْكَأَنَ) فيها خمسة مذاهب ، الأول : أن وي كلمة برأسها اسم فعل بمعنى أعجب ، والكاف للتعليل ، وأن وما دخلت عليه مجرور بها أي أعجب ، لأن الله يبسط الرزق الخ ، فالوقف على وي ، وهو قراءة الكسائي. الثاني : إن كأن للتشبيه ، غير أنه ذهب معناه منها وصارت لليقين ، وحينئذ فالوقف على وي كالذي قبله. الثالث : إن ويك كلمة برأسها ، والكاف حرف خطاب ، ان معمولة لمحذوف ، أي أعلم أن الله يبسط الرزق الخ ، وحينئذ فالوقف على ويك ، وهو قراءة أبي عمرو. الرابع : أن أصلها ويلك حذفت اللام ، وحينئذ فالوقف على الكاف أيضا. الخامس : أن ويكأن كلها كلمة بسيطة ، ومعناها ألم تر أن الله يبسط الرزق الخ ، وحينئذ فالوقف على النون.

قوله : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بالإيمان والرحمة. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَيْكَأَنَّهُ) تأكيد لما قبله ، ويجري فيها ما يجري في التي قبلها. قوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، فإن فرعون وقارون تكبرا وتجبرا واختارا العلو ، فآل أمرهما للخسران والوبال والدمار ، وموسى وهارون اختارا التواضع ، فآل أمرهما للعز الدائم الذي لا يزول ولا يحول. قوله : (أي الجنة) أي وما فيها من النعيم الدائم ، ورؤية وجه الله الكريم ، وسماع كلامه القديم. قوله : (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا) التعبير بالإرادة أبلغ في النفي ، لأنه نفي وزيادة. قوله : (نَجْعَلُها) أي نصيرها. قوله : (بالبغي) أي الظلم والكبر كما وقع لفرعون وقارون وجنودهما. قوله : (بعمل المعاصي) أي كالقتل والزنا والسرقة وغير ذلك من الأمور التي تخالف أوامره تعالى. قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) أظهر في مقام الإضمار ، إظهارا لشأنهم ومدحا لهم بنسبتهم للتقوى وتسجيلا على ضدهم.

قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) تقدم أنه إن أريد (بِالْحَسَنَةِ) لا إله إلا الله ، فالمراد بالخير الجنة ، و (مَنْ) للتعليل ، وليس في الصيغة تفضيل ، وإن أريد بها مطلق طاعة ، فالمراد بالخير منها عشر أمثالها ،

١٦٥

عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا) جزاء (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) أي مثله (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أنزله (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إلى مكة وكان قد اشتاقها (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٨٥) نزل جوابا لقول كفار مكة له : إنك في ضلال ، أي فهو الجائي بالهدى ، وهم في الضلال ، وأعلم بمعنى عالم (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) القرآن (إِلَّا) لكن ألقي إليك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) معينا (لِلْكافِرِينَ) (٨٦) على دينهم الذي دعوك

____________________________________

كما جاء مفسرا به في الآية الأخرى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) فقول المفسر (ثواب بسببها) الخ ، إشارة للمعنى الثاني. قوله : (وهو عشر أمثالها) هذا أقل المضاعفة ، وتضاعف لسبعين ولسبعمائة ، والله يضاعف لمن يشاء ، وهذا في الحسنة التي فعلها بنفسه أو فعلت من أجله ، كالقراءة والذكر ، إذا فعل وأهدى ثوابه للميت مثلا ، وأما الحسنة التي تؤخذ في نظير الظلامة فلا تضاعف ، بل تؤخذ الحسنة للمظلوم ، وأما المضاعفة فتكتب للظالم ، لأنها محض فضل من الله تعالى ، ليس للعبد فيه فعل ، والمضاعفة مخصوصة بهذه الأمة ، وأما غيرهم فلا مضاعفة له.

قوله : (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) الخ ، أظهر في مقام الإضمار تسجيلا وتقبيحا على فاعل السيئات ، لينزجر عن فعلها. قوله : (أي مثله) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (أنزله) أي أو فرضه ، بمعنى أوجب عليك تبليغه للعباد والتمسك به. قوله : (إلى مكة وكان قد اشتاقها) تقدم أن سبب نزول هذه الآية ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أذن له في الهجرة إلى المدينة ، وخرج من الغار مع أبي بكر ليلا ، سار في غير الطريق ، فلما نزل بالجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف طريق مكة ، اشتاق إليها ، وذكر مولده ومولد أبيه ، فنزل عليه جبريل وقال له : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال عليه‌السلام : نعم ، فقال جبريل : إن الله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يعني إلى مكة ظاهرا عليهم ، وسميت البلد معادا ، لأن شأن الإنسان أن ينصرف من بلده ويعود إليها ، وتقدم أن هذه الآية ينبغي قراءتها للمسافر ، تفاؤلا بعوده لوطنه ، ولا يقال : إن الآية قيلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف تقال لغيره؟ لأنه لا يقال : إن القرآن نزل للتعبد والاقتداء به ، فكأنه قال : كما صدقت وعد نبيك فاصدق وعدي. قوله : (جوابا لقول كفار مكة) الخ ، أي كما قالت بنو إسرائيل لموسى مثل ذلك ، فرد الله عليهم بقوله : (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ). قوله : (وأعلم بمعنى عالم) إنما احتيج إلى تحويله لتعديته للمفعول بنفسه ، وإلا فكان مقتضى الظاهر تعديته بمن. قوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا) أي قبل مجيء الرسالة إليك. قوله : (أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي فإنزاله عليك ليس عن ميعاد ، ولا بطلب منك ، ومن هنا قال العلماء : إن النبوة ليست مكتسبة لأحد ، قال في الجوهرة :

ولم تكن نبوّة مكتسبه

ولو رقى في الخير أعلى عقبه. الخ

قوله : (لكن ألقي إليك) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) الخطاب له ، والمراد غيره ، لاستحالة ذلك عليه. قوله : (حذفت نون الرفع للجازم) أي وهو لا النافية. قوله : (لالتقائها مع النون الساكنة) أي ووجود دليل يدل عليها وهو الضمة ، وما مشى عليه المفسر في تصريف الفعل ، وإنما يأتي على ندور ، وهو تأكيد الفعل الخالي عن الطلب ، فالأولى أن يقول :

١٦٦

إليه (وَلا يَصُدُّنَّكَ) أصله يصدوننك حذفت نون الرفع للجازم ، والواو الفاعل ، لالتقائها مع النون الساكنة (عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا ترجع إليهم في ذلك (وَادْعُ) الناس (إِلى رَبِّكَ) بتوحيده وعبادته (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧) بإعانتهم ، ولم يؤثر الجازم في الفعل لبنائه (وَلا تَدْعُ) تعبد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨) بالنشور من قبوركم.

____________________________________

وأصله يصدونك ، دخل الجازم فحذف النون ثم أكد فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ، ووجود الضمة دليلا عليها. قوله : (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي بعد وقت إنزالها عليك. قوله : (أي لا ترجع إليهم) أي لا تركن إلى أقوالهم.

قوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الخطاب له والمراد غيره. قوله : (ولم يؤثر الجازم في الفعل) أي لفظا وإن كان مؤثرا محلا. قوله : (لبنائه) أي بسبب مباشرة نون التوكيد له ، بخلاف قوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ) فتأثر بالجازم ، وإن كان مؤكدا بالنون لعدم مباشرتها للفعل ، فإنه فصل بينهما بواو الجماعة ، قال ابن مالك : وأعربوا مضارعا إن عربا. من نون توكيد مباشر. قوله : (تعبد) أشار بذلك إلى أن المراد بالدعاء العبادة ، وحينئذ فليس في الآية دليل على ما زعمه الخوارج ، من أن الطلب من الغير حيا أو ميتا شرك ، فإنه جهل مركب ، لأن سؤال الغير من حيث إجراء الله النفع أو الضر على يده قد يكون واجبا ، لأنه من التمسك بالأسباب ، ولا ينكر الأسباب إلا جحود أو جهول. قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي وكل ما سوى الله تعالى قابل للهلاك وجائز عليه ، لأن وجوده ليس ذاتيا له ، قال بعض العارفين :

الله قل وذر الوجود وما حوى

إن كنت مرتادا بلوغ كمال

فالكل دون الله إن حققته

عدم على التفصيل والإجمال

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده لو لاه عين محال

والعارفون فنوا به لم يشهدوا

شيئا سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا

في الحال والماضي والاستقبال

قيل : المراد بالهلاك الانعدام بالفعل ، ويستثنى منه ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله :

ثمانية حكم البقاء يعمها

من الخلق والباقون في حيز العدم

هي العرش والكرسي ونار وجنة

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

وهو معنى قول صاحب الجوهرة :

وكل شيء هالك قد خصصوا

عمومه فاطلب لما قد لخصوا

ولا مفهوم لما عده السيوطي ، بل منها أجساد الأنبياء والشهداء ومن في حكمهم والحور والولدان. قوله : (إلا إياه) أشار بذلك إلى أن المراد بالوجه الذات ، ويصح أن المراد به ما عمل لأجله سبحانه وتعالى ، فإن ثوابه باق. قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي في جميع أحوالكم.

* * *

١٦٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العنكبوت

مكيّة

وآياتها تسع وستون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) (١) الله أعلم بمراده بذلك (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا) أي بقولهم (آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم ، نزل في جماعة

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العنكبوت

مكية وهي تسع وستون آية

مبتدأ وخبر ، وفي بعض النسخ سورة العنكبوت وهي تسع وستون آية مكية ، ففيه الفصل بين المبتدإ والخبر بالجملة الحالية ، وسميت بذلك لذكر العنكبوت فيها ، من باب تسمية الكل باسم الجزء ، وتقدم أن أسماء السور توقيفي ، وقوله : (مكية) أي كلها ، وقيل مدنية كلها ، وقيل مكية إلا عشر آيات من أولها إلى قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) الخ ، فإنها مدنية. قوله : (الله أعلم بمراده) تقدم غير مرة أن هذا القول أسلم ، لأنه من المتشابه الذي يفوض علمه لله تعالى. قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) الاستفهام يصح أن يكون للتقرير ، وحينئذ فيكون المعنى : يجب على الناس أن يعترفوا بأنهم لا يتركون سدى ، بل يمتحنون ويبتلون ، لأن الدنيا دار بلاء وامتحان ، أو التوبيخ ، وعليه فالمعنى لا يليق منهم هذا الحسبان ، أي الظن والتخمين ، بل الواجب عليهم علمهم بأنهم لا يتركون ، وحسب فعل ماض ، و (النَّاسُ) فاعله ، و (أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي حسب ، و (أَنْ يَقُولُوا) علة للحسبان ، وقوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) الجملة حالية مقيدة لقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) ويكون المعنى : أحسب الناس أن يتركوا من غير افتتان بمجرد نطقهم بالشهادتين ، أو من أجل نطقهم بالشهادتين ، بل لا بد من امتحانهم بعد النطق بالشهادتين ، ليتميز الراسخ من غيره. قوله : (بما يتبين به حقيقة إيمانهم) أي من المشاق كالهجرة والجهاد ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. قوله : (نزل في جماعة) أي كعمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ،

١٦٨

آمنوا فآذاهم المشركون (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم مشاهدة (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) فيه (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الشرك والمعاصي (أَنْ يَسْبِقُونا) يفوتونا فلا ننتقم منهم (ساءَ) بئس (ما) الذي (يَحْكُمُونَ) (٤) ه حكمهم هذا (مَنْ كانَ يَرْجُوا) يخاف (لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) به (لَآتٍ) فليستعد له (وَهُوَ السَّمِيعُ)

____________________________________

والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وكانوا يعذبون بمكة ، والمقصود من الآية تسلية هؤلاء ، وتعليم من يأتي بعدهم.

قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الخ ، إما حال من الناس ، وحينئذ فالمعنى أحسبوا ذلك ، والحال أنهم علموا أن ذلك ليس سنة الله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أو من فاعل يفتنون ، والمعنى أحسبوا أن لا يكونوا كغيرهم ، ولا يسلكوا بهم مسالك الأمم السابقة ، روى البخاري عن خباب بن الأرت قال : «شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقال : ألا تستنصر ، ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، والذئب على غنمه ، ولكنكم كنتم تستعجلون». قوله : (الَّذِينَ صَدَقُوا) الخ ، عبر في جانب الصدق بالفعل الماضي ، وفي جانب الكذب باسم الفاعل ، إشارة إلى أن الكاذبين وصفهم مستمر ، لم يظهر منهم إلا ما كان مخبأ ، وأما الصادقون فقد زال وصف الكذب عنهم ، وتجدد لهم الصدق ، فناسبه التعبير بالفعل. قوله : (علم مشاهدة) جواب عما يقال : إن علم الله لا تجدد فيه ، والجواب أن المراد ليظهر متعلق علم الله للناس ببيان الصادق من الكاذب. قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) الخ ، انتقال من توبيخ إلى توبيخ ، فالأول توبيخ للناس على ظنهم بلوغ الدرجات بمجرد الإيمان ، من غير مشقة ولا تعب ، والثاني أشد منه ، وهو توبيخهم على ظنه أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه ، مع دوامهم على الكفر. قوله : (الذي) (يَحْكُمُونَ) (ه) الخ ، أشار بذلك إلى أن (ما) اسم موصول فاعل (ساءَ) و (يَحْكُمُونَ) صلته ، والعائد محذوف ، والمخصوص بالذم محذوف قدره بقوله : (حكمهم) وهذا يصح أن تكون (ما) مميزا ، والفاعل ضمير مفسر بما قال ابن مالك :

وما مميز وقيل فاعل

في نحو نعم ما يقول الفاضل

قوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي يعتقد ويجزم بأنه يلاقي الله ، فيرجو رحمته ، ويخاف عقابه ، وهذا التفسير أتم مما قاله المفسر ، لأن المؤمن المصدق بلقاء الله ، لا بد له من الرجاء والخوف معا ، ويؤيد ما قلناه جواب الشرط الذي قدره بقوله : (فليستعد له) أي يتهيأ ويستحضر للرحمة والنجاة من العذاب. قوله : (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) ليس هذا هو جواب الشرط ، وإلا لزم أن من لا يرجو لقاء الله ، لا يكون أجل الله آتيا له ، بل الجواب ما قدره المفسر. قوله : (بأفعالهم) أي وعقائدهم قوله : (جهاد حرب) أي وهو الجهاد الأصغر ، وقوله : (أو نفس) أي وهو الجهاد الأكبر ، وذلك لأن الشيطان يجري من ابن آدم

١٦٩

لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) (٥) بأفعالهم (وَمَنْ جاهَدَ) جهاد حرب أو نفس (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) فإن منفعة جهاده له لا لله (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) بعمل الصالحات (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ) بمعنى حسن نصبه بنزع الخافض الباء (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧) وهو الصالحات (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي إيصاء ذا حسن بأن يبرهما (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما

____________________________________

مجرى الدم والنفس أخته ، ولا تغيب عن الإنسان أبدا ، وهي خفية تظهر المحبة لصاحبها ، بخلاف العدو من الكفار ، وأيضا إذا قتله الكافر كان شهيدا ، وأما إذا قتلته نفسه ، فإما عاص أو كافر ، فلا شك أن جهاد النفس ، أكبر من جهاد الكفار ، ولذا ورد في الحديث أنه قال بعد رجوعه من الجهاد : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قيل : يا رسول الله ، وأي جهاد أكبر من هذا؟ قال : «جهاد النفس والشيطان».

قوله : (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي فلا تمنوا بطاعتكم وخدمتكم على ربكم فالفضل له في توفيقكم لعبادته ، فالحصر إضافي فلا ينافي أنه ينتفع غيره بجهاده ، كما ينتفع الآباء بصلاح الأولاد ، فالمقصود نفي النفع عن الله لاستحالته عليه. قوله : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي فلا يصل منهم نفع ولا ضر لما في الحديث القدسي : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا».

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، مبتدأ خبره الجملة القسمية ، وهذا وعد حسن للمتصفين بالإيمان. قوله : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي لا نؤاخذهم بها ، وهذا ظاهر في غير المعصومين ، وأما المعصومون فلا سيئات لهم ، فما معنى تكفيرها؟ أجيب : بأن الكلام على الفرض والتقدير ، يعني لو وجدت منهم سيئات تكفر ، أو المراد بالسيئات خلاف الأولى على حسب مقامهم ، ومن هنا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (بمعنى حسن) أي فاسم التفضيل ليس على بابه ، لأنه يوهم أنهم يجازون على الأحسن لا على الحسن ، وقد يقال : المراد بالأحسن الثواب الواقع في مقابلة الأعمال الصالحة ، فالمعنى عليه حينئذ نضاعف لهم الثواب في نظير أعمالهم الصالحة فتأمل.

قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) سبب نزولها هي وآية لقمان والأحقاف ، أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، والسابقين إلى الإسلام ، لما أسلم آلت أمه حمنة بنت أبي سفيان ، أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بسقف ، حتى تموت أو يكفر سعد بمحمد ، فأبى سعد أن يطيعها ، فصبرت ثلاثة أيام ، لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل ، حتى غشي عليها ، فأتاها وقال لها : والله لو كان لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ، ما كفرت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما رأت ذلك أكلت ، فنزلت الآية بالوصية عليها ، وإنما أمر الله الأولاد ببر والديهم دون العكس ، لأن الأولاد جبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين ، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم ، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد ، فوكلهم لما جبلوا عليه. قوله : (أي إيصاء ذا حسن) أشار بذلك إلى أن حسنا

١٧٠

لَيْسَ لَكَ بِهِ) بإشراكه (عِلْمٌ) موافقة للواقع فلا مفهوم له (فَلا تُطِعْهُما) في الإشراك (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) فأجازيكم به (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي أذاهم له (كَعَذابِ اللهِ) في الخوف منه فيطيعهم فينافق (وَلَئِنْ)

____________________________________

صفة لمصدر محذوف على حذف مضاف ، ويصح أن يبقى على مصدريته مبالغة على حد : زيد عدل. قوله : (بأن يبرهما) أي يحسن إليهما ، وأوجه البر كثيرة جدا منها : لين الجانب والخدمة وبذل المال لهما وطاعتهما في غير معاصي الله وغير ذلك.

قوله : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) أتى هنا باللام ، وفي لقمان بعلى حيث قال : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) لأن ما هنا موافق لما قبله في قوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) وما في لقمان ضمن (جاهَداكَ) معنى حملاك. قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ما) مفعول تشرك ، أي إلها لا علم لك به. قوله : (موافقة للواقع) علة لمحذوف تقديره ذكر هذا القيد موافقة للواقع ، أي أن الواقع أن الإله واحد ، فليس إله لك به علم ، وإله لا علم لك به ، وأما الأصنام فإشراكها مع الله في العبادة هزؤ وسخافة عقل ، إذ لو تأمل الكافر أدنى تأمل ، ما علم إلها غير الله ولا ظنه ولا توهمه. قوله : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فيه وعد حسن لمن بر بوالديه واتبع الهدى ، ووعيد لمن عق والديه واتبع سبيل الردى. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بالصالح والسيىء ، فيترتب على كل جزاؤه.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، (الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ ، و (آمَنُوا) صلته ، وقوله : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ) الخ ، خبره. قوله : (بأن نحشرهم معهم) أي يوم القيامة ، بل ويجتمعون بهم في البرزخ ، فإذا مات المؤمن الصالح ، اجتمعت روحه بمن أحب من الأنبياء والأولياء حتى تقوم القيامة ، فحينئذ يكون مرافقا لهم في الدرجات العالية ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الخ ، لما بين حال المؤمنين والكافرين فيما تقدم ، بيّن هنا حال المنافقين وهم من أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر ، و (مِنَ النَّاسِ) خبر مقدم ، و (مَنْ يَقُولُ) مبتدأ مؤخر ، وقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) الخ ، مقول القول. قوله : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي آذاه الكفار على إظهار الإيمان. قوله : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي لم يصبر على الأذى ، بل ترك الدين الحق ، والتشبيه من حيث إن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر ، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعا من الإيمان ، وكان يمكنهم الصبر على الأذى إلى حد الإكراه ، وتكون قلوبهم مطمئنة بالإيمان. قوله : (فيطيعهم) أي ظاهرا وباطنا ، وأما المكره فقد أطاع ظاهرا لا باطنا ، والمؤاخذة مرجعها للقلب. قوله : (والواو) الخ ، عطف على نون الرفع مسلط عليه قوله : (حذف منه). قوله : (لالتقاء الساكنين) أي ولوجود الضمة دليلا عليها. قوله : (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) (في الإيمان) أي وإن الذي وقع منا ، إنما هو على سبيل الإكراه. قوله : (أي بعالم) أشار بذلك إلى أن التفضيل في صفات الله وأسمائه ليس مرادا.

١٧١

لام قسم (جاءَ نَصْرٌ) للمؤمنين (مِنْ رَبِّكَ) فغنموا (لَيَقُولُنَ) حذف منه نون الرفع لتوالي النونات ، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الإيمان فأشركونا في الغنيمة ، قال تعالى (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ) أي بعالم (بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١٠) قلوبهم من الإيمان والنفاق؟ بلى (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١) فيجازي الفريقين ، واللام في الفعلين لام قسم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) ديننا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) في اتباعنا إن كانت ، والأمر بمعنى الخبر ، قال تعالى (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢) في ذلك (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أوزارهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) بقولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا ، وإضلالهم مقلديهم (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣) يكذبون على

____________________________________

قوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، أي ليظهر متعلق علمه للناس ، فيفتضح المنافق ، ويظهر شرف المؤمنين الخالص. قوله : (إن كانت) أي فرض حصولها ، وإلا فهم ليسوا مسلمين أن في اتباعهم خطايا. قوله : (والأمر بمعنى الخبر) أي فالمعنى ليكن منكم الاتباع ومنا الحمل. قوله : (وَأَثْقالاً) أي لأن الدال على الشركين كفاعله ، من غير أن ينقص من وزر الاتباع شيء قوله : (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يختلفون من الأباطيل التي من جملتها قولهم : (اتبعوا سبيلنا) الخ.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) الخ ، لما قدم سبحانه وتعالى تكاليف هذه الأمة ، وبين أن من أطاع فله الجنة ، ومن عصى فله النار ، بين هنا أن هذه التكاليف ليست مختصة بهذه الأمة ، بل من قبلهم كانوا كذلك ، وتقدم أن نوحا اسمه عبد الغفار ، وقيل يشكر ، وكان يسمى السكن ، لأن الناس بعد آدم سكنوا اليه فهو أبوهم ، ولقب بنوح لكثرة نوحه على قومه ، وقيل على خطيئته لما روي أنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه ، فأوحى الله اليه أعبتني أم عبت الكلب؟ اخلق أنت أحسن منه ، ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ ابن إدريس بن برد بن أهاليل بن قينان بن نوش بن شيث بن آدم عليه‌السلام. قوله : (وعمره أربعون سنة أو أكثر) تقدم أنه اختلف في الأكثر ، فقيل بعث على رأس خمسين ، وقيل مائتين وخمسين ، وقيل مائة سنة ، وقيل غير ذلك.

قوله : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ) الخ ، الحكمة في ذكر لبثه هذه المدة ، تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم دخول الكفار في الإسلام ، فكأن الله يقول لنبيه : لا تحزن فإن نوحا لبث هذا العدد الكثير ، ولم يؤمن من قومه إلا القليل ، فصبر وما ضجر ، فأنت أولى بالصبر ، لقلة مدة مكثك وكثرة من آمن من قومك ، والحكمة في المغايرة بين العام والسنة التفنن ، وخص لفظ العام بالخمسين ، إشارة إلى أن نوحا لما غرقوا استراح وبقي في زمن حسن ، والعرب تعبر عن الخصب بالعام ، وعن الجدب بالسنة. قوله : (طاف بهم وعلاهم) أي أحاط بهم وارتفع فوق أعلى جبل أربعين ذراعا. قوله : (الذين كانوا معه فيها) قيل كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة ، وقيل تسعة أولاده الثلاثة وستة من غيرهم وقيل غير ذلك. قوله : (ستين أو أكثر) قيل عاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة.

١٧٢

الله ، سؤال توبيخ ، واللام في الفعلين لام قسم ، وحذف فاعلهما الواو ونون الرفع (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وعمره أربعون سنة أو أكثر (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى توحيد الله فكذبوه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) أي الماء الكثير ، طاف بهم وعلاهم فغرقوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) مشركون (فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي الذين كانوا معه فيها (وَجَعَلْناها آيَةً) عبرة (لِلْعالَمِينَ) (١٥) لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسلهم ، وعاش نوح بعد الطوفان ستين سنة أو أكثر ، حتى كثر الناس (وَ) اذكر (إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) خافوا عقابه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه من عبادة الأصنام (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٦) الخير من غيره (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تقولون كذبا إن الأوثان شركاء لله (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) اطلبوه منه (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي تكذبوني يا أهل مكة (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) من قبلي (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨) الإبلاغ البين ، في هاتين القصتين تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال تعالى في قومه (أَوَلَمْ يَرَوْا) بالياء والتاء ينظروا

____________________________________

قوله : (وَإِبْراهِيمَ) قرأ العامة بالنصب عطف على (نُوحاً) أو معمول لمحذوف ، كما درج عليه المفسر حيث قدر (اذكر) وقرىء شذوذا بالرفع على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره ومن المرسلين ابراهيم. قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) أي امتثلوا ما يأمركم به على لسان نبيكم. قوله : (وَاتَّقُوهُ) أي اجتنبوا نواهيه. قوله : (ذلِكُمْ) أي ما ذكر من العبادة والتقوى. قوله : (خَيْرٌ لَكُمْ) (مما أنتم عليه) الخ ، أي في زعمكم أن فيه خيرا ، والأحسن أن يقال : ذلكم خير لكم من جميع الحظوظات المعجلة. قوله : (الخير) أي وهو عبادة الله ، وقوله : (من غيره) أي وهو عبادة غيره. قوله : (أَوْثاناً) جمع وثن ، وهو ما يصنع من حجر وغيره ليتخذ معبودا. قوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تختلقونه وتخترعونه. قوله : (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يستطيعون ذلك ، لعجزهم وعدم قدرتهم عليه. قوله : (فاطلبوه منه) أي ولا تطلبوه من غيره ، لأنه تكفل لكل دابة برزقها ، قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها).

قوله : (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي لأن بالشكر تزداد النعم ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). قوله : (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تردون فيثيب الطائع ويعذب العاصي. قوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) شرط حذف جوابه تقديره : فلا يضرني تكذيبكم ، وإنما تضرون أنفسكم ، وقوله : (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) دليل الجواب ، ومن هنا قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) جمل معترضة كلام إبراهيم ، وجواب قومه له ، إشارة إلى أن المقصود بالخطاب أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (من قبلي) (مِنْ) اسم موصول مفعول كذب ، والمعنى فلم يضر الرسل تكذيب قومهم لهم. قوله : (في هاتين القصتين) أي قصة نوح وإبراهيم. قوله : (وقد قال تعالى) أي ردا على منكري البعث. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

١٧٣

(كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) هو بضم أوله ، وقرىء بفتحه من بدأ وأبدأ ، بمعنى أي يخلقهم ابتداء (ثُمَ) هو (يُعِيدُهُ) الخلق كما بدأهم (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الخلق الأول والثاني (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩) فكيف ينكرون الثاني (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) لمن كان قبلكم وأماتهم (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) مدّا وقصرا مع سكون الشين (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) ومنه البدء والإعادة (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (٢١) تردّون (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم عن إدراككم (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لو كنتم فيها أي لا تفوتونه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ وَلِيٍ) يمنعكم منه (وَلا نَصِيرٍ) (٢٢) ينصركم من عذابه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) أي القرآن والبعث (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي جنتي (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٣) مؤلم ، قال تعالى في قصة إبراهيم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) التي قذفوه

____________________________________

قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) لما تقدم ذكر التوحيد والرسالة ذكر الحشر ، وهذه الأصول الثلاثة يجب الإيمان بها ، ولا ينفك بعضها عن بعض. قوله : (وقرىء بفتحه) أي شذوذا. قوله : (من بدأ وأبدأ) لف ونشر مشوش. قوله : (ثُمَ) (هو) (يُعِيدُهُ) قدر الضمير إشارة إلى أن الجملة ليست معطوفة على ما قبلها ، بل هي مستأنفة.

قوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أمر من الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لمنكري البعث ما ذكر ، ليشاهدوا كيف أنشأ الله جميع الكائنات ، ومن قدر على إنشائها بدءا يقدر على إعادتها. قوله : (مع سكون الشين) راجع للقصر ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي في الدنيا والآخرة ، وقوله : (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي فيهما فلا يسأل عما يفعل. قوله : (لو كنتم فيها) أشار بذلك إلى أن المراد بالأرض والسماء حقيقتهما ، ويصح أن يراد بهما جهة السفل والعلو. قوله : (أي القرآن والبعث) لف ونشر مرتب ، فالأول راجع للآيات ، والثاني للفاء. قوله : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي يوم القيامة ، وعبر بالماضي لتحقق وقوعه.

قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) الخ ، أي لم يكن جواب قوم إبراهيم له ، حين أمرهم بعبادة الله ، وترك ما هم عليه من عبادة الأوثان ، جزاء لما صدر منه من النصيحة إلا ذلك ، فإن النفس الخبيثة أبت أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء إلى من أحسن إليها ، وهذا الكلام واقع من كبارهم لصغارهم ، لأن الشأن أن الأمر بالقتل أو التحريق يكون من الكبار ، والذي يتولى ذلك الصغار ، وإنما أجابوا بذلك عنادا بعد ظهور الحجة منه. قوله : (أَوْ حَرِّقُوهُ) أتى هنا بالترديد ، واقتصر في الأنبياء على أحد الأمرين ، وهو الذي فعلوه ، إلى أن ما هنا حكاية عن أصل تشاورهم ، وما في الأنبياء عن عزمهم. وتصميمهم على ما فعلوه. قوله : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) في الكلام حذف ، والتقدير فقذفوه في النار فأنجاه الله الخ ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله : (التي قذفوه فيها). قوله : (هي) أي الآيات. قوله : (وإخمادها) أي سكون لهبها مع بقاء جمرها ، وأما الإهماد فهو طفء النار بالمرة. قوله : (في زمن يسير) أي مقدار طرفة عين. قوله : (لأنهم المنتفعون) علة لمحذوف ، والتقدير خصوا بالذكر لأنهم الخ.

١٧٤

فيها ، بأن جعلها بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي إنجائه منها (لَآياتٍ) هي عدم تأثيرها فيه ، مع عظمها وإخمادها وإنشاء روض مكانها في زمن يسير (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٤) يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بها (وَقالَ) إبراهيم (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) تعبدونها وما مصدرية (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) خبر إن ، وعلى قراءة النصب مفعول له ، وما كافة ، المعنى تواددتم على عبادتها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) يتبرأ القادة من الأتباع (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) يلعن الأتباع القادة (وَمَأْواكُمُ) مصيركم جميعا (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥) مانعين منها (فَآمَنَ لَهُ) صدق بإبراهيم (لُوطٌ) وهو ابن أخيه هاران (وَقالَ) إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ) من قومي (إِلى رَبِّي) أي إلى حيث أمرني ربي ، وهجر قومه وهاجر من سواد العراق إلى الشام (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) (٢٦) في صنعه (وَوَهَبْنا لَهُ) بعد إسماعيل (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بعد إسحاق (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) فكل الأنبياء بعد إبراهيم من

____________________________________

قوله : (وَقالَ) (إبراهيم) عطف على قوله : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ). قوله : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) إن حرف توكيد ونصب ، وما مصدرية ، و (اتَّخَذْتُمْ) صلتها مسبوكة بمصدر اسم إن ، و (أَوْثاناً) مفعول أول ، والمفعول الثاني محذوف قدره المفسر بقوله : (تعبدونها) و (مَوَدَّةَ) خبر إن ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) حال من (أَوْثاناً) وهذا على قراءة الرفع ، وقوله : (وعلى قراءة النصب) مفعول (وما كافة) أي سواء قرىء بتنوين (مَوَدَّةَ) ونصب (بَيْنِكُمْ) أو بعدم التنوين ، وخفض بينكم واتخذ إما متعد لواحد أو لاثنين ، والثاني هو قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) ويصح أن تكون ما اسما موصولا ، و (اتَّخَذْتُمْ) صلته والعائد محذوف ، والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا تعبدونها لأجل المودة بينكم ، ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم ، وخرجت على إضافة مودة للظرف ، وبنى لاضافته لغير متمكن كقراءة : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالفتح إذا جعل بينكم فاعلا ، فتحصل أن القراءات أربع : الرفع مع جر بين وفتحها ، والنصب مع جر بين وفتحها ، وكلها سبعي. قوله : (المعنى) أي الحاصل من تلك القراءات. قوله : (يتبرأ القادة) أي ينكرونهم ويقولون لهم لا نعرفكم. قوله : (صدق بإبراهيم) أي نبوته وإن كان مؤمنا قبل ذلك ، ويجب الوقف على لوط لأن قوله : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من كلام إبراهيم ، فلو وصل لتوهم أنه من كلام لوط. قوله : (أي إلى حيث أمرني ربي) دفع بذلك ما يتوهم من ظاهر اللفظ إثبات الجهة له سبحانه وتعالى. قوله : (وهاجر من سواد العراق) أي فنزل بحران هو وزوجته سارة ولوط ابن أخيه ، ثم انتقل منها فنزل بفلسطين ونزل لوط بسذوم ، وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة.

قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ) أي بعد هجرته. قوله : (بعد إسماعيل) أي بأربع عشرة سنة. قوله : (فِي ذُرِّيَّتِهِ) أي إبراهيم. قوله : (فكل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته) أي لانحصار الأنبياء في إسماعيل وإسحاق ومدين جد شعيب. قوله : (وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان) أي فجميع أهل الأديان يحبونه ويذكرونه بخير وينتمون إليه. قوله : (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح قوله : (وَلُوطاً)

١٧٥

ذريته (وَالْكِتابَ) بمعنى الكتب ، أي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو الثناء الحسن في كل أهل الأديان (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) الذين لهم الدرجات العلا (وَ) اذكر (لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين في الموضعين (لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي أدبار الرجال (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٨) الإنس والجن (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) طريق المارة بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم ، فترك الناس الممرّ بكم (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أي متحدثكم (الْمُنْكَرَ) فعل الفاحشة بعضكم ببعض (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) في استقباح ذلك ، وأن العذاب نازل بفاعليه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بتحقيق قولك في إنزال العذاب (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠) العاصين بإتيان الرجال فاستجاب الله دعاءه (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بإسحاق ويعقوب بعده (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قرية لوط (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) كافرين (قالَ) إبراهيم (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا) أي الرسل (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ) بالتخفيف والتشديد (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) الباقين في العذاب (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) حزن بسببهم

____________________________________

معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (اذكر). قوله : (لِقَوْمِهِ) أي أهل سذوم وتوابعها. قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وعدمه ، فالقراءات أربع سبعيات. قوله : (الإنس والجن) أي من عهد آدم إلى قوم لوط. قوله : (بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم) قيل إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم ، وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصا ، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه ، فأيهم أصابه كان أولى به ، فيأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم ، ولهم قاض بذلك. قوله : (فعل الفاحشة) أي والضراط وكشف العورات وغير ذلك من القبائح.

قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا) الخ ، أي على سبيل الاستهزاء. قوله : (بإتيان الرجال) أي وفعل بقية الفواحش. قوله : (فاستجاب) الله دعاءه) أي فأمر الملائكة بإهلاكهم ، وأرسلهم مبشرين ومنذرين ، فبشروا إبراهيم بالذرية الطيبة ، وانذروا قوم لوط بالعذاب. قوله : (بإسحاق ويعقوب) أي وبهلاك قوم لوط. قوله : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) هذا بعد المجادلة التي تقدمت في قوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) حيث قال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا : لا ، إلى أن قال : أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا : لا ، (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها). قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (الباقين في العذاب) أي لم يخلصوا منه ، لأن الدال على الشر كفاعله ، وهي قد دلت القوم على أضياف لوط ، فصارت واحدة منهم بسبب ذلك.

قوله : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ أَنْ) زائدة للتوكيد. قوله : (حزن بسببهم) أشار بذلك إلى أن الباء في بهم سببية. قوله : (ذَرْعاً) تمييز محول عن الفاعل أي ضاق ذرعه ، وقوله : (صدرا) تفسير لحاصل المعنى ، وإلا فالذرع معناه الطاقة والقوة. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله :

١٧٦

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) صدرا لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف ، فخاف عليهم قومه ، فأعلموه أنهم رسل به (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ) بالتشديد والتخفيف (وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٣) ونصب أهلك عطف على محل الكاف (إِنَّا مُنْزِلُونَ) بالتخفيف والتشديد (عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) عذابا (مِنَ السَّماءِ بِما) بالفعل الذي (كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣٤) به أي بسبب فسقهم (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) ظاهرة هي آثار خرابها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) يتدبرون (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) اخشوه هو يوم القيامة (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٣٦) حال مؤكدة لعاملها من عثي بكسر المثلثة أفسد (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧) باركين على الركب متين (وَ) أهلكنا (عاداً وَثَمُودَ) بالصرف وتركه بمعنى الحي

____________________________________

(على محل الكاف) أي وهو النصب على أنها مفعول منجو. قوله : (عذابا) قيل هو حجارة ، وقيل نار ، وقيل خسف ، وعليه فالمراد بكونه من السماء أن الحكم به من السماء. قوله : (هي آثار خرابها) وقيل هي الحجارة التي أهلكوا بها ، أبقاها الله عزوجل حتى أدركتها أوائل هذه الأمة ، وقيل هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض. قوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) متعلق بتركنا أو ببينة ، وخصهم لأنهم المنتفعون بالاتعاظ بها. قوله : (إِلى مَدْيَنَ) متعلق بمحذوف معطوف على (أرسلنا) في قصة نوح. قوله : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي لأنه من ذرية مدين بن إبراهيم الذي هو أبو القبيلة ، فكما هو منسوب لمدين هم كذلك. قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه. قوله : (وَارْجُوا الْيَوْمَ) يصح أن يبقى الرجاء على معناه ، ويكون المعنى ارجوا رحمة الله في اليوم الآخر ، ويصح أن يكون بمعنى خافوا ، والمعنى خافوا عقاب الله في اليوم الآخر ، واليه يشير المفسر بقوله : (اخشوه). قوله : (من عثي بكسر المثلثة) أي من باب تعب ، ويصح أن يكون من باب قال. قوله : (فَكَذَّبُوهُ). إن قلت : مقتضى الظاهر أن يقال : فلم يمتثلوا أوامره ، لأن التكذيب إنما يكون في الإخبار. أجيب : بأن ما ذكره من الأمر والنهي متضمن للخبر ، كأنه قيل : الله واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فاجتنبوه ، فالتكذيب راجع إلى الإخبار.

قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة التي نشأت من صيحة جبريل عليهم ، وتقدم في هود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ولا منافاة بين الموضعين ، فإن سبب الرجفة الصيحة ، والرجفة سبب في هلاكهم ، فتارة يضاف الأخذ للسبب ، وتارة لسبب السبب. قوله : (بالصرف وتركه) راجع لثمود فقط ، وقوله : (بمعنى الحي والقبيلة) لف ونشر مرتب ، لكونه بمعنى الحي يكون اسم جنس ، لم توجد فيه العلمية التي هي إحدى علتي منع الصرف ، وكونه بمعنى القبيلة يكون علم شخص على أبي القبيلة ، فقد وجدت فيه العلتان. قوله : (إهلاكهم) أشار بذلك إلى أن فاعل تبين ، ضمير عائد على الإهلاك. قوله : (بالحجر) راجع لثمود ، وهو واد بين الشام والمدينة ، وقوله : (واليمن) راجع لعاد. قوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي بواسطة الرسل ، فلم يكن لهم عذر في ذلك ، لأن الرسل بينوا طريق الحق بالحجج الواضحة له. قوله : (ذوي بصائر) أي عقلاء متمكنين من النظر والاستبصار ، لكنهم لم يفعلوا تكبرا وعنادا.

١٧٧

والقبيلة (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) إهلاكهم (مِنْ مَساكِنِهِمْ) بالحجر واليمن (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر والمعاصي (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) ذوي بصائر (وَ) أهلكنا (قارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ) من قبل (مُوسى بِالْبَيِّناتِ) الحجج الظاهرات (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣٩) فائتين عذابنا (فَكُلًّا) من المذكورين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) ريحا عاصفة فيها حصباء كقوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيعذبهم بغير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) بارتكاب الذنب (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي أصناما يرجون نفعها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لنفسها تأوي إليه (وَإِنَّ أَوْهَنَ) أضعف (الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا يدفع عنها حرا ولا بردا ، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها (لَوْ كانُوا

____________________________________

قوله : (وَقارُونَ) قدمه على (فِرْعَوْنَ) لشرفه عليه لكونه ابن عم موسى. قوله : (وَهامانَ) هو وزير فرعون. قوله : (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن عبادة الله. قوله : (بِذَنْبِهِ) الباء سببية أي بسبب ذنبه. قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي يعاملهم معاملة ملك ظالم في رعيته ، وعلى فرض لو عذبهم بغير ذنب لا يكون ظالما ، لأنه الخالق المتصرف في ملكه على ما يريد. قوله : (يرجون نفعها) هذا هو وجه الشبه ، أي فمثل الذين اتخذوا من دون الله أصناما يعبدونها ، في اعتمادهم عليها ورجائهم نفعا ، كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتا ، لا يغني عنها في حر ولا برد ولا مطر ولا أذى ، وحمل المفسر الأولياء على الأصنام مخرج للأولياء بمعنى المتولين في خدمة ربهم ، فإن اتخاذهم بمعنى التبرك بهم والالتجاء لهم والتعلق بأذيالهم مأمور به ، وهم أسباب عادية تنزل الرحمات والبركات عندهم لا بهم ، خلافا لمن جهل وعاند وزعم أن التبرك بهم شرك. قوله : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) هو حيوان معروف ، له ثمانية أرجل وستة أعين ، يقال إنه أقنع الحيوانات ، جعل الله رزقه أحرص الحيوان وهو الذباب والبق ، ونونه أصلية ، والواو والتاء زائدتان ، بدليل قولهم في الجمع عناكب ، وفي التصغير عنيكيب.

قوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) الجملة حالية. قوله : (كذلك الأصنام لا تنفع عابديها) أي فمن التجأ لغير الله فلا ينفعه شيء ، ومن التجأ لله وقاه بغير سبب وبسبب ضعيف ، ومن هنا وقاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار حين نزل الغار ، بالعنكبوت وبيض الحمام ، مع كونهما أضعف الأشياء. قوله : (ما عبدوها) قدره إشارة إلى أن جواب لو محذوف. قوله : (بمعنى الذي) أشار بذلك إلى أن (ما) اسم موصول ، وجملة (يَدْعُونَ) صلتها ، والموصول وصلته معمول ليعلم. قوله : (أي يفهمها) أي يفهم صحتها وفائدتها. قوله : (إِلَّا الْعالِمُونَ) خصهم لأنهم المنتفعون بذلك ، وأما الكافرون فيزدادون طغيانا وعتوا. قوله : (محقّا) أشار بذلك إلى أن الباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، والجار والمجرور حال. قوله : (خصوا بالذكر) جواب عما يقال إن في خلق السماوات والأرض آية لكل عاقل.

١٧٨

يَعْلَمُونَ) (٤١) ذلك ما عبدوها (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما) بمعنى الذي (يَدْعُونَ) يعبدون بالياء والتاء (مِنْ دُونِهِ) غيره (مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) (٤٢) في صنعه (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) في القرآن (نَضْرِبُها) نجعلها (لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها) أي يفهمها (إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٣) المتدبرون (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي محقّا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالة على قدرته تعالى (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤) خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الإيمان بخلاف الكافرين (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) شرعا أي من شأنها ذلك ما دام المرء فيها (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) من غيره من الطاعات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما

____________________________________

قوله : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي ما أوحاه الله اليك بنزول جبريل ، والمعنى تقرب إلى الله بتلاوته وترداده أنت وأمتك ، لأن فيه محاسن الآداب ومكارم الأخلاق. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) بيان لما. قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي دم على إقامتها ، بأركانها وشروطها وآدابها ، فإنها عماد الدين ، من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها هدم الدين ، والخطاب للنبي والمراد هو وأمته ، بدليل مدحهم في آية : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) الآية.

قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي المواظبة عليها ، تكون سببا في تطهيره عن الفحشاء والمنكر ، إذا استوفيت شروطها وآدابها ، لأن الواجب حين الاقبال على الصلاة ، التطهير من الحدث الحسي والمعنوي وتجديد التوبة ، فإذا وقف بين يدي الله ، وخشع وتذكر أنه واقف بين يدي مولاه ، وأنه مطلع عليه يراه ، فحينئذ يظهر على جوارحه هيئتها ، وقوله : (ما دام المرء فيها) هذا أحد قولين ، والقول الصحيح أنها تنهى عنها في سائر الأوقات ، لما روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاله فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله. وروي عن بعض السلف ، أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه ، فكلم في ذلك فقال : إني واقف بين يدي الله تعالى ، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا ، فكيف مع ملك الملوك ، وأما من صلاته بخلاف ذلك ، بأن كانت لا خشوع فيها ولا تذكر ، فإنها لا تكون سببا في نهيه عن الفحشاء والمنكر ، بل يستمر على ما هو عليه من البعد ، لما ورد : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا.

قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ) أي بسائر أنواعه أكبر ، أي أفضل الطاعات على الإطلاق ، لما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، قالوا : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة. فالذكر أفضل الأعمال ، وهو المقصود من تلاوة القرآن ومن الصلاة ، ولذا ورد عن الجنيد أنه

١٧٩

تَصْنَعُونَ) (٤٥) فيجازيكم به (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي) أي المجادلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) كالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (وَقُولُوا) لمن قبل الإقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) مطيعون (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) التوراة كعبد الله بن سلام وغيره (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي أهل مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) بعد ظهورها (إِلَّا الْكافِرُونَ) (٤٧) أي اليهود ، وظهر لهم أن القرآن حق ، والجائي به محق ، وجحدوا ذلك (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ) القرآن (مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً) أي لو كنت قارئا كاتبا

____________________________________

كان يأتيه العصاة يريدون التوبة على يديه ، فيلقنهم الذكر ويأمرهم بالإكثار منه فتنور قلوبهم. قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) أي من خير وشر فيجازيكم عليه.

قوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تدعوهم إلى دين الله إلا بالكلام اللين المعروف والإحسان لعلهم يهتدون ، وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي فادعوهم إلى دين الله بالإغلاظ والشدة ، وقاتلوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فهذه الآية بمعنى قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، وعلى هذا التقدير فالآية محكمة وهو التحقيق. قوله : (بأن حاربوا) الخ ، أشار بذلك إلى أن المراد بالظلم الامتناع مما يلزمهم شرعا فلا يقال إن الكل ظالمون لأنهم كفار. قوله : (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي يلتزموا بإعطائها.

قوله : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي لما روي أنه كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآية» ، وفي رواية : «وقولوا آمنا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم». ومحل ذلك ما لم يتعرضوا لأمور توجب نقض عهدهم ، كأن يظهروا أن شرعهم غير منسوخ ، وأن نبينا غير صادق فيما جاء به ، وغير ذلك ، فحينئذ نقاتلهم ، ومحله أيضا ما لم يخبرونا بخبر موافق لما في كتابنا ، وإلا فيجب تصديقهم من حيث إن الله أخبرنا به.

قوله : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي نفعناهم به ، بأن أعطيناهم نوره ، وظهرت ثمرته عليهم ، وهم الذي يؤمنون به ، وإلا فجميع علمائهم أوتوا الكتاب ، ولم يسلم منهم إلا القليل ، ويصح أن يكون المراد : (ففريق من أهل الكتاب) الخ. قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) أي ينكرها بعد معرفتها. قوله : (أي اليهود) لا مفهوم له بل النصارى والمشركون ، كذلك فالمناسب أن يقول : إلا الكافرون كاليهود.

قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) شروع في اثبات الدليل على أن القرآن من عند الله وأنه معجز

١٨٠