حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان

مكيّة

إلا (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتان فمدنيتان.

وهي أربع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) (١) الله أعلم بمراده به (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) القرآن (الْحَكِيمِ) (٢) ذي الحكمة والإضافة بمعنى من هو (هُدىً وَرَحْمَةً) بالرفع (لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) وفي قراءة العامة بالنصب حالا من الآيات العامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بيان للمحسنين (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) هم

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان مكية

إلا (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتان فمدنيتان.

وهي أربعة وثلاثون آية مبتدأ وخبر ، سميت بذلك لذكر قصة لقمان فيها. قوله : (إلا) (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) إلخ ، هذا أحد أقوال ثلاثة ، وقيل مكية كلها ، وقيل إلا ثلاث آيات من قوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) إلى (خَبِيرٌ) وهذا القول الثالث للبيضاوي. قوله : (أي هذه الآيات) أي آيات السورة ، وأشير إليها بإشارة البعيد لعلو رتبتها ورفعة قدرها عند الله ، وإن كانت قريبة من الأذهان. قوله : (ذي الحكمة) أي المشتمل على الحكمة ، وهي العلم النافع ، ويصح أن يراد بالحكيم المحكم ، أي المتقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويصح أن يراد (الْحَكِيمِ) قائله ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه ، وهو الضمير المجرور ، فبانقلابه مرفوعا استكن في الصفة المشبهة. قوله : (بالرفع) أي لحمزة على أنه خبر لمحذوف قدره بقوله : (هو). قوله : (وفي قراءة العامة) أي وهم السبعة ما عدا حمزة. قوله : (حالا من الآيات) أي حال كون كل منهما حالا. قوله : (من معنى الإشارة) أي كأنه قال : أشير إلى تلك الآيات ، حال كونها هدى ورحمة.

قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها بأركانها وآدابها. قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي

٢٠١

الثاني تأكيد (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) الفائزون (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي ما يلهي منه عما يعني (لِيُضِلَ) بفتح الياء وضمها (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريق الإسلام (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها) بالنصب عطفا على يضل وبالرفع عطفا على يشتري (هُزُواً) مهزوءا بها (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦) ذو إهانة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) متكبرا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) صمما ، وجملتا التشبيه حالان من ضمير ولي ، أو الثانية بيان للأولى (فَبَشِّرْهُ) أعلمه (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧) مؤلم ، وذكر البشارة تهكم به وهو النضر بن الحرث ، كان يأتي الحيرة يتجر ، فيشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول : إن محمدا يحدثكم أحاديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم ، فيستملحون حديثه ، ويتركون استماع القرآن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) (٨) (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة أي مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي

____________________________________

يعطونها لمستحقيها. قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يؤمنون بلقاء الله والبعث. قوله : (الفائزون) أي بما أعد لهم من النعيم المقيم.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي) إلخ ، شروع في ذكر مقابل الفريق الأول على حكم عادته تعالى في كتابه ، والجار والمجرور خبر مقدم ، والاسم الموصول مبتدأ مؤخر ، واعلم أن من لفظها مفرد ، ومعناها جمع ، فروعي لفظها في جميع الضمائر الآتية ، وروعي معناها في (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). قوله : (لَهْوَ الْحَدِيثِ) إما من إضافة الصفة للموصوف ، أي الحديث اللهو ، أي المشتغل عما يعني ، أو الإضافة على معنى من ، وإليه يشير المفسر بقوله : (أي ما يلهي عنه). قوله : (بفتح الياء) أي ليستمر على الضلال ، وقوله : (وضمها) أي ليوقع غيره في الضلال ، فهو ضال مضل ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (طريق الإسلام) أي الأمور الموصلة للإسلام ، فاللهو كل ما يشغل عن عبادة الله ، وذكره من الأضاحيك والخرافات والمغاني والمزامير ، وغيرها من الأمور الباطلة.

قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل (يَشْتَرِي) أي حالة كونه جاهل القلب ، وإن كان عليم اللسان. قوله : (وَيَتَّخِذَها) أي الآيات. قوله : (بالنصب) إلخ ، أي والقراءتان سبعيتان. قوله : (مهزوءا بها) أي لمحاكاته لها بالخرافات. قوله : (أعلمه) أشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة مطلق الإعلام بالخبر ، وإن لم يكن فيه بشارة ، ودفع بذلك ما يقال : إن الأخبار بالعذاب الأليم ، ليس بشارة بل هو نذارة ، وقوله : (وذكر البشارة) إلخ ، جواب آخر ، فكان المناسب أن يذكره بأو. قوله : (النضر بن الحرث) أي ابن كلدة كان صديقا لقريش. قوله : (فيستملحون حديثه) أي يعدونه مليحا فيصغون له.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان لحال المؤمنين وبالقرآن ، بعد بيان حال الكافرين به. قوله : (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) المراد بها جميع الجنان ، لا خصوص المسماة بهذا الاسم. قوله : (أي مقدرا خلودهم) أي فهم عند دخولهم يقدرون الخلود ، لسماعهم النداء من قبل الله ، يا أهل الجنة خلود بلا موت. قوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان لمضمون الجملة الأولى ، والعامل مختلف ، والتقدير وعد

٢٠٢

وعدهم الله ذلك وحقه حقا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده (الْحَكِيمُ) (٩) الذي لا يضع شيئا إلا في محله (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي العمد جمع عماد وهو الأسطوانة ، وهو صادق بأن لا عمد أصلا (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا مرتفعة (أَنْ) لا (تَمِيدَ) تتحرك (بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا) فيه التفات عن الغيبة (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠) صنف حسن (هذا خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي) أخبروني يا أهل مكة (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) غيره أي آلهتكم حتى أشركتموها به تعالى ، وما استفهام إنكار مبتدأ ، وذا بمعنى الذي بصلته خبره ، وأروني معلق عن العمل ، وما بعده سد مسد المفعولين (بَلِ) للانتقال (الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) بيّن بإشراكهم وأنتم منهم (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) منها : العلم والديانة والإصابة في القول ، وحكمه كثيرة مأثورة ،

____________________________________

الله ذلك وعدا وحقه حقا. قوله : (الذي لا يغلبه شيء) أي لا يقهره أحد.

قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ) إلخ ، هذا دليل على أنه عزيز حكيم ، لا يمنعه أحد عن إنجاز وعده ووعيده. قوله : (أي العمد) أشار بذلك إلى أن جملة (تَرَوْنَها) صفة لعمد. قوله : (جمع عماد) أي كأهب جمع إهاب. قوله : (الإسطوانة) بضم الهمزة وهي السارية. قوله : (وهو صادق) إلخ ، أي لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع وهو المراد هنا ، ويصح أن يراد الشق الثاني ، وهو أن يكون لها عمد لا ترى ، وهي قدرة الله تعالى. قوله : (رَواسِيَ) أي ثوابت. قوله : (جبالا مرتفعة) قال ابن عباس : هي سبعة عشر جبلا منها : ق وأبو قبيس والجودي ولبنان وطور سينين. قوله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) قدر المفسر لام التعليل ولا النافية ، إشارة إلى أن حكمة تثبيت الأرض بالجبال ، عدم تحركها بأهلها. قوله : (وَبَثَّ فِيها) أي نشر ، وقوله : (مِنْ كُلِّ دابَّةٍ مِنْ) زائدة. قوله : (فيه التفات) أي من الغيبة إلى التكلم ، زيادة في التبكيت وإلزام الحجة.

قوله : (هذا خَلْقُ اللهِ) أي ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما. قوله : (استفهام إنكار) وتوبيخ وتقريع. قوله : (معلق على العمل) أي في اللفظ ، وأما في المحل فهو عامل النصب. قوله : (سد مسد المفعولين) ظاهره أن أروني تنصب ثلاثة مفاعيل ، الياء وجملة الاستفهام التي سدت مسد الثاني والثالث ، وهذا غير ما ذكروه من أن أرى إن كان بمعنى أخبر ، فإنها تتعدى لمفعولين : الأول مفرد صريح ، والثاني جملة الاستفهام ، فالمناسب للمفسر أن يقول : سدت مسد الثاني. قوله : (للانتقال) أي من تبكيتهم إلى الإخبار بتقبيح الظالمين عموما.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) اختلف في لقمان ، فقيل اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، وقيل عربي ومنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ، واختلف فيه أيضا ، فقيل هو لقمان بن فاغور بن ناخور بن تارخ وهو آزر ، فعلى هذا هو ابن ابن أخي ابراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقيل كان ابن أخت أيوب ، وقيل كان ابن خالته ، يقال إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود ، واتفق العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا ، إلا عكرمة والشعبي فقالا بنبوته ، وقيل خيّر بين النبوة والحكمة فاختار

٢٠٣

كان يفتي قبل بعثة داود ، وأدرك بعثته وأخذ عنه العلم وترك الفتيا ، وقال في ذلك : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقيل له : أي الناس شر؟ قال : الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا (أَنِ) أي وقلنا له أن (اشْكُرْ لِلَّهِ) على ما أعطاك من الحكمة (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن ثواب شكره له (وَمَنْ كَفَرَ) النعمة (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن خلقه (حَمِيدٌ) (١٢) محمود في صنعه (وَ) اذكر (إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَ) تصغير إشفاق (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ) بالله (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)

____________________________________

الحكمة ، وروي أنه كان نائما في وسط النهار ، فنودي يا لقمان ، هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض ، فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإن عزم علي فسمعا وطاعة ، فإني أعلم أن الله تعالى ، إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان؟ قال : إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاه المظلوم من كل مكان ، إن عدل نجا ، وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا ، خير من أن يكون شريفا ، ومن يختر الدنيا على الآخرة ، تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومه فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي بها داود بعده فقبلها ، وكان لقمان يؤازر داود لحكمته ، وقيل كان خياطا ، وقيل كان راعي غنم ، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألست فلانا الراعي؟ قال : بلى ، قال : فيم بلغت ما بلغت؟ قال : بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما يعنيني. قوله : (منها العمل والديانة) أي فالحكمة هي العلم والعمل ، ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعها ، وقيل الحكمة المعرفة والأمانة ، وقيل هي نور في القلب ، يدرك به الأشياء كما تدرك بالبصر. قوله : (وحكمه كثيرة) قال وهب : تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة ، أدخلها الناس في كلامهم. قوله : (وقال في ذلك) أي في شأن الاعتذار عن ترك الفتيا. قوله : (وقلنا له أن) (اشْكُرْ) إلخ ، أشار بذلك إلى أن أن زائدة ، وجملة (أَنِ اشْكُرْ) مقول القول ، والأنسب (أن) تفسيرية لتقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله : (ما أعطاك من الحكمة) أي فهي نعمة يجب الشكر عليها بصرفها في مصارفها. قوله : (وَمَنْ يَشْكُرْ) إلخ ، تعليل للأمر بالشكر. قوله : (محمود في صنعه) أي فهو حقيق بأن يحمد من دون المخلوقات.

قوله : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) أي واسمه ثاران وقيل مشكم وقيل أنعم ، قيل كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال يعظهما حتى أسلما ، قيل وضع لقمان جرابا من خردل إلى جنبه ، وجعل يعظ ابنه موعظة موعظة ، ويخرج خردلة خردلة ، فنفد الخردل فقال : يا بني وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر ، فتفطر ابنه ومات. قوله : (وَهُوَ يَعِظُهُ) الجملة حالية. قوله : (يا بُنَيَ) بكسر الياء وفتحها قراءتان سبيعتان. قوله : (اشفاق) أي محبة. قوله : (فرجع إليه) أي إلى دين أبيه وهو الإسلام ، وقال أيضا : يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة ، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس ، فإن الجنائز تذكرك الآخرة ، والعرس يشهيك الدنيا. يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك. يا بني لا تؤخر التوبة ، فإن الموت يأتي بغتة. يا بني لا ترغب في ود الجاهل ، فيرى أنك ترضى عمله. يا بني اتق الله ولا تر الناس أنك تخشى ، ليكرموك بذلك وقلبك فاجر ، يا بني ما ندمت على الصمت قط ، فإن الكلام إذا كان من فضة ، كان السكوت من ذهب. يا بني اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق. يا بني عليك بمجالس العلماء ، واستمع كلام الحكماء ، فإن الله تعالى يحيي

٢٠٤

فرجع إليه وأسلم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أمرنا أن يبرهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ) فوهنت (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفت للحمل ، وضعفت للطلق ، وضعفت للولادة (وَفِصالُهُ) أي فطامه (فِي عامَيْنِ) وقلنا له (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) أي المرجع (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) موافقة للواقع (فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي

____________________________________

القلب الميت بنور الحكمة ، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر ، فإن من كذب ذهب ماء وجه ، ومن ساء خلقه كثر غمه ، ونقل الصخور من موضعها أيسر من إفهام من لا يفهم ، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا ، فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك. يا بني لا تنكح أمة غيرك ، فتورث بنيك حزنا طويلا. يا بني يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حليم. يا بني اختر المجالس على عينك ، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عزوجل فاجلس معهم ، فإنك إن تك عالما ينفعك علمك ، وإن تك غبيا يعلموك ، وإن يطلع الله عزوجل عليهم برحمة تصبك معهم. يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله عزوجل ، فإنك إن تكن عالما لا ينفعك علمك ، وإن تك غبيا يزيدوك غباوة ، وإن يطلع الله عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم. يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء ، وشاور في أمرك العلماء. يا بني إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيه ناس كثير ، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان بها ، وشراعها التوكل على الله ، لعلك أن تنجو. يا بني إني حملت الجندل والحديد ، فلم أحمل شيئا أثقل من جار السوء ، وذقت المرارة كلها ، فلم أذق أشد من الفقر ، يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. يا بني لا تتعلم ما لا تعلم ، حتى تعمل بما تعلم. يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك ، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره. يا بني إنك منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة ، فدار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترحل. يا بني عود لسانك أن يقول : اللهم اغفر لي ، فإن لله ساعات لا ترد. يا بني إياك والدين ، فإنه ذل النهار وهم الليل. يا بني أرج الله رجاء لا يجرئك على معصيته ، وخف الله خوفا لا يؤيسك من رحمته. إلى غير ذلك من المواعظ المأثورة عنه عليه‌السلام.

قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلخ ، هاتان الآيتان نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص كما تقدم ، فهما معترضتان بين كلامي لقمان ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فأل في الإنسان للجنس. قوله : (أن يبرهما) أي يحسن إليهما. قوله : (فوهنت) قدر الفعل اشارة إلى أن (وَهْناً) مفعول مطلق ، والأحسن جعله حالا من أمة أي ذات وهن. قوله : (عَلى وَهْنٍ) صفة لوهنا أي ضعفا كائنا على ضعف ، والمراد التوالي لا خصوص وهنين بدليل قول المفسر (أي ضعفت للحمل) إلخ. قوله : (أي فطامه) أي ترك رضاعه. قوله : (فِي عامَيْنِ) أي في انقضائهما.

قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي) أن يحتمل أنها مفسرة لجملة (وَصَّيْنَا) أو مصدرية. قوله : (أي المرجع) أي فأجازي المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته. قوله : (موافقة للواقع) أي فلا مفهوم له ، وهو جواب عما يقال : إن الشريك مستحيل على الله تعالى ، فربما يتوهم وجود الشريك له به علم. قوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا) أي أمورها التي لا تتعلق بالدين. قوله : (أي بالمعروف) أشار بذلك إلى أنه منصوب بنزع الخافض.

٢٠٥

بالمعروف البر والصلة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ) طريق (مَنْ أَنابَ) رجع (إِلَيَ) بالطاعة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥) فأجازيكم عليه ، وجملة الوصية وما بعدها اعتراض (يا بُنَيَّ إِنَّها) أي الخصلة السيئة (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي في أخفى مكان من ذلك (يَأْتِ بِهَا اللهُ) فيحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) باستخراجها (خَبِيرٌ) (١٦) بمكانها (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) بسبب الأمر والنهي (إِنَّ ذلِكَ) المذكور (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧) أي معزوماتها التي

____________________________________

قوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) قيل إن الخطاب للمكلفين عموما ، ويراد بمن أناب النبي وأصحابه ومن على قدمهم ، وقيل الخطاب لسعد بن أبي وقاص ، والمراد بمن أناب أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وذلك أنه حين أسلم ، أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف فقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به؟ قال : نعم هو صادق فآمنوا ، ثم جاء بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسلموا ، فهؤلاء سابقون للإسلام بإرشاد أبي بكر رضي الله عنه. قوله : (فأجازيكم عليه) أي على العمل الحسن والسيئ. قوله : (وجملة الوصية) أي وهي قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلخ. وقوله : (وما بعدها) أي وهو قوله : (وإن جاهداك) إلخ ، وقوله : (اعتراض) أي بين كلامي لقمان.

قوله : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) إلخ ، رجوع لذكر وصايا لقمان لولده ، وسبب تلك المقالة أنه قال له ولده : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد ، كيف يعلمها الله؟ فقال له تلك المقالة وهذا السؤال ، ليس عن اعتقاد لمضمونه ، إذ هو مسلم لا يعتقد أن الله تخفى عليه خافية ، وإنما مقصوده الإنتقال من العلم بالدليل إلى المعرفة والمشاهدة ، ولذا مات من استيلاء الهيبة على قلبه. قوله : (مِنْ خَرْدَلٍ) هو حب الكبر وهو أصغر حب ، والمراد أصغر شيء ، بدليل ضرب المثل بالذرة في الآية. قوله : (فِي صَخْرَةٍ) قيل المراد بها التي تحت الأرضين السبع ، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة السماء منها لما قيل : خلق الأرض على حوت ، والحوت في الماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، وقيل على ظهر ثور وهو على الصخرة ، وهي التي ذكرها لقمان ، فليست في السماء ولا في الأرض. قوله : (أي في أخفى مكان من ذلك) أي من الصخرة والسماوات والأرض ، فأخفى الصخرة باطنها ، وأخفى السماوات أعلاها ، وأخفى الأرض أسفلها. قوله : (يَأْتِ بِهَا اللهُ) جواب الشرط. قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي عالم بخفيات الأمور. قوله : (خَبِيرٌ) أي عالم ببواطن الأشياء كظواهرها ، قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان ، فانشقت مرارة ابنه من هيبتها وعظمها ، فمات مسلما شهيدا رضي الله عنه.

قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي بشروطها وأركانها وآدابها ، لكونها عماد الدين ومناجاة الله تعالى. قوله : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بكل ما عرف شرعا ، لأن الدال على الخير كفاعله. قوله : (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي باليد أو اللسان أو القلب على حسب الطاقة ، فإن لم يفد ، فالهجر أولى بالمعروف. قوله : (بسبب الأمر والنهي) المناسب حمله على العموم ، فالصبر على المصائب ، سواء كانت من الخلق أو الخالق أمره عظيم ، لأن الكل في الحقيقة من الله ، والمراد بالصبر التسليم لأحكام الله والرجوع إليه ، قال تعالى :

٢٠٦

يعزم عليها لوجوبها (وَلا تُصَعِّرْ) وفي قراءة تصاعر (خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمل وجهك عنهم تكبرا (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي خيلاء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) متبختر في مشيه (فَخُورٍ) (١٨) على الناس (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) توسط فيه بين الدبيب والإسراع ، وعليك السكينة والوقار (وَاغْضُضْ) اخفض (مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) أقبحها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩) أوله زفير ، وآخره شهيق (أَلَمْ تَرَوْا) تعلموا يا مخاطبين (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم لتنتفعوا بها (وَما فِي الْأَرْضِ) من الثمار والأنهار والدواب (وَأَسْبَغَ) أوسع وأتم (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً) هي حسن الصورة وتسوية الأعضاء وغير ذلك

____________________________________

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). قوله : (التي يعزم عليها لوجوبها) أي تحتمها على المكلفين ، فلا ترخيص في تركها.

قوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) الصعر بفتحتين في الأصل ، داء يصيب البعير يلوي عنقه ، ثم استعمل في ميل العنق وانقلاب الوجه إلى أحد الشدقين ، لأجل الفخر على الناس ، والمراد لا تتكبر فتحتقر الناس ، ولا تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. قوله : (وفي قراءة تصاعر) أي وهما سبعيتان ومعناهما واحد. قوله : (أي خيلاء) أي عجبا وتكبرا ، قال تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً). قوله : (فَخُورٍ) (على الناس) أي لظنه أن نعمة الله أسبغت عليه لاستحقاقه إياها ، فتكبر بها على الناس. قوله : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) لما أمره أولا بحسن الباطن ، أمره ثانيا بحسن الظاهر ، ليجمع له في وصيته بين كمال الظاهر والباطن. قوله : (بين الدبيب) أي وهو ضعيف المشي جدا ، قال الشاعر :

زعمتني شيخا ولست بشيخ

إنما الشيخ من يدب دبيبا

قوله : (والإسراع) أي وهي قوة المشي وهي مذمومة لما ورد : سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن. إن قلت : ورد في الحديث : كنا نجهد أنفسنا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقتضي أنه كان يسرع في مشيه. أجيب بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه مشية متوسطة ، وبالنسبة للصحابة هو أعلى مشيا منهم ، لما في الحديث المقتدم : وهو غير مكترث كأن الأرض تطوى له. قوله : (مِنْ صَوْتِكَ) يحتمل أن (مِنْ) تبعيضية ، أو الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمحذوف ، أي شيئا من صوتك. قوله : (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي هذا الجنس لما فيه من العلو المفرط من غير حاجة ، فإن كل حيوان يصيح من ثقل أو تعب أو غير ذلك ، والحمار يصيح لغير سبب ، وصياح كل شيء تسبيح لله تعالى ، إلا الحمار. إن قلت : إن دق النحاس بالحديد أشد صوتا من الحمير. أجيب : بأن الصوت الشديد لحاجة يتحمله العقلاء ، بخلاف الصوت الخالي عن الثمرة والفائدة ، وهو صوت الحمار. قوله : (أوله زفير) أي صوت قوي ، وقوله : (وآخره شهيق) أي صوت ضعيف ، وهما صفة أهل النار.

قوله : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) إلخ ، رجوع لما سبق من خطاب المشركين والرد عليهم. قوله : (يا مخاطبين) القياس بالواو لأنه منادى مفرد ، وهو مبني على ما يرفع به ، إلا أن يقال : إنه نكرة غير مقصودة فهو منصوب. قوله : (نِعَمَهُ) إما بالجمع فظاهرة وباطنة حالان ، أو الإفراد بتاء التأنيث نكرة فهما نعتان لها ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (هي حسن الصورة) إلخ ، وقيل الظاهرة نعمة الدنيا ،

٢٠٧

(وَباطِنَةً) هي المعرفة وغيرها (وَمِنَ النَّاسِ) أي أهل مكة (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً) من رسول (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠) أنزله الله بل بالتقليد (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) قال تعالى : (أَ) يتبعونه (وَلَوْ) (كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١) أي موجباته؟ لا (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي يقبل على طاعته (وَهُوَ مُحْسِنٌ) موحد (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢) مرجعها (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ) يا محمد (كُفْرُهُ) لا تهتم بكفره (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢٣) أي بما فيها كغيره فمجاز عليه (نُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا (قَلِيلاً) أيام حياتهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤) وهو عذاب النار لا يجدون عنه محيصا (وَلَئِنْ) لام قسم (سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) حذف منه نون الرفع لتوالي الأمثال ، وواو الضمير لالتقاء الساكنين (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ)

____________________________________

والباطنة نعمة العقبى ، وقيل الظاهرة ما ترى الأبصار ، كالمال والجاه والجمال في الناس ، والباطنة ما يجده الإنسان في نفسه من حسن اليقين والعلم بالله تعالى ، وكل صحيح. قوله : (وتسوية الأعضاء) أي تناسبها.

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ) نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف ومن حذا حذوهما ، كانوا يجادلون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله وصفاته من غير علم. قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بل بالجهل وعدم المعرفة. قوله : (وَلا هُدىً) أي مع رسول جاءهم به. قوله : (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي نير واضح الدلالة. قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) الجمع باعتبار المعنى. قوله : (أَ) (يتبعونه) أشار بذلك إلى أن الشرط للحال والتقدير أيتبعونه ، والحال أن الشيطان يدعوهم إلى العذاب ، وحينئذ فلا جواب للو. قوله : (يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي يدعو آباءهم ، لأن مدار إنكار الإتباع ، كون الرؤساء تابعين للشيطان. قوله : (لا) أي لا يليق منهم ذلك. قوله : (أي يقبل على طاعته) أشار بذلك إلى أن المراد بالوجه الذات ، والمعنى من يبذل ذاته في طاعة ربه ، والحال أنه موحد ، فقد استمسك إلخ ، وهذا هو حقيقة الشكر ، فالإقبال على الله ظاهرا وباطنا ، موجب للأمن من عذاب الله ، ومن زوال تلك النعمة ، وهذه الآية معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). قوله : (موحد) إنما فسره بذلك ليشمل الإسلام في حق العامة وهو التوحيد ، وإلا فالإحسان الكامل أن تعبد الله كأنك تراه. قوله : (بالطرف الأوثق) أي الموصل إلى الله بلا انقطاع ، فقد مثل المؤمن المتمسك بطاعة الله ، بمن أراد أن يرقى إلى شاهق جبل ، فتمسك بأوثق حبل ، فهو تشبيه تمثيلي بذكر طرفي التشبيه. قوله : (مرجعها) أي فيجازي عليها.

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) إلخ ، هذا مقابل الفريق الأول. قوله : (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) بفتح الياء وضم الزاي ، وبضم الياء وكسر الزاي قراءتان سبعيتان ، أي فتسل ولا تغتم على ذلك. قوله : (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي نخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ، كما أن المؤمن إذا نعم في الدنيا بأنواع النعم ، فليس ذلك جزاء لأعماله الصالحة. قوله : (لا يجدون عنها محيصا) أي ملجأ. قوله : (لَيَقُولُنَّ اللهُ) الجملة جواب

٢٠٨

على ظهور الحجة عليهم بالتوحيد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٥) وجوبه عليهم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا ، فلا يستحق العبادة فيهما غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) (٢٦) المحمود في صنعه (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ) عطف على اسم أن (يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) مداد (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) المعبر بها عن معلوماته بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد ولا بأكثر من ذلك ، لأن معلوماته تعالى غير متناهية (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) (٢٧) لا يخرج شيء من علمه وحكمته (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) خلقا وبعثا ، لأنه بكلمة كن فيكون (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل مسموع (بَصِيرٌ) (٢٨) يبصر كل مبصر لا يشغله شيء عن شيء (أَلَمْ تَرَ) تعلم يا مخاطبا (أَنَّ اللهَ يُولِجُ)

____________________________________

القسم ، وحذف جواب الشرط للقاعدة ، ولفظ الجلالة مرفوع ، إما على أنه فاعل بفعل محذوف تقديره خلقهن الله ، بدليل آية (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، أو خبر لمحذوف تقديره الخالق لهن. قوله : (وواو الضمير) أي لالتقائها ساكنة مع نون التوكيد ، وبقيت الضمة دليلا عليها. قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (وجوبه عليهم) أي بل يعتقدون أن الإشراك يقرب إلى الله ، مع كونهم ينسبون الخلق لله وحده.

قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا نتيجة ما قبله ، أي فحيث ثبت أنه الخالق لها ، تحقق أنه المالك لها. (المحمود في صنعه) أي المتصف بالكمالات أزلا وأبدا ، لا يستحق الحمد غيره. قوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ أَنَ) حرف توكيد ونصب و (ما) اسم موصول في محل نصب اسمها ، وجمل الجار والمجرور مع متعلقة صلة الموصول ، و (مِنْ شَجَرَةٍ) بيان لما ، وتوحيد شجرة إشارة إلى استغراق الأفراد كأنه قال : لو أن كل شجرة تجعل أقلاما إلخ ، وقوله : (أَقْلامٌ) خبر (أَنَ). قوله : (وَالْبَحْرُ) أي المحيط ، لأن الحقيقة إذا أطلقت تنصرف للفرد الكامل. قوله : (عطف على اسم أن) أشار بذلك إلى توجيه قراءة النصب ، وترك توجيه قراءة الرفع ، وتوجيهها أن يقال : إما عطف على جملة (أَنَ) واسمها وخبرها ، لأن موضعها رفع على الفاعلية لفعل محذوف ، والتقدير لو ثبت أن ما في الأرض إلخ ، أو مبتدأ خبره (يَمُدُّهُ) والجملة حالية. قوله : (مداد) خبر لمحذوف تقديره والجميع مداد ، وهو جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره ما تجعل تلك الأبحر؟ فأجاب بقوله : (مداد) يدل على ذلك قوله في الآية الأخرى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) إلخ. قوله : (كَلِماتُ اللهِ) أي مدلولات كلامه النفسي القديم القائم بذاته تعالى ، بدليل قوله المعبر بها ، فإن مدلول الكلام القديم ، هو ما أحاط به العلم القديم ، وأما الكلام المنزل للقراءة والتعبد به كالكتب السماوية ، فهو دال على بعض مدلول الكلام القديم ، فلذلك كان له مبدأ وغاية.

قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) سبب نزولها : أن أبي بن خلف وجماعة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الله خلقنا أطوارا ، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم تقول : إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة فنزلت ، والمعنى أن الله لا يصعب عليه شيء ، بل خلق العالم وبعثه برمته ، كخلق نفس واحدة وبعثها. قوله : (خلقا وبعثا) لف ونشر مرتب. قوله : (يا مخاطبا) نصبه لكونه قصد أنه نكرة

٢٠٩

يدخل (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ) يدخله (فِي اللَّيْلِ) فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌ) منهما (يَجْرِي) في فلكه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٩) (ذلِكَ) المذكور (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) بالياء والتاء يعبدون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) الزائل (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) على خلقه بالقهر (الْكَبِيرُ) (٣٠) العظيم (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ) يا مخاطبين بذلك (مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عبرا (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن معاصي الله (شَكُورٍ) (٣١) لنعمته (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي علا الكفار (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) كالجبال التي تظل من تحتها (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الدعاء بأن ينجيهم ، أي لا يدعون معه غيره (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) متوسط بين الكفر والإيمان ، ومنهم باق على كفره (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) ومنها الإنجاء من الموج (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدار (كَفُورٍ) (٣٢) لنعم الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي) يغني (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) فيه شيئا (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ) فيه

____________________________________

غير مقصودة. قوله : (بما نقص) أي بالجزاء الذي نقص من الأجر ، وهو أربع ساعات دائرة بين الليل والنهار ، زائدة على الأثني عشر ، فتارة يزيدها الليل ، وتارة يزيدها النهار.

قوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على (يُولِجُ) وعبر في الأولى بالمضارع ، لأن الإيلاج متجدد بخلاف التسخير. قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) عبر هنا بإلى ، وفي فاطر والزمر باللام تفننا ، لأن اللام وإلى للإنتهاء. قوله : (ذلِكَ) (المذكور) أي من الآيات الكريمة ، وهو مبتدأ خبره قوله : (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ). قوله : (الثابت) أي الذي لا يقبل الزوال ولا أبدا. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) إلخ ، هذا دليل آخر على إثبات الأولوهية لله وحده. قوله : (بِنِعْمَتِ اللهِ) أي إحسانه. قوله : (أي علا الكفار) أي أحاط بهم ، فعلا فعل ماض لا حرف جر. قوله : (أي لا يدعون معه غيره) أي كالأصنام لأنهم في ذلك الوقت في غاية الشدة والهول ، فلا يجدون ملجأ لكشف ما نزل بهم غيره تعالى. قوله : (متوسط بين الكفر والإيمان) المناسب تفسير المقتصد بالعدل الموفي ، بما عاهد الله عليه من التوحيد ، ليكون موافقا لسبب النزول ، فإنها نزلت في عكرمة بن أبي جهل ، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر ، فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة : لئن أنجانا الله من هذا ، لأرجعن إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأضعن يدي في يده فسكن الريح ، فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن اسلامه. قوله : (ومنهم باق على كفره) أي وهو المشار إليه ب قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) إلخ. قوله : (غدار) أي لأنه نقص العهد ، ورجع إلى ما كان عليه.

قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه. قوله : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) إلخ ، كل من الجملتين نعت ليوما ، والمعنى أن يوم القيامة يقول كل إنسان ، نفسي نفسي لا أملك غيرها ، ولا يهتم بقريب ولا بعيد ، وهذه الآية مخصوصة بالكفار ، وأما المسلمون فينتفعون من بعضهم ، فالأولاد تنفع

٢١٠

(شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالبعث (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عن الإسلام (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) في حلمه وإمهاله (الْغَرُورُ) (٣٣) الشيطان (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) متى تقوم (وَيُنَزِّلُ) بالتخفيف والتشديد (الْغَيْثَ) بوقت يعلمه (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أذكر أم أنثى ، ولا يعلم واحدا من الثلاثة غير الله تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، ويعلمه الله تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ويعلمه الله تعالى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكل شيء (خَبِيرٌ) (٣٤) بباطنه كظاهره ، روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب خمسة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر السورة.

____________________________________

الآباء ، والآباء تنفع الأولاد ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسّلام لفاطمة ابنته : «أنا لا أغني عنك من الله شيئا» فهو تحذير لها من الكفر الذي به تنقطع الأنساب. قوله : (وَلا مَوْلُودٌ) مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، و (جازٍ) خبر الثاني ، وهو وخبره خبر الأول ، أو معطوف على والد. قوله : (في حلمه وإمهاله) أشار بذلك أن الباء سببية ، والكلام على حذف مضاف ، والأصل لا يغرنكم بسبب حلم الله وامهاله الغرور.

قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلخ ، نزلت لما قال الحرث بن عمرو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متى الساعة؟ وأنا قد ألقيت الحب في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وامرأتي حامل فهل حملها ذكر أم أنثى؟ وأي شيء أعمله غدا؟ ولقد علمت بأي أرض ولدت ، فبأي أرض أموت؟ قوله : (متى تقوم) أي وقت قيامها. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بوقت يعلمه) أي وفي أي مكان ينزله.

قوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي من حيث ذاتها ، وأما بإعلام الله للعبد فلا مانع منه ، كالأنبياء وبعض الأولياء ، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وقال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) قال العلماء : وكذا ولي ، فلا مانع من كون يطلع بعض عباده الصالحين على بعض هذه المغيبات ، فتكون معجزة للنبي وكرامة للولي ، ولذلك قال العلماء : الحق أنه لم يخرج نبينا من الدنيا ، حتى أطلعه الله على تلك الخمس ، ولكنه أمر بكتمها ، والحكمة في كونه تعالى ، أضاف العلم إلى نفسه في الثلاثة الأول : ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها ، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها ، ونفي علم العباد بها ، أن الثلاثة الأول أمرها عظيم ، لا يتوهم في الخلق علمها ، بخلاف الأخيرتين فهما من صفات العباد ، فربما يتوهمون علمها ، فإذا انتفى عنهم علمهما ، كان انتفاء علمهم بغيرهما أولى. قوله : (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) لم يقل بأي وقت تموت فيه ، لأن انتقال الإنسان من مكان إلى آخر في وسعه واختياره ، فتوهمه علم مكان موته أقرب بخلاف الزمان ، ففيه تنبيه على انتقاء علم الأقرب ، ليفهم منه علم الأبعد بالأولى. قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أشار بذلك إلى أن علمه تعالى ، ليس مختصا بهذه الأشياء المتقدمة ، بل هو عليم ببواطن الأشياء كظواهرها.

٢١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السّجدة

مكيّة

وآياتها ثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) (١) الله أعلم بمراده به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) القرآن مبتدأ (لا رَيْبَ) شك (فِيهِ) خبر أول (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) خبر ثان (أَمْ) بل (يَقُولُونَ افْتَراهُ) محمد؟ لا (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ) به (قَوْماً ما) نافية (أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السجدة

مكية وهي ثلاثون آية

أي التي ذكر فيها السجدة. قوله : (مكية) ظاهره أن جميعها مكي ، وقال غيره : إلا ثلاث آيات ، وقيل إلا خمس آيات أولها قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) وآخرها قوله : (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وورد في فضلها أحاديث ، منها ما في الصحيح عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) السجدة ، و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وقد أخذ بهذا الحديث الإمام الشافعي رضي الله عنه ، ولم يأخذ به مالك ، لعدم استمرار العمل عليه ، ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ (الم تَنْزِيلُ) السجدة و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وتسمى أيضا المنجية ، لأنها إحدى المنجيات السبع وهي : هذه السورة ، ويس ، والدخان ، والواقعة ، وهل أتى ، والملك ، والبروج. ولما ورد عن خالد بن معدان أنه قال : اقرؤوا المنجية وهي (الم تَنْزِيلُ) فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها ، ما يقرأ شيئا غيرها ، وكان كثير الخطايا ، فنشرت جناحها عليه وقالت : رب اغفر لي فإنه كان يكثر قراءتي ، فشفعها الرب فيه ، وقال : اكتبوا له بكل خطيئة حسنة ، وارفعوا له درجة.

قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي نزوله ومجيئه. قوله : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لفظا ومعنى. (خبر ثان) هذا أحسن الأعاريب في هذا الموضع ، ويصح أن يكون حالا من ضمير الخبر. قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم : منقطعة تفسر ببل ، والهمزة عند البصريين ، والمفسر قدرها ببل فقط ، وهو غير مناسب بدليل قوله : (لا) فإنه إشارة إلى أن الاستفهام إنكاري ، مع أنه لم يذكر الهمزة ، ولعلها سقطت من قلم ناسخ المبيضة. قوله : (بَلْ هُوَ الْحَقُ) اضراب انتقالي من نفي الافتراء عنه إلى إثبات حقيقته ، ويصح أن يكون

٢١٢

يَهْتَدُونَ) (٣) بإنذارك (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها الأحد ، وآخرها الجمعة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو في اللغة سرير الملك ، استواء يليق به (ما لَكُمْ) يا كفار مكة (مِنْ دُونِهِ) أي غيره (مِنْ وَلِيٍ) اسم ما بزيادة من أي ناصر (وَلا شَفِيعٍ) يدفع عذابه عنكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤) هذا فتؤمنون (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) مدة الدنيا

____________________________________

ابطاليا لقوله ، كأنه قيل ليس هو كما قالوا ، بل هو الحق ، وقولهم كل ما في القرآن من الإضراب انتقالي يحمل على غير هذا ، والمعنى أن القرآن محصور في الحق ، لا يخرج عنه لغيره ، واستفيد الحصر من الجملة المعرفة الطرفين.

قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هو فعل بنصب مفعولين ، الأول قوما ، والثاني محذوف قدره المفسر بقوله : (به) وقدره غيره العقاب. قوله : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) جعل المفسر الجملة منفية صفة لقوما ، واختلف في القوم فقيل : المراد بهم العرب ، لأنهم أمة لم يأتهم نذير قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكون هذه الآية بمعنى قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) وقيل المراد بهم أهل الفترة ، الذين كانوا قبل عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، فيشمل بني آدم برمتهم. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الترجي بالنسبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى لتنذر قوما راجيا لاهدائهم لا آيسا منه. قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مبتدأ وخبر ، وهو شروع في ذكر أدلة توحيده سبحانه وتعالى. قوله : (أولها الأحد وآخرها الجمعة) أي على سبيل التوزيع ، فخلق الأرض أولا في الأحد والاثنين وخلق ما فيها في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفي ذلك إشكال ، وهو أن الأيام لم تكن معروفة إذ ذاك ، فضلا عن تسميتها ، لعدم وجود الشمس والأفلاك التي بها تعرف الأيام. وأجيب : بأن المراد في مقدار ستة أيام ، كائنة في علمه تعالى ، بحيث تكون عند ظهورها لنا ، أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، ومقتضى هذا ، أنها كأيام الدنيا وبه قال الحسن ، وقال ابن عباس والضحاك : اليوم منها مقداره ألف سنة. قوله : (سرير الملك) أي ومنه قال نكروا لها عرشها ، والمراد به هنا الجسم النوراني المحيط بالعالم كله. قوله : (استواء يليق به) هذه إشارة لطريق السلف الذين يؤمنون بالمتشابه ، ويفوضون علمه لله تعالى ، وهو أسلم ، ولذا سلكه المفسر ، وطريقة الخلف يؤولون الاستواء بالاستيلاء والقهر ، إذ هو أحد معنى الاستواء ، ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وتقدم الكلام في هذا غير مرة. قوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) هذا نتيجة ما قبله ، أي فحيث ثبت أنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما ، وهو المالك للعرش وما حوى ، فلا ولي ولا شفيع غيره. قوله : (يا كفار مكة) خصهم لأنهم سبب نزول الآية ، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ. قوله : (اسم ما) أشار بذلك إلى أن (ما) حجازية ، و (وَلِيٍ) اسمها مؤخر ، و (مِنْ دُونِهِ) خبرها مقدم ، وفيه أن شرط أعمالها الترتيب وهو مفقود هنا ، إلا أن يقال : إنه مشى على قول ضعيف للنحويين من عدم اشتراطه في عملها ، والأحسن جعلها تميمية ، و (مِنْ دُونِهِ) خبر مقدم ، و (وَلِيٍ) مبتدأ مؤخر ، لأن القرآن لا ينبغي حمله على ضعيف. قوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أغفلتم فلا تتذكرون. قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي الشأن ، والحال والمعنى يتصرف على طبق علمه وإرادته ، وهو القضاء والقدر المشار إليهما بقول الأجهوري :

إرادة الله مع التعلق

في أزل قضاؤه فحقق

٢١٣

(ثُمَّ يَعْرُجُ) يرجع الأمر والتدبير (إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥) في الدنيا ، وفي سورة سأل خمسين ألف سنة ، وهو يوم القيامة لشدة أهواله بالنسبة إلى الكافر ، وأما المؤمن فيكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا ، كما جاء في الحديث (ذلِكَ) الخالق المدبر (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عن الخلق وما حضر (الْعَزِيزُ) المنيع في ملكه (الرَّحِيمُ) (٦) بأهل طاعته (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بفتح اللام فعلا ماضيا صفة ،

____________________________________

والقدر الإيجاد للأشياء على

وجه معين أراده علا

وبعضهم قد قال معنى الأول :

العلم مع تعلق في الأزل

والقدر الإيجاد للأمور

على وفاق علمه المذكور

وهذه الآية بمعنى قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فالتصرف الذي يظهر في الخلق ، من حيث وجوده على طبق العلم والإرادة قدر ، ومن حيث تعلق علم الله وإرادته به قضاء ، فكل شيء بقضاء وقدر. قوله : (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) قال ابن عباس : معناه ينزل القضاء والقدر ، وقيل ينزل الوحي مع جبريل ، وروي أنه يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل صلوات الله عليهم أجمعين ، فأما جبريل فموكل بالأرياح والجنود ، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم ، وقد قيل : إن العرض موضع التدبير ، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يفصل الآيات وما دون السماوات موضع التصريف. قوله : (مدة الدنيا) أي وهي كما ورد سبعة آلاف سنة ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الألف السادس ، ومدة أمته تزيد على الألف سنة ، ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة ، كما ذكره السيوطي في الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف ، وهذا أحد أقوال تقدمت. قوله : (يرجع الأمر والتدبير) (إِلَيْهِ) أي ينتقل التصريف الظاهري من أيدي العبيد يوم القيامة ، ويكون لله وحده ظاهرا وباطنا ، قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). قوله : (لشدة أهواله) إلخ ، هذا إشارة لوجه الجمع بين الآيتين ، أي فالمراد من ذكر الألف وذكر الخمسين ، التنبيه على طوله والتخويف منه ، لا العدد المذكور بخصوصه ، وجمع أيضا بأن موقف القيامة خمسون موقفا ، كل موقف ألف فهذه الآية بينت أحد المواقف ، وآية سأل بينت المواقف كلها ، وهذا هو الأقرب ، وجمع أيضا بأن العذاب مختلف ، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة ، ثم ينقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة. قوله : (من صلاة مكتوبة) صادق بصلاة الصبح ، فهو في حق المؤمنين قصير جدا.

قوله : (ذلِكَ) مبتدأ ، و (عالِمُ) خبر أول ، و (الْعَزِيزُ) خبر ثان ، و (الرَّحِيمُ) خبر ثالث ، و (الَّذِي أَحْسَنَ) خبر رابع ، وهذه قراءة العامة ، وقرىء شذوذا برفع (عالِمُ) وخفض (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) على أنهما بدلان من الهاء في إليه ، وقرىء أيضا بجر (عالِمُ) وما بعده ، وخرجت على جعل اسم الإشارة فاعلا ليعرج ، و (عالِمُ) وما بعده بدل من الضمير في إليه. قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ) أي

٢١٤

وبسكونها بدل اشتمال (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) آدم (مِنْ طِينٍ) (٧) (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) علقة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨) ضعيف هو النطفة (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي خلق آدم (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي جعله حيا حساسا ، بعد أن كان جمادا (وَجَعَلَ لَكُمُ) أي لذريته (السَّمْعَ) بمعنى الأسماع (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) القلوب (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩) ما زائدة مؤكدة للقلة (وَقالُوا) أي منكرو البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) غبنا فيها ، بأن صرنا ترابا مختلطا بترابها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) استفهام إنكاري ، بتحقيق الهمزتين ، وتسهيل الثانية ، وإدخال ألف بينهما على الوجهين في الموضعين ، قال تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) بالبعث (كافِرُونَ) (١٠) (قُلْ) لهم (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي بقبض أرواحكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١) أحياء فيجازيكم بأعمالكم (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) الكافرون (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مطأطئوها

____________________________________

أحكم وأتقن. قوله : (صفة) أي لكل أو لشيء. قوله : (وبسكونها) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بدل اشتمال) أي من كل شيء. قوله : (ذريته) سميت نسلا لأنها تنسل أي تنفصل. قوله : (أي خلق آدم) أشار بذلك إلى أن الضمير في (سَوَّاهُ) عائد على (آدم) ويصح أن يكون عائدا على النسل ، ويكون المعنى سوى أعضاءه في الرحم وصورها بعد أن كان يشبه الجماد ، حيث كان نطفة ثم علقة ثم مضغة. قوله : (مِنْ رُوحِهِ) الإضافة للتشريف. قوله : (أي لذريته) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والنكتة أن الخطاب إنما يكون مع الحي ، فلما نفخ فيه الروح حسن خطابه.

قوله : (قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا) حكاية لبعض قبائحهم وأباطيلهم ، وقرأ العامة ضللنا بضاد معجمة ولام مفتوحة بمعنى ذهبنا ، وقرىء شذوذا بكسر اللام وبضم الضاد وكسر اللام مشددة. قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه ، فتكون القراءات أربعا سبعيات. قوله : (في الموضعين) أي وهما ائذا ضللنا أئنا. قوله : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) انتقال من جحدهم البعث إلى جحدهم لقاء الله بالمرة.

قوله : (قُلْ) (لهم) أي للكفار ، وخصهم بالذكر لوجود التشنيع بعد ذلك. قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أسند التوفي في هذه الآية لملك الموت ، وفي آية الانعام للرسل ، وفي الزمر لله تعالى ، ولا منافاة بينها ، فما هنا محمول على مباشرة أخذها حتى تصل للحلقوم ، وما في الأنعام محمول على معالجة أعوان عزرائيل لمن أمر بقبض روحه ، فإن المباشر لإخراجها من الظفر إلى الحلقوم أعوانه ، وما في الزمر محمول على الحقيقة ، فإن المتوفى حقيقة هو الله تعالى ، روي أن الدنيا جعلت لملك الموت مثل راحة اليد ، فيأخذ منها من شاء أخذه من غير مشقة ، فهو يقبض أرواح الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وروي أن خطوته ما بين المشرق والمغرب ، وروي أنه جعلت له الأرض مثل الطشت يتناول منه حيث يشاء ، وقيل إنه على معراج بين السماء والأرض ، وقيل إن له حربة تبلغ ما بين المشرق ، وهو يتصفح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ، ضرب رأسه بتلك الحربة وقال له : الآن ينزل بك عسكر الموت. قوله : (فيجازيكم بأعمالكم) أي عليها من خير وشر.

٢١٥

حياء يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) ما أنكرنا من البعث (وَسَمِعْنا) منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) فيها (إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢) الآن فما ينفعهم ذلك ولا يرجعون ، وجواب لو رأيت أمرا فظيعا ، قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) وتقول لهم الخزنة إذا دخلوها (فَذُوقُوا) العذاب (بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي بترككم الإيمان به (إِنَّا نَسِيناكُمْ) تركناكم في العذاب (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) الدائم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤) من الكفر والتكذيب (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) القرآن (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) وعظوا (بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا) متلبسين (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي قالوا : سبحان الله وبحمده (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥) عن الإيمان والطاعة (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) ترتفع (عَنِ الْمَضاجِعِ)

____________________________________

قوله : (وَلَوْ تَرى) الخطاب لكل أحد ممن يصلح. قوله : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي خافضوها قوله : (وَسَمِعْنا) (منك تصديق الرسل) أي فيما أخبرونا به من الوعد والوعيد. قوله : (إِنَّا مُوقِنُونَ) (الآن) أي آمنا في الحال ، ويحتمل أن المعنى لم يقع منا الشرك كقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين. قوله : (لرأيت أمرا فظيعا) أي شنيعا عجيبا. قوله : (هُداها) أي إيمانها. والمعنى لو أردنا خلق كل نفس على الإيمان والطاعة لفعلنا ذلك. قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت وتقرر وعيدي. قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ) قدمهم لأن دخول الجن النار أكثر من الإنس. قوله : (أي بترككم الإيمان) أشار بذلك إلى أن المراد بالنسيان الترك. قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) كرره لبيان مفعول ذوقوا الأول. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسب عملكم.

قوله : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) إلخ ، هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بقاء من كفر على كفره ، كأن الله يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تحزن فإن أهل الإيمان مجبولون على الاتعاظ بالقرآن ، وأهل الكفر مجبولون على عدم الاتعاظ به ، فالخلق فريقان في علم الله. قوله : (القرآن) استشكل ظاهر تلك الآية ، بأنه يقتضي مدح كل من سمع القرآن واتعظ به ، ويسجد له وإن لم يكن له موضع سجود. وأجيب : بأن السنة بينت مواضع السجود في القرآن ، فمدح المتعظين بالقرآن ، في كل آية الساجدين في مواضع السجود. قوله : (خَرُّوا سُجَّداً) أي على وجوههم تعظيما لآياته وامتثالا لأمره ، وخص السجود بالذكر ، لأنه غاية الذل والخضوع ، وهو لا يكون إلا لله ، وفعله لغيره كفر ، لأنه روح الصلاة وأعظم أركانها ، ولأنه يقرب العبد من الله تعالى لما في الحديث : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد». قوله : (متلبسين) (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي جمعوا في سجودهم ، بين التنزيه والحمد ، فالتنزيه حاصل بوضع الأعضاء على الأرض ، وبقولهم سبحان الله والحمد لله حاصل بقولهم وبحمده ، فالسجود يطلب فيه التسبيح والتحميد ، ويطلب فيه أيضا الدعاء ، وما ورد فيما يقال في سجدات القرآن : اللهم اكتب لي بها أجرا ، وضع عني بها وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه‌السلام. قوله : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي لا يتكبرون ولا يأنفون.

قوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) أسند التجافي للجنوب ، لأن الواعظ الذي يكون سببا في القيام للصلاة

٢١٦

مواضع الاضطجاع بفرشها لصلاتهم بالليل تهجدا (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من عقابه (وَطَمَعاً) في رحمته (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦) يتصدقون (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ) خبىء (لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ما تقرّ به أعينهم ، وفي قراءة بسكون الياء مضارع (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨) أي المؤمنون والفاسقون (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) هو ما يعدّ للضيف (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٩) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) بالكفر والتكذيب (فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا

____________________________________

ونحوها من جهة الجنوب وهو القلب ، فالإنسان إذا كان مشغولا بربه ، سلط عليه واعظ في قلبه يقلقه ، فيكون قليل النوم والهجوع ، قال تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) فإذا اضطجع قصد بذلك التقوى على القيام والخدمة ، وبالجملة فتكون جميع أفعاله دائرة بين الواجب والمندوب. قوله : (لصلاتهم بالليل) أي لما فيها من نور القلب ورضا الرب ، لما في الحديث : «ما زال جبريل يوصيني بقيام الليل ، حتى علمت أن خيار أمتي لا ينامون». قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) أي لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فضلا عن غيرهم. والمعنى لا تعلم ذلك تفصيلا ، وإلا فنحن نعلمه إجمالا ، كالأشجار والأنهار والغرف والحور والولدان وغير ذلك ، لأن عطاء الجنة لا تحيط به العقول ، ففي الحديث : «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها». قوله : (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي سرورها وفرحها ، فلا يلتفتون لغيره. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (مضارع) أي والفاعل مستتر تقديره أنا ، ففي الحديث : «أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». قوله : (جَزاءً) مفعول مطلق أو مفعول لأجله.

قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) إلخ ، سبب نزولها : أنه كان بين علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط تنازع ، فقال الوليد بن عقبة لعلي : اسكت فإنك صبي ، وأنا والله أبسط منك لسانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة ، فقال علي : اسكت فإنك فاسق. وهذه الآية بمعنى قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). قوله : (كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي كافرا. قوله : (لا يَسْتَوُونَ) أي في المآل ، وقد راعى المعنى فجمع ، لأن المراد الفريق في كل ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتمد الوقف على قوله : (فاسِقاً) ويبتدىء بقوله : (لا يَسْتَوُونَ)

قوله : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تفصيل لما أجمل أولا. قوله : (نُزُلاً) أي مهيأة ومعدة لاكرامهم ، كما تهيأ التحف للضيف النازل بالكرام. قوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب كونهم يعملون الصالحات.

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) لم يقل وعملوا السيئات ، إشارة إلى أن مجرد الكفر كاف في الخلود في النار ، فلا التفات إلى الأعمال معه ، وأما العمل الصالح ، فله مع الإيمان تأثير ، فلذا قرنه به. قوله : (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مسكنهم ومنزلهم. قوله : (كُلَّما أَرادُوا) إلخ ، بيان لكون النار مأواهم. روي أن النار تضربهم فيرتفعون إلى طبقاتها ، حتى إذا قربوا من بابها ، وأرادوا أن يخرجوا منها ، يضربهم لهبها

٢١٧

عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٠) (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) عذاب الدنيا بالقتل والأسر والجدب سنين والأمراض (دُونَ) قبل (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ) أي من بقي منهم (يَرْجِعُونَ) (٢١) إلى الإيمان (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) القرآن (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي لا أحد أظلم منه (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين (مُنْتَقِمُونَ) (٢٢) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) شك (مِنْ لِقائِهِ) وقد التقيا ليلة الإسراء (وَجَعَلْناهُ) أي موسى أو الكتاب (هُدىً) هاديا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٣) (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) بتحقيق الهمزتين ، وإبدال الثانية ياء ، قادة (يَهْدُونَ) الناس (بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) على دينهم وعلى البلاء من عدوهم (وَكانُوا بِآياتِنا) الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا (يُوقِنُونَ) (٢٤) وفي قراءة بكسر اللام وتخفيف الميم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥) من أمر الدين (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي يتبين لكفار مكة إهلاكنا كثيرا (مِنَ الْقُرُونِ) الأمم بكفرهم

____________________________________

فيهوون إلى قعرها ، وهكذا يفعل بهم أبدا. قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على (أُعِيدُوا) والقائل لهم الخزنة. قوله : (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) صفة لعذاب ، وعبر هنا بالتذكير ، نظرا للمضاف وهو العذاب ، وفي سبأ بالتأنيث ، نظرا إلى المضاف إليه وهو النار. قوله : (والجدب سنين) أي بمكة سبع سنين ، حتى أكلوا فيها الجيف والعظام والكلاب. قوله : (أي من بقي منهم) أي بعد القحط وبعد يوم بدر ، والترجي في القرآن بمنزلة التحقيق ، وقد تحقق ذلك عند الفتح.

قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) إلخ ، هذا بيان إجمالي لحال المكذب أثر بيانه تفصيلا. قوله : (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي ترك الإيمان بها. قوله : (أي لا أحد) إلخ ، أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الحكمة في ذكر موسى ، قربه من النبي ووجود من كان على دينه ، لتقوم الحجة عليهم. قوله : (وقد التقيا ليلة الإسراء) أي في الأرض عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره ، وفي السماء السادسة ، كما ورد بذلك الحديث ، وفي كلامه إشارة إلى أن الضمير في لقائه عائد على موسى ، والمصدر مضاف لمفعوله ، أي من لقائك موسى ليلة الإسراء ، وهو أقوى الاحتمالات في هذا الموضع. قوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي وهم الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل ، أو اتباع الأنبياء. قوله : (وابدال الثانية ياء) تقدم أنها سبعية ، لكن من طريق الطيبة ، لا من طريق الشاطبية. قوله : (لَمَّا صَبَرُوا) أي تحملوا المشاق ، فالصبر عواقبه خير كما قيل :

الصبر كالصبر مر في مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

والمعنى جعلنا منهم أئمة حق صبرهم. قوله : (وَكانُوا) عطف على (صَبَرُوا). قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا ، وخرجت على جعل اللام للتعليل وما مصدرية ، أي جعلناهم أئمة لأجل صبرهم. قوله : (بينهم) أي المؤمنين والمشركين ، أو بين الأنبياء وأممهم. قوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، والتقدير أغفلوا ولم يتبين لهم ، إلخ. قوله : (مِنَ الْقُرُونِ مِنْ) بيانية لكم ، و (مِنْ قَبْلِهِمْ) حال من (الْقُرُونِ). قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكورة من كثرة

٢١٨

(يَمْشُونَ) حال من ضمير لهم (فِي مَسْكَنِهِمْ) في أسفارهم إلى الشام وغيرها فيعتبروا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات على قدرتنا (أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٢٦) سماع تدبر واتعاظ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) اليابسة التي لا نبات فيها (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧) هذا فيعلمون أنا نقدر على إعادتهم (وَيَقُولُونَ) للمؤمنين (مَتى هذَا الْفَتْحُ) بيننا وبينكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨) (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) بإنزال العذاب بهم (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢٩) يمهلون لتوبة أو معذرة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) أنزال العذاب بهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك ، وهذا قبل الأمر بقتالهم.

____________________________________

إهلاك الأمم الخالية. قوله : (اليابسة التي لا نبات فيها) أي التي قطع وأزيل بالمرة ، فالجزر معناه القطع ، سميت الأرض اليابسة بذلك لقطع النبات منها ، وقيل المراد بالجزر موضع باليمن. قوله : (تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) قدم الأنعام لأن أكلها مقدم ، لكونها تأكله قبل أن يثمر.

قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) سبب نزولها : أن المسلمين كانوا يقولون : إن الله سيفتح لنا على المشركين ، ويفصل بيننا وبينهم ، وكان أهل مكة إذا سمعوهم يقولون بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاءا : متى الفتح؟ قوله : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) المراد به يوم القيامة ، لأنه يوم الفصل بين المؤمنين والكافرين. قوله : (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) أي لأن الإيمان المقبول ، هو الذي يكون في الدنيا ، ولا يقبل بعد خروجهم منها. قوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يؤخرون ، وقوله : (أو معذرة) أي اعتذار. قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي اتركهم ولا تتعرض لهم. قوله : (وهذا قبل الأمر بقتالهم) أي فهو منسوخ بآية الجهاد ، ويحتمل أن الآية محكمة ، ومعنى فأعرض عنهم ، أي اقبل عذر من أسلم منهم ، واترك ما هو عليه ، وقد وقع منه ذلك ، فقد ، عفا عن وحشي حين أسلم بعد قتله حمزة عمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن جميع من دخل عليهم مكة عام الفتح.

٢١٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الاحزاب

مدنيّة

وآياتها ثلاث وسبعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) دم على تقواه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يخالف شريعتك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يكون قبل كونه (حَكِيماً) (١) فيما يخلقه (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٢) وفي قراءة

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحزاب

مدنية وهي ثلاث وسبعون آية أي التي ذكر فيها قصة الأحزاب ، وهذه السورة اشتملت على مدح النبي والصادقين من أصحابه والتشنيع على المنافقين وذمهم ، وكانت هذه السورة قدر سورة البقرة ، وكانت فيها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فألقى الله منها ما هو بأيدينا ورفع الزائدة ، خلافا للروافض حيث كانوا زعموا أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلها الداجن. قوله : (مدنية) أي بإجماع.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) لم يخاطبه الله كما خاطب غيره من الأنبياء حيث قال : يا موسى ، يا عيسى ، يا داود ، لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الخلق على الإطلاق ، فخاطبه بما يشعر بالتعظيم والإجلال حيث قال : يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، وإن ذكر اسمه صريحا ، أردفه بما يشعر بالتعظيم حيث قال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) إلى غير ذلك. قوله : (أي دم على تقواه) دفع بذلك ما يقال : إن في الآية تحصيل الحاصل ، وسبب نزول هذه الآية ، أن أبا سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي ، قدموا المدينة ، فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة ، وقل إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : يا رسول الله ، ائذن لنا في قتلهم ، فقال : إني أعطيتهم الأمان ، فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي عمر أن يخرجهم من المدينة.

قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) تعليل للأمر والنهي. قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

٢٢٠