حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

بالفوقانية (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في أمرك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣) حافظا لك ، وأمته تبع له في ذلك كله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ردا على من قال من الكفار : إن له قلبين يعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي) بهمزة وياء وبلا ياء (تُظاهِرُونَ) بلا ألف قبل الهاء وبها ، والتاء الثانية في الأصل مدغمة في الظاء (مِنْهُنَ) بقول الواحد مثلا لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي (أُمَّهاتِكُمْ) أي كالأمهات في تحريمها بذلك ، لعد ذلك في الجاهلية طلاقا ، وإنما تجب به الكفارة بشرطه كما ذكر في سورة المجادلة (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) جمع دعيّ وهو من يدعي

____________________________________

الواو ضمير الكفرة والمنافقين على قراءة التحتانية ، وضمير النبي وأمته على قراءة الفوقانية ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي اعتمد عليه وفوض أمورك إليه. قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) الباء زائدة في فاعل كفى و (وَكِيلاً) حال. قوله : (تبع له في ذلك) أي فيما ذكر من قوله : (اتَّقِ اللهَ) إلى هنا. قوله : (مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) أي لأن القلب عليه مدار قوى الجسد فيمتنع تعدده ، لأنه يؤدي للتناقض ، وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل قوى الجسد وغير أصل له. قوله : (ردا على من قال) إلخ ، أي وهو أبو معمر ، جميل بن معمر الفهري ، كان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء ، إلا من أجل أن له قلبين ، وكان يقول : لي قلبان أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم الله المشركين يوم بدر ، انهزم أبو معمر ، لقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا ، فقال : ما بال إحدى نعليك في يدك ، والأخرى في رجلك ، فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان ، لما نسي نعله في يده. قوله : (بهمزة وياء بلا ياء) أي فهما قراءتان سبعيتان وهو جمع التي ، قال ابن مالك : باللات واللاء التي قد جمعا. قوله : (بلا ألف قبل الهاء) أي فأصله تتظهرون بتاءين ، سكنت الثانية وقلبت ظاء وأدغمت في الظاء. قوله : (وبها والتاء الثانية في الأصل مدغمة في الظاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وبقي قراءتان سبعيتان أيضا ، وهما فتح التاء والهاء مع تخفيف الظاء وأصلها بتاءين ، حذفت احداهما وضم التاء وكسر الهاء وتخفيف الظاء أيضا مضارع ظاهر ، وهذه القراءات واردة في قد سمع أيضا ، غير فتح التاء وتخفيف الظاء ، لأن المضارع هناك مبدوء بالياء فلا تتأتى فيه ، وفي الماضي ثلاث لغات : تظهر كتكلم ، وتظاهر كتقاتل ، وظاهر كقاتل. قوله : (بقول الواحد مثلا لزوجته) إلخ ، أي وضابطه أن يشبه زوجته كلا أو بعضا بظهر مؤيدة التحريم. قوله : (أُمَّهاتِكُمْ) مفعول ثان لجعل. قوله : (بشرطه) أي وهو العزم على العود ، فإن لم يعزم على العود ، فلا تجب عليه الكفارة ما لم يمسها ، وإلا تحتمت عليه ، ولو طلقها بعد ذلك.

قوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ) نزلت في حق زيد بن حارثة ، وهو كما روي كان من سبايا الشام ، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد ، فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد ، فوهبته خديجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه وتبناه ، فأقام عنده مدة ، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه ، فقال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خيراه ، فاختار الرق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حريته وقومه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : يا معشر قريش ، اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه ، وكان يطوف على خلق قريش يشهدهم على ذلك ، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا ، فزوجة رسول

٢٢١

لغير أبيه ابنا له (أَبْناءَكُمْ) حقيقة (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي اليهود والمنافقين قالوا لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : تزوج محمد امرأة ابنه ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) في ذلك (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤) سبيل الحق لكن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ) أعدل (عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) بنو عمكم (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) في ذلك (وَلكِنْ) في (ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) فيه وهو بعد النهي (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما كان من قولكم قبل النهي (رَحِيماً) (٥) بكم في ذلك (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) في حرمة نكاحهن عليهم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ذوو القرابات (بَعْضُهُمْ

____________________________________

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بن جحش ، فمكثت معه مدة ، ثم أخبر الله نبيه أنه زوجه زينب ، فلما طلقها زيد ، تزوجها رسول الله ، فتكلم المنافقون وقالوا : تزوج محمد حليلة ابنه وهو يحرمها ، فنزلت هذه الآية ردا عليهم ، وستأتي هذه القصة في أثناء السورة. قوله : (جمع دعيّ) أي بمعنى مدعو وأصله دعيو ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء. قوله : (أي اليهود) تفسير للكاف في أفواهكم.

قوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) روي عن عمر بن الخطاب قال : ما كنا ندعو زيد بن حارثة ، إلا زيد ابن محمد ، حتى نزلت (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ). قوله : (هُوَ أَقْسَطُ) أي دعاؤهم لآبائهم أبلغ في العدل والصدق. قوله : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فادعوهم بمادة الأخوة ، بأن تقولوا له يا أخي مثلا. قوله : (بنو عمكم) تفسير للموالي ، فإنه يطلق على معان من جملتها ابن العم ، والمعنى إذا لم تعرفوا نسب شخص ، وأردتم خطابه ، فقولوا له : يا ابن عمي مثلا. قوله : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم قوله : (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ) أي ولكن الجناح فيما تعمدته قلوبكم.

قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بكل مؤمن من نفسه كان في زمنه أولا ، فطاعة النبي مقدمة على طاعة النفس ، في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، لأنها طاعة لله ، قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وإذا كان أولى بهم من أنفسهم ، فهو أولى بمالهم وأولادهم وأزواجهم من أنفسهم بالأولى ، فحقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته أعظم من حق السيد على عبده ، وهذه الآية أعظم دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت للخلق. قوله : (فيما دعاهم إليه) أي من أمور الدين أو الدنيا أو الآخرة ، فإذا طلب النبي شيئا من أمر الدنيا أو الدين ، وطلبت النفس خلافه ، فالحق في الطاعة للنبي ، وحينئذ فلا يتأتى من النبي الغصب ولا السرقة ، ولكن من كمال أخلاقه ، أنه كان يتداين مع اليهود ، ويشتري الشيء بالثمن ، وإنما جعله الله أولى بالمؤمنين ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفعل شيئا عن هوى نفسه ، بل عن وحي ، فجميع أفعاله وأقواله عن ربه.

قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي من عقد عليهن ، سواء دخل بهن أو لا ، مات عنهن أو طلقهن ، وسراريه اللاتي تمتع بهن كذلك. قوله : (في حرمة نكاحهن عليهم) أي والتعظيم والاحترام والبر ، لا في

٢٢٢

أَوْلى بِبَعْضٍ) في الإرث (فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ (إِلَّا) لكن (أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) بوصية فجائز (كانَ ذلِكَ) أي نسخ الإرث بالإيمان والهجرة ، بإرث ذوي الأرحام (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦) وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) حين أخرجوا من صلب آدم كالذر جمع ذرة وهي أصغر النمل (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) بأن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادته ، وذكر الخمسة من عطف الخاص على العام (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧) شديدا بالوفاء بما حملوه وهو اليمين بالله تعالى ، ثم أخذ الميثاق (لِيَسْئَلَ) الله (الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) في تبليغ الرسالة تبكيتا للكافرين بهم (وَأَعَدَّ) تعالى (لِلْكافِرِينَ)

____________________________________

غير ذلك من النظر والخلوة ، فإنهن في ذلك كالأجانب. قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) مبتدأ ، و (بَعْضُهُمْ) بدل أو مبتدأ ثان ، و (أَوْلى) خبر. قوله : (في الإرث) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير الأقارب ، أولى بإرث بعضهم ، من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب. قوله : (أي من الإرث بالإيمان والهجرة) أشار بذلك إلى أن قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) متعلق بأولى. يعني أن الأقارب أولى بإرث بعضهم ، من الإرث بسبب الإيمان والهجرة الذي كان في صدر الإسلام ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يؤاخي بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) استثناء منقطع ، ولذا فسره بلكن. قوله : (إِلى أَوْلِيائِكُمْ) أي من توالونه من الأجانب. قوله : (بوصية) أي فلما نسخ الإرث بالإيمان والهجرة ، توصل إلى نفع الأجانب بالوصية ، وهي خارجة من ثلث المال. قوله : (مَسْطُوراً) أي مكتوبا. قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا) ظرف لمحذوف قدره بقوله : (اذكر). قوله : (وهي أصغر النمل) أي فكل أربعين منها أصغر من جناح بعوضة. قوله : (بأن يعبدوا الله) أي يوحدوه ، وهو تفسير للميثاق. قوله : (ويدعوا إلى عبادته) أي يبلغوا شرائعه للخلق ، فعهد الأنبياء ليس كعهد مطلق الخلق. قوله : (من عطف الخاص على العام) أي والنكتة كونهم أولي العزم ومشاهير الرسل ، وقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمزيد شرفه وتعظيمه قوله : (بما حملوه) أي وهو عبادة الله والدعاء إليها. قوله : (وهو اليمين) أي الحلف بالله على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادته ، فالميثاق الثاني غير الأول ، لأن الأول إيصاء على التوحيد ، والدعوى إليه من غير يمين ، والثاني مغلظ باليمين ، والشيء مع غيره غيره في نفسه.

قوله : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ) متعلق بأخذنا ، وفي الكلام التفات من التكلم للغيبة ، كما أشار له المفسر بقوله : (ثم أخذ الميثاق) والمراد بالصادقين الرسل. قوله : (تبكيتا للكافرين) أي تقبيحا عليهم ، أي فالحكمة في سؤال الرسل عن صدقهم ، وهو تبليغهم ما أمروا به ، مع علمه تعالى أنهم صادقون التقبيح على الكفار يوم القيامة. قوله : (هو عطف على أخذنا) ويصح أن يكون في الكلام احتباك ، وهو الحذف من الثاني ، نظير ما أثبت الأول ، والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم ، فأعد لهم نعيما مقيما ، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم ، وأعد لهم عذابا أليما.

٢٢٣

بهم (عَذاباً أَلِيماً) (٨) مؤلما هو عطف على أخذنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ

____________________________________

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) هذا شروع في ذكر قصة غزوة الأحزاب ، وكانت في شوال سنة أربع وقيل خمس ، وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم ، سار منهم جمع أكابرهم ، منهم حيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع ، وأبو عمار الواثلي ، في نفر من بني النضير ، إلى أن قدموا مكة على قريش ، فحرضوهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقال أبو سفيان : مرحبا وأهلا ، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ، ثم قالت قريش لأولئك اليهود : يا معشر اليهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟ فقالوا : بل أنتم على الحق ، فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) فلما قالوا ذلك لقريش ، سرهم ونشطوا لحرب محمد ، ثم خرج أولئك اليهود ، حتى جاؤوا غطفان وقيس غيلان فاجتمعوا على ذلك ، وخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان ، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن ، ولما تهيأ الكل للخروج ، أتى ركب من خزاعة في أربع ليال ، حتى أخبروا محمدا بما اجتمعوا عليه ، فشرع في حفر الخندق ، بإشارة سلمان الفارسي فقال له : يا رسول الله ، إنا كنا بفارس إذا حاصرونا خندقنا علينا ، فعمل فيه النبي والمسلمون حتى احكموه ، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، ومكثوا في حفره ستة أيام ، وقيل خمسة عشر ، وقيل أربعة وعشرين ، وقيل شهرا. قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا ، فحفرنا وإذا ببطن الخندق صخرة كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بخبر هذه الصخرة ، فأتى سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله خرجت لنا صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق ، فكسرت حديدنا وشقت علينا ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحب أن نجاوز خطتك ، فهبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع سلمان إلى الخندق ، وأخذ المعول مع سلمان ، وضربها به ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لا بتيها ، يعني المدينة ، حتى كأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون معه ، ثم ضربها الثانية ، فبرق منها مثل الأول ، فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون معه ، ثم ضربها الثالثة فكسرها ، فبرق منها برق مثل الأول ، وأخذ بيد سلمان ورقي ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط ، فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القوم وقال : «أرأيتم ما يقول سلمان»؟ قالوا : نعم ، قال : ضربت ضربتي الأولى ، فبرق البرق الذي رأيتم ، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى ، كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثانية ، فبرق لي الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور قيصر من أرض الروم ، كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثالثة ، فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور صنعاء ، كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا ، فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون؟ يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبر أنه ينظر من يثرب ، قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) وقوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الآية فلما فرغوا من حفره ، أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا ، فنزلوا حول

٢٢٤

____________________________________

المدينة ، والخندق بينهم وبين المسلمين ، فلما رأته قريش قالوا : هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينهم وبين القوم ، وخرج عدو الله حيي بن أخطب رئيس بني النضير ، حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة ، فلما سمع كعب حييا ، أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له وقال له : ويحك يا حيي إنك امرؤ ميشوم ، إني عاهدت محمدا فلست بناقض ، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقا ، فما زال حيي به ويقول له : جئتك بعز الدهر ، حتى فتح له ونقض عهد رسول الله ، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله ، بعث لهم سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، وعبد الله بن رواحة ، فوجدوهم نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشاتموهم وقالوا لهم : لا عهد بيننا وبينكم ، ورجعوا وأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين ، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل ، ومكثوا في ذلك الحصار خمسة عشر يوما ، وقيل أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف ، ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان ، جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إني أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ «أخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة» ، فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة ، وكان نديما لهم في الجاهلية ، فقال لهم : قد عرفتم ودي إياكم ، وخاصة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشا وغطفان جاؤوا لحرب محمد ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم ، البلد بلدكم ، به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان أموالهم وابناؤهم ونساؤهم بغيره ، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوا ، وإن كان غير ذلك ، لحقوا ببلادهم ، وخلوا بينكم وبين هذا الرجل ، ولا طاقة لكم عليه إن خلا بكم ، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا ، حتى لا يتأخروا ، قالوا : لقد أشرت برأي ونصح ، ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا ، فقد بلغني أمر ، رأيت حقا علي أن أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود ، قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك منا أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم ، فنعطيكم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم ، فأرسل إليهم أن نعم ، فإن بعث إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا ، ثم خرج حتى أتى غطفان ، فقال : يا معشر غطفان ، أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا علي ، قالوا : نفعل ، فقال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذرهم مثل ما حذرهم ، فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان مما صنع الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت ، لا وهو يوم نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا ، فأصابهم ما لم يخف عليكم ، ولسنا من الذين نقاتل معكم ، حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكون بأيدينا ثقة لنا ، حتى نناجز معكم محمدا ، فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب ، واشتد عليكم القتال ، أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل

٢٢٥

جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) من الكفار متحزبون أيام حفر الخندق (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) من الملائكة (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) بالتاء من حفر الخندق ، وبالياء من تحزيب المشركين

____________________________________

في بلادنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد ، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله أن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن كان غير ذلك انتهزوا إلى بلادهم ، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان ، إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ، فأبوا عليهم ، وخذل الله عزوجل بينهم ، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا ، وهي ريح الصبا ، في ليلة شديدة البرد والظلمة ، فقلعت بيوتهم ، وقطعت أطنابهم ، وكفأت قدورهم ، وصارت تلقي الرجل على الأرض ، وأرسل الله الملائكة فزلزلتهم ولم تقاتل ، بل نفثت في قلوبهم الرعب ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم» ، أدخله الله الجنة ، فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هويا من الليل ، ثم التفت الينا فقال مثله ، فسكت القوم ، وما قام منا أحد ، ثم صلى هويا من الليل ، ثم التفت الينا فقال مثله ، فسكت القوم ، وما قام منا أحد من شدة الخوف والجوع والبرد ، ثم قال : يا حذيفة ، فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته ، فأخذ بيدي ومسح رأسي ووجهي ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ، ولا تحدثن شيئا حتى ترجع إلي ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي ثم انطلقت أمشي نحوهم ، كأنما أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا لله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذت سهما فوضعته في كبد قوسي ، فأردت أن أرميه ، ولو رميته لأصبته ، فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تحدثن حدثا حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، فقال يا معشر قريش ، ليأخذ كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت؟ فقال : سبحان الله ما تعرفني؟ أنا فلان بن فلان رجل من هوزان ، فقال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، فقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فاستمروا راجعين إلى بلادهم ، قال : فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأني أمشي في حمام ، فأتيته وهو قائم يصلي ، فلما سلم أخبرته ، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل ، فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفأ ، فأتاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنامني عند رجليه ، وألقى علي طرف ثوبه ، وألصق صدري ببطن قدميه ، فلم أزل نائما حتى أصبحت ، فلما أصبحت قال : قم يا نومان.

قوله : (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من (نِعْمَةَ) والعامل (اذْكُرُوا). قوله : (متحزبون) أي مجتمعون ، وتقدم أنهم كانوا اثني عشر ألفا ، وكان المسلمون إذ ذاك ثلاثة آلاف ، والمنافقون من جملتهم. قوله : (رِيحاً) أي من الصبا التي تهب من المشرق ولم تتجاوزهم. قوله : (ملائكة) أي وكانوا ألفا ولم يقاتلوا ،

٢٢٦

(بَصِيراً) (٩) (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أعلى الوادي وأسفله ، من المشرق والمغرب (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن كل شيء إلى عدوها من كل جانب (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم من شدة الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠) المختلفة بالنصر واليأس (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) اختبروا ليتبين المخلص من غيره (وَزُلْزِلُوا) حركوا (زِلْزالاً شَدِيداً) (١١) من شدة الفزع (وَ) اذكر (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بالنصر (إِلَّا غُرُوراً) (١٢) باطلا (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) هي أرض المدينة ولم تصرف للعلمية ووزن الفعل (لا مُقامَ لَكُمْ) بضم الميم وفتحها ، أي لا إقامة ولا مكانة (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم من المدينة ، وكانوا خرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سلع ، جبل خارج المدينة للقتال (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) في الرجوع (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) غير حصينة يخشى عليها ، قال تعالى : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ) ما (يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (١٣) من القتال (وَلَوْ دُخِلَتْ) أي المدينة (عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) نواحيها

____________________________________

وإنما ألقوا الرعب في قلوبهم. قوله : (وبالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من إذا جاءتكم. قوله : (من أعلى الوادي) أي وهم أسد وغطفان. قوله : (وأسفله) أي وهم قريش وكنانة. قوله : (من المشرق والمغرب) لف ونشر مرتب. قوله : (من كل جانب) أي المحيط من كل جانب. قوله : (وهي منتهى الحلقوم) أي من أسفله. قوله : (الظُّنُونَا) بألف بعد النون وصلا ووقفا ، وبدونها في الحالين ، وبإثباتها وقفا ، وحذفها وصلا ، ثلاث قراءات سبعيات ، وتجري في قوله أيضا (السَّبِيلَا) و (الرَّسُولَا) في آخر السورة. قوله : (بالنصر) أي من المؤمنين ، وقوله : (واليأس) أي من المنافقين وبعض الضعفاء. قوله : (هُنالِكَ) ظرف مكان أي في ذلك المكان وهو الخندق. قوله : (زِلْزالاً) بكسر الزاي في قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بفتح الزاي ، وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلال ، كصلصال وقلقال.

قوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) إلخ ، القائل معتب بن بشير ، وقال أيضا : يعدنا محمد بفتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا وخوفا ، ما هذا إلا وعد غرور. قوله : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) القائل وهو أوس بن قيظي ، بكسر الظاء المعجمة من رؤساء المنافقين. قوله : (هي أرض المدينة) أي فسميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها قديما ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسميتها بذلك ، وسماها طيبة وطابة وقبة الإسلام ودار الهجرة. قوله : (ووزن الفعل) أي فهي على وزن يضرب. قوله : (بضم الميم وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ولا مكانة) أي تمكنا فهو بمعنى الإقامة. قوله : (جبل خارج المدينة) أي بينها وبين الخندق ، فجعل المسلمون ظهورهم إليه ووجوهم للعدو.

قوله : (وَيَسْتَأْذِنُ) عطف على (قالَتْ طائِفَةٌ) وعبر بالمضارع استحضارا للصورة. قوله : (يخشى عليها) أي من السراق لكونها قصيرة البناء. قوله : (قال تعالى) أي تكذيبا لهم. قوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ

٢٢٧

(ثُمَّ سُئِلُوا) أي سألهم الداخلون (الْفِتْنَةَ) الشرك (لَآتَوْها) بالمد والقصر ، أي أعطوها وفعلوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) (١٤) (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (١٥) عن الوفاء به (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً) إن فررتم (لا تُمَتَّعُونَ) في الدنيا بعد فراركم (إِلَّا قَلِيلاً) (١٦) بقية آجالكم (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) يجيركم (مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) هلاكا وهزيمة (أَوْ) يصيبكم بسوء إن (أَرادَ) الله (بِكُمْ رَحْمَةً) خيرا (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) (١٧) يدفع الضر عنهم (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) المثبطين (مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَ) تعالوا (إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) القتال (إِلَّا قَلِيلاً) (١٨) رياء وسمعة (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بالمعاونة جمع شحيح ، وهو حال من ضمير يأتون (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ

____________________________________

عَلَيْهِمْ) أي دخلها الأحزاب. قوله : (الشرك) أي ومقاتلة المسلمين. قوله : (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي أعطوها وفعلوها) لف ونشر مرتب. قوله : (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي أقاموا بالمدينة بعد نقض العهد وإظهار الكفر وقتال المسلمين إلا زمنا قليلا ويهلكون ، فالعزة لله ورسوله والمسلمين ، فالمعنى لو دخل الكفار المدينة ، وارتد هؤلاء المنافقون ، وقاتلوكم مع الكفار ، لأخذ الله بأيديكم سريعا بقطع دابرهم ، فلا تخشوا منهم داخل المدينة أو خارجها. قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي قبل غزوة الخندق. قوله : (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي بل يثبتون على القتال حتى يموتوا شهداء. قوله : (مَسْؤُلاً) (عن الوفاء به) أي مسؤولا صاحبه هل وفى به أم لا.

قوله : (إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي لأنه مصيبكم لا محالة. قوله : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإن نفعكم الفرار وتمتعتم بالتأخير ، لم يكن ذلك التمتع إلا زمنا قليلا. قوله : (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) قدر له المفسر عاملا يناسبه وهو قوله : (أَوْ) (يصيبكم بسوء) لأنه لا يصلح لتساقط العامل السابق وهو (يَعْصِمُكُمْ) على حد : علفتها تبنا وماء باردا. قوله : (المثبطين) أي المكسلين غيرهم من القتال في سبيل الله وهم المنافقون.

قوله : (وَالْقائِلِينَ) عطف على (الْمُعَوِّقِينَ) وقوله : (لِإِخْوانِهِمْ) أي في الكفر والعداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالقائلين اليهود من بين قريظة. قوله : (هَلُمَّ إِلَيْنا) اسم فعل ، ويلزم صيغة واحدة للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، وهذه لغة أهل الحجاز ، وعند تميم هو فعل أمر ، تلحقه العلامات الدالة على التثنية والجمع والتأنيث ، ومقتضى عبارة المفسر أنه لازم حيث فسره بتعالوا ، ويصح جعله متعديا بمعنى قربوا ، ومفعوله محذوف ، والتقدير أنفسكم إلينا. قوله : (رياء وسمعة) أي لأن شأن من يكسل غيره عن الحرب لا يفعله إلا قليلا لغرض خبيث.

قوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي مانعين للخير عنكم. قوله : (جمع شحيح) هذا هو المسموع فيه وقياسه أفعلاء ، كخليل وأخلاء ، والشح البخل. قوله : (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) إلخ ، هذا وصف لهم بالجبن ،

٢٢٨

كَالَّذِي) كنظر أو كدوران الذي (يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي سكراته (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) وحيزت الغنائم (سَلَقُوكُمْ) آذوكم أو ضربوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي الغنيمة يطلبونها (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) حقيقة (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ) الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٩) بإرادته (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) من الكفار (لَمْ يَذْهَبُوا) إلى مكة لخوفهم منهم (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة أخرى (يَوَدُّوا) يتمنوا (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي كائنون في البادية (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أخباركم مع الكفار (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرة (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) (٢٠) رياء وخوفا من التعيير (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ) بكسر الهمزة وضمها (حَسَنَةٌ) اقتداء به في القتال والثبات في مواطنه (لِمَنْ) بدل من لكم (كانَ يَرْجُوا اللهَ) يخافه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) بخلاف من ليس كذلك (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) من

____________________________________

لأن شأن الجبان الخائف ينظر يمينا وشمالا ، شاخصا ببصره. قوله : (كنظر أو كدوران) أشار بذلك إلى أن قوله : (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) نعت لمصدر محذوف من (يَنْظُرُونَ) أو من (تَدُورُ). قوله : (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي لأنه يشخص ببصره ويذهب عقله. قوله : (سَلَقُوكُمْ) السلق بسط العضو ومده للقهر ، كان يدا أو لسانا ، ففي الآية استعارة بالكناية ، حيث شبه اللسان بالسيف ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو السلق بمعنى الضرب ، فإثباته تخييل والحداد ترشيح. قوله : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي مانعين له ، فلا نفع في أنفسهم ولا في مالهم. قوله : (لَمْ يُؤْمِنُوا) (حقيقة) أي بقلوبهم وإن أسلموا ظاهرا.

قوله : (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أظهر بطلانها. قوله : (يَحْسَبُونَ) أي المنافقون لشدة جبنهم. قوله : (الْأَحْزابَ) أي قريشا وغطفان واليهود. قوله : (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي ساكنون في البادية خارج المدينة ، ليكونوا في بعد عن الأحزاب. قوله : (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) يصح أن يكون حالا من الواو في (بادُونَ) أو جملة مستأنفة ، والمعنى يسألون كل قادم من جانب المدينة ، عما جرى بينكم وبين الكفار ، وقائلين فيما بينهم : إن غلب المسلمون قاسمناهم في الغنيمة ، وإن غلب الكفار فنحن معهم. قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) هذه الآية وما بعدها إلى قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من تمام قصة الأحزاب ، وفيها عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المؤمنين والمنافقين. قوله : (بكسر الهمزة وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (اقتداء) أشار بذلك إلى أن الأسوة اسم بمعنى المصدر وهو الائتساء ، يقال ائتسى فلان بفلان أي اقتدى به. قوله : (في القتال) لا مفهوم له ، بل الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب في الأقوال والأفعال والأحوال ، لأنه لا ينطق ولا يفعل عن هوى ، بل جميع أفعاله وأقواله وأحواله عن ربه ، ولذا قال العارف :

وخصك بالهدى في كل أمر

فلست تشاء إلا ما يشاء

وإنما خص القتال بالذكر لأنه معرض السبب. قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي فالمتصف بهذه الأوصاف ، ثبتت له الأسوة الحسنة في رسول الله ، وأما من لم يكن متصفا بتلك الأوصاف ،

٢٢٩

الكفار (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الابتلاء والنصر (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في الوعد (وَما زادَهُمْ) ذلك (إِلَّا إِيماناً) تصديقا بوعد الله (وَتَسْلِيماً) (٢٢) لأمره (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) مات أو قتل في سبيل الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ذلك (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣) في العهد وهم بخلاف حال المنافقين (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) بأن يميتهم على نفاقهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) لمن تاب (رَحِيماً) (٢٤) به (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) مرادهم من الظفر بالمؤمنين (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إيجاد ما يريده (عَزِيزاً) غالبا على أمره (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) حصونهم جمع صيصية وهو ما يتحصن به

____________________________________

فليس كذلك. قوله : (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي بلسانه أو جنانه أو ما هو أعم. قوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي أبصروهم محدقين حول المدينة. قوله : (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ) أي بقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). وقوله : (وَرَسُولُهُ) أي بقوله : إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر ، والعاقبة لكم عليهم. قوله : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي ظهر صدق خبر الله ورسوله في الوعد بالنصر ، فاستبشروا بالنصر قبل حصوله ، وأظهر في محل الإضمار ، وزيادة في تعظيم اسم الله ، ولأنه لو أضمر الجمع بين اسم الله واسم رسوله في ضمير واحد ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاب على من قال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصمهما فقد غوى ، فقال له : بئس خطيب القوم أنت ، قل : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ). قوله : (وَما زادَهُمْ) (ذلك) أي والوعد أو الصدق.

قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا) إلخ ، هم جماعة من الصحابة نذروا أنهم إذا أدركوا حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا. قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي وفى نذره بموته في القتال ، يقال : نحب ينحب ، من باب قتل نذر ، ومن باب ضرب بكى. قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) (ذلك) أي قضاء النحب بالموت في سبيل الله. قوله : (بخلاف حال المنافقين) أي فقد بدلوا وغيروا ، فكان الواحد منهم إذا أراد القتال ، إنما يقاتل خوفا على نفسه وماله ، لا طمعا في رضا الله. قوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) متعلق بمحذوف تقديره خلق المؤمنين والمنافقين وفرق بين نياتهم ليجزي الله ، إلخ. قوله : (بأن يميتهم على نفاقهم) أشار بذلك إلى أن مفعول (شاءَ) محذوف ، ودفع بذلك ما يقال : إن عذابهم متحتم ، فكيف علق على المشيئة؟ فالتعليق بحسب علمنا ، وأما في علم الله فالأمر محتم ، إما بالسعادة أو الشقاوة ، وسيظهر ذلك للعباد. قوله : (بِغَيْظِهِمْ) الجملة حالية أي ملتبسين بالغيظ. قوله : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) حال ثانية. قوله : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي لم يحصل بينهم اختلاط في الحرب ، وإنما كان بينهم ضرب بالسهام والخندق بينهم. قوله : (بالريح) أي فكفأت قدورهم وقطعت خيامهم. قوله : (والملائكة) أي بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتقدم بسط ذلك في القصة.

قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلخ ، شروع في ذكر قصة بني قريظة ، وذكرت

٢٣٠

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الخوف (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) منهم وهم المقاتلة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (٢٦) منهم أي الذراري (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بعد وهي خيبر أخذت بعد قريظة (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) وهن تسع وطلبن

____________________________________

عقب الأحزاب ، لكون بني قريظة كانوا من جملة الذين تحزبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ونقضوا عهده وحاربوه ، قال العلماء بالسير : لما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليلة التي انصرف فيها الأحزاب راجعين إلى بلادهم ، انصرف هو والمؤمنون إلى المدينة ووضعوا السلاح ، فلما كان الظهر ، أتى جبريل وعليه عمامة من إستبرق ، راكبا على بغلة بيضاء ، عليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه ، وقد غسلت شقه الأيمن ، فقال : يا رسول الله قد وضعت السلاح؟ قال : نعم ، قال جبريل : عفا الله عنك ، وما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهض اليهم ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال ، وألقيت الرعب في قلوبهم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناديا ينادي : إن من كان مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتنزلون على حكمي؟ فأبوا فقال : أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس؟ فرضوا به ، فحكمه فيهم ، فقال سعد : إني أحكم فيهم ، أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري ـ النساء ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات» ، فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار بنت الحرث ، من نساء بني النجار ، ثم خرج إلى سوق المدينة الذي هو سوقها اليوم ، فخندق فيه خندقا ، ثم بعث إليهم ، فأتى بهم اليه وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير ، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وكانوا ستمائة أو سبعمائة ، فأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم ، وطرحهم في ذلك الخندق ، فلما فرغ من قتلهم وانقضى في شأنهم ، توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب ، وحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر ، قالت عائشة : فو الذي نفس محمد بيده. إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). قوله : (وهو ما يتحصن به) أي سواء كان من الحصون أو لا ، حتى الشوكة والقرن وباب الدار ونحو ذلك ، تسمى صيصية.

قوله : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) بيان لما فعل بهم. قوله : (وهم المقاتلة) أي وكانوا ستمائة وقيل سبعمائة. قوله : (أي الذراري) أي وكانوا سبعمائة وقيل وخمسين. قوله : (بعد) أي الآن وعبر بالماضي لتحقق الحصول. قوله : (وهي خيبر) أي وغيرها من كل أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة. قوله : (أخذت بعد قريظة) أي بسنتين أو ثلاث ، على الخلاف المتقدم في قريظة ، هل هي في الرابعة أو الخامسة ، وخيبر كانت في السابعة في أول محرم ، هي مدينة كبيرة ذات حصون ثمانية ، وذات مزارع ونخل كثير ، بينها وبين المدينة الشريفة أربع مراحل ، فأقبل عليها صبيحة النهار ، وفي تلك الليلة لم يصح لهم ديك ولم يتحركوا ، وكان فيها عشرة آلاف مقاتل ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها وحاصرها ، وبنى هناك مسجدا صلى به طول مقامه عندها ، وقطع من نخلها أربعمائة نخلة ، وسبى أهلها ، وأصاب من سبيها صفية بنت حيي بن أخطب رئيس بني النضير ، وكانت وقعت في سهم دحية الكلبي ، فتنازع بعض حاشية الصاوي على تفسير الجلالين / ج ٥ / م ٣

٢٣١

منه من زينة الدنيا ما ليس عنده (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أي متعة الطلاق (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨) أطلقكن من غير ضرار (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي الجنة (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) بإرادة الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

____________________________________

الصحابة في شأن ذلك ، فأخذها رسول الله وأرضاه ، وكانت من سبط هارون أخي موسى ، فأسلمت ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) اختلف المفسرون في هذا التخيير ، هل كان تفويضا في الطلاق إليهن ، فيقع بنفس الاختيار ، أم لا؟ فذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم ، إلى أنه لم يكن تفويضا في الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إن اخترن الدنيا فارقهن ، لقوله تعالى : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَ) وذهب قوم إلى أنه كان تفويضا ، وأنهن لو اخترن الدنيا لكان طلاقا ، فلا يحتاج لإنشاء صيغة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وهن تسع) أي وهن اللاتي مات عنهن ، وقد جمعهن بعض العلماء بقوله :

نوفي رسول الله عن تسع نسوة

إليهن تعزى المكرمات وتنسب

فعائشة ميمونة وصفية

وحفصة تتلوهن هند وزينب

جويرية مع رملة ثم سودة

ثلاث وست نظمهن مهذب

فعائشة هي بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وميمونة بنت الحرث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير ، وهند هي أم سلمة بنت أبي أمية ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحرث الخزاعية المصطلقية ، ورملة هي أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرث ، وسودة هي بنت زمعة. قوله : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي التنعم فيها. قوله : (وَزِينَتَها) أي زخارفها ، روي أن أبا بكر جاء ليستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له فدخل فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه ، قال عمر : فقلت : والله لأقولن شيئا أضحك به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة ، فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أبدا ما ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا ، ثم نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) حتى بلغ (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا ، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية ، قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وكلهن قلن كما قالت عائشة ، فشكر لهن ذلك ، فأنزل الله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ثم رفع ذلك الحرج بقوله تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) وبقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ).

قوله : (فَتَعالَيْنَ) فعل أمر مبني على السكون ، ونون النسوة فاعل. قوله : (أُمَتِّعْكُنَ) جواب الشرط وما بينهما اعتراض ، ويصح أن يكون مجزوما في جواب الأمر ، والجواب (فَتَعالَيْنَ) قوله :

٢٣٢

أي الجنة فاخترن الآخرة على الدنيا (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) بفتح الياء وكسرها أي بينت أو هي بينة (يُضاعَفْ) وفي قراءة يضعف بالتشديد ، وفي أخرى نضعف بالنون معه ونصب العذاب (لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) (وَمَنْ يَقْنُتْ) يطع (مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مثلي ثواب غيرهن من النساء ، وفي قراءة بالتحتية في تعمل ونؤتها (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) (٣١) في الجنة زيادة (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) كجماعة (مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) الله

____________________________________

(أطلقكن من غير ضرار) أي من غير تعب ومشقة. قوله : (فاخترن الآخرة على الدنيا) أي ودمن على ذلك ، فكن زاهدات في الدنيا ، حتى ورد أن عائشة دخل عليها ثمانون ألف درهم من بيت المال ، فأمرت جاريتها بتفرقتها ففرقتها في مجلس واحد ، فلما فرغت طلبت عائشة منها شيئا تفطر به وكانت صائمة ، فلم تجد منها شيئا.

قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) إلخ ، هذه الآيات خطاب من الله لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهارا لفضلهن وعظم قدرهن عند الله تعالى ، لأن العتاب والتشديد في الخطاب ، مشعر برفعة رتبتهن لشدة قربهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهن ضجيعاته في الجنة ، فبقدر القرب من رسول الله يكون القرب من الله ، خلافا لمن شذ وزعم أن حب النبي والقرب منه والتعلق به شرك. قوله : (بِفاحِشَةٍ) قيل المراد بها الزنا ، والمعنى لو وقع من واحدة منكن هذا الفعل ، لحدت حدين ، لعظم قدرها ، كالحر بالنسبة للأمة ، وعلى هذا القول فلا خصوصية لنساء النبي ، بل جميع نساء الأنبياء مصونات من الزنا ، ولذا قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنما خانت امرأة نوح ولوط في الإيمان والطاعة ، وقيل المراد بها النشوز وسوء الخلق ، وقيل الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنا واللواط ، وإن وردت منكرة فهي سائر المعاصي ، وإن وردت منعوتة كما هنا ، فهي عقوق الزوج وسوء عشرته ، وقيل المراد بها جميع المعاصي وهو الأظهر ، وهذا على سبيل الفرض والتقدير على حد : لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلا فنساء النبي مطهرات مصونات من الفواحش. قوله : (بفتح الباء وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي بينت) إلخ ، لف ونشر مرتب. قوله : (وفي قراءة يضعف) أي والثلاث سبعيات. قوله : (العذاب) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قوله : (أي مثليه) أي فضعف الشيء مثله ، وضعفاه مثلاه ، وأضعافه أمثاله.

قوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي سهلا ، فلا يبالي الله بأحد وإن عظمت رتبته ، فليس أمر الله كأمر الخلق بترك تعذيب الأعزة حيث أذنبوا ، لكثرة أوليائهم وأعوانهم ، بل المكرم عند الله هو التقي. قوله : (وَتَعْمَلْ صالِحاً) أي تدم عليه ، وفيه مراعاة معنى من على قراءة التاء ، ومراعاة لفظها على قراءة الياء. قوله : (مَرَّتَيْنِ) أي مرة على الطاعة والتقوى ، ومرة أخرى على خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخدمة الباطنية التي لا تتيسر من غيرهن.

قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) تقدم أن حكمة التشديد عليهن ، شدة قربهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو دليل على رفعة قدرهن وعظم رتبتهن ، فلا يليق منهن التوغل في الشهوات وتطلب زينة الدنيا ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لست من الدنيا وليست الدنيا مني». والمقربون منه كذلك ، والمعنى

٢٣٣

فإنكن أعظم (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) للرجال (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) نفاق (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣٢) من غير خضوع (وَقَرْنَ) بكسر القاف وفتحها (فِي بُيُوتِكُنَ) من القرار وأصله اقررن بكسر الراء وفتحها من قررت بفتح الراء وكسرها ، نقلت حركة الراء إلى القاف وحذفت مع همزة الوصل (وَلا تَبَرَّجْنَ) بترك إحدى التاءين من أصله (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ما قبل الإسلام من إظهار النساء محاسنهن للرجال ، والإظهار بعد الإسلام مذكور في آية (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ

____________________________________

ليست الواحدة منكن كالواحدة من آحاد النساء ، فالتفاضل في الأفراد. قوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، كما يشير له المفسر بقوله : (فإنكن أعظم) والمعنى أن اتقيتن الله ، فلا يقاس بالواحدة منكن واحدة من سائر النساء. قوله : (فَلا تَخْضَعْنَ) كلام مستأنف مفرع على التقوى. قوله : (بِالْقَوْلِ) أي بأن تتكلمن بكلام رقيق يميل قلوب الرجال إليكن ، إذ لا يليق منكن ذلك ، لكونكن أعظم النساء.

قوله : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) في ذلك احتراس عما يقال : إنهن أمهات المؤمنين ، والإنسان لا يطمع في أمه ، فأجاب : بأن الذي يقع منه الطمع إنما هو النفاق ، لأن شهوته حاصلة معه ، وهو منزوع الخشية والخوف من الله ، ولكن نهين عموما سدا للذريعة. قوله : (قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي حسنا ، فيه تعظيم الكبير ورحمة الصغير لا ريبة فيه. قوله : (بكسر القاف وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (من القرار) أي الثبات بيان لمعنى القراءتين. قوله : (وأصله اقررن بكسر الراء) أي من باب ضرب ، وقوله : (وفتحها) أي من باب علم ، فماضي الأول مفتوح ، والأمر مكسور ، والثاني بالعكس. قوله : (نقلت حركة الراء) أي الأولى ، وحركتها إما كسرة على الأول ، أو فتحة على الثاني. قوله : (مع همزة الوصل) أي الاستغناء عنها بتحريك القاف ، والمعنى اثبتن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة.

قوله : (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) اختلف في زمنها ، فقيل هي ما قبل بعثة إبراهيم ، وقيل ما بين آدم ونوح ، وقيل ما بين نوح وإدريس ، وقيل ما بين نوح وابراهيم ، وقيل ما بين موسى وعيسى ، وقيل ما بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل هي ما قبل الإسلام مطلقا ، وعليه اقتصر المفسر ، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. قوله : (من اظهار محاسنهن للرجال) أي فكانت المرأة تلبس القميص من الدر غير مخيط الجانبين ، وكانت النساء يظهرن ما يقبح اظهاره ، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها ، فينفرد خلها بما فوق الإزار ، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. قوله : (والإظهار بعد الإسلام) إلخ ، جواب عما يقال : إن اظهار الزينة واقع من فسقة النساء بعد الإسلام ، فلا حاجة لذكر الجاهلية الأولى ، فأجاب : بأنه تقدم النهي عنه في قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ).

قوله : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أي بشروطها وآدابها. قوله : (وَآتِينَ الزَّكاةَ) أي لمستحقيها. قوله : (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في جميع الأوامر والنواهي ، فلا تليق منكن المخالفة فيما أمر الله ورسوله به.

٢٣٤

عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الإثم يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُطَهِّرَكُمْ) منه (تَطْهِيراً) (٣٣) (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) القرآن (وَالْحِكْمَةِ) السنة (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) بأوليائه (خَبِيراً) (٣٤) بجميع خلقه (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) المطيعات (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في الإيمان (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعات (وَالْخاشِعِينَ) المتواضعين (وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) عن الحرام (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) للمعاصي (وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥) على الطاعات (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى

____________________________________

قوله : (الرِّجْسَ) أي الذنب المدنس لعرضكن. قوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على أنه منادى ، وحرف النداء محذوف قدره المفسر. قوله : (أي نساء النبي) قصره عليهن لمراعاة السياق ، وإلا فقد قيل : الآية عامة في أهل بيت سكنه وهن أزواجه ، وأهل بيت نسبه وهن ذريته. قوله : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أكده اشارة إلى الزيادة في التطهير بسبب التكاليف ، فالعبادة والتقوى سبب للطهارة ، وهي الخلوص من دنس المعاصي ، فمن ادعى الطهارة مع ارتكابه المعاصي ، فهو ضال كذاب. قوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) أي لتذكرن به أنفسكن أو غيركن ، وفيه تذكير لهن بهذه النعمة العظيمة ، حيث جعلن من أهل بيت النبوة ، وشاهدن نزول الوحي ، وكل ذلك موجب للزوم التقوى. قوله : (مِنْ آياتِ اللهِ) بيان لما. قوله : (لَطِيفاً) أي عالما بخفيات الأمور. قوله : (خَبِيراً) أي مطلعا على كل شيء.

قوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) إلخ ، سبب نزولها : أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلسن يتذاكرن فيما بينهن ويقلن : إن الله ذكر الرجال في القرآن ، ولم يذكر النساء بخير ، فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة ، فسألت أم سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت كثيرة السؤال له فقالت : يا رسول الله ، ما بال ربنا يذكر الرجال في كتابه ولا يذكر النساء؟ فنخشى أن لا يكون فيهن خير ، فنزلت جبرا لخاطرهن. قوله : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إنما عطف وصفهم بالإيمان على وصفهم بالإسلام ، وإن كانا متحدين شرعا ، نظرا إلى أنهما مختلفان مفهوما ، إذ الإسلام التلفظ بالشهادتين ، بشرط تصديق القلب بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان الإذعان القلبي بشرط النطق باللسان ، ويكفي في العطف أدنى تغاير.

قوله : (وَالْحافِظاتِ) حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه والتقدير والحافظات فروجهن. قوله : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) أي بأي ذكر كان ، من تسبيح أو تهليل أو تحميد أو صلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكثرة مختلفة باختلاف الأشخاص ، فالكثرة في حق العامة أقلها ثلاثمائة ، وفي حق المريدين اثنا عشر ألفا ، وفي حق العارفين عدم خطور الغير على قلوبهم ، ومنه قول العارف ابن الفارض :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري يوما حكمت بردتي

قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) أي لا ينبغي ولا يصلح ولا يليق ، وهذا اللفظ يستعمل تارة في الحظر والمنع كما هنا ، وتارة في الامتناع عقلا كما في قوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) وتارة

٢٣٥

اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ) بالتاء والياء (لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي الاختيار (مِنْ أَمْرِهِمْ) خلاف أمر الله ورسوله ؛ نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب ، خطبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنى لزيد بن حارثة فكرها ذلك حين علما بظنهما قبل ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبها لنفسه ، ثم رضيا للآية (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) بينا ، فزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد ثم وقع بصره عليها بعد حين ، فوقع في نفس زيد كراهتها ، ثم قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أريد فراقها فقال : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) كما قال تعالى : (وَإِذْ) منصوب باذكر (تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالإعتاق وهو زيد بن حارثة كان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة وأعتقه وتبناه (أَمْسِكْ

____________________________________

في الامتناع شرعا كقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً). قوله : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) ذكر اسم الله للتعظيم ، وإشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله ، لكونه لا ينطق عن الهوى ، وإذا يصح أن تكون ظرفا معمولا لما تعلق به خبر كان ، والتقدير وما كان مستقرا لمؤمن ولا مؤمنة وقت قضاء الله ورسوله أمرا كون الخيرة لهم ، ويصح أن تكون شرطية ، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله. قوله : (اين تكون) اسم كان مؤخر ، والجار والمجرور خبر مقدم. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالتاء ظاهرة والياء نظرا إلى أن الخيرة مجازي التأنيث ، أو للفصل بين العامل والمعمول. قوله : (الْخِيَرَةُ) بفتح الياء وقرىء شذوذا بإسكانها ، ومعناهما واحد وهو الاختيار. قوله : (أي الاختيار) أشار بذلك إلى أن الخيرة مصدر.

قوله : (مِنْ أَمْرِهِمْ) حال من الخيرة. قوله : (وأخته زينب) أي بنت جحش ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (خطبها النبي وعنى لزيد) أي بعد أن كان زوجه أولا أم أيمن بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن ، كان لعبد الله أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقها ، وقيل أعتقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعاشت بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أشهر وقيل سنة ، وولدت لزيد أسامة ، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين وقيل بخمس. قوله : (فكرها ذلك) أي كون الخطبة لزيد ، وقالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا بنت عمتك ، فلا أرضاه لنفسي ، وكانت بيضاء جميلة ، وزيد أسود. قوله : (ثم رضيا للآية) أي حين نزلت الآية توبيخا لهما.

قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) إلخ ، هذا من تمام ما نزل في شأنهما ، فكان المناسب للمفسر تأخير ذكر سبب النزول عن هذه الآية. قوله : (فَقَدْ ضَلَ) أي أخطأ طريق الصواب. قوله : (فزوجها النبي لزيد) أي وأعطاها رسول الله عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. قوله : (ثم وقع بصره عليها) هذا بناء على أن معنى قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) هو حبها الذي درج عليه المفسر تبعا لغيره ، وهذا التفسير غير لائق بمنصب النبوة لا سيما بجنابه الشريف ، وأيضا يبعد أن النبي يخفى عليه حالها ، مع كونها بنت عمته وفي حجره. قوله : (فقال : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) أي لا تفارقها. قوله : (منصوب باذكر) أي فهو معمول لمحذوف. قوله : (اشتراه رسول الله) فيه تسمح ، بل الذي في السير ، أن خديجة اشترته بأربعمائة درهم ، ثم وهبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا الشراء صوري ، وإلا فهو كان حرا ، لأنه لم يكن الرق بالسبي مشروعا ، لكونهم

٢٣٦

عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) في أمر طلاقها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) مظهره من محبتها ، وأن لو فارقها زيد تزوجتها (وَتَخْشَى النَّاسَ) أن يقولوا : تزوج زوجة ابنه (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) في كل شيء ، وتزوجها ولا عليك من قول الناس ، ثم طلقها زيد ، وانقضت عدتها ، قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) حاجة (زَوَّجْناكَها) فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذن ، وأشبع المسلمين خبزا ولحما (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً

____________________________________

أهل فترة ، وهم ناجون ليس فيهم حربي ، والعلماء عرفوا الرق بأنه عجز حكمي سببه الكفر ، روي أن عمه لقيه يوما بمكة ، فعرفه وضمه إلى صدره وقال له : لمن أنت؟ قال : لمحمد بن عبد الله ، فأتوه وقالوا : هذا ابننا فرده علينا ، فقال اعرضوا عليه ، فإن اختاركم فخذوه ، فبعث إلى زيد وخيره فقال : يا رسول الله ما أختار عليك أحدا ، فجذبه عمه وقال : يا زيد اخترت العبودية على أبيك وعمك؟ قال : نعم هي أحب إلي من أن أكون عندكم ، فتبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (من محبتها) بيان لما أبداه ، وهذا القول مردود لما تقدم أنه تنزه عنه رسول الله ، والصواب أن يقول : إن الذي أخفاه في نفسه ، هو ما أخبره الله به ، من أنها ستصير إحدى زوجاته بعد طلاق زيد لها ، لما روي عن علي بن الحسين رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلما شكا للنبي خلق زينب وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنها تريد طلاقها ، قال له رسول الله على جهة الأدب والوصية : اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، وخشي رسول أن يلحقه قول الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو متبنيه ، فعاتبه الله على الكتم لأجل هذا العذر ، والحكمة في تزوج رسول الله بزينب ، إبطال حكم التبني ، والتفرقة بين ولد الصلب وولد التبني ، من حيث إن ولد الصلب يحرم التزوج بزوجته ، وولد التبني لا يحرم. قوله : (وتزوجها) هكذا في بعض النسخ بصيغة الأمر ، وفي نسخة ويزوجكها فعل مضارع.

قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي بأن لم يبق له فيها أرب وطلقها وانقضت عدتها ، وفي ذكر اسمه صريحا دون غيره من الصحابة جبر وتأنيس له ، وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان اسمه قرآنا يتلى في الدنيا والآخرة على ألسنة البشر والملائكة ، وزاد في الآية أن قال : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) أي بالإيمان ، فدل على أنه من أهل الجنة ، فعلم ذلك قبل موته ، فهذ فضيلة أخرى. قوله : (فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذن) أي ولا عقد ولا صداق ، وهذا من خصوصياته التي لم يشاركه فيها أحد بالإجماع ، وكان تزوجه بها سنة خمس من الهجرة ، وقيل سنة ثلاث ، وهي أول من مات بعده من زوجاته ، ماتت بعده بعشر سنين ، ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة ، وكانت تفتخر على أزواج النبي وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات ، وكانت تقول للنبي : جدي وجدك واحد ، وليس من نسائك من هي كذلك غيري ، وقد أنكحنيك الله ، والسفير في ذلك جبريل. قوله : (وأشبع المسلمين خبزا ولحما) أي فذبح شاة وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه ، ولم يولم النبي على أحد من نسائه ، كما أو لم على زينب.

قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) إلخ ، أي فهو دليل على أن هذا الأمر ليس مخصوصا

٢٣٧

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ) مقضيه (مَفْعُولاً) (٣٧) (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ) أحل (اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ) أي كسنة الله فنصب بنزع الخافض (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء أن لا حرج عليهم في ذلك توسعة لهم في النكاح (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) فعله (قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨) مقضيا (الَّذِينَ) نعت للذين قبله (يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) فلا يخشون مقالة الناس فيما أحل الله لهم (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٣٩) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) فليس أبا زيد أي والده ، فلا يحرم عليه التزوج بزوجته زينب (وَلكِنْ) كان (رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيا ، وفي قراءة بفتح التاء كآلة الختم أي به ختموا (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠) منه بأن لا نبي بعده ، وإذا نزل السيد عيسى يحكم بشريعته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (٤١) (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً

____________________________________

به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي موجودا لا محالة. قوله : (مِنْ حَرَجٍ) أي إثم. قوله : (فنصب بنزع الخافض) ويصح نصبه على المصدرية ، وفي هذه الآية رد على اليهود حيث عابوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثرة النساء. قوله : (توسعة لهم في النكاح) أي فقد كان لداود مائة امرأة ، ولسليمان ولده سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية. قوله : (قَدَراً مَقْدُوراً) هو من التأكيد كظل ظليل وليل أليل.

قوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أي أبوة حقيقية ، فلا ينافي أنه أبوهم من حيث إنه شفيق عليهم وناصح لهم ، يجب عليهم تعظيمه وتوقيره. قوله : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) العامة على تخفيف لكن ، ونصب رسول على أنه خبر لكان المحذوفة ، وقرىء شذوذا بتشديد (لكِنْ) ، و (رَسُولَ) اسمها ، وخبرها محذوف تقديره أب من غير وراثة ، إذ لم يعش له ولد ذكر ، وقرىء أيضا بتخفيفها ، ورفع رسول على الابتداء ، والخبر مقدر أي هو أو بالعكس ، ووجه الاستدارك رفع ما يتوهم من نفي الأبوة عنه ، أن حقه ليس أكيدا ، فأفاد أن حقه آكد من حق الأب الحقيقي بوصف الرسالة. قوله : (فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيا) النفي في الحقيقة متوجه للوصف ، أي كون ابنه رجلا ، وكونه نبيا بعده ، وإلا فقد كان له من الذكر أولاد ، ثلاث ، إبراهيم والقاسم والطيب ، ولكنهم ماتوا قبل البلوغ ، لم يبلغوا مبلغ الرجال ، فكونه خاتم النبيين ، يلزم منه عدم وجود ولد بالغ له ، وأورد عليه بمنع الملازمة ، إذ كثير من الأنبياء ، وجد لهم أولاد بالغون وليسوا بأنبياء ، وأجيب : بأن الملازمة ، ليست عقلية ، بل على مقتضى الحكمة الإلهية ، وهي أن الله أكرم بعض الرسل بجعل أولادهم أنبياء كالخليل ، ونبينا أكرمهم وأفضلهم ، فلو عاش أولاده ، اقتضى تشريف الله له جعلهم أنبياء ، لجمعه المزايا المتفرقة في غيره فتدبر. قوله : (وإذا نزل السيد عيسى) إلخ ، جواب عما يقال : كيف قال تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وعيسى ينزل بعده وهو نبي؟ ولا يرد على هذا ، وضع الجزية ، وعدم قبول غير الإسلام ، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث مما يخالف شرعنا ، لأن ذلك شرع نبينا عند نزول عيسى عليه الصلاة والسّلام.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) في هذا إشارة إلى تشريف المؤمنين عموما ، حيث ناداهم وأمرهم بذكره وتسبيحه ، وصلى عليهم هو وملائكته ، وأفاض عليهم الأنوار وحياهم ،

٢٣٨

وَأَصِيلاً) (٤٢) أول النهار وآخره (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي يرحمكم (وَمَلائِكَتُهُ) أي يستغفرون لكم (لِيُخْرِجَكُمْ) ليديم إخراجه إياكم (مِنَ الظُّلُماتِ) أي الكفر (إِلَى النُّورِ) أي الإيمان (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣) (تَحِيَّتُهُمْ) منه تعالى (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) بلسان الملائكة (وَأَعَدَّ لَهُمْ

____________________________________

والمقصود من ذكر العباد ربهم كون الله يذكرهم ، قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وليس المقصود منه انتفاعه تعالى بذلك ، تنزه الله عن أن يصل له من عباده نفع أو ضر ، قال تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) فذكرنا لأنفسنا ، لأنه لا غنى لنا عن ربنا طرفة عين ، وإذا كان كذلك ، فلا تليق الغفلة عنه أبدا ، بل المطلوب ذكره دائما وأبدا ، واعلم أن الله تعالى لم يفرض فريضة على عباده ، إلا جعل لها حدا معلوما ، وعذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فلم يجعل له حدا ، ولم يعذر أحدا في تركه ، إلا من كان مغلوبا على عقله ، ولذا أمرهم به في جميع الأحوال ، قال تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) ففيه إشارة إلى أن الذكر أمره عظيم وفضله جسيم. قوله : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) خص التسبيح بالذكر وإن كان داخلا فيه ، لكونه أعلى مراتبه ، وحكمة تخصيص التسبيح بهذين الوقتين ، لكونهما أشرف الأوقات ، بسبب تنزل الملائكة فيهما.

قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) استئناف في معنى التعليل للأمر بالذكر والتسبيح. قوله : (وَمَلائِكَتُهُ) عطف على الضمير المستتر في (يُصَلِّي) والفاصل موجود. قوله : (أي يستغفرون لكم) أي يطلبون لكم من الله المغفرة ، قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الآيات. قوله : (ليديم إخراجه إياكم) جواب عما يقال : إن إخراجه إيانا من الظلمات حاصل بمجرد الإيمان ، وإيضاح الجواب : أن المراد دوام هذا الإخراج ، لأن الغفلة عن الخالق إذا دامت ، ربما أخرجت العبد من النور والعياذ بالله. قوله : (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) جمع الأول لتعداد أنواع الكفر ، وأفرد الثاني لأن الإيمان شيء واحد لا تعدد فيه ، فمن ادعى الإيمان ، وأثبت التعدد والمخالفة ، فهو ضال مضل ، خارج عن السنة والجماعة.

قوله : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) أي يقبل القليل من أعمالهم ، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم ، حيث أخلصوا في إيمانهم. قوله : (تَحِيَّتُهُمْ) (منه تعالى) أي التحية الصادرة منه تعالى ، زيادة في الاعتناء بهم ، وتعظيما لقدرهم. قوله : (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) اختلف في وقت اللقى ، فقيل : عند الموت ، وقيل : عند الخروج من القبور ، وقيل : عند دخول الجنة. قوله : (بلسان الملائكة) أي لما ورد : إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن يقول له : ربك يقرئك السّلام ، وفي الحقيقة هم يسمعون السّلام من الله ومن الملائكة ومن الخلق غيرهم ، قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ). وقال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً). قوله : (هو الجنة) أي وما فيها من النعيم المقيم. قوله : (على من أرسلت إليهم) أي لتترقب أحوالهم ، وتكون مشاهدا لما صدر منهم من الأعمال الحسنة والقبيحة ، فالأعمال تعرض عليه حيا وميتا ، ويصح أن يكون المراد شاهدا يوم القيامة للمؤمنين وعلى الكافرين ، فهو مقبول الدعوى ، لا يحتاج في دعواه إلى شهادة أحد ، فيشهد للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الأمم إما بالتصديق أو بالتكذيب. قوله : (بأمره) دفع بذلك

٢٣٩

أَجْراً كَرِيماً) (٤٤) هو الجنة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من أرسلت إليهم (وَمُبَشِّراً) من صدقك بالجنة (وَنَذِيراً) (٤٥) منذرا من كذبك بالنار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى طاعته (بِإِذْنِهِ) بأمره (وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦) أي مثله في الاهتداء به (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) (٤٧) هو الجنة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يخالف شريعتك (وَدَعْ) اترك (أَذاهُمْ) لا تجازهم عليه إلى أن تؤمر فيهم بأمر (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فهو كافيك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨) مفوّضا إليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) وفي قراءة تماسوهن أي تجامعوهن (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تحصونها بالأقراء وغيرها (فَمَتِّعُوهُنَ) أعطوهن ما يستمتعن به ، أي إن لم يسم لهنّ أصدقه ، وإلا فلهنّ نصف المسمى فقط ، قاله ابن عباس وعليه الشافعي (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٤٩) خلوا سبيلهن من غير إضرار (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا

____________________________________

ما يقال : الأذن حاصل ب قوله : (أَرْسَلْناكَ) ، فأجاب : بأن المراد بالإذن الأمر والحكمة في الاذن تسهيل الأمر وتيسيره ، لأن الدخول في الشيء من غير إذن متعذر ، فإذا حصل الإذن سهل وتيسر ، ومن هنا أخذ الأشياخ استعمال الإجازة للمريدين ، فمن أجاز أشياخه بشيء من العلم والإرشاد ، فقد سهلت له الطريق وتيسرت ، ومن لم تحصل له الإجازة وتصدر بنفسه ، فقد عطل نفسه وغيره ، وانسدت عليه الطرق. قوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) يحتمل أن المراد بالسراج الشمس وهو ظاهر ، ويحتمل أن المراد به المصباح ، وحينئذ فيقال إنما شبه بالسراج ، ولم يشبه بالشمس مع أن نورها أتم ، لأن السراج يسهل اقتباس الأنوار منه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقتبس منه الأنوار الحسية والمعنوية.

قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حيث كنت متصفا بالصفات الخمسة فبشر المؤمنين. قوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) أي لا تدار الكفار ، ولا تلن لهم جانبك في أمر الدين ، بل اثبت على ما أوحي إليك وبلغه ، ولا تكتم منه شيئا. قوله : (وَدَعْ أَذاهُمْ) إما من إضافة المصدر لفاعله ، أي أذيتهم إياك ، فلا تقاتلهم جزاء على ما صدر منهم ، أو لمفعوله أي اترك اذيتك لهم في نظير كفرهم ، واصفح عنهم واصبر ، ولا تعاجلهم بالعقوبة ، وهذا منسوخ بآية القتال. قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي ثق به في أمورك واعتمد عليه ، يكفك أمور الدين والدنيا. قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) الباء زائدة في الفاعل ، أي إن الله تعالى كاف من توكل عليه أمور الدنيا والآخرة ، وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم ، فإذا عجز الإنسان عن أمر ، فعليه بالتوكل على الله والتفويض إليه ، فإن الله يكفيه ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة.

قوله : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) المراد بالنكاح العقد بدليل قوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) وذكر المؤمنات خرج مخرج الغالب ، إذ الكتابيات كذلك ، وإنما خص المؤمنات بالذكر ، إشارة إلى أن الأولى للمؤمن أن ينكح المؤمنات ، وأما نكاح الكتابيات فمكروه ، أو خلاف الأولى. قوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي ولو طال زمن العقد. قوله : (وفي قراءة) أي وهما سبعيتان. قوله : (أي تجامعوهن) تفسير لكل من القراءتين. قوله : (تَعْتَدُّونَها) إما من العدد أو من الاعتداد أي تحسبونها أو تستوفون عددها من قولهم : عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها. قوله : (عليه الشافعي) أي

٢٤٠