حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي زيادة خير في الدنيا (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) مرجع في الآخرة (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تدبر أمر الناس (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي هوى

____________________________________

سبحان خالق النور ، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك ، سبحان خالق النور ، إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم ، سبحان خالق النور ، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه ، سبحان خالق النور ، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا ، سبحان خالق النور ، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، سبحان خالق النور ، إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني ، سبحان خالق النور ، إلهي أعوذ بك بوجهك الكريم من ذنوبي التي أو بقتني ، سبحان خالق النور ، إلهي ففررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تحزني يوم الدين ، سبحان خالق النور. قيل : مكث داود أربعين يوما ، لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه ، فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم؟ أظمآن أنت فتسقى؟ أمظلوم أنت فتنصر؟ فأجيب في غير ما طلب ، ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء ، فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حرارة جوفه ، ثم أنزل الله تعالى له التوبة والمغفرة ب قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) وقد ورد أنه لما قبل الله توبته ، بكى على خطيئته ثلاثين سنة ، لا يرقأ دمعه ليلا ولا نهارا ، وكان سنه إذ ذاك سبعين سنة ، فقسم الدهر على أربعة : يوم للقضاء ، ويوم لنسائه ، ويوم يسيح في الجبال والفيافي والسياحة ، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب ، فيجتمع إليه الرهبان ، ينوح معهم على نفسه ، فإذا كان يوم سياحته ، خرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالبكاء ، فتبكي معه الأشجار والرمال والطيور والوحوش ، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالبكاء ، فتبكي معه دواب البحر وطير الماء ، فإذا كان يوم من نوحه على نفسه نادى مناديه : إن اليوم يوم نوح داود على نفسه ، فليحضره من يساعد ويدخل الدار التي فيها المحاريب ، فيبسط فيها ثلاثة فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ، ويجيء أربعة آلاف راهب فيجلسون في تلك المحاريب ، ثم يرفع داود عليه‌السلام صوته بالبكاء والرهبان معه فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب ، فيجيء ابنه سليمان فيحمله ، وقد ورد أيضا أنه لما تاب الله على داود قال : يا رب غفرت لي فكيف لي أن أنسى خطيئتي فاستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة ، فوسم الله خطيئته في يده اليمنى ، فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها ، وما قام خطيبا في الناس إلا وبسط راحته فاستقبل بها الناس ليروا وسم خطيئته ، وكان يبدأ إذا دعا واستغفر للخاطئين قبل نفسه ، وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ، ويصوم نصف الدهر ، فلما كان من خطيئته ما كان ، صام الدهر كله وقام الليل كله ، وكان إذا ذكر عقاب الله تعالى انخلعت أوصاله ، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت ا. ه ملخصا.

قوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) يحتمل أنه كلام مستأنف ، بيان للزلفى في قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) يحتمل أن مقول القول محذوف معطوف على قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ) كأنه قيل : فغفرنا له وقلنا يا داود إلخ ، وفي هذه الآية دليل على أن خلافته التي كانت قبل الفتنة ، باقية مستمرة بعد التوبة. قوله : (تدبر أمر الناس) أي لكونك ملكا وسلطانا عليهم ، فقد جمع لداود بين النبوة والسلطنة ، وكان فيمن قبله النبوة مع شخص والسلطنة مع آخر ، فيحكم للسلطان بما يأمره به النبي. قوله :

٣٤١

النفس (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الدلائل الدالة على توحيده (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الإيمان بالله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا) بنسيانهم (يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) المرتب عليه تركهم الإيمان ، ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدنيا (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي عبثا (ذلِكَ) أي خلق ما ذكر لا لشيء (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (فَوَيْلٌ) واد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧) (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) نزل لما قال كفار مكة للمؤمنين : إنا نعطي في الآخرة مثل ما تعطون ، وأم بمعنى همزة الإنكار (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا) أصله يتدبروا أدغمت التاء في الدال (آياتِهِ) ينظروا في معانيها فيؤمنوا

____________________________________

(بِالْحَقِ) أي العدل ، لأن الأحكام إذا كانت موافقة لما أمر الله به ، صلحت الخلق واستقام نظامهم ، بخلاف ما إذا كانت موافقة لهوى النفس ، فإن ذلك يؤدي إلى فساد النظام ، ووقوع الهرج والمرج المؤدي للهلاك ، وهو معنى قولهم : العدل إن دام عمر ، والظلم إن دام دمر.

قوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) المقصود من نهيه اعلام أمته بأنه معصوم ، ولتتبعه فيما أمر به ، لأنه إذا كان هذا الخطاب للمعصوم فيغيره أولى. قوله : (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالنصب في جواب النهي ، وهو أولى من جعله مجزوما عطفا على النهي ، وفتح للتخلص من التقاء الساكنين. قوله : (أي عن الدلائل الدالة على توحيده) إنما فسر السبيل بذلك وإن كان شاملا لفروع الدين الموصلة إلى الله تعالى ، ليوافق قوله : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) إلخ. قوله : (بنسيانهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية والباء سببية ، وقوله : (يَوْمَ الْحِسابِ) إما ظرف لقوله : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أو مفعول لنسوا. قوله : (المرتب عليه) إلخ ، أي فالسبب الحقيقي في حصول العذاب لهم ، هو ترك الإيمان ، ونسيان يوم الحساب سبب في ترك الإيمان ، فاكتفى بذكر السبب.

قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ) إلخ ، استئناف لتقرير ما قبله من البعث والحساب. قوله : (باطِلاً) نعت لمصدر محذوف ، أي خلقنا باطلا ، أو حال من ضمير الخلق. قوله : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي مظنونهم. قوله : (فَوَيْلٌ) هو في الأصل معناه الهلاك ، أي هلاك ودمار للذين كفروا ، وعبر بالظاهر تقبيحا عليهم ، واشارة إلى أن ظنهم إنما نشأ من أجل كفرهم. قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ (أَمْ) منقطعة تفسر ببل والهمزة ، وهو إضراب انتقالي من أمر البعث والحساب ، إلى بيان عدم استواء المؤمنين والكافرين في العواقب ، وهو نظير قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ) إلخ ، تنويع آخر في الإضراب ، والمعنى واحد. قوله : (بمعنى همزة الإنكار) أي مع بل التي للإضراب. قوله : (خبر مبتدأ محذوف) أي و (أَنْزَلْناهُ) صفة (كِتابٌ) و (مُبارَكٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر ثان لا صفة ثانية للكتاب ، لأنه يلزم عليه الوصف بالجملة قبل الوصف بالمفرد ، وفيه خلاف. قوله : (ينظروا في معانيها) أي يتأملوا فيها ، فيزدادوا معرفة ونورا على

٣٤٢

(وَلِيَتَذَكَّرَ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) أصحاب العقول (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) ابنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٠) رجاع في التسبيح والذكر في جميع الأوقات (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) هو ما بعد الزوال (الصَّافِناتُ) الخيل جمع صافنة ، وهي القائمة على ثلاث وإقامة الأخرى على طرف الحافر وهو من صفن يصفن صفونا (الْجِيادُ) (٣١) جمع جواد وهو السابق ، المعنى : أنها إذا استوقفت سكنت وإن ركضت سبقت وكانت ألف فرس عرضت عليه بعد أن صلى الظهر ، لإرادته الجهاد عليها لعدو ، فعند بلوغ العرض منها تسعمائة غربت الشمس ولم يكن صلى العصر فاغتمّ (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ) أي أردت (حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي صلاة العصر (حَتَّى تَوارَتْ) أي الشمس (بِالْحِجابِ) (٣٢) أي استترت بما يحجبها عن الأبصار (رُدُّوها عَلَيَ) أي الخيل المعروضة فردّوها (فَطَفِقَ مَسْحاً) بالسيف (بِالسُّوقِ) جمع ساق

____________________________________

حسب مشاربهم ، فإن التالين للقرآن على مراتب ، فالعامة يقرؤونه مرتلا مجودا مراعي بعض معانيه على حسب الطاقة ، والخاصة يقرؤونه ملاحظين أنهم في حضرة الله تعالى يقرؤون كلامه عليه ، وخاصة الخاصة يقرؤون فانين عن أنفسهم مشاهدين أن لسانهم ترجمان عن الله تعالى ، رضي الله عنهم وعنا بهم. قوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالذكر.

قوله : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ) أي من المرأة التي أخذها من أوريا ، وكان سنه إذ ذاك سبعين سنة. قوله : (أي سليمان) تفسير للمخصوص بالمدح. قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ظرف لمحذوف تقديره : اذكر يا محمد لقومك وقت أن عرض إلخ ، والمعنى اذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت. قوله : (ما بعد الزوال) أي إلى الغروب. قوله : (وهي القائمة) أي الواقفة على ثلاثة قوائم. قوله : (على طرف الحافر) أي من رجل أو يد. قوله : (وهو من صفن) أي مأخوذ منه ، والصافن من الآدميين الذي يصف قدميه ويقرن بينهما ، وجمعه صفون. قوله : (جمع جواد) وقيل : جمع جيد يطلق على كل من الذكر والأنثى ، مأخوذ من الجودة أو الجيد وهو العنق ، والمعنى طويلة العنق لفراهتها. قوله : (المعنى) أي معنى الصافنات الجياد. قوله : (وكان ألف فرس) روي أنه غزا أهل دمشق ونصيبين وأصاب منهم ألف فرس ، وقيل : أصابها أبوه من العمالقة فوضع يده عليها لبيت المال ، وقيل : خرجت له من البحر ولها أجنحة. قوله : (لإرادة الجهاد) أي ليختبرها.

قوله : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ) إلخ ، أي على وجه الاعتذار عما صدر منه وندما عليه ، وضمن أحببت معنى آثرت فعداه بعن. قوله : (أي الخيل) إنما سماها خيرا لتعلق الخير بها لما في الحديث : «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة». قوله : (بِالْحِجابِ) أي وهو جبل دون جبل ق بمسيرة سنة تغرب من ورائه. قوله : (رُدُّوها عَلَيَ) الخطاب لأتباعه المتولين أمر الخيل ، والضمير عائد على التي شغلته وهي التسعمائة ، وأما المائة الأخرى فلم يذبحها ، وما في أيدي الناس من الخيل الجياد فمن نسل تلك المائة. قوله : (أي ذبحها وقطع أرجلها) أي وكان مباحا له ، ولذا لم يعاتبه الله عليه ، وهذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقيل : الضمير في قوله : (رُدُّوها) عائد على الشمس ، والخطاب للملائكة الموكلين بها

٣٤٣

(وَالْأَعْناقِ) (٣٣) أي ذبحها وقطع أرجلها تقربا إلى الله تعالى ، حيث اشتغل بها عن الصلاة وتصدق بلحمها فعوّضه الله تعالى خيرا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ابتليناه بسلب ملكه ، وذلك لتزوجه بامرأة هواها ، وكانت تعبد الصنم في داره من غير

____________________________________

فردوها ، فصلى العصر في وقتها ، وقال الفخر الرازي : معنى قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي يمسحها حقيقة بيده ليختبر عيوبهأ وأمراضها ، لكونه كان أعلم بأحوال الخيل ، وإشارة إلى أنه بلغ من التواضع ، إلى أنه يباشر الأمور بنفسه ، ولم يحصل منه ذبح ولا عقر ، ولم تفوت عليه صلاة ، ومعنى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي لأجل طاعة ربي لا لهوى نفسي ، ومعنى (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي الخيل غابت عن بصره حين أمر بإجرائها ليختبرها للغزو فقال : ردّوها علي ، فردوها ، فصار يمسح في أعناقها وسوقها كما تقدم ، وليس في الآية ما يدل على ثبوت ذبح ولا عقر ولا فوات صلاة ا. ه بالمعنى.

قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) إلخ ، أجمل المفسر في القصة. وحاصل تفصيلها على ما رواه وهب بن منبه قال : سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، وبها ملك عظيم الشأن ، ولم يكن للناس اليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان الله تعالى قد آتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر ، وإنما يركب إليه الريح ، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء ، حتى نزل بجنوده من الجن والإنس ، فقتل ملكها وسبى ما فيها ، وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة ، لم ير مثلها حسنا ولا جمالا ، فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام ، فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه ، وأحبها حبا لم يحب مثله أحدا من نسائه ، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها قالت : إن أبي فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت : إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك ، فقال سليمان ، فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ذلك؟ قالت : إن ذلك كذلك ، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن ، فلو أنك أمرت الشياطين ، فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها ، أراها بكرة وعشية ، لرجوت أن يذهب ذلك حزني ، وأن يسلي عن بعض ما أجد في نفسي ، فأمر سليمان الشياطين فقال : مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا ، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه ، إلا أنه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه ، فألبسته ثيبا مثل ثيابه التي كان يلبسها ، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها ، تغدو إليه في ولائدها أي جواريها ، فتسجد له ويسجدن له ، كما كانت تصنع في ملكه أي أبيها ، وتروح في كل عشية بمثل ذلك ، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا ، وبلغ ذلك إلى آصف بن برخيا ، وكان صديقا له ، وكان لا يرد عن أبواب سليمان أية ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل سواء ، كان سليمان حاضرا أو غائبا ، فأتاه وقال : يا نبي الله ، إن غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة ، فقال سليمان : في داري؟ قال في دارك ، قيل : فإنا لله وإنا اليه راجعون ، ثم رجع سليمان إلى داره ، فكسر ذلك الصنم وعاتب تلك المرأة وولائدها ، ثم أمر بثياب الظهيرة فأتى بها ، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ، ولا ينسجها إلا الأبكار ، ولا يغسلها إلا الأبكار ، لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم ، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده ، وأمر برماد ففرش له ، ثم أقبل تائبا إلى الله تعالى ، حتى جلس على ذلك الرماد ، وتمعك به في ثيابه تذللا إلى الله تعالى ، وتضرعا اليه يبكي ويدعو ويستغفر مما كان في داره ، فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ،

٣٤٤

علمه ، وكان ملكه في خاتمه ، فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ، ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة على عادته ، فجاءها جني في صورة سليمان فأخذه منها (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) هو ذلك الجني ،

____________________________________

ثم رجع إلى داره ، وكانت له أم ولد يقال لها الأمينة ، كان إذا دخل الخلاء ، أو أراد إصابة امرأة من نسائه ، وضع خاتمه عندها حتى يتطهر ، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه يوما عندها ثم دخل مذهبه ، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد ابن عمير في صورة سليمان ، لا تنكر منه شيئا ، فقال : هات خاتمي يا أمينة ، فناولته إياه فجعله في يده ، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان ، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس ، وخرج سليمان فأتى أمينة ، وقد تغيرت حالته وهيئته عند كل من رآه فقال : يا أمينة خاتمي ، قالت : من أنت؟ قال : سليمان بن داود ، فقالت : كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه ، وهو جالس على سرير ملكه ، فعرف سليمان أن خطيئته أدركته ، فخرج وجعل يقف على الدار من دور بني اسرائيل ويقول : أنا سليمان بن داود ، فيحثون عليه التراب ويقولون : انظروا إلى هذا المجنون يزعم أنه سليمان ، فلما رأى سليمان ، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر ، فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق ويعطونه كل يوم سمكتين ، فإذا أمسى باع احدى سمكتيه بأرغفة ، ويشوي الأخرى فيأكلها ، فمكث على ذلك أربعين صباحا ، عدة ما كان يعبد بعد الوثن في داره ، ثم إن آصف وعظماء بني اسرائيل ، أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة ، فقال آصف : يا معشر بني اسرائيل ، هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم؟ فقالوا : نعم ، فلما مضى أربعون صباحا ، طار الشيطان عن مجلسه ، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه ، فأخذته سمكة فأخذها بعض الصيادين ، وقد عمل له سليمان صدر يومه ، فلما أمسى أعطاه سمكتيه ، فباع سليمان أحدهما بأرغفة ، وبقر بطن الأخرى ليشويها ، فاستقبله خاتمه في جوفها ، فأخذه وجعله في يده وخر الله ساجدا ، وعكفت عليه الطير والجن ، وأقبل الناس عليه ، وعرف أن الذي دخل عليه من أجل ما حدث في داره ، فرجع إلى ملكه ، وأظهر التوبة من ذنبه ، وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر المارد ، فأتى به فأدخله في جوف صخرة وسد عليه بأخرى ، ثم أوثقها بالحديد والرصاص ، ثم أمر به فقذف به في البحر ، فهو باق فيها إلى النفخة ، وسيأتي رد تلك القصة ، وأنها من موضوعات الأخباريين. قوله : (لتزوجه بامرأة) أي واسمها جرادة. قوله : (هواها) هويها قياسه بمعنى أحبها من باب صدى ، وأما هوى كرمى فهو بمعنى سقط ، وفي نسخة يهواها وهي ظاهرة. قوله : (وكانت تعبد الصنم) أي وهو صورة أبيها ، ومدة ذلك أربعون يوما. قوله : (وكان ملكه في خاتمه) أي كان ملكا مرتبا على لبسه إياه ، فإذا لبسه سخرت له الريح والجن والشياطين وغيرها ، وإذا نزعه زال عنه وكان خاتمه من الجن ، وهو من جملة الأشياء التي نزل بها آدم من الجنة ، وقد نظمها بعضهم بقوله :

وآدم معه أنزل العود والعصا

لموسى من الآس النبات المكرم

وأوراق تين واليمين بمكة

وختم سليمان النبي المعظم

وقوله العود : المراد به عود البخور ، وقوله واليمين بمكة : المراد بالحجر الأسود ، وورد في الحديث : «أن نقش خاتم سليمان : لا إله إلا الله محمد رسول الله». قوله : (ووضعه عند امرأته) في عبارة غيره أم ولده المسماة بالأمينة. قوله : (هو ذلك الجني) أي وسمي جسدا ، لأنه ليس فيه روح سليمان ، وإن كان فيه

٣٤٥

وهو صخر أو غيره ، جلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير وغيرها ، فخرج سليمان في غير هيئته ، فرآه على كرسيه وقال للناس : أنا سليمان فأنكروه (ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) رجع سليمان إلى ملكه بعد أيام ، بأن وصل إلى الخاتم فلبسه وجلس على كرسيه (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي) لا يكون (لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي سواي ، نحو فمن يهديه من بعد الله أي سوى الله (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) لينة (حَيْثُ أَصابَ) (٣٦) أراد

____________________________________

روحه هو ، لأن الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه. قوله : (وهو صخر) أي ابن عمير المارد. قوله : (في غير هيئته) أي المعتادة التي كانوا يعرفونه بها. قوله : (رجع سليمان إلى ملكه) هذا التفسير مبني على أن قوله : (ثُمَّ أَنابَ) مرتبط بقوله : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وقال غيره : إنه مرتبط بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ومعنى إنابته : رجوعه إلى الله تعالى وتوبته. قوله : (بعد أيام) أي أربعين ، قال القاضي عياض وغيره من المحققين : لا يصح ما نقله الإخباريون ، من تشبه الشيطان بسليمان ، وتسلطه على ملكه ، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه ، وإن الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا ، وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا ، والذي ذهب إليه المحققون ، أن سبب فتنته ، ما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال سليمان : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة ، وفي رواية على مائة امرأة ، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن جميعا ، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وايم الله الذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» قال العلماء : والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه ، وفتنته من نسيان المشيئة ، فامتحن بهذا ، فتاب ورجع ، وقيل : إن المراد بالجسد الذي ألقي على كرسيه ، أنه ولد له ولد ، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء ، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخيله ، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب فحمله ، فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين ، فبينما هو مشتغل في بعض مهماته ، إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه ، فعاتبه الله على خوفه من الشياطين ، حيث لم يتوكل عليه في ذلك ، فتنبه واستغفر ربه. إذا علمت ذلك ، فالمناسب أن يعرج على ما في الصحيحين ، ويترك تلك القصة البشعة.

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) إنما قال ذلك تواضعا واظهارا للخضوع للمولى عزوجل ، وإلا فهو لم يحصل منه ذنب ، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً) إلخ ، قدم طلب المغفرة اهتماما بأمر الدين. قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي ليكون معجزة لي ، فليس طلبه للمفاخرة بأمور الدنيا ، وإنما كان هو من بيت النبوة والملك ، وكان في زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ، فطلب ما يكون معجزة لقوله ، ومعجزة كل نبي ما اشتهر في عصره. قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة.

قوله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) أي أعدنا له تسخير الريح ، بعد ما كان قد ذهب بزوال ملكه ، وهذا على ما مشى عليه المفسر ، وعلى ما مشى عليه المحققون ، فيقال : أدمنا تسخيرها. قوله : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بيان لتسخيرها له. قوله : (رُخاءً) حال من قوله : (الرِّيحَ). قوله : (لينة) أي غير عاصفة ، وهذا في

٣٤٦

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ) يبني الأبنية العجيبة (وَغَوَّاصٍ) (٣٧) في البحر يستخرج اللؤلؤ (وَآخَرِينَ) منهم (مُقَرَّنِينَ) مشدودين (فِي الْأَصْفادِ) (٣٨) القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم وقلنا له (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ) أعط منه من شئت (أَوْ أَمْسِكْ) عن الأعطاء (بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) أي لا حساب عليك في ذلك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) تقدم مثله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي) أي بأني (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) ضر (وَعَذابٍ) (٤١) ألم ، ونسب ذلك إلى الشيطان ، وإن كانت الأشياء كلها من الله تأدبا معه تعالى ، وقيل له (ارْكُضْ) أضرب (بِرِجْلِكَ) الأرض فضرب فنبعت عين ماء فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ) ماء تغتسل به (بارِدٌ

____________________________________

أثناء سيرها وأما في أوله فهي عاصفة ، فكانت العاصفة تقلع البساط والرخاء تسيره. قوله : (بِأَمْرِهِ) أي اياها ، فالمصدر مضاف لفاعله. قوله : (كُلَّ بَنَّاءٍ) بدل من الشياطين. (وَآخَرِينَ) عطف على (كُلَّ بَنَّاءٍ) وذلك أن سليمان قسم الشياطين إلى عملة ، استخدمهم في الأعمال الشاقة من البناء والغوص ونحو ذلك ، وإلى مقرنين في السلاسل كالمردة والعتاة. قوله : (القيود) من المعلوم أن القيد يكون في الرجل ، فلا يلتئم مع قوله : (بجمع أيديهم) إلخ ، فلو فسر الأصفاد بالأغلال لكان أولى ، لأنها تطلق عليها ، كما تطلق على القيود. قوله : (وقلنا له) (هذا) أي هذا الملك عطاؤنا. قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها أنه متعلق بعطاؤنا ، أي أعطيناك بغير حساب وبغير حصر. الثاني أنه حال من عطاؤنا ، أي في حال كون عطائنا غير محاسب عليه. والثالث أنه متعلق بامنن أو أمسك ، والمعنى أعط من شئت ، وامنع من شئت ، لا حساب عليك في اعطاء ولا منع. قال الحسن : ما أنعم الله نعمة على أحد ، إلا عليه فيها تبعة ، إلا سليمان ، فإنه إن أعطى أجر ، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي زيادة خير في الدنيا والآخرة.

قوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) عطف على قوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) عطف قصة على قصة ، وليس معطوفة على قصة سليمان ، لأن لكمال الاتصال بينه وبين أبيه ، لم يصدر في قصته بقوله واذكر عبدنا سليمان مثلا ، بل كانا كأنهما قصة واحدة ، وتقدم لنا في الأنبياء ، أن أيوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم عليه‌السلام ، وقيل : إنه ابن عيصو بن اسحاق ، وقيل : وهو ابن أموص بن رعيل بن عيص بن اسحاق ، وتقدمت قصته مفصلة في سورة الأنبياء.

قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل من (عَبْدَنا) أو عطف بيان له. قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) أي حين ابتلي بفقد ماله وولده وتمزيق جسده ، وهجر جميع الناس له إلا زوجته ، وكانت مدة بلائه ثلاث سنين ، وقيل سبعا ، وقيل عشرا ، وقيل ثماني عشرة. قوله : (بِنُصْبٍ) بضم فسكون ، التعب والمشقة ، وقوله : (وَعَذابٍ) عطف سبب على مسبب. قوله : (تأدبا معه تعالى) أي لأن الشيطان هو السبب في ذلك ، لأنه نفخ في أنفه ، فمرض جسده ظاهرا وباطنا ، إلا قلبه ولسانه. قوله : (وقيل له) أي حين رجا وقت شفائه. قوله : (فنبعت عين ماء) ظاهره أنها عين واحدة ، وهو أحد قولين ، وقيل : كانتا عينين بأرض الشام في أرض الجابية ، فاغتسل من احداهما ، فأذهب الله تعالى ظاهر دائه ، وشرب من الأخرى ، فأذهب الله باطن دائه ، وكانت احدى العينين حارة ، والأخرى باردة ، فاغتسل من الحارة ، وشرب من الأخرى.

٣٤٧

وَشَرابٌ) (٤٢) تشرب منه ، فاغتسل وشرب فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي أحيى الله له من مات من أولاده ورزقه مثلهم (رَحْمَةً) نعمة (مِنَّا وَذِكْرى) عظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣) لأصحاب العقول (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) هو حزمة من حشيش أو قضبان (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك ، وكان قد حلف ليضربنها مائة ضربة لإبطائها عليه يوما (وَلا تَحْنَثْ) بترك ضربها ، فأخذ مائة عود من الإذخر أو غيره فضربها به ضربة واحدة (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤) رجاع إلى الله تعالى (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي) أصحاب القوى في العبادة (وَالْأَبْصارِ) (٤٥) البصائر في الدين ، وفي قراءة عبدنا ، وإبراهيم بيان له ، وما بعده عطف على عبدنا (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ) هي (ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦) الآخرة أي ذكرها والعمل لها ، وفي قراءة بالإضافة وهي للبيان (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا

____________________________________

قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) عطف على محذوف قدره المفسر بقوله : (فاغتسل) إلخ. قوله : (من مات من أولاده) أي وكانوا ثلاثة ذكور وثلاث اناث ، وقيل كل صنف سبع. قوله : (ورزقه مثلهم) أي من زوجته وزيد في شبابها ، واسمها ، قيل رحمة بنت أفراثيم بن يوسف ، وقيل ليا بنت يعقوب. قوله : (رَحْمَةً) إلخ ، مفعول لأجله ، أي لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولوا الألباب. قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) عطف على محذوف قدره المفسر بعد بقوله : (وكان قد حلف) إلخ ، قوله : (هو حزمة) أي ملء الكف. قوله : (لإبطائها عليه يوما) واختلف في سبب بطئها المتسبب عنه حلفه ، فقيل : إن الشيطان تمثل في طريقها في صورة حكيم يداوي المرضى ، فمرت عليه فوجدت الناس منكبين عليه ، فقالت له : عندي مريض ، فقال : أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني ، ولا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك ، فحلف ليضربنها وقال : ويحك ذلك الشيطان ، وقيل : إنها باعت ذوائبها برغيفين ، حين لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أردا القيام ، فلهذا حلف ليضربنها ، وقيل غير ذلك.

قوله : (وَلا تَحْنَثْ) أي لا تقع في يمينك بحيث تلزمك كفارته ، وهذا الحكم من خصوصيات أيوب رفقا بزوجته ، وأما في شرعنا فلا يبر إلا بضرب المائة ، وضربه بأعواد مجتمعة لا يعد واحدة منها ، إلا إذا حصل منه ألم الضربة المنفردة. قوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) أي علمناه ، والمعنى أظهرنا صبره للناس. قوله : (أيوب) تفسير للمخصوص بالمدح.

قوله : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ) إلخ ، اذكر صبرهم على ما امتحنوا به. قوله : (أُولِي الْأَيْدِي) العامة على ثبوت الياء ، وهو جمع يد ، فكنى بذلك عن الأعمال ، لأن أكثر الأعمال إنما يزاول بها ، وقيل : المراد بالأيدي النعم ، وفسرها المفسر بالقوة في العبادة ، وكلها معان متقاربة ، وقرىء شذوذا بحذف الياء تخفيفا.

قوله : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية وعلو الرتبة بالعلم والعمل. قوله : (بِخالِصَةٍ) صفة لموصوف محذوف تقديره بخصلة خالصة. قوله : (هي) (ذِكْرَى الدَّارِ) جعلها المفسر

٣٤٨

لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) المختارين (الْأَخْيارِ) (٤٧) جمع خيّر بالتشديد (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) هو نبي واللام زائدة (وَذَا الْكِفْلِ) اختلف في نبوته ، قيل : كفل مائة نبي فروا إليه من القتل (وَكُلٌ) أي كلهم (مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨) جمع خير بالتثقيل (هذا ذِكْرٌ) لهم بالثناء الجميل هنا (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الشاملين لهم (لَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٩) مرجع في الآخرة (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل أو عطف بيان لحسن مآب (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠) منها (مُتَّكِئِينَ فِيها) على الأرائك (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) (٥١) (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) حابسات الأعين على أزواجهن (أَتْرابٌ) (٥٢) أسنانهن واحدة وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة جمع ترب (هذا) المذكور (ما تُوعَدُونَ) بالغيبة وبالخطاب التفاتا (لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥٣) أي لأجله (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤) أي انقطاع ، والجملة حال من رزقنا ، أو خبر ثان لأن ، أي دائما أو دائم (هذا) المذكور للمؤمنين (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) مستأنف

____________________________________

خبر المحذوف. قوله : (وفي قراءة) إلخ ، مقابل لما قدره المفسر ، وهما قراءتان سبعيتان ، فعلى القراءة الأولى يكون (ذِكْرَى) مرفوعا على اضمار مبتدأ ، وعلى الثاني يكون مجرورا بالإضافة ، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة ، والإضافة بيانية كما قال المفسر.

قوله : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ) فصل ذكره عن أبيه وأخيه ، للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بذكر مناقبهم. قوله : (وَالْيَسَعَ) هو ابن أخطوب بن العجوز ، استخلفه الياس على بني اسرائيل ، ثم نبأه الله عليهم كما تقدم. قوله : (اختلف في نبوته) روى الحاكم عن وهب ، أن الله بعث بعد أيوب ابنه بشرا وسماه ذا الكفل ، فهو بشر بن أيوب ، اختلف في نبوته ولقبه ، والصحيح أنه نبي ، وسمي ذا الكفل ، إما لما قاله المفسر ، أو لأنه تكفل بصيام النهار وقيام الليل ، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب ، فوفى بما التزم ، وتقدمت قصته في الأنبياء. قوله : (أي كلهم) أي المتقدمين من داود إلى هنا. قوله : (هذا ذِكْرٌ) جملة من مبتدأ وخبر ، قصد بها الفصل بين ما قبلها وما بعدها ، فهي للانتقال من غرض إلى آخر ، ففيها تخلص من قصة ، وكذا يقال في قوله هذا : وإن للطاغين إلخ. قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) إلخ ، شروع في بيان أجرهم الجزيل بعد ذكرهم الجميل. قوله : (الشاملين لهم) أي فالمتقين يشملهم وغيرهم. قوله : (مُفَتَّحَةً) حال من جنات عدن ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، و (الْأَبْوابُ) مرفوعة باسم المفعول ، وأل عوض عن الضمير.

قوله : (مُتَّكِئِينَ) حال من الهاء في لهم ، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي ، لأنه لا جوع فيها. قوله : (حابسات الأعين) أي لا ينظرن إلى غيرهم نظر شهوة وميل. قوله : (أسنانهن واحدة) أي فقد استوين في السن والجمال ، وقيل : (أَتْرابٌ) متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ولا يتحاسدن ، وكل صحيح. قوله : (لأجله) أي لأجل وقوعه فيه ، فوقوعه وانجازه فيه علة للوعد به في الدنيا. قوله : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا) من كلام الله تعالى ، والمعنى أن هذا أي ما ذكر من الجنات وأوصافها لرزقنا ، أي لهو الرزق الذي نتفضل به على عبادنا (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي انقطاع أبدا. قوله : (أي دائما) إلخ ، لف ونشر مرتب. قوله : (هذا) مبتدأ حذف خبره قدره بقوله : (المذكور) وهو تخلص من مآل المتقين لمآل المجرمين ، فهو بمنزلة أما بعد.

٣٤٩

(لَشَرَّ مَآبٍ) (٥٥) (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) (٥٦) الفراش (هذا) أي العذاب المفهوم مما بعده (فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) أي ماء حار محرق (وَغَسَّاقٌ) (٥٧) بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار (وَآخَرُ) بالجمع والإفراد (مِنْ شَكْلِهِ) أي مثل المذكور من الحميم والغساق (أَزْواجٌ) (٥٨) أصناف ، أي عذابهم من أنواع مختلفة ، ويقال لهم عند دخولهم النار بأتباعهم (هذا فَوْجٌ) جمع (مُقْتَحِمٌ) داخل (مَعَكُمْ) النار بشدة ، فيقول المتبوعون (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا سعة عليهم (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) (٥٩) (قالُوا) أي الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي الكفر (لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) (٦٠) لنا ولكم النار (قالُوا) أيضا (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) أي مثل عذابه على كفره (فِي النَّارِ) (٦١) (وَقالُوا) أي كفار مكة وهم في النار (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في الدنيا (مِنَ الْأَشْرارِ) (٦٢) (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) بضم

____________________________________

قوله : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) أي الكافرين. قوله : (لَشَرَّ مَآبٍ) مقابل قوله في حق المتقين (لَحُسْنَ مَآبٍ). قوله : (يَصْلَوْنَها) أي يكوون بها على سبيل التأبيد ، وهو لازم للدخول. قوله : (الفراش) أي الغطاء والوطاء. قوله : (هذا) مبتدأ ، و (حَمِيمٌ) و (غَسَّاقٌ) و (آخَرُ) خبره ، و (مِنْ شَكْلِهِ) صفة أولى لآخر ، و (أَزْواجٌ) صفة ثانية له ، وقوله : (فَلْيَذُوقُوهُ) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر ، وهذا أحسن ما يقال. قوله : (محرق) أي للإمعاء لقوله في الآية الأخرى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (من صديد) إلخ بيان لما ، كأنه قال : وهو صديد أهل النار الذي يسيل من جلودهم وفزوجهم. قوله : (بالجمع والإفراد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي مثل المذكور) أي في كونه حارا يقطع الامعاء. قوله : (من أنواع مختلفة) أي كالحيات والعقارب والضرب بالمطارق والزمهرير ، وغير ذلك من أنواع العذاب ، أجارنا الله منه. قوله : (ويقال لهم) أي من خزنة النار.

قوله : (مُقْتَحِمٌ) الاقتحام : الإلقاء في الشيء بشدة ، فإنهم يضربون بمقامع من حديد ، حتى يقتحموها بأنفسهم خوفا من تلك المقامع ، قوله : (فيقول المتبعون) أي جوابا للخزنة كأنهم يقولون : أنحسد على كثرة أتباعنا ، مع كوننا واياهم في النار؟ قوله : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) مفعول لفعل محذوف تقديره لا أتيتم مرحبا ، أي مكانا واسعا. قوله : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) هو من كلام الرؤساء ، أي إنهم صالوا النار كما صليناها. قوله : (قالُوا) أي الأتباع ، أي جوابا للرؤساء. قوله : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي أنتم أحق بما قلتم لنا ، فدأبهم أنه (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها). قوله : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي دللتمونا عليه ، بتزيين الأعمال السيئة لنا واغوائنا عليها. قوله : (النار) هذا هو المخصوص بالذم. قوله : (قالُوا) (أيضا) أشار بذلك إلى أن هذا من كلام. الأتباع. قوله : (أي مثل عذابه وكفره) أي وهو عذاب الدلالة على الكفر ، فإن الدال على الشر كفاعله. قوله : (أي كفار مكة) أي كأبي جهل وأبي بن خلف وغيرهما. قوله : (وهم في النار) الجملة حالية.

قوله : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) أي أي شيء ثبت لنا لا نبصر رجالا ، إلخ. قوله : (مِنَ الْأَشْرارِ) إنما سموهم أشرارا لأنهم خالفوا دينهم. قوله : (أَتَّخَذْناهُمْ) إما بوصل الهمز مكسورة ، أو قطعها

٣٥٠

السين وكسرها ، أي كنا نسخر بهم في الدنيا ، والياء للنسب ، أي أمفقودون هم؟ (أَمْ زاغَتْ) مالت (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦٣) فلم نرهم ، وهم فقراء المسلمين : كعمار وبلال وصهيب وسلمان (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) واجب وقوعه وهو (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤) كما تقدم (قُلْ) يا محمد لكفار مكة (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) مخوّف بالنار (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٦٥) لخلقه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ) الغالب على أمره (الْغَفَّارُ) (٦٦) لأوليائه (قُلْ) لهم (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (٦٧) (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٦٨) أي القرآن الذي أنبأتكم به وجئتكم فيه بما لا يعلم إلا بوحي وهو قوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) أي الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩) في شأن آدم

____________________________________

مفتوحة ، قراءتان سبعيتان ، فعلى الأولى تكون الجملة صفة لرجالا ، أي رجالا موصوفين بكوننا عددناهم من الأشرار ، وبكوننا نسخر بهم في الدنيا ، وعلى الثانية فالجملة استفهامية ، حذفت همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام عنها ، والمعنى : ما لنا لا نرى رجالا موصوفين ، بكوننا عددناهم من الأشرار أتخذناهم سخريا ، فهم مفقودون من النار ، أم زاغت عنهم الأبصار ، أي هم معنا في النار ، لكن زاغت أبصارنا عنهم فلم نرهم. قوله : (بضم السين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي كنا نسخر بهم) راجع لقراءة الوصل. قوله : (والياء للنسب) أي على كل من القراءتين.

قوله : (أَمْ زاغَتْ) على قراءة الوصل تكون (أَمْ) بمعنى بل ، وعلى قراءة القطع تكون معادلة للهمزة. قوله : (وهم فقراء المسلمين) تفسير لقوله : (رِجالاً). قوله : (وسلمان) المناسب اسقاطه ، لأن الكلام في أهل مكة ، وهو إنما أسلم في المدينة. قوله : (إِنَّ ذلِكَ) أي المحكي عنهم من أقوالهم وأحوالهم. قوله : (وهو) (تَخاصُمُ) أشار بذلك إلى أن (تَخاصُمُ) خبر لمحذوف ، والجملة بيان لاسم الإشارة قوله : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي لا ساحر ولا شاعر ولا كاهن ، واقتصر على الإنذار لأن كلامه مع الكفار ، وهم إنما يناسبهم الإنذار فقط ، وإن كان مبشرا أيضا. قوله : (الْواحِدُ) أي المعدوم المثيل في ذاته وصفاته وأفعاله ، وقد ذكر أوصافا خمسة ، كل واحد منها يدل على انفراده تعالى بالألوهية.

قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مالكهما. قوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) كرر الأمر إشارة إلى الاهتمام به. قوله : (أي القرآن) تفسير لهو. قوله : (بما يعلم) أي من القصص والأخبار وغيرهما. قوله : (وهو) أي ما لا يعلم إلا بوحي ، وفيه أن ما لا يعلم إلا بوحي ، وهو قوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إلخ ، لا قوله : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ) إلخ ، إلا أن يقال إنه ذكر توطئة وتمهيدا لما لا يعلم إلا بالوحي. قوله : (أي الملائكة) أي وابليس. قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) منصوب إما بعلم أو بمحذوف ، والتقدير : ما كان لي من علم بالملأ الأعلى وقت اختصامهم ، أو ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. قوله : (إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِلَّا) أداة حصر ، وإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل يوحى ، والتقدير : ما يوحى إلي إلا كوني نذيرا مبينا ، والحصر فيه وفي قوله : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) اضافي ، والمعنى لا ساحر ولا كذاب كما زعمتم.

قوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (اذكر) ويصح أن يكون بدلا من قوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) إن حمل الاختصام على ما حصل في شأن آدم فقط ، وأما إن جعل عاما ، فلا

٣٥١

حين قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الخ (إِنْ) ما (يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا) أي أني (نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠) بيّن الإنذار اذكر (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٧١) هو آدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممته (وَنَفَخْتُ) أجريت (فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار حيا ، وإضافة الروح إليه تشريف لآدم ، والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢) سجود تحية بالانحناء (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٧٣) فيه تأكيدان (إِلَّا إِبْلِيسَ) هو أبو الجن كان بين الملائكة (اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤) في علم الله تعالى (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي توليت خلقه ، وهذا تشريف لآدم ، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه (أَسْتَكْبَرْتَ) الآن عن السجود ، استفهام توبيخ (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٧٥) المتكبرين فتكبرت عن السجود لكونك منهم (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧٦) (قالَ فَاخْرُجْ

____________________________________

يصح جعله بدلا منه ، بل ظرف لمحذوف. قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) أي انسانا ظاهر البشر أي الجلد ، ليس على جلده صوف ولا شعر ولا وبر ولا ريش ولا قشر. قوله : (أجريت) (فِيهِ مِنْ رُوحِي) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالنفخ حقيقته لاستحالته على الله تعالى ، وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها. قوله : (والروح جسم لطيف) إلخ ، هذا هو قول جمهور المتكلمين وهو الأصح ، وقيل : إن الروح عرض ، وهي الحياة التي صار الجسم بها حيا ، وقيل : إنها ليست بجسم ولا عرض ، بل هي جوهر مجرد قائم بنفسه ، له تعلق بالبدن للتدبير والتحريك ، غير داخل فيه ولا خارج عنه ، وهو قول بعض الفلاسفة. قوله : (بنفوذه فيه) أي سريانه فيه ؛ كسريان الماء في العود الأخضر. قوله : (فَقَعُوا) الفاء واقعة في جواب إذا. قوله : (سجود تحية بالانحناء) جواب عما يقال : كيف جاز السجود لغير الله تعالى؟ وتقدم قول بأنه كان سجودا حقيقة بالجباه. وتقدم الجواب عنه ، بأن محل كون السجود لغير الله غير جائز ، ما لم يأمر به المولى تعالى ، أو يقال : إن السجود لله تعالى ، وآدم جعل كالقبلة.

قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) إلخ ، قيل : أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون ، وكان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر ، وقيل مائة سنة ، وقيل خمسمائة سنة. قوله : (فيه تأكيدان) أي فكل منهما يفيد ما أفاد الآخر ، وقيل : إن كل للإحاطة ، و (أَجْمَعُونَ) للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم ، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات. قوله : (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع وهو الحق ، وتقدم تحقيق ذلك. قوله : (في علم الله) أي أن الله تعالى علم في الأزل أنه يكفر فيما لا يزال ، وكان مسلما عابدا ، طاف بالبيت أربعة عشرة ألف عام ، وعبد الله ثمانين ألف عام. قوله : (أي توليت خلقه) أي بذاتي من غير واسطة أب وأم ، وتثنية اليد إظهارا لكمال الاعتناء بخلقه عليه‌السلام. قوله : (أَسْتَكْبَرْتَ) (الآن) إلخ ، أشار المفسر إلى جواب سؤال وارد وهو أن قوله : (مِنَ الْعالِينَ) معناه المتكبرين ، فيلزم عليه التكرار ، فأجاب : بأن المعنى أتركت السجود لاستكبارك الحادث ، أم لاستكبارك القديم.

قوله : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) هذا جواب من إبليس لم يطابق الاستفهام السابق ، لأنه أجاب بأنه إنما

٣٥٢

مِنْها) أي من الجنة وقيل من السماوات (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٧٧) مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٧٨) الجزاء (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٧٩) أي الناس (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٨٠) (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) وقت النفخة الأولى (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٢) (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) أي المؤمنين (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (٨٤) بنصبهما ورفع الأول ونصب الثاني فنصبه بالفعل بعده ونصب الأول ، قيل : بالفعل المذكور ،

____________________________________

ترك السجود ، لكونه خيرا منه ، وبين ذلك بأن أصله من النار ، وأصل آدم من الطين ، والنار أشرف من الطين ، لكون النار نورانية ، والطين من الأرض وهي ظلمانية ، والنوراني أشرف من الظلماني ، وهذه شبهته ، وقد أخطأ فيها ، لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به ، والطين أصل لكل نام نابت ، كالإنسان والشجرة ، ومن المعلوم أن الإنسان والشجرة خير من الرماد ، وزيادة على ذلك ، أن النوع الإنساني تشرف بأمور : الأول من جهة الفاعل المشار إليه بقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) والثاني من جهة الصورة المشار إليها بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ومن جهة الغاية المشار إليها بقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ ولم يحصل ذلك غير النوع الإنساني ، فدل على أفضليته. قوله : (أي من الجنة) إلخ ، هذا الخلاف مبني على الخلاف الواقع في أمر الملائكة بالسجود لآدم ، هل كان بعد دخوله الجنة أو قبله؟ فقوله : (أي من الجنة) مبني على الأول ، وقوله : (أو من السماوات) مبني على الثاني ، وقيل : المعنى اخرج من الخلقة التي كنت عليها أولا ، لما ورد : أن ابليس كان يفتخر بخلقته ، فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض ، وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نورانيا ، وروي أن ابليس كان رئيسا على اثني عشر ألف ملك ، وكان له جناحان من زمرد أخضر ، فلما طرد غيرت صورته ، وجعله الله معكوسا على مثال الخنازير ، ووجهه كالقردة ، وهو شيخ أعور ، وفي لحيته سبع شعرات مثل شعر الفرس ، وعيناه مشقوقتان في طول وجهه ، وأنيابه خارجة كأنياب الخنازير ، ورأسه كرأس البعير ، وصدره كسنام الجمل الكبير ، وشفتاه كشفتي الثور ، ومنخراه مفتوحتان مثل كوز الحجام. قوله : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) إلخ ، فإن قلت : إذا كان الرجم بمعنى الطرد ، فاللعنة بمعناه ولزم التكرار. أجيب : بأن الرجم الطرد من الجنة أو السماء ، واللعنة والطرد من الرحمة وهو أبلغ.

قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) ذكرها هنا بالإضافة وفي غيرها بالتعريف تفننا. قوله : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) فإن قلت : كلمة (إِلى) لانتهاء الغاية ، فتقتضي انقضاء اللعنة عند مجيء يوم الدين ، مع أنها لا تنقطع. أجيب : أن اللعنة قبل يوم الدين من الله وعيد بخلوده في العذاب ، ومن العبيد طلب ذلك ، وفي يوم الدين تحقق الوعيد والمطلوب. قوله : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني وأخرني ، والفاء متعلقة بمحذوف تقديرها إذ جعلتني رجيما فأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون ، أي آدم وذريته ، وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ، ويأخذ منهم ثأره ، وينجو من من الموت بالكلية ، إذ لا موت بعد البعث. فأجابه الله تعالى بالإمهال مدة الدنيا لأجل الإغواء ، لا بالنجاة من الموت.

قوله : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) الباء للقسم ، ولا ينافيه قوله تعالى في الآية الأخرى (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) فإن إغواء الله تعالى له من آثار عزته التي أقسم بها هنا. قوله : (بنصبهما ورفع الأول) إلخ ، أي فالقراءتان

٣٥٣

وقيل : على المصدر ، أي أحق الحق ، وقيل : على نزع حرف القسم ورفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي فالحق مني ، وقيل : فالحق قسمي ، وجواب القسم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) بذريتك (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي الناس (أَجْمَعِينَ) (٨٥) (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) جعل (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦) المتقوّلين القرآن من تلقاء نفسي (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) عظة (لِلْعالَمِينَ) (٨٧) للإنس والجن والعقلاء دون الملائكة (وَلَتَعْلَمُنَ) يا كفار مكة (نَبَأَهُ) خبر صدقه (بَعْدَ حِينٍ) (٨٨) أي يوم القيامة ، وعلم بمعنى عرف ، واللام قبلها لام قسم مقدر أي والله.

____________________________________

سبعيتان. قوله : (وجواب القسم) أي المذكور في بعض الأعاريب المتقدمة أو المحذوفة. قوله : (أَجْمَعِينَ) توكيد للضمير في (مِنْكَ) وما عطف عليه. قوله : (دون الملائكة) إنما أخرجهم من العالمين ، وإن كان لفظ العالمين يشملهم لأجل قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) والذكر معناه الموعظة والتخويف ، وهو لا يناسب إلا الإنس والجن. قوله : (خبر صدقه) أي من ذكره الوعد والوعيد. قوله : (أي يوم القيامة) تفسير ل (بَعْدَ حِينٍ) والحين مدة الدنيا ، وقال ابن عباس : بعد الموت ، وقيل من طال عمره علم ذلك (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). قوله : (بمعنى عرف) أي فهو متعد لمفعول واحد وهو نبأه ، وقيل : إن علم على بابها فتنصب مفعولين ، والثاني قوله : (بَعْدَ حِينٍ).

٣٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّمر

مكيّة

إلا (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية مدنية وهي خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ) القرآن مبتدأ (مِنَ اللهِ) خبره (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَكِيمِ) (١) في صنعه (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ بِالْحَقِ) متعلق بأنزل (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢) من الشرك أي موحدا له (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) لا يستحقه غيره

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزمر

مكية إلا (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية مدنية

وهي خمس وسبعون آية

سميت بذلك لذكر لفظ الزمر فيها في قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) وسيأتي أن الزمر جمع زمرة وهي الطائفة ، وتسمى أيضا سورة الغرف ، لذكر الغرف فيها ، قال تعالى : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) وروي من أراد أن يعرف قضاء الله في خلقه ، فليقرأ في سورة الغرف ، وورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني اسرائيل. قوله : (إلا قل يا عبادي) إلخ ، أي فإنها نزلت في وحشي قاتل حمزة عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه اسلم بالمدينة ، وظاهره أنها آية واحدة ، وقيل : إن الذي نزل بالمدينة سبع آيات ، هذه الآية وست بعدها ، وقيل : إنهما آيتان ، هذه الآية ، وقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ، فتحصل أن فيها ثلاثة أقوال : قيل مكية إلا آية ، وقيل إلا آيتين ، وقيل ألا سبعا. قوله : (وهي خمس وسبعون) وقيل : اثنتان وسبعون.

قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) أي انزال القرآن كائن وحاصل من الله لا من غيره ، نزل ردا لقول المشركين (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ولقولهم (إن به جنة). قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا) إلخ ، شروع في بيان تشريف المنزل عليه ، إثر بيان شأن المنزل ، من حيث كونه من عند الله. قوله : (الْكِتابَ) هو عين الكتاب الأول ، لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عينا. قوله : (متعلق بأنزل) أي والباء سببية ، والمعنى : بسبب الحق الذي أنت عليه واثباته واظهاره. قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ) تفريع على قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إلخ ، والخطاب له ، والمراد ما يشمل جمع أمته. قوله : (مُخْلِصاً) حال من فاعل اعبد ، و (الدِّينَ) مفعول لاسم فاعل. قوله : (أي موحدا له) أي مفردا له بالعبادة والإخلاص ، بأن لا تقصد بعملك ونيتك غير ربك. قوله : (أَلا لِلَّهِ

٣٥٥

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) الأصنام (أَوْلِياءَ) وهم كفار مكة قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) قربى مصدر بمعنى تقريبا (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وبين المسلمين (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ، فيدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في نسبة الولد إليه (كَفَّارٌ) (٣) بعبادته غير الله (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما قالوا : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) واتخذه ولدا ، غير من قالوا : الملائكة بنات الله ، وعزير ابن الله ، والمسيح ابن الله (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن اتخاذ الولد (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) لخلقه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) متعلق بخلق (يُكَوِّرُ) يدخل (اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) فيزيد (وَيُكَوِّرُ

____________________________________

الدِّينَ) إلخ ، (أَلا) أداة استفتاح ، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص.

قوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) إلخ ، اسم الموصول مبتدأ ، (اتَّخَذُوا) صلته ، والخبر محذوف قدره المفسر بقوله : (قالوا) وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) إلخ ، مقول لذلك القول ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) إلخ ، استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما ذا يحصل لهم؟ وهذا هو الأحسن ، وقيل : إن خبر المبتدأ وهو قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ) إلخ ، وقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) حال من فاعل (اتَّخَذُوا) على تقدير القول ، أي قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ) الخ. قوله : (الأصنام) قدره اشارة إلى أن (اتَّخَذُوا) تنصب مفعولين ، الأول محذوف. قوله : (وهم كفار مكة) تفسير للموصول. قوله : (قالوا) (ما نَعْبُدُهُمْ) إلخ ، أي فكانوا إذا قيل لهم : من خلقكم ، ومن خلق السماوات والأرض ، ومن ربكم؟ فيقولون : الله ، فيقال لهم : وما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون لتقربنا إلى الله زلفى ، تشفع لنا عنده. قوله : (مصدر) أي مؤكد ملاق لعامله في المعنى ، والتقدير ليزلفونا زلفى ، أو ليقربونا قربى ، قوله : (وبين المسلمين) أشار بذلك إلى أن المقابل محذوف. قوله : (فيدخل المؤمنين الجنة) أي فالمراد بالحكم تمييز كل فريق عن الآخر. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) أي لا يوفق للهدي من هو كاذب كفار ، أي مجبول على الكذب والكفر في علمه تعالى. قوله : (في نسبة الولد إليه) أشار بذلك إلى أن قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلخ ، توطئة لقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ) إلخ ، ويصح أن يكون من تتمة ما قبله ، وحينئذ فيقال كاذب في نسبة الألوهية لغيره تعالى.

قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي لو تعلقت ارادته باتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير ، والآية اشارة إلى قياس استثنائي حذفت صغراه ، ونتيجته وتقريره أن يقال : لو أراد الله أن يتخذ ولدا ، لاصطفى مما يخلق ما يشاء ، لكنه لم يصطف من خلقه شيئا ، فلم يرد أن يتخذ ولدا. قوله : (غير من قالوا) أي غير المخلوق الذي قالوا في شأنه انه ابن الله. قوله : (تنزيها عن اتخاذ الولد) أي لأنه امتنع عقلا ونقلا ، أما عقلا فلأنه يلزم أن يكون الولد من جنس خالقه ، وكونه جنسا منه ، يستلزم حدوث الخالق وهو باطل ، وأما نقلا فقد تواترت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والكتب السماوية ، على أن الله تعالى لم يتخذ ولدا.

قوله : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) هذا بيان لتنزه في الصفات ، اثر بيان تنزهه في الذات ، لأن الوحدة تنافي المماثلة فضلا عن الولد ، والقهارية تنافي قبول الزوال المحوج إلى الولد ، وإلا لكان مقهورا ، تعالى الله عن ذلك. قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تفصيل لبعض أفعاله الدالة على انفراده بالألوهية ،

٣٥٦

النَّهارِ) يدخله (عَلَى اللَّيْلِ) فيزيد (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي) في فلكه (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ليوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره ، المنتقم من أعدائه (الْغَفَّارُ) (٥) لأوليائه (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) حواء (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم والضأن والمعز (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) من كلّ زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي نطفا ثم علقا ثم مضغا (فِي ظُلُماتٍ

____________________________________

واتصافه بالصفات الجليلة. قوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ) من التكوير ، وهو في الأصل اللف واللّي ، يقال كور العمامة على رأسه ، أي لفها ولواها ، ثم استعمل في الإدخال والإغشاء ، فكان الليل يغشى النهار ، والنهار يغشى الليل. قوله : (فيزيد) تقدم أن منتهى الزيادة أربع عشرة ساعة ، ومنتهى النقص عشر ساعات ، فالزيادة أربع ساعات ، تارة تكون في الليل ، وتارة تكون في النهار. قوله : (ليوم القيامة) أي ثم ينقطع جريانه لانتقال العالم من الدنيا ، فإن تسخير الشمس والقمر ، إنما كان في الدنيا لمصالح العالم ، فلما انتقل العالم ، فقد فرغت مصالحه. قوله : (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) إنما صدرت الجملة بحرف التنبيه ، للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها ، كأنه قال : تنبهوا يا عبادي ، فإني الغالب على أمري ، الستار لذنوب خلقي ، فلا تشركوا بي شيئا وأخلصوا عبادتكم لي.

قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هذا من جملة أدلة توحيده وانفراده بالعزة والقهر ، وجميع صفات الألوهية. قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) إن قلت : إن (ثُمَ) للترتيب ، فيقتضي أن خلق الذرية قبل خلق حواء ، هو خلاف المعروف المشاهد. وأجيب بثلاثة أجوبة ، الأول ، أن (ثُمَ) لمجرد الإخبار ، لا لترتيب الإيجاد. الثاني : أن المعطوف متعلق بمعنى واحدة ، و (ثُمَ) عاطفة عليه ، كأنه قال : خلقكم من نفس كانت متوحدة لم يخلق نظيرها ، ثم شفعت بزوج. الثالث : أن معنى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أخرجكم منها يوم أخذ الميثاق في دفعة واحدة ، لأن الله تعالى خلق آدم ، وأؤدع في صلبه أولاده كالذر ، ثم أخرجهم وأخذ عليهم الميثاق ، ثم ردهم إلى ظهره ، ثم خلق منهم حواء.

قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) إلخ إنما عبر عنها بالنزول ، لأنها تكونت بالنبات ، وهو غذاء لها ، والنبات بالماء المنزل ، فهو يسمى عندهم بالتدريج ، ومنه قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) الآية ، وقيل : إن الإنزال حقيقة لما روي أن الله خلق الأنعام في الجنة ، ثم أنزلها في الأرض ، كما قيل في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) فإن آدم لما هبط إلى الأرض نزل معه الحديد. قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) الزوج ما معه آخر من جنسه ، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر. قوله : (كما بين في سورة الأنعام) أي في قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الآيات.

قوله : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) هذا بيان لكيفية الخلق الدالة على باهر قدرته تعالى. قوله : (خَلْقاً) مصدر ليخلقكم ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) صفة لخلقا. قوله : (أي نطفا) إلخ ، فيه قصور ، وعكس ترتيب الإيجاد ، فالمناسب أن يقول : أي حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. قوله : (فِي ظُلُماتٍ) بدل اشتمال من بطون أمهاتكم بإعادة الجار ، ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه المصدر ، لأنه من تتمة العامل فليس

٣٥٧

ثَلاثٍ) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦) عن عبادته إلى عبادة غيره (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وإن أراده من بعضهم (وَإِنْ تَشْكُرُوا) الله فتؤمنوا (يَرْضَهُ لَكُمْ) بسكون الهاء وضمها مع إشباع ودونه أي الشكر (لَكُمْ وَلا تَزِرُ) نفس (وازِرَةٌ وِزْرَ) نفس (أُخْرى) أي لا تحمله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) بما في القلوب (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) أي الكافر (ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ) تضرع (مُنِيباً) راجعا (إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً) أعطاه

____________________________________

بأجنبي. قوله : (وظلمة المشيمة) أي فهي داخل الرحم ، وهو داخل البطن ، و (المشيمة) بوزن كريمة ، وأصلها مشيمة بسكون الشين وكسر الياء ، نقلت كسرة الياء إلى الساكن قبلها ، وهي غشاء ولد الإنسان ، ويقال لها الغلاف والكيس ، ويقال لها من غير ولد الإنسان السلا.

قوله : (ذلِكُمُ) مبتدأ ، و (اللهُ رَبُّكُمْ) خبران له وجملة (لَهُ الْمُلْكُ) خبر ثالث. قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مستأنفة نتيجة ما قبله ، أي فحيث ثبت أنه ربنا وله الملك ، نتج منه لا إله إلا هو. قوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي تمنعون. قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي له الغنى المطلق ، فلا يفتقر إلى ما سواه. قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يفعل فعل الراضي ، بأن يثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط ، بأن ينهى عنه ، ويعاقب فاعله ويذمه عليه. قوله : (وإن أراده من بعضهم) أشار بهذا إلى أنه لا تلازم بين الرضا والإرادة ، بل قد يرضى ولا يريد ، وقد يريد ولا يرضى ، وإنما التلازم بين الأمر والرضا ، خلافا للمعتزلة القائلين بالتلازم بين الرضا والإرادة ، وبنوا على ذلك أمورا فاسدة ، ومن هنا قال العلماء : إن الأمور أربعة : تارة يأمر ويريد وهو الإيمان من المؤمنين ، وتارة لا يأمر ولا يريد وهو الكفر منهم ، وتارة يأمر ولا يريد وهو الإيمان من الكفار ، وتارة يريد ولا يأمر وهو الكفر من الكفار. وحكي أن رجلا من المعتزلة ، تناظر مع رجل من أهل السنة ، فقال المعتزلي : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال السني : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، فقال المعتزلي : أيريد ربك أن يعصى؟ فقال السني : أيعصى ربنا قهرا؟ فقال المعتزلي : أرأيت إن منعني الهدى ، وحكم عليّ بالردى ، أحسن إلي أم أساء؟ فقال : إن منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن منعك ما هو له ، فالمالك يفعل في ملكه كيف يشاء ، فبهت المعتزلي. قوله : (يَرْضَهُ لَكُمْ) أي لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين ، لا لانتفاعه به ، تعالى الله عن ذلك. قوله : (بسكون الهاء) إلخ ، أي فالقراءات ثلاث سبعيات.

قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل شخص إثم كفر شخص آخر ، وما ورد من أن الدال على الشر كفاعله ، فمعناه أن عليه إثم فعله وإثم دلالته ، ولا شك أن دلالته من فعله ، فآل الأمر إلى عقابه على فعله ، لا على فعل غيره ، وقوله : (وازِرَةٌ) أي وأما غير الوازرة فتحمل وزر غيرها ، بمعنى أن من كان ناجيا ، وأذن له في الشفاعة يشفع في غيره ، فينتفع المشفوع له بتلك الشفاعة إن كان مسلما ، وأما الكافر فلا ينتفع بشفاعة مسلم ولا كافر. قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) علة لقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يخبركم بأعمالكم ، لأنه عليم بما في القلوب ، فضلا عن غيرها. قوله : (أي الكافر) أشار بهذا إلى أن أل في الإنسان للعهد. قوله : (ضُرٌّ) المراد به جميع المكاره ، كانت في نفسه أو ماله أو أهله. قوله : (مُنِيباً إِلَيْهِ) أي تاركا عبادة الأصنام ، لعلمه بأنها لا تقدر على كشف ما نزل به. قوله :

٣٥٨

إنعاما (مِنْهُ نَسِيَ) ترك (ما كانَ يَدْعُوا) يتضرع (إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) وهو الله ، فما في موضع من (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء (لِيُضِلَ) بفتح الياء وضمها (عَنْ سَبِيلِهِ) دين الإسلام (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) بقية أجلك (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨) (أَمَّنْ) بتخفيف الميم (هُوَ قانِتٌ) قائم بوظائف الطاعات (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته (ساجِداً وَقائِماً) في الصلاة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي يخاف عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ) جنة (رَبِّهِ) كمن هو عاص بالكفر أو غيره ، وفي قراءة أم من ، فأم بمعنى بل والهمزة (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يستويان ، كما لا يستوي العالم والجاهل (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩) أصحاب العقول (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي عذابه بأن تطيعوه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) بالطاعة

____________________________________

(أعطاه إنعاما) أي اعطاء على سبيل الإنعام والإحسان ، فإنعاما مفعول لأجله ، لأن التحويل هو اعطاء النعم على سبيل التفضل والإحسان من غير مقتض لها. قوله : (وهو الله) أشار بذلك إلى أن (ما) موصولة ، بمعنى الذي مرادا بها الله تعالى ، ويصح أن يراد بها الضر ، والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو لكشفه ، ويصح أن يكون (ما) مصدرية ، والمعنى نسي كونه داعيا من قبل تخويل النعمة ، والأظهر ما قاله المفسر. قوله : (لِيُضِلَ) اللام للعاقبة والصيرورة. قوله : (بفتح الياء وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) الأمر للتهديد ، وفيه إشعار بقنوطه من التمتع في الآخرة. قوله : (بقية أجلك) أشار بذلك إلى أن (قَلِيلاً) صفة لموصوف محذوف ، أي زمانا قليلا. قوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي ملازمها ومعدود من أهلها على الدوام. قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) هذا من تمام الكلام المأمور بقوله ، وحينئذ فالمعنى قل للكافر (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) إلخ. قوله : (بتخفيف الميم) أي والهمزة للاستفهام الأنكاري و (من) موصولة مبتدأ ، خبره محذوف قدره بقوله : (كمن هو عاص). قوله : (آناءَ اللَّيْلِ) جمع إنى بالكسر والقصر ، كمعى وامعاء. قوله : (ساعاته) أي أوله وأوسطه وآخره ، وفي الآية دليل على أفضلية قيام الليل على النهار ، لما في الحديث : «ما زال جبريل يوصيني بقيام الليل حتى علمت أن خيار أمتي لا ينامون». قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في ظلمة الليل. قوله : (وفي قراءة أمن) أي بالتشديد ، وعليها فأم داخلة على من الموصولة ، فأدغمت الميم في الميم ، وترسم على هذه القراءة ميما واحدة متصلة بالنون كقراءة التخفيف ، اتباعا لرسم المصحف والإعراب على كل من القراءتين واحد لا يتغير ، وقوله : (بمعنى بل) أي التي للإضراب الانتقالي ، وقوله (والهمزة) أي التي للاستفهام الإنكاري ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أي وهم المؤمنون بربهم ، وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي وهم الكفار. قوله : (أي لا يستويان) أشار به إلى أن الاستفهام انكاري بمعنى النفي. قوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب القلوب الصافية والآراء السديدة ، وخصهم لأنهم المنتفعون بالتذكر.

قوله : (قُلْ يا عِبادِ) إلخ ، أمر الله سبحانه وتعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوامر لنفسه ولأمته ، زيادة في الحث لهم على التجرد لطاعة الله تعالى ، واجتناب الشكوك والأوهام. قوله : (بأن تطيعوه) أي تتمثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه ، وهو تفسير للتقوى التي هي جعل العبد بينه وبين العذاب وقاية. قوله : (لِلَّذِينَ) خبر

٣٥٩

(حَسَنَةٌ) هى الجنة (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فهاجروا إليها من بين الكفار ومشاهدة المنكرات (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) عن الطاعة وما يبتلون به (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠) بغير مكيال ولا ميزان (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (١١) من الشرك (وَأُمِرْتُ لِأَنْ) أي بأن (أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢) من هذه الأمة (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣) (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤) من الشرك (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) غيره ؛ فيه تهديد لهم وإيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بتخليد

____________________________________

مقدم و (أَحْسَنُوا) صلته ، و (فِي هذِهِ الدُّنْيا) متعلق بأحسنوا ، (حَسَنَةٌ) مبتدأ مؤخر. قوله : (هي الجنة) أي بجميع ما فيها من النعيم المقيم ، فهي بمعنى قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ).

قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) جملة من مبتدأ وخبر ، وهي حالية. قوله : (فهاجروا إليها) إلخ ، أشار بذلك إلى أن المراد بالأرض أرض الدنيا ، والمعنى : من تعسرت عليه التقوى في محل ، فليهاجر إلى محل آخر يتمكن فيه من ذلك ، إذ لا عذر في التفريط أصلا ، وكانت الهجرة قبل فتح مكة شرطا في صحة الإسلام ، فلما فتحت مكة نسخ كونه شرطا ، وصارت تعتريها الأحكام ، فتارة تكون واجبة ، كما إذ هاجر من أرض لا يتيسر له فيها اقامة دينه ، لأرض يتعلم فيها دينه ويقيم شعائره ، وتارة تكون مندوبة ، كما إذا هاجر من أرض لا أخيار بها ، لأرض بها أخيار ، يجتمع عليهم للإرشاد ، وتكون مكروهة ، كما إذا هاجر من أرض بها الأخيار وأهل العلم والصلاح ، لأرض لا أخيار بها ولا علم ولا عمل ، وتارة تكون محرمة ، كما إذا هاجر من أرض يأمن فيها على دينه ، لأرض لا يأمن فيها عليه.

قوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) هذا ترغيب في التقوى المأمور بها. قوله : (على الطاعات) أي أو عن المعاصي. قوله : (وما يبتلون) أي ومن جملته مفارقة الوطن المأمور بها في قوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ). قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي لما ورد : «تنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج ؛ فيوفون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء ، بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا ، أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل».

قوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) إلخ ، الحكمة في هذا الأخبار ، اعلام الأمة بأن يتصفوا به ويلزموه ، فإن العادة أن المتصف بخلق ، ثم يأمر به ، أو يعرض بالأمر به ويؤثر في غيره كما قيل : حال رجل في ألف رجل ، أنفع من حال ألف رجل في رجل. قوله : (من هذه الأمة) جواب عما يقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس أول المسلمين مطلقا ، فأجاب : بأن الأولية بحسب سبق الدعوة. قوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ) سبب نزولها : أن كفار قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها؟ فنزلت ، فالمقصود منها زجر الغير عن المعاصي ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان خائفا مع كمال طهارته وعصمته ، فغيره أولى ، وذلك سنة الأنبياء والصالحين ، حيث يخبرون غيرهم بما هم متصفون به ليكونوا مثلهم ، لا الملوك والمتجبرين ، حيث يأمرون غيرهم بما لم يتصفوا به. قوله : (فيه تهديد لهم) أي من حيث الأمر. قوله : (وإيذان) أي اعلام.

قوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا) خبر (إِنَ). قوله : (وَأَهْلِيهِمْ) أي أزواجهم وخدمهم يوم القيامة ، لما

٣٦٠