حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

شكله من السفن الصغار والكبار بتعليم الله تعالى (ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) فيه (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) مع إيجاد السفن (فَلا صَرِيخَ) مغيث (لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) (٤٣) ينجون (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤) أي لا ينجيهم إلا رحمتنا لهم وتمتيعنا إياهم بلذاتهم إلى انقضاء آجالهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من عذاب الدنيا كغيرهم (وَما خَلْفَكُمْ) من عذاب الآخرة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٥) أعرضوا (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤٦) (وَإِذا قِيلَ) أي قال فقراء الصحابة (لَهُمْ أَنْفِقُوا) علينا (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الأموال (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) استهزاء بهم (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) في معتقدكم هذا (إِنْ) ما (أَنْتُمْ) في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧) بيّن ، وللتصريح بكفرهم

____________________________________

قوله : (مِنْ مِثْلِهِ مِنْ) إما زائدة أو تبعيضية ، وعلى كل فمدخولها حال من قوله : (ما يَرْكَبُونَ). قوله : (وهو ما عملوه) هذا أحد أقوال ثلاثة في تفسير المثل ، الثاني : إنه خصوص الإبل ، والثالث : إنه مطلق الدواب التي تركب. قوله : (بتعليم الله) دفع بهذا ما يقال : عادة الله تعالى اضافة صفة العبيد لأنفسهم ، وإن كان هو الخالق لها حقيقة ، فلم أضافها لنفسه؟ فأجاب : بأن التعليم والهداية لما كانتا منه ، أضاف الخلق له ، لأن سفينة نوح التي هي أصل السفن ، كانت بمحض تعليم الله وإلهامه له. قوله : (مع ايجاد السفن) أي ومع ركوبهم لها. قوله : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) الصريخ بمعنى الصارخ ، يطلق على المستغيث وعلى المغيث ، فهو من تسمية الأضداد ، والمراد الثاني.

قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا إِلَّا) أداة استثناء ، و (رَحْمَةً) مفعول لأجله ، وهو استثناء مفرغ من عموم الأحوال ، والمعنى : لا ننجيهم لشيء من الأشياء ، إلا لأجل رحمتنا بهم وتمتيعهم الأمد الذي سبق في علمنا. قوله : (كغيركم) أي وهم المؤمنون. قوله : (من عذاب الآخرة) أشار بذلك إلى أن لفظ الخلف ، كما يطلق على ما مضى ، يطلق على ما يأتي ، فهو من تسمية الأضداد ، وسمى ما يأتي خلفا لغيبته عنا. قوله : (أعرضوا) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف ، دل عليه قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) إلخ. قوله : (مِنْ آيَةٍ مِنْ) زائدة ، وقوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مِنْ) تبعيضية. قوله : (إِلَّا كانُوا) إلخ ، الجملة حالية.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) إلخ. أشار بذلك إلى أنهم كما تركوا حقوق الخالق ، وهذه الآية نزلت حكاية عن بعض جبابرة مكة ، كالعاص بن وائل السهمي وغيره ، كان إذا سأله المسكين قال له : اذهب إلى ربك فهو أولى مني بك ، قد منعك الله ، أفأطعمك أنا؟ وقد تمسك بهذا بعض بخلاء المسلمين حيث يقولون : لا نعطي من حرمه الله ، ولم يعلموا أن الفقراء يحملون زاد الأغنياء للآخرة ، ولو لا الفقراء ما انتفع الغني بغناه.

قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالصانع ، أن ينكرون وجوده ، وهم فرقة من جبابرة مكة. قوله : (مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) مفعول (أَنُطْعِمُ) وقوله : (أَطْعَمَهُ) جواب (لَوْ). قوله : (في معتقدكم) أي أيها الفقراء المؤمنون ، لا في معتقد الكفار الأغنياء ، فإنهم ينكرون الصانع كما علمت. قوله : (في قولكم لنا ذلك) أشار بذلك إلى أن هذا من كلام الكفار للمؤمنين. ويؤيده ما روي : أن أبا بكر الصديق رضي

٣٠١

موقع عظيم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) بالبعث (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٨) فيه ، قال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي نفخة إسرافيل الأولى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٤٩) بالتشديد أصله يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت في الصاد أي وهم في غفلة عنها بتخاصم وتبايع وأكل وشرب وغير ذلك ، وفي قراءة يخصمون كيضربون أي يخصم بعضهم بعضا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي أن يوصوا (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠) من أسواقهم وأشغالهم بل يموتون فيها (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هو قرن النفخة الثانية للبعث ، وبين النفختين أربعون سنة (فَإِذا هُمْ) أي المقبورون (مِنَ الْأَجْداثِ) القبور (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٥١) يخرجون بسرعة (قالُوا) أي الكفار منهم (يا) للتنبيه (يا وَيْلَنا) هلاكنا وهو مصدر

____________________________________

الله عنه ، كان يطعم مساكين المسلمين ، فلقيه أبو جهل فقال : يا أبا بكر ، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال : نعم ، قال : فما باله لم يطعمهم؟ قال : ابتلى قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصوم ، والأغنياء بالإعطاء ، فقال أبو جهل : والله يا أبا بكر ، إن أنت إلا في ضلال ، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ، وهو لا يطعمهم ، ثم تطعمهم أنت؟ وقيل : إنه من كلام المؤمنين للكفار ، وقيل : من كلام الله تعالى ردا عليهم. قوله : (موقع عظيم) أي وهو التبكيت والتقبيح عليهم.

قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) رجوع للكلام مع الكفار المعترفين بوجوده تعالى قوله : (أي ما ينتظرون) هذا مجاراة لأول كلامهم ، لأن شأن من يسأل عن الشيء ، أن يكون معترفا بوجوده ، وإلا فهم جازمون بعدمها. قوله : (الأولى) أي وهي التي يموت عندها من كان موجودا على وجه الأرض. قوله : (نقلت حركة التاء إلى الخاء) أي بتمامها أو بعضها ، فهما قراءتان. قوله : (وأدغمت) أي بعد قلبها صادا ، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بتحريك الخاء ، وقوله : (وفي قراءة) إلخ ، تلخص من كلامه أن القراءات هنا ثلاث ، وبقي رابعة وهي فتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة ، وعلى هذه القراءة ، فحركة الخاء ليست حركة نقل ، وإنما هي لما حذفت حركة التاء صارت ساكنة ، فالتقت ساكنة مع الخاء ، فحركت الخاء بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين ، وكل تلك القراءات سبعية. قوله : (أي وهم في غفلة عنها) أشار بهذا ، إلى أن المراد من الاختصام لازمه ، وهو الغفلة التي ينشأ عنها الاختصام وغيره ، وفي الحديث : «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمها ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» أخرجه البخاري. قوله : (أي يخصم بعضهم بعضا) بيان لحاصل المعنى ، والمفعول محذوف على القراءة الأخيرة. قوله : (أن يوصوا) أي على أولادهم وأموالهم. قوله : (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) معطوف على (يَسْتَطِيعُونَ). قوله : (وبين النفختين أربعون سنة) هذا هو الصحيح ، وقيل : أربعون يوما ، وقيل : غير ذلك. قوله : (أي المقبورون) أي من شأنه أن يقبر ، وقبر كل ميت بحسبه ، فيشمل من أكلته السباع ونحوه. قوله : (مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث كفرس وأفراس ، وقرىء شذوذا الأجواف بالفاء ، وهي لغة في الأجداث. قوله : (يخرجون بسرعة) أي يسرعون في مشيهم قهرا ولا اختيارا. قوله : (أي الكفار) أي لا كل الخلائق ، إذ المؤمنون يفرحون

٣٠٢

لا فعل له من لفظه (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) لأنهم كانوا بين النفختين نائمين لم يعذبوا (هذا) أي البعث (ما) أي الذي (وَعَدَ) به (الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥٢) أقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، وقيل يقال لهم ذلك (إِنْ) ما (كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا) عندنا (مُحْضَرُونَ) (٥٣) (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا) جزاء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤) (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) بسكون الغين وضمها عما فيه أهل النار مما يتلذذون به ، كافتضاض الأبكار ، لا شغل يتعبون فيه ، لأن الجنة لا نصب فيها (فاكِهُونَ) (٥٥) ناعمون خبر

____________________________________

بالقيامة ، ليذهبوا للنعيم الدائم ، ورؤية وجه الله الكريم. قوله : (للتنبيه) دفع بذلك ما يقال : إن النداء مختص بالعقلاء ، فكيف ينادى الويل وهو لا يعقل فأجاب : بأن (يا) للتنبيه ، والمعنى : تنبهوا فإن الويل قد حضر.

قوله : (وَيْلَنا) قرأ العامة بإضافته إلى ضمير المتكلم ، ومعه غيره دون تأنيث ، وقرىء شذوذا يا ويلتنا بتاء التأنيث ، ويا ويلتي بإبدال الياء ألفا ، وعلى قراءة الإفراد ، يكون حكاية عن مقالة كل واحد. قوله : (لا فعل له من لفظه) أي بل معناه وهو هلك. قوله : (مَنْ بَعَثَنا) قرأ العامة بفتح ميم (مَنْ) على أنها استفهامية مبتدأ ، وجملة (بَعَثَنا) خبره ؛ وقرىء شذوذا بكسر الميم على أنها حرف جر ، و (بَعَثَنا) مصدر مجرور بمن ؛ والجار والمجرور متعلق بويلنا ، وقوله : (مِنْ مَرْقَدِنا) متعلق بالبعث ، والمرقد يصح أن يكون مصدرا أو اسم مكان ، أي من رقادنا أو من مكان رقادنا. قوله : (لأنهم كانوا بين النفختين نائمين) أي حين يرفع الله عنهم العذاب ، فيرقدون قبيل النفخة الثانية ، فيذوقون طعم النوم ، فإذا بعثوا وعاينوا أهوال يوم القيامة ، دعوا بالويل. قوله : (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) إلخ ، مفعول (وَعَدَ) و (صَدَقَ) محذوف والتقدير : ما وعدنا به الرحمن وصدقنا فيه المرسلون. قوله : (أقروا) إلخ ، أشار بذلك إلى أن هذه الجملة من كلام الكفار ، فهي في محل نصب مقول القول ، كأنهم لما سألوا فلم يجابوا ، أجابوا أنفسهم. قوله : (وقيل يقال لهم ذلك) أي من جانب المؤمنين ، أو الملائكة ، أو الله تعالى ، وإنما عدلوا عن جواب سؤالهم ، لأن الباعث لهم معلوم ، وإنما لهم السؤال عن البعث.

قوله : (إِنْ كانَتْ) أي النفخة الثانية. قوله : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي وهو قول إسرافيل أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتقطعة ، والعظام المتفرقة ، والشعور المتمزقة ، وإن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قوله : (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي مجموعون في موقف الحساب. قوله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) هذا حكاية عما يقال لهم حين يرون العذاب. قوله : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إلخ ، جرت عادة الله سبحانه وتعالى في كتابه ، إذا ذكر أحوال أهل النار ، أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة. قوله : (فِي شُغُلٍ) أبهمه ونكره ، إشارة إلى تعظيمه ورفعة شأنه ، والمراد به ما هم فيه من أنواع الملاذ التي تلهيهم عما عداها بالكلية ، كالتفكه بالأكل والشرب والسماع وضرب الأوتار والتزاور ، وأعظم ذلك سماع كلام الله تعالى ورؤية ذاته. قوله : (بسكون الغين وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (كافتضاض الأبكار) أي لما روى : أن أهل الجنة ، كلما أرادوا القرب من نسائهم وجدوهن أبكارا ، فيفتضون من غير قذر ولا ألم. قوله : (فاكِهُونَ) من الفكاهة بفتح الفاء ، وهي التنعم والتلذذ.

٣٠٣

ثان ل «إن» ، والأول في شغل (هُمْ) مبتدأ (وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) جمع ظلة أو ظل خبر ، أي لا تصيبهم الشمس (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهو السرير في الحجلة أو الفرش فيها (مُتَّكِؤُنَ) (٥٦) خبر ثان متعلق على (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ) فيها (ما يَدَّعُونَ) (٥٧) يتمنون (سَلامٌ) مبتدأ (قَوْلاً) أي بالقول خبره (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) بهم أي يقول لهم سلام عليكم (وَ) يقول (امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) أي انفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم (أَلَمْ

____________________________________

قوله : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) هذا بيان لكيفية شغلهم وتفكههم. قوله : (جمع ظلة) أي كقباب جمع قبة ، وزنا ومعنى. قوله : (أو ظل) أي كشعاب جمع شعب. قوله : (أي لا تصيبهم الشمس) أي لعدم وجودها .. قوله : (في الحجلة) بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء أو كسرها ، وهي قبة تعلق على السرير وتزين به العروس. قوله : (أو الفرش فيها) أي في الحجلة ، فالأريكة فيها قولان : قيل هي السرير الكائن في الحجلة ، أو الفرش الكائن فيها. قوله : (متعلق على) أي قوله : (عَلَى الْأَرائِكِ) فتحصل أن (هُمْ) مبتدأ ، و (أَزْواجُهُمْ) عطف عليه ، و (فِي ظِلالٍ) خبر أول ، و (مُتَّكِؤُنَ) خبر ثان ، و (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق بمتكئون ، قدم عليه رعاية للفاصلة.

قوله : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) أي من كل نوع من أنواع الفواكه ، لا مقطوع ولا ممنوع ، قال تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ). قوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أصله يدتعيون بوزن يفتعلون ، استثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى ما قبلها ، فالتقى ساكنان ، حذفت الياء لالتقائهما ، ثم أبدلت التاء دالا وأدغمت في الدال ، والمعنى : يعطى أهل الجنة ، جميع ما يتمنونه ويشتهونه حالا من غير بطء.

قوله : (سَلامٌ) (مبتدأ) إلخ ، هذا أحسن الأعاريب ؛ وقيل : إنه بدل من قوله : (ما يَدَّعُونَ) ، أو صفة لما ، أو خبر لمبتدأ محذوف. قوله : (أي بالقول) أشار بذلك إلى أن (قَوْلاً) منصوب بنزع الخافض ، ويصح أن يكون مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة ، وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر. قوله : (أي يقول لهم سلام عليكم) أشار بذلك إلى أن الجملة معمولة لمحذوف ، والمعنى أن الله يتجلى لأهل الجنة ويقرئهم السّلام لما في الحديث : «بينما أهل الجنة في نعيم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم ، السّلام عليكم يا أهل الجنة ، فلذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ؛ فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم». قوله : (وَ) (يقول) (امْتازُوا) إلخ ، أشار بذلك إلى أن هذه الجملة معمولة لمحذوف أيضا. قوله : (عند اختلاطهم بهم) أي حين يسار بهم إلى الجنة ؛ لما ورد في الحديث ما معناه : «إذا كان يوم القيامة ، ينادي مناد : كل أمة تتبع معبودها ؛ فتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها يقولون : لا نذهب حتى ننظر معبودنا ؛ فيظهر لهم عن يمين العرش ملك ؛ لو وضعت البحار السبع وجميع الخلائق ومثلهم معهم في نقرة إبهامه لوسعهم ؛ فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك لست ربنا ، ثم يأتي عن يسار العرش فيقول مثل ذلك ؛ فيقولون : نعوذ بالله منك لست ربنا ، ثم يتجلى الله تعالى لهم فيخرون سجدا ، فيريد المنافقون أن يسجدوا ؛ فيصير ظهرهم طبقا ، فلا يستطيعون السجود ، فعند ذلك يقال : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)».

٣٠٤

أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) آمركم (يا بَنِي آدَمَ) على لسان رسلي (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) لا تطيعوه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠) بيّن العدواة (وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدوني وأطيعوني (هذا صِراطٌ) طريق (مُسْتَقِيمٌ) (٦١) (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) خلقا جمع جبيل كقديم ، وفي قراءة بضم الباء (كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢) عدواته وإضلاله ، أو ما حل بهم من العذاب فتؤمنون ، ويقال لهم في الآخرة (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٦٣) بها (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٦٤) (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي الكفار لقولهم : والله ربنا ما كنا مشركين (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) وغيرها (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) فكل عضو ينطق بما صدر منه (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) لأعميناها طمسا (فَاسْتَبَقُوا) ابتدروا (الصِّراطَ) الطريق ذاهبين كعادتهم (فَأَنَّى) فكيف (يُبْصِرُونَ) (٦٦) حينئذ أي لا يبصرون (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) قردة وخنازير أو حجارة (عَلى مَكانَتِهِمْ) وفي قراءة مكاناتهم جمع مكانة بمعنى مكان ، أي في منازلهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا

____________________________________

قوله : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والمراد بالعهد ، ما كلفهم الله به على ألسنة رسله من الأوامر والنواهي. قوله : (آمركم) أي وأنهاكم ؛ ففيه اكتفاء. قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أَنْ) تفسيرية لتقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه ، و (لا) ناهية ؛ والفعل مجزوم بها. قوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل لوجوب الانتهاء. قوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ) تأكيد للتعليل. قوله : (جِبِلًّا) بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام. قوله : (وفي قراءة بضم الباء) أي مع ضم الجيم ، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضا ، وهي بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل. قوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ) هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم ، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع. قوله : (اصْلَوْهَا) أي ذوقوا حرارتها. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم.

قوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي ختما يمنعها عن الكلام النافع ، فلا ينافي قوله تعالى في الآية الأخرى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) وهذا مرتبط بقوله : (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) روي أنهم حين يقال لهم ذلك ، يجحدون ما صدر عنهم في الدنيا ويتخاصمون ، فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم ، فيحلفون أنهم ما كانوا مشركين ويقولون : لا نجيز علينا شاهدا إلا من أنفسنا ؛ فيختم على أفواههم ، ويقال لأركانهم : انطقوا فتنطق بما صدر منهم ، وحكمة إسناد الختم لنفسه ، والشهادة للأيدي والأرجل ، دفع توهم أن نطقها جبر ، والمجبور غير مقبول الشهادة ، فأفاد أن نطقها اختياري. قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) إلخ مفعول المشيئة محذوف ، أي لو نشاء طمسها لفعلنا ، وقوله : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي أرادوا أن يستبقوا الطريق المحسوس ذاهبين في حوائجهم ، وهو عطف على قوله : (لَطَمَسْنا) ، وقوله : (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) استفهام إنكاري مرتب على ما قبله ، أي فلا يبصرونه.

قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) إلخ ، يقال فيها ما قيل فيما قبلها ، والمسخ تغيير الصور ، و (عَلى) بمعنى في ، والمقصود من هاتين الآيتين ، تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتوبيخ الكفار واعلامهم بأن الله قادر على إذهاب ما بهم من النعم في الدنيا ، وأنهم مستحقون ذلك لو لا حلمه تعالى ، فهاتان الآيتان بمعنى قوله تعالى : (قُلْ

٣٠٥

وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧) أي لم يقدروا على ذهاب ولا مجىء (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) بإطالة أجله (نُنَكِّسْهُ) وفي قراءة بالتشديد من التنكيس (فِي الْخَلْقِ) أي خلقه فيكون بعد قوته وشبابه ضعيفا وهرما (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (٦٨) أن القادر على ذلك المعلوم عندهم قادر على البعث فيؤمنون ، وفي قراءة بالتاء (وَما عَلَّمْناهُ) أي النبي (الشِّعْرَ) رد لقولهم أن ما أتى به من القرآن شعر (وَما يَنْبَغِي) يسهل (لَهُ) الشعر (إِنْ هُوَ) ليس الذي أتى به (إِلَّا ذِكْرٌ) عظة (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩) مظهر للأحكام وغيرها (لِيُنْذِرَ) بالياء والتاء به (مَنْ كانَ حَيًّا) يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ)

____________________________________

(أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) الآية. قوله : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي من يكون في سابق علمنا طويل العمر. قوله : (وفي قراءة بالتشديد) أي وهما قراءتان سبعيتان ومعناهما واحد ، والمعنى نقلبه ، فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص قواه ؛ عكس ما كان عليه أول أمره. قوله : (أي خلقه) أي خلق جسده وقواه. قوله : (ضعفا) مقابل قوته ؛ وقوله : (وهرما) مقابل شبابه ، فهو لف ونشر مرتب ، وهذا في غير الأنبياء عليهم‌السلام ، وأما هم فلا يعتريهم الضعف في العقل والبدن ، وإن طال عمرهم جدا ، واستعاذته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرد لأرذل العمر تعليم لأمته ، ويلحق بالأنبياء العلماء العاملون ، فلا يهرمون ولا يضعفون بطول العمر ، بل يكونون على أحسن ما كانوا عليه. قوله : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والتقدير أتركوا التفكر فلا يعقلون. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا.

قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) هذا تنزيه من الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن آلهتهم فيما أوحاه الله إليه ، إذ لو كان للعقل فيه بعض اتهام ، لبطل الاحتجاج به. قوله : (رد لقولهم أن ما أتى به من القرآن شعر) أي وحينئذ فيصير المعنى : ليس القرآن بشعر ، لأن الشعر كلام مزخرف موزون مقفى قصدا مبني على خيالات وأوهام واهية ، وأين ذلك من القرآن العزيز ، الذي تنزه عن مماثلة كلام البشر. قوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا يصح ولا يليق منه ، لأن الشعر شأنه الأكاذيب ، وهي عليه مستحيلة ، ولذا قيل : أعذبه أكذبه ، فتحصل أن النبي لا ينبغي له الشعر ، ولا يليق منه. إن قلت : إنه تمثل بقول ابن رواحة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وأنشأ من نفسه قوله :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وقوله :

هل أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

قلت : أحسن ما أجيب به : أن انشاده بيت ابن رواحة ، وإنشاء البيتين المقدمين ، لم يكن عن قصد ، وإنما وافق وزن الشعر ، كما في بعض الآيات القرآنية ، فليس كل من قال قولا موزونا ، لا يقصد به الشعر شاعرا ، وإنما وافق وزن الشعر. قوله : (لِيُنْذِرَ) متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وهم المؤمنون) أي وخصوا بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون به.

٣٠٦

بالعذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠) وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعلموا ، والاستفهام للتقرير ، والواو الداخلة عليها للعطف (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) في جملة الناس (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي عملناه بلا شريك ولا معين (أَنْعاماً) هي الإبل والبقر والغنم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٧١) ضابطون (وَذَلَّلْناها) سخرناها (لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) مركوبهم (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) (٧٢) (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) كأصوافها وأوبارها وأشعارها (وَمَشارِبُ) من لبنها جمع مشرب بمعنى شرب أو موضعه (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٧٣) المنعم عليهم بها فيؤمنون ، أي ما فعلوا ذلك (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (آلِهَةً) أصناما يعبدونها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (٧٤) يمنعون من عذاب الله تعالى بشفاعة آلهتهم بزعمهم (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي آلهتهم ، نزلوا منزلة العقلاء (نَصْرَهُمْ وَهُمْ) أي آلهتهم من الأصنام (لَهُمْ جُنْدٌ) بزعمهم نصرهم (مُحْضَرُونَ) (٧٥) في النار معهم (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) لك لست مرسلا وغير ذلك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦)

____________________________________

قوله : (وهم كالميتين) أخذ هذا من المقابلة في قوله : (مَنْ كانَ حَيًّا). قوله : (والاستفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بالحكم. قوله : (والواو الداخلة عليها للعطف) هذه العبارة تحتمل التقريرين السابقين في نظير هذه الآية ، وهما أن الهمزة إما مقدمة من تأخير ، لأن لها الصدارة ، والواو عاطفة على قوله فيما تقدم (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أو داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، والتقدير : ألم يتفكروا ولم يروا.

قوله : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) اللام للحكمة ، أي حكمة خلقنا ذلك انتفاعهم. قوله : (في جملة الناس) أشار بذلك إلى أن هذه النعم ليست مقصورة عليهم ، بل لهم ولغيرهم. قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) هذا كناية عن الحصر فيه سبحانه وتعالى ، وهذا كقول الإنسان : كتبته بيدي مثلا ، بمعنى أني انفردت به ولم يشاركني فيه غيري ، فهو كناية عرفية. قوله : (أَنْعاماً) خصها بالذكر ، لأن منافعها أكثر من غيرها. قوله : (ضابطون) أي قاهرون مذللون ، والأحسن أن يفسر قوله : (مالِكُونَ) بالملك الشرعي ، أي يتصرفون فيها بسائر وجوه التصرفات الشرعية ليكون قوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) تأسيسا لنعمة أخرى ، لا تتميما لما قبله. قوله : (كأصوافها) أي وجلودها ونسلها وغير ذلك. قوله : (أو موضعه) أي وهو الضروع. قوله : (أي ما فعلوا ذلك) أشار بذلك إلى أن الاستفهام انكاري ، وأن قوله : (وَاتَّخَذُوا) إلخ ، عطف على محذوف قوله : (يعبدونها) تفسير للاتخاذ.

قوله : (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) الجملة حالية ، والمعنى حال كونهم راجين النصرة منهم. قوله : (نزلوا منزلة العقلاء) أي لمشاكلة عبادتهم ، فعبر عنهم بصيغة جمع الذكور. قوله : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ) إلخ ، (هُمْ) مبتدأ ، و (جُنْدٌ) خبر أول ، و (لَهُمْ) متعلق بجند ، و (مُحْضَرُونَ) خبر ثان. قوله : (أي آلهتهم من الأصنام) هذا أحد وجهين ، والآخر أنه عائد على الكفار ، والمعنى : يقومون بمصالحها ، فهم لها بمنزلة الجند ، وهي لا تستطيع أن تنصرهم. قوله : (مُحْضَرُونَ) (في النار) أي ليعذبوا بها. قوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : لا تحزن من قولهم ، بل اتركه ولا تلتفت له. قوله : (إِنَّا

٣٠٧

من ذلك وغيره فنجازيهم عليه (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) يعلم وهو العاصي بن وائل (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) منّي إلى أن صيرناه شديدا قويا (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) شديد الخصومة لنا (مُبِينٌ) (٧٧) بينها في نفي البعث (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) في ذلك (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) من المنّي وهو أغرب من مثله (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٧٨) أي بالية ، ولم يقل بالتاء لأنه اسم لا صفة ، وروي أنه أخذ عظما رميما ففتته وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أترى يحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويدخلك النار» (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) مخلوق (عَلِيمٌ) (٧٩) مجملا ومفصلا ، قبل خلقه وبعد خلقه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) في جملة الناس (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) المرخ والعفار أو كل شجر إلا العناب (ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) تقدحون ، وهذا دال على القدرة على البعث ،

____________________________________

نَعْلَمُ) إلخ ، تعليل للنهي قبله. قوله : (فيجازيهم عليه) أي على ما صدر منهم سرا وعلانية ، خيرا أو شرا.

قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) في الهمزة التقريران السابقان ، وهما كونها مقدمة من تأخير ، أو عاطفة على محذوف ؛ والتقدير : أعمي ولم ير؟ قوله : (وهو العاصي بن وائل) وقيل : نزلت في أبي بن خلف الجمحي ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) أي قذرة خسيسة ؛ والمقصود التعجب من جهله ، حيث تصدى لمخاصمة العزيز الجبار ، ولم يتفكر في بدء خلقه ، وانه من نطفة. قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) عطف على جملة النفي. قوله : (في نفي البعث) متعلق بخصيم.

قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي أورد كلاما عجيبا في الغرابة كالمثل ، حيث قاس قدرتنا على قدرة الخلق. قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي ذهل عنه ، وهذا عطف على (ضَرَبَ) داخل حيز الإنكار ، وإضافة خلق للضمير ، من إضافة المصدر لمفعوله ، أي خلق الله إياه. قوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ) إلخ بيان لضرب المثل. قوله : (ولم يقل بالتاء) إلخ ، أشار بذلك إلى سؤال حاصله أن فعيلا بمعنى فاعل ، يفرق بين المذكر والمؤنث بالتاء ، فكان مقتضى القاعدة أن يقال رميمة ، فأجاب المفسر : بأن محل ذلك إذا لم تغلب عليه الاسمية ، فإذا صار اسما بالغلبة لما بلي من العظام ، فلا تلحقه التاء في مؤنثه. قوله : (فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ويدخلك النار) أخذ من هذا ، أنه مقطوع بكفره وخلوده في النار ، وزيادة ذلك في الجواب ، لأنه متعنت لا متفهم ، وجزاء المتعنت المنكر ، أن يجاب بما يكره ، وبضد ما يترقب ، ويسمى عند علماء البلاغة الأسلوب الحكيم. قوله : (الَّذِي أَنْشَأَها) أي أوجدها من العدم. قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي بكيفية خلقها ، وبأجزاء الأشخاص تفصيلا.

قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) إلخ ، بدل من الموصول قبله. قوله : (في جملة الناس) أشار بذلك إلى أنه مخصصا بالكفار ، بل لجميع الخلق. قوله : (المرخ) بفتح الميم وسكون الراء وبالخاء المعجمة ، شجر سريع القدح ، وقوله : (والعفار) بفتح العين المهملة ، بعدها فاء مفتوحة فألف فراء ، وكيفية إيقاد النار منهما ، أن يجعل العفار كالزند ، يضرب به على المرخ ، وقيل : يؤخذ منهما غصنان خضر اوان ، ويسحق المرخ على العفار ، فتخرج منهما النار بإذن الله. قوله : (أو كل شجر) أي وقد شوهد في بعضه كالبرسيم ، إذا وضع

٣٠٨

فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب ، فلا الماء يطفىء النار ، ولا النار تحرق الخشب (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مع عظمهما (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي الأناسي في الصغر؟ (بَلى) أي هو القادر على ذلك ، أجاب نفسه (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) الكثير الخلق (الْعَلِيمُ) (٨١) بكل شيء (إِنَّما أَمْرُهُ) شأنه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) أي خلق شيء (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) أي فهو يكون ، وفي قراءة بالنصب عطفا على يقول (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) ملك ، زيدت الواو والتاء للمبالغة أي القدرة على (كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣) تردون في الآخرة.

____________________________________

بعضه على بعض وهو أخضر مدة ، فإنه يحرق نفسه وما حوله. قوله : (إلا العناب) أي ولذلك تؤخذ منه مطارق القصارين. قوله : (والخشب) بفتحتين وضمتين أو ضم فسكون.

قوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي) الهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه ، تقديره : أليس الذي أنشأها أول مرة ، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ، وليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر؟ قوله : (أي الأناسي) تفسير للضمير. قوله : (بَلى) جواب تقرير النفي ، وهو صادر منه تعالى ، إشارة إلى تعيينه قالوا أولا. قوله : (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) عطف على مقدر تقديره بلى هو قادر وهو الخلاق العليم. قوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) في الكلام استعارة تمثيلية ، وتقريرها أن يقال : شبه سرعة تأثير قدرته ونفاذها فيما يريده ، بأمر المطاع للمطيع ، في حصول المأمور به ، من غير امتناع ولا توقف ، وحينئذ فمعنى أن يقول له كن ، أن تتعلق به قدرته تعلقا تنجيزيا.

قوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي) إلخ ، أي تنزيهه عما يليق به. قوله : (وإليه ترجعون) قرأ العامة ببنائه للمفعول ، وقرىء شذوذا ببنائه للفاعل.

تتمة : تقدم في فضل يس أنها قلب القرآن ، ووجه ذلك : أنها اشتملت على الوحدانية والرسالة والحشر ، والإيمان بذلك متعلق بالقلب ، فلذلك سميت قلبا ، ومن هنا امر بقراءتها عند المحتضر وعلى الميت ، ليكون القلب قد اقبل على الله تعالى ، ورجع عما سواه ، فيقرأ عنده ما يزداد به قوة ويقينا.

٣٠٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الصّافّات

مكيّة

وآياتها اثنتان وثمانون ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (١) الملائكة تصف نفوسها في العبادة أو أجنحتها في الهواء ، تنتظر ما تؤمر به (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) (٢) الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه (فَالتَّالِياتِ) أي قراءة القرآن يتلونه (ذِكْراً) (٣) مصدر من معنى التاليات (إِنَّ إِلهَكُمْ) يا أهل

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الصافات

مكية وهي مائة واثنتان وثمانون آية

أي بالإجماع ، وسميت باسم اول كلمة منها ، من باب تسمية الشيء باسم بعضه ، على حكم عادته سبحانه وتعالى في كتابه. قوله : (وَالصَّافَّاتِ) إلخ ، والواو حرف قسم وجر ، (الصَّافَّاتِ) مقسم به مجرور ، وما بعده عطف عليه ، وقوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب القسم ، وهو المقسم عليه ، والمعنى : وحق الصافات ، وحق الزاجرات ، وحق التاليات ، وإنما خص ما ذكر ، لعظم قدرها عنده ، ولا يعكر عليه ما ورد من النهي عن الحلف بغير الله ، لأن النهي للمخلوق ، حذرا من تعظيم غير الله ، وأما هو سبحانه وتعالى ، فيقسم ببعض مخلوقاته للتعظيم ، كقوله : والشمس ، والليل ، والضحى ، والنجم وغير ذلك. قوله : (الملائكة تصف نفوسها) إلخ ، اشار بذلك إلى أن المفعول محذوف ، إن قلت : إن التاء في الصافات وما بعدها للتأنيث ، والملائكة منزهون عن الاتصاف بالأنوثة كالذكورة. أجيب : بأنها للتأنيث اللفظي ، والمنزهون عنه التأنيث المعنوي ، وقوله : (الملائكة) هو أحد أقوال في تفسير الصافات ، وقيل : المراد المجاهدون ، أو المصلون ، أو الطير تصف أجنحتها. قوله : (في العبادة) أي في مقاماتها المعلومة. قوله : (وأجنحتها في الهواء) أي ومعنى صفها بسطها. قوله : (تنتظر ما تؤمر به) أي من صعود وهبوط.

قوله : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) الفاء للترتيب باعتبار الوجود الخارجي ، لأن مبدأ الصلاة الاصطفاف ، ثم يعقبه زجر النفس ، ثم يعقبه التلاوة ، وهكذا ويحتمل أنها للترتيب في المزايا ، ثم هو إما باعتبار الترقي : فالصافات ذوات فضل ، فالزاجرات أفضل ، فالتاليات أكثر فضلا. أو باعتبار التدلي : فالصافات أعلى ، ثم الزاجرات ، ثم التاليات ، وكل صحيح. قوله : (الملائكة تزجر السحاب) وقيل : المراد بهم العلماء تزجر العصاة. قوله : (مصدر من معنى التاليات) ويصح أن يكون مفعولا للتاليات ،

٣١٠

مكة (لَواحِدٌ) (٤) (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) أي والمغارب للشمس ، لها كل يوم مشرق ومغرب (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦) أي بضوئها أو بها ، والإضافة للبيان كقراءة تنوين زينة المبينة بالكواكب (وَحِفْظاً) منصوب بفعل مقدر ، أي حفظناها بالشهب (مِنْ كُلِ) متعلق بالمقدر (شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) عات خارج عن الطاعة (لا يَسَّمَّعُونَ) أي الشياطين مستأنف ، وسماعهم هو في المعنى المحفوظ عنه (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) الملائكة في السماء ،

____________________________________

والمراد بالذكر : القرآن وغيره من تسبيح وتحميد ، والمراد بهم هنا ، كل ذاكر من ملائكة وغيرهم.

قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) إن قلت : ما حكمة ذكر القسم هنا ، لأنه إن كان المقصود المؤمنين فلا حاجة له ، لأنهم مصدقون ولو من غير قسم ، وإن كان المقصود الكفار ، فلا حاجة له أيضا ، لأنهم غير مصدقين على كل حال؟ أجيب : بأن المقصود منه ، تأكيد الأدلة التي تقدم تفصيلها في سورة يس ، ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، ويزداد الكافر طردا وبعدا.

قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إما بدل من واحد ، أو خبر ثان ، أو خبر لمحذوف. قوله : (أي والمغارب) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء على حد : سرابيل تقيكم الحر ، وإنما اقتصر على المشارق ، لأن نفعه أعم من الغروب ، إن قلت : إنه تعالى جمع المشارق هنا ، وحذف مقابله ، وجمعهما في سأل ، وثناهما في الرحمن ، وأفرهما في المزمل ، فما وجه الجمع بين هذه الآيات؟ أجيب : بأن الجمع باعتبار مشرق كل يوم ومغربه ، لأن الشمس لها في السنة ثلاثمائة وستون مشرقا ، وثلاثمائة وستون مغربا ، فتشرق كل يوم من مشرق منها ، وتغرب كل يوم في مقابله من تلك المغارب ، والتثنية باعتبار مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربهما ، والإفراد باعتبار مشرق كل سنة ومغربها ، وخص الجمع بهذه السور ، لمناسبة جموع أولها.

قوله : (السَّماءَ الدُّنْيا) أي القربى من الأرض. قوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) اختلف العلماء ، هل الكواكب في سماء الدنيا ، أو ثوابت في العرش وضوؤها يصل لسماء الدنيا ، لأن السماوات شفافة لا تحجب ما وراءها؟ قوله : (بضوئها) أي نورها ، ولو لاه لكانت السماء شديدة الظلمة عند غروب الشمس ، وقوله : (أو بها) أي أن ذات الكواكب زينة لسماء الدنيا ، فإن الإنسان إذا نظر إلى الليلة المظلمة إلى السماء ، ورأى هذه الكواكب مشرقة على سطح أزرق ، وجدها في غاية الزينة. قوله : (المبينة بالكواكب) أي فعلى قراءة التنوين مع جر الكواكب ، تكون الكواكب عطفا عليها ، وبقي قراءة ثالثة سبعية وهي تنوين ، ونصب الكواكب على أنه مفعول لمحذوف تقديره أعني الكواكب. قوله : (بفعل مقدر) أي معطوف على (زَيَّنَّا).

قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) وكانوا لا يحجبون عن السماوات ، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها ، فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسّلام ، منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد عليه الصلاة والسّلام ، منعوا من السموات كلها ، فما منهم أحد يريد استراق السمع ، إلا رمي بشهاب ، وهو الشعلة من النار ، فلا يخطئه أبدا ، فمنهم من يقتله ، ومنهم من يحرق وجهه ، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري. قوله : (مستأنف) أي لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم وما

٣١١

وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء ، وفي قراءة بتشديد الميم والسين ، أصله يتسمعون ، أدغمت التاء في السين (وَيُقْذَفُونَ) أي الشياطين بالشهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨) من آفاق السماء (دُحُوراً) مصدر دحره أي طرده وأبعده ، وهو مفعول له (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ واصِبٌ) (٩) دائم (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) مصدر أي المرّة والاستثناء من ضمير يسمعون ، أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) كوكب مضيء (ثاقِبٌ) (١٠) يثقبه أو يحرقه أو يخبله (فَاسْتَفْتِهِمْ) استخبر كفار مكة تقريرا أو توبيخا (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الملائكة والسماوات والأرضين وما فيهما ، وفي الإتيان بمن تغليب العقلاء (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي أصلهم آدم (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١) لازم يلصق باليد ، المعنى

____________________________________

يعتريهم من العذاب. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (أدغمت التاء في السين) أي بعد قلبها سينا وإسكانها. قوله : (من آفاق السماء) أي نواحيها وجهاتها. قوله : (والاستثناء من ضمير يسمعون) أي و (من) في محل رفع بدل من الواو ، أو في محل نصب على الاستثناء ، والاستثناء على كل متصل ، ويجوز أن تكون (من) شرطية ، وجوابها (فَأَتْبَعَهُ) أو موصولة مبتدأ ، وخبرها (فَأَتْبَعَهُ) وهو استثناء منقطع كقوله تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) إن قلت : تقدم أن الكواكب ثابتة في السماء أو في العرش زينة ، ومقتضى كونها رجوما للشياطين ، أنها تنفصل وتزول ، فكيف الجمع بين ذلك؟ أجيب : بأنه ليس المراد أن الشياطين يرجمون بذات الكواكب ، بل تنفصل منها شهب تنزل على الشياطين ، والكواكب باقية بحالها. إن قلت : إن الشياطين خلقوا من النار ، فكيف يحترقون؟ أجيب : بأن الأقوى يحرق الأضعف ، كالحديد يقطع بعضه بعضا. إن قلت : إذا كان الشيطان يعلم أنه لا يصل لمقصوده بل يصاب ، فكيف يعود مرة أخرى؟ أجيب : بأنه يرجو وصوله لمقصوده وسلامته ، كراكب البحر ، فإنه يشاهد الغرق ، المرة بعد المرة ، ويعود طمعا في السلامة. قوله : (يثقبه) أي بحيث يموت من ثقبه ، وقوله : (أو يحرقه) أي ويموت أيضا ، وأو في كلام المفسر للتنويع ، وهو لا ينافي وصف الشهاب بالثاقب ، لأن معنى الثاقب المضيء ، أي الذي يثقب الظلام ، خلافا لما يوهمه المفسر. قوله : (أو يخبله) الخبل بسكون الباء وفتحها ، الجنون والبله ، ويطلق أيضا على من فسدت أعضاؤه.

قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) إلخ ، المقصود من هذا الكلام ، الرد على منكري البعث ، حيث ادعوا أنه مستحيل ، وحاصل الرد ، أن يقال لهم : إن استحالته التي تدعونها ، إما لعدم المادة ، وهو مردود بأن غاية الأمر تصير الأجزاء ترابا ، وهو قادر على أن ينزل عليه ماء فيصير طينا ، وقد خلق آباهم آدم من طين ، أو لعدم القدرة وهو مردود ، بأن القادر على هذه الأشياء العظام من السموات الأرض وغيرهما ، قادر على اعادتهم ثانيا ، وقدرته ذاتية لا تتغير ، فهذه الآية نظير قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) إلخ. قوله : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أقوى خلقا ، أو أصعب أو أشق إيجادا. قوله : (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) قرأ العامة بتشديد الميم ، وقرىء شذوذا بفتحها ، وهو استفهام ثان ، و (مَنْ) مبتدأ خبر محذوف دل عليه ما قبله أي (أَشَدُّ خَلْقاً). قوله : (لازِبٍ) من باب دخل ، وقوله : (يلصق باليد) أي أنه لضعفه لا قوام له

٣١٢

أن خلقهم ضعيف فلا يتكبروا ، بإنكار النبي والقرآن المؤدّي إلى هلاكهم اليسير (بَلْ) للانتقال من غرض إلى آخر ، وهو الإخبار بحاله وحالهم (عَجِبْتَ) بفتح التاء خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي من تكذيبهم إياك (وَ) هم (يَسْخَرُونَ) (١٢) من تعجبك (وَإِذا ذُكِّرُوا) وعظوا بالقرآن (لا يَذْكُرُونَ) (١٣) لا يتعظون (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) (١٤) يستهزئون بها (وَقالُوا) فيها (إِنْ) ما (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٥) بيّن ، وقالوا منكرين البعث (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (١٦) في الهمزتين في الموضعين التحقيق وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١٧) بسكون الواو عطفا بأو ، وبفتحها والهمزة للاستفهام ، والعطف بالواو والمعطوف عليه محل إن واسمها أو الضمير في لمبعوثون ، والفاصل همزة الاستفهام (قُلْ نَعَمْ) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (١٨) صاغرون (فَإِنَّما هِيَ) ضميره مبهم

____________________________________

بنفسه. قوله : (المعنى أن خلقهم) إلخ ، التفت المفسر إلى أنه توبيخ لهم على التكبر والعناد الذي منه إنكار البعث.

قوله : (بَلْ عَجِبْتَ) إضراب عن الأمر بالاستفتاء كأنه قال : لا تستفتهم فإنهم جاهلون معاندون ، لا منفعة في استفتائهم ، بل انظر إلى حالك وحالهم ، والمقصود منه تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (بفتح التاء) أي وبضمها ، قراءتان سبعيتان ، وعلى الضم فالمتعجب الله تعالى ، ومعناه في حقه الغضب والمؤاخذة على حد (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) والمعنى يجازيهم على تكذيبهم إياك ، وقد يطلق التعجب في حق الله تعالى على الرضا والمحبة كما في الحديث : «عجب ربك من شاب ليس له صبوة». قوله : (و) (هم) (يَسْتَسْخِرُونَ) (من تعجبك) أي أو من تعجبي ، أي غضبي عليهم ومجازاتي لهم على كفرهم. قوله : (لا يتعظون) أي لقيام الغفلة بهم.

قوله : (أَإِذا مِتْنا) إلخ ، أصل الكلام : أنبعث إذا متنا ، وكنا ترابا وعظاما؟ قدموا الظرف ، وكرروا الهمزة ، وأخروا العامل ، وعدلوا به إلى الجملة الاسمية ، لقصد الدوام والاستمرار ، إشعارا بأنهم مبالغون في الإنكار. قوله : (وادخال ألف بينهما) أي وتركه ، فالقراءات أربع في كل موضع ، وبقي قراءتان سبعيتان أيضا : الأولى بألفين ، والثانية بواحدة ، والعكس ، وبسط تلك القراءات يعلم من كتبها. قوله : (وبفتحها) أي والقراءتان سبعيتان هنا ، وفي الواقعة ، وتقدم في الأعراف (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى). قوله : (للاستفهام) أي الإنكاري. قوله : (أو الضمير في لمبعوثون) أي على القراءة الثانية ، فيكون مبعوثون عاملا فيه أيضا ، إن قلت : إن ما بعد همزة الاستفهام ، لا يعمل فيه ما قبلها ، فكان الأولى أن يجعل مبتدأ خبره محذوف تقديره أو آباؤنا يبعثون. أجيب : بأنها مؤكدة للأولى ، لا مقصودة بالاستقبال ، فالعبرة بتقديم المؤكد لا المؤكد. قوله : (والفاصل) أي بين المعطوف عليه ، وهو ضمير الرفع المستتر ، وبين المعطوف وهو (آباؤُنَا) ، فتحصل أنه على قراءة سكون الواو ، ويتعين العطف على محل إن واسمها لا غير ، وعلى قراءة فتحها يجوز هذا الوجه ، ويجوز كونه معطوفا على الضمير المستتر في (لَمَبْعُوثُونَ) ويكفي الفصل بهمزة الاستفهام ، على حد قول ابن مالك ، أو فاصل ما. قوله : (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) الجملة

٣١٣

يفسره (زَجْرَةٌ) أي صيحة (واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ) أي الخلائق أحياء (يَنْظُرُونَ) (١٩) ما يفعل بهم (وَقالُوا) أي الكفار (يا) للتنبيه (وَيْلَنا) هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه ، وتقول لهم الملائكة (هذا يَوْمُ الدِّينِ) (٢٠) أي الحساب والجزاء (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين الخلائق (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢١) ويقال للملائكة (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك (وَأَزْواجَهُمْ) قرناءهم من الشياطين (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢٢) (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره من الأوثان (فَاهْدُوهُمْ) دلوهم وسوقوهم (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٢٣) طريق النار (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم عند الصراط (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢٤) عن جميع أقوالهم وأفعالهم ، ويقال لهم توبيخا (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٢٥) لا ينصر بعضكم بعضا كحالكم في الدنيا ، ويقال عنهم (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦) منقادون أذلاء (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٧) يتلاومون ويتخاصمون (قالُوا) أي الأتباع منهم للمتبوعين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٢٨) عن الجهة

____________________________________

حالية ، والعامل فيها معنى (نَعَمْ) كأنه قيل (تبعثون) والحال أنكم صاغرون لخروجهم من قبورهم ، حاملين أوزارهم على ظهورهم.

قوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) إلخ ، هذه الجملة جواب شرط مقدر ، أو تعليل لنهي مقدر تقديره إذا كان الأمر كذلك فإنما هي إلخ ، أو لا تستصعبوه فإنما هي إلخ. قوله : (أي صيحة) (واحِدَةٌ) أي وهي النفخة الثانية. قوله : (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون. قوله : (لا فعل له من لفظه) أي بل من معناه وهو هلك. قوله : (وتقول لهم الملائكة) أشار بذلك إلى أن الوقف تم عند قوله : (يا وَيْلَنا) وما بعده كلام مستقبل ، وهذا أحد احتمالات ، ويحتمل أنه من كلام بعضهم لبعض ، ويحتمل أنه من كلام الله تعالى تبكيتا لهم ، ويحتمل أنه من كلام المؤمنين لهم.

قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي من مقامهم إلى الموقف ، أو من الموقف إلى النار. قوله : (قرناءهم من الشياطين) هذا أحد أقوال ، وقيل : المراد أزواجهم نساؤهم اللاتي على دينهم ، وقيل : أشباههم وأخلاؤهم من الإنس ، لأن زوج الشيء على مقاربه ومجانسه ، فيقال لمجموع فردتي الخف ، ولإحداهما زوج. قوله : (من الأوثان) أي كالأصنام والشمس والقمر. قوله : (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) بكسر الهمزة في قراءة العام على الاستئناف ، وفي معنى التعليل ، وقرىء بفتحها على حذف لام العلة ، والمعنى قفوهم لأجل سؤال الله إياهم. قوله : (عن جميع أقوالهم وأفعالهم) أي لما في الحديث : «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ما ذا عمل به». قوله : (ويقال لهم) أي والقائل خزنة جهنم. قوله : (كحالكم في الدنيا) تشبيه في المنفي. قوله : (ويقال عنهم) أي في شأنهم على سبيل التوبيخ.

قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي بعض الكفار يوم القيامة ؛ وهذا بمعنى ما تقدم في سورة سبأ في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ). قوله : (يتلاومون ويتخاصمون) أي يلوم بعضهم بعضا ، ويخاصم بعضهم بعضا ، كما قال تعالى في شأنهم (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ

٣١٤

التي كنا نأمنكم منها ، لحلفكم أنكم على الحق فصدقناكم واتبعناكم ، المعنى إنكم أضللتمونا (قالُوا) أي المتبوعون لهم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢٩) وإنما يصدق الأضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) قوّة وقدرة نقهركم على متابعتنا (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) (٣٠) ضالين مثلنا (فَحَقَ) وجب (عَلَيْنا) جميعا (قَوْلُ رَبِّنا) بالعذاب أي قوله (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (إِنَّا) جميعا (لَذائِقُونَ) (٣١) العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم (فَأَغْوَيْناكُمْ) المعلل بقولهم (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٢) قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٣) أي لاشتراكهم في الغواية (إِنَّا كَذلِكَ) كما نفعل بهؤلاء (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (٣٤) غير هؤلاء ، أي نعذبهم التابع منهم والمتبوع (إِنَّهُمْ) أي هؤلاء بقرينة ما بعده (كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥) (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا) في همزتيه ما تقدم (لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٣٦) أي لأجل قول محمد ، قال تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ

____________________________________

لَعَنَتْ أُخْتَها) بخلاف تساؤل المؤمنين في الجنة ، فهو شكر وتحدث بنعم الله عليهم. قوله : (عَنِ الْيَمِينِ) يطلق على الحلف والجارحة المعلومة والقوة والدين والخير ، والآية محتملة لتلك المعاني ، والمفسر اختار الأول ، وعليه فعن بمعنى من ، والمعنى : كنتم تأتوننا من الجهة التي كنا نأمنكم منها ؛ فتلك الجهة مصورة بحلفكم أنكم على الحق ؛ إلخ. قوله : (المعنى أنكم أضللتمونا) هذا المعنى هو المراد على جميع الاحتمالات ، لا على ما قاله المفسر فقط.

قوله : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) إلخ ، أجابوا بأجوبة خمسة آخرها (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) والمعنى إنكم لم تتصفوا بالإيمان في حال من الأحوال. قوله : (إن لو كنتم مؤمنين) أي إن لو اتصفتم بالإيمان. قوله : (فرجعتم عن الإيمان إلينا) أي بإضلالنا وإغوائنا ، كأنهم قالوا لهم : إن من آمن لا يطيعنا لثبات الإيمان في قلبه ، فلو حصل منكم الإيمان لما أطعتمونا. قوله : (قَوْلُ رَبِّنا) أي وعيده ، ومفعول القول محذوف قدره بقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) إلخ. قوله : (إِنَّا لَذائِقُونَ) إخبار منهم عن جميع الرؤساء والأتباع بإذاقة العذاب.

قوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي تسببنا لكم في الغواية من غير إكراه ، فلا ينافي ما قبله. قوله : (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي فأحببنا لكم ما قام بأنفسنا ، لأن من كان متصفا بصفة شنيعة ، يجب أن يتصف بها غيره ، لتهون المصيبة عليه. قوله : (يوم القيامة) أي حين التحاور والتخاصم. قوله : (كما يفعل بهؤلاء) أي عبدة الأصنام ، وقوله : (غير هؤلاء) أي كالنصارى واليهود. قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا) إلخ ، أي عبدة الأصنام ، وسبب ذلك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على أبي طالب عند موته ، وقريش مجتمعون عنده فقال : قولوا لا إله إلا الله ، تملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، فأبوا وأنفوا من ذلك وقالوا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) إلخ. قوله : (يَسْتَكْبِرُونَ) أي يتكبرون عن قولها ، وعن من يدعوهم إليها. قوله : (في همزتيه ما تقدم) أي من التحقيق فيهما ، وتسهيل الثانية ، بألف ودونها ، فالقراءات أربع. قوله : (لَتارِكُوا آلِهَتِنا) من اضافة اسم الفاعل لمفعوله ، أي لتاركون آلهتنا ، والمعنى لتاركون عبادتها. قوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) إلخ ،

٣١٥

الْمُرْسَلِينَ) (٣٧) الجائين به وهو أن لا إله إلا الله (إِنَّكُمْ) فيه التفات (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨) (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا) جزاء (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٩) (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) أي المؤمنين استثناء منقطع أي ذكر جزاؤهم في قوله (أُولئِكَ) الخ (لَهُمْ) في الجنة (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) (٤١) بكرة وعشيا (فَواكِهُ) بدل أو بيان للرزق ، وهو ما يؤكل تلذذا لا لحفظ صحة ، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها بخلق أجسادهم للأبد (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) (٤٢) بثواب الله سبحانه وتعالى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٤٣) (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٤) لا يرى بعضهم قفا بعض (يُطافُ عَلَيْهِمْ) على كل منهم (بِكَأْسٍ) هو الإناء بشرابه (مِنْ مَعِينٍ) (٤٥) من خمر يجري على وجه الأرض كأنهار الماء (بَيْضاءَ) أشد بياضا من اللبن (لَذَّةٍ) لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) (٤٦) بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب (لا فِيها غَوْلٌ) ما يغتال عقولهم (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (٤٧) بفتح الزاي وكسرها

____________________________________

رد عليهم بأن ما جاء به من التوحيد حق ، موافق فيه المرسلين قبله. قوله : (فيه التفات) أي من الغيبة إلى الخطاب ، زيادة في التقبيح عليهم. قوله : (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فالشر يكون جزاؤه بقدره ، بخلاف الخير ، فجزاؤه بأضعاف مضاعفة. قوله : (استثناء منقطع) أي من الواو في (تُجْزَوْنَ).

قوله : (أُولئِكَ) أي عباد الله المخلصين. قوله : (إلى آخره) أي وهو قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ). قوله : (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي أوقاته وصفاته ، فلا ينافي آية (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) فإن المراد غير معلوم المقدار. قوله : (بدل) أي كل من كل ، لأن جميع ما يؤكل في الجنة ، إنما هو على سبيل التفكه والتلذذ ، فلا فرق بين الرزق والفواكه. قوله : (لا لحفظ صحة) المناسب أن يقول : لا لحفظ بنية. قوله : (بخلق أجسادهم للأبد) أي فهم يدومون بدوام الله ، لا يفنون أبدا. قوله : (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي معظمون مبجلون بالتحية وبالكلام اللين. قوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إما متعلق بمكرمون ، أو خبر ثان ، أو حال. قوله : (عَلى سُرُرٍ) قال ابن عباس : على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد ، والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية ، وما بين عدن إلى إيليا. قوله : (مُتَقابِلِينَ) أي تواصلا وتحابيا ، وقيل : الأسرة تدور كيف شاؤوا ، فلا يرى أحدا قفا أحد.

قوله : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) أي والطائف الولدان كما في آية (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ). قوله : (هو الإناء بشرابه) أي فإن لم يكن فيه شراب ، فإنه يسمى قدحا ، ويطلق الكأس على الخمر نفسه ، من باب تسمية الشيء باسم محله. قوله : (مِنْ مَعِينٍ) أي ظاهر العيون ، أو خارج من العيون ، فعلى الأول اسم مفعول كمبيع ، وعلى الثاني اسم فاعل من عان بمعنى نبع ، وصف به خمر الجنة ، لأنه يجري كالماء النابع.

قوله : (بَيْضاءَ) إما صفة لكأس أو للخمر. قوله : (لَذَّةٍ) إما صفة مشبهة ، كصعب وسهل ، فتكون مشتقة ، فالوصف بها ظاهر ، أو مصدر فالوصف بها مبالغة ، أو على حذف مضاف أي ذات لذة. قوله : (ما يغتال عقولهم) أي يفسدها ، وقيل : الغول صداع في الرأس ، وعليه فيكون ما بعده تأسيسا. قوله : (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) عن سببية ، أي ولا هم ينزفون بسببها. قوله : (بفتح الزاي) أي مع ضم

٣١٦

من نزف الشارب وأنزف أي يسكرون ، بخلاف خمر الدنيا (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) حابسات الأعين على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهنّ (عِينٌ) (٤٨) ضخام الأعين حسانها (كَأَنَّهُنَ) في اللون (بَيْضٌ) للنعام (مَكْنُونٌ) (٤٩) مستور بريشه ، لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة أحسن ألوان النساء (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) بعض أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥٠) عما مر بهم في الدنيا (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (٥١) صاحب ينكر البعث (يَقُولُ) لي تبكيتا (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) (٥٢) بالبعث (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا) في الهمزتين في الثلاثة مواضع ما تقدم (لَمَدِينُونَ) (٥٣) مجزيون ومحاسبون؟ أنكر ذلك أيضا (قالَ) ذلك القائل لإخوانه (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) (٥٤) معي إلى النار لننظر حاله؟ فيقولون : لا (فَاطَّلَعَ) ذلك القائل من بعض كوى الجنة (فَرَآهُ) أي رأى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥) أي وسط النار (قالَ) له تشميتا (تَاللهِ إِنْ) مخففة من الثقيلة (كِدْتَ) قاربت (لَتُرْدِينِ) (٥٦) لتهلكني بإغوائك (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) عليّ بالإيمان (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٥٧) معك في النار. ويقول أهل الجنة (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) (٥٨) (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) أي التي في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٥٩)

____________________________________

الياء ، فهو مبني للمفعول ، وقوله : (وكسرها) أي مع ضم الياء أيضا ، فهو مبني للفاعل قراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بالفتح والكسر وبالفتح والضم. قوله : (من نزف الشارب) إلخ ، أي فهو مأخوذ من الثلاثي أو الرباعي ، والقراءتان السبعيتان على مقتضى أخذه من الرباعي فتدبر. قوله : (عِينٌ) جمع عيناء ، وهي الواسعة العين اتساعا غير مفرط ، بل مع الحسن والجمال قوله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبهن هنا ببيض النعام ، وفي سورة الواقعة باللؤلؤ المكنون لصفائه ، وكون بياضه مشوبا ببعض صفرة مع لمعان ، لأن هذه الأوصاف جمال أهل الجنة. قوله : (عما مر بهم في الدنيا) أي من الفضائل والمعارف ، وما عملوه في الدنيا.

قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة لإخوانه في الجنة ، وهذا من جملة ما يتحدثون به. قوله : (تبكيتا) أي توبيخا على عدم إنكار البعث. قوله : (ما تقدم) أي من القراءات الأربع ، وهي تحقيق الهمزتين ، وتسهيل الثانية بإدخال ألف وتركه. قوله : (مجزيون) أي فهو من الدين بمعنى الجزاء. قوله : (أنكر ذلك) أي الجزاء والحساب ، وقوله : (أيضا) أي كما أنكر البعث. قوله : (لإخوانه) أي من أهل الجنة. قوله : (من بعض كوى الجنة) بضم الكاف مع القصر ، وبكسرها مع القصر والمد ، جمع كوة بفتح الكاف وضمها أي طبقاتها. قوله : (تشميتا) أي فرحا بمصيبته ، لأن الله نزع رحمة الكفار من قلوب المؤمنين. قوله : (مخففة من الثقيلة) أي واللام فارقة ، ويصح أن تكون نافية ، واللام بمعنى إلا ، وعلى كل ، فهي جواب القسم.

قوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه تقديره : أنحن مخلدون ومنعمون؟ فما نحن بميتين ، إلخ. قوله : (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى إِلَّا) أداة حصر ، و (مَوْتَتَنَا) منصوب على المصدر ، والعامل فيه قوله ميتين ، ويكون استثناء مفرغا ، وهو بمعنى قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا

٣١٧

هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب (إِنَّ هذا) الذي ذكر لأهل الجنة (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠) (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١) قيل يقال لهم ذلك ، وقيل هم يقولونه (أَذلِكَ) المذكور لهم (خَيْرٌ نُزُلاً) وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) (٦٢) المعدة لأهل النار ، وهي من أخبث الشجر المرّ بتهامة ، ينبتها الله في الجحيم كما سيأتي (إِنَّا جَعَلْناها) بذلك (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) (٦٣) أي الكافرين من أهل مكة إذ قالوا : النار تحرق الشجر فكيف تنبته؟ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) أي قعر جهنم وأغصانها

____________________________________

الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى). قوله : (هو استفهام تلذذ) أي فهو من كلام بعضهم لبعض ، وقيل : من كلام المؤمنين للملائكة حين يذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت. قوله : (من تأبيد الحياة) إلخ ، لف ونشر مرتب. قوله : (الذي ذكر لأهل الجنة) أي من قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) إلخ. قوله : (لِمِثْلِ هذا) أي لا للحظوظ الدنيوية الفانية التي تزول ولا تبقى. قوله : (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي ليجتهد المجتهدون في الأعمال الصالحة ، فإن جزاءها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فإذا كان كذلك ، فلو أفنى الإنسان عمره في خدمة ربه ، ولم يشتغل بشيء سواها ، لكان ذلك قليلا بالنسبة لما يلقاه من النعيم الدائم ، جعلنا الله من أهله بمنه وكرمه. قوله : (قيل يقال لهم ذلك) أي ما ذكر من الجملتين من قبل الله تعالى ، وقوله : (وقيل هم يقولونه) أي يقول بعضهم لبعض ، ويبعد كلا من الاحتمالين. قوله : (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) فإن العمل والترغيب فيه ، إنما يكون في الدنيا ، فالأولى أنه جملة مستأنفة من كلام الله تعالى ، ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات.

قوله : (أَذلِكَ) معمول لمحذوف تقديره : قل يا محمد لقومك ، على سبيل التوبيخ والتبكيت (أَذلِكَ خَيْرٌ) إلخ. قوله : (المذكور لهم) أي لأهل الجنة من قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) إلخ. قوله : (نُزُلاً) تمييز لخير ، وقوله : (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أَمْ) حرف عطف ، و (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) معطوف على اسم الإشارة ، وهو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير أم شجرة الزقوم خير نزلا. والتعبير بخير ، و (نُزُلاً) تهكم بهم وللمشاكلة. قوله : (من ضيف وغيره) الضيف من يأتي بدعوة ، وغيره من يأتي زائرا للمحبة والألفة ، وربما كان أعز من الضيف. قوله : (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) من التزقم ، وهو البلع بشدة وإكراه للأشياء الكريهة ، سميت بذلك ، لان أهل النار يكرهون على الأكل منها ، وهي شجرة مسمومة ، متى مست جسد أحد تورم فمات ، وهي خبيثة مرة كريهة الطعم. قوله : (وهي من أخبث الشجر) أي وهي صغيرة الورق منتنة.

قوله : (إِنَّا جَعَلْناها) (بذلك) أي بسبب إخبار الله تعالى بذلك. قوله : (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي امتحانا واختبارا ، هل يصدقون أم لا؟ قوله : (إذ قالوا النار تحرق الشجر فكيف تنبته) أي ولم يعلموا أن القادر لا يعجزه شيء. قوله : (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي تنبت في أسفلها. قوله : (إلى دركاتها) أي منازلها ، وذلك نظير شجرة طوبى لأهل الجنة ، فإن أصلها في عليين ، وما من بيت في الجنة إلا وفيه غصن منها.

٣١٨

ترتفع إلى دركاتها (طَلْعُها) المشبه بطلع النخل (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (٦٥) أي الحيات القبيحة المنظر (فَإِنَّهُمْ) أي الكفار (لَآكِلُونَ مِنْها) مع قبحها لشدّة جوعهم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٦٦) (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٦٧) أي ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوبا له (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨) يفيد أنهم يخرجون منها لشرب الحميم وأنه خارجها (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) وجدوا (آباءَهُمْ ضالِّينَ) (٦٩) (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠) يزعجون إلى اتباعهم فيسرعون إليه (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) (٧١) من الأمم الماضية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) (٧٢) من الرسل مخوفين (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) الكافرين ، أي عاقبتهم العذاب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤) أي المؤمنين ، فإنهم نجوا من العذاب لإخلاصهم في العبادة ، أو لأن الله أخلصهم لها على قراءة فتح اللام (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) بقوله : رب إني

____________________________________

قوله : (طَلْعُها) الطلع في الأصل ، اسم لثمر النخل أول بروزه ، فتسميته طلعا تهكم بهم. قوله : (أي الحياة القبيحة المنظر) أي ووجه الشبه الشناعة والسم في كل ، وما مشى عليه المفسر أحد أقوالثلاثة ، وقيل : شبه طلعها برؤوس الشياطين حقيقة ، ووجه الشبه القباحة ونفور النفس من كل ، لكن يرد عليه أنه تشبيه بغير معلوم للمخاطبين ، وأجيب : بأن الشيطان وإن كان غير معلوم في الخارج ، فهو معروف في الأذهان والخيالات ، كالغول فإنه مرسوم في خيال كل أحد بصورة قبيحة ، وقيل : الشياطين شجر في البادية معروف للمخاطبين. قوله : (لشدة جوعهم) أي ولقهرهم على الأكل منها زيادة في عذابهم.

قوله : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) أي على ما يأكلونه منها ، إذا شبعوا وغلبهم العطش. قوله : (لَشَوْباً) بفتح الشين في قراءة العامة مصدر على أصله ، وقرىء شذوذا بضم الشين اسم بمعنى المشوب. قوله : (يفيد أنهم يخرجون منها) هذا أحد قولين ، والآخر وهو قول الجمهور ، أنهم لا يخرجون أصلا ، لقوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) وحينئذ فالمعنى أنه ينوع عذابهم وهم في النار ، فتارة يكون عذابهم بأكل الزقوم ، وتارة بشرب الحميم ، وتارة بالزمهرير ، وغير ذلك من أنواع العذاب ، فإذا كانوا مشغولين بأكل الزقوم وفرغوا منه ، يردون إلى الاشتغال بعذاب غيره ، والحال أنهم في النار لا يخرجون منها ، ويمكن التوفيق بين القولين ، بأن يحمل القول بأنه خارجها ، وعلى أنه في محل خارج عن المحل الذي يعذبون فيه ، وليس المراد أنه خارج النار بالكلية ، لمعارضته صريح النص ؛ فيخرجون إلى ذلك المحل للأكل والشرب ، ثم يردون إلى محل العذاب الذي كانوا فيه أولا.

قوله : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ) هذا تعليل لاستحقاقهم العذاب ، والمعنى : أن سبب استحقاقهم للعذاب ، تقليد آبائهم في الضلال ، في غير شيء يتمسكون به سوى التقليد. قوله : (يُهْرَعُونَ) أي من غير تأمل ولا تدبر. قوله : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) إلخ اللام فيه وفيما بعده موطئة لقسم حذوف ، وكل من الجملتين سبق لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فَانْظُرْ) خطاب للنبي أو لكل من يتأتى منه النظر. قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) استثناء منقطع ، لأن ما قبله وعيد ، وهم لم يدخلوا فيه. قوله : (لاخلاصهم في العبادة) أي على قراءة كسر اللام. قوله : (على قراءة فتح اللام) أي والقراءتان سبعيتان.

٣١٩

مغلوب فانتصر (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (٧٥) له نحن ، أي دعانا على قومه فأهلكناهم بالغرق (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (٧٦) أي الغرق (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٧٧) فالناس كلهم من نسله عليه‌السلام ، وكان له ثلاثة أولاد : سام وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام وهو أبو السودان ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك (وَتَرَكْنا) أبقينا (عَلَيْهِ) ثناء حسنا (فِي الْآخِرِينَ) (٧٨) من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة (سَلامٌ) منا (عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) (٧٩) (إِنَّا كَذلِكَ) كما جزيناهم (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٠) (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١) (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢) كفار قومه (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن تبعه في أصل الدين

____________________________________

قوله : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) شروع في تفصيل ما أجمله في قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) وقد ذكر في هذه السورة سبع قصص : قصة نوح ، وقصة إبراهيم ، وقصة الذبيح ، وقصة موسى وهرون ، وقصة الياس ، وقصة لوط ، وقصة يونس ، وذلك تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحذير لمن كفر من أمته. قوله : (ربي إني مغلوب) أي مقهور ، وقوله : (فانتصر) أي انتقم منهم. قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) الواو للتعظيم ، وقوله : (نحن) هو المخصوص بالمدح. قوله : (وَأَهْلَهُ) أي من آمن به ، ومنهم زوجته المؤمنة وأولاده الثلاثة وزوجاتهم. قوله : (فالناس كلهم من نسله) هذا هو المعتمد ، وقيل كان لغير ولد نوح أيضا نسل. قوله : (سام) إلخ ، الثلاثة بمنع الصرف للعلمية والعجمة وفارس ، كذلك للعلمية والتأنيث ، لأنه علم على قبيلة. قوله : (والخزر) بفتح الخاء والزاي بعدهما راء مهملة ، وهكذا في النسخ الصحيحة وهو الصواب ، وفي بعض النسخ : والخزرج ، وهو تحريف فاحش ، لأن الخزرج من جملة العرب ، والخزر صنف من الترك صغار الأعين ، يعرفون الآن بالططر. قوله : (وما هنالك) أي وهم قوم عند يأجوج ومأجوج ، إذا طلعت عليهم الشمس ، دخلوا في أسراب لهم تحت الأرض ، فإذا زالت عنهم ، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم ، وقيل : هم قوم عراة ، يفرش بعضهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى. قوله : (ثناء حسنا) قدره إشارة إلى أن مفعول (تَرَكْنا) محذوف ، وقوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) كلام مستقل انشاء ، ثناء من الله تعالى على نوح ، فالأول ثناء الخلق ، والثاني ثناء الخالق ، وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يمسي : سلام على نوح في العالمين ، لم تلدغه عقرب». قوله : (الْعالَمِينَ) متعلق بما تعلق به الجار قبله ، والمراد بالعالمين الملائكة والثقلان.

قوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لما فعل بنوح من الكرامة ، في إجابة دعائه ، وإبقاء ذريته ، وذكر الجميل ، وتسليم الله عليه في العالمين ، أي فهذا الجزاء سنتنا في كل من اتصف بالإحسان كنوح. قوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) علة لكونه محسنا ، وفيه إجلال لشأن الإيمان ، وإظهار لفضله ، وترغيب في تحصيله والثبات عليه والازدياد منه. قوله : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) معطوف على (نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) فالترتيب حقيقي ، لأن نجاتهم بركوب السفينة ، حصلت قبل غرق الباقين فتدبر.

قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) إلخ عطف على قوله : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) عطف قصة على قصة. قوله : (أي ممن اتبعه) إلخ ، أي فالشيعة الأتباع والحزب. قوله : (في أصل الدين) أي وإن اختلفت فروع

٣٢٠