حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٨

لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) مهورهن (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من الكفار بالسبي ، كصفية وجويرية (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ

____________________________________

ومالك ، فالمطلقة قبل الدخول إن سمي لها صداق ، فلا متعة لها ولا عدة عليها ، وإن لم يسم لها صداق بأن نكحت تفويضا ، فلا عدة عليها ولها المتعة ، إما وجوبا كما هو عند الشافعي ، أو ندبا كما هو عند مالك. قوله : (خلوا سبيلهن) أي اتركوهن. قوله : (من غير ضرار) أي بأن تمسكوهن تعنتا حتى يفتدين منكم ، أو تؤذوهن وتتكلموا في أعراضهن.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) إلخ ، اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية فقيل : المعنى أن الله أحل له أن يتزوج بكل امرأة دفع مهرها إلخ ، فعلى هذا تكون الآية ناسخة للتحريم الكائن بعد التخيير المدلول عليه بقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فهذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة ، فهي متأخرة في النزول عن الآية المنسوخة بها ، كآية الوفاة في البقرة ، وقيل المراد (أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) الكائنات عندك ، لأنهن اخترنك على الدنيا ، ويؤيده قول ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزوج من أي النساء شاء ، وكان يشق على نسائه ، فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء إلا من سمى ، سر نساؤه بذلك ، والقول الأول أصح. قوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) بيان لما كان يفعله من مكارم الاخلاق ، وإلا فالله أحل له أن يتزوج بلا مهر.

قوله : (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) بيان لما ملكت يمينك ، وهذا القيد خرج مخرج الغالب ، بل الملك بالشراء كذلك. قوله : (كصفية) هي بنت حيي بن أخطب من نسل هارون أخي موسى ، وتقدم أنها كانت من سبي خيبر ، أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدحية الكلبي في أخذ جارية فأخذها ، فقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطيته سيدة بني قريظة والنضير ، وهي لا تصلح إلا لك ، فخشي عليها الفتنة ، فأعطاه غيرها ثم أعتقها وتزوجها وبنى بها وهو راجع إلى المدينة ، وفي رواية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : هل لك فيّ؟ قالت : نعم يا رسول الله ، إني كنت أتمنى ذلك في الشرك ، وكان بعينها خضرة ، فسألها عنها فقالت : إنها كانت نائمة ، ورأس زوجها ملكهم في حجرها ، فرأت قمرا وقع في حجرها ، فلما استيقظ أخبرته فلطمها وقال : تتمنين ملك يثرب ، ماتت في رمضان سنة خمسين ودفنت في البقيع. قوله : (وجويرية) أي وهي بنت الحرث الخزاعية ، وكانت وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ، فكاتبها فجاءت تسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفته بنفسها فقال : هل لك إلى ما هو خير من ذلك ، أودي عنك كتابتك وأتزوجك؟ فقالت : نعم ، فسمع الناس بذلك ، فأعتقوا ما بأيديهم من قومها وقالوا : أصهار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت عائشة : فما رأينا امرأة كانت أعظم في قومها بركة منها ، أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، وقسم لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت بنت عشرين سنة ، وتوفيت سنة خمسين.

قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) أي نساء قريش المنسوبات لأبيك ، وقوله : (وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) أي نساء بني زهرة المنسوبات لأمك ، وحكمة إفراد العم والخال دون العمة والخالة ، أن العم والخال يعمان إذا أضيفا ، لكونهما مفردين خاليين من تاء الوحدة ، والعمة والخالة لا يعمان لوجود

٢٤١

مَعَكَ) بخلاف من لم يهاجرن (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) يطلب نكاحها بغير صداق (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) النكاح بلفظ الهبة من غير صداق (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) أي المؤمنين (فِي أَزْواجِهِمْ) من الأحكام بألا يزيدوا على أربع نسوة ، ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر (وَ) في (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء بشراء وغيره ، بأن تكون الأمة ممن نحل لمالكها كالكتابية ، بخلاف المجوسية والوثنية ، وأن تستبرأ قبل الوطء (لِكَيْلا) متعلق بما قبل ذلك (يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) ضيق في النكاح (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يعسر التحرز عنه (رَحِيماً) (٥٠) بالتوسعة في ذلك (تُرْجِي) بالهمزة والياء بدله تؤخر (مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) أيّ أزواجك عن نوبتها (وَتُؤْوِي) تضم (إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) منهن فتأتيها (وَمَنِ

____________________________________

التاء. قوله : (بخلاف من لم يهاجرن) أي فلا يحللن له ، وهذا الحكم كان قبل الفتح ، حين كانت الهجرة شرطا في الإسلام ، فلما نسخ حكم الهجرة ، نسخ هذا الحكم.

قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) معطوف على مفعول (أَحْلَلْنا) أي وأما غير المؤمنة فلا تحل له ، وظاهر الآية أن النكاح ينعقد في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهبة ، وحينئذ فيكون من خصوصياته ، والنساء اللاتي وهبن أنفسهن أربع : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية ، وأم شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم. واعلم أنه يحرم على النبي تزوج الحرة الكتابية لما في الحديث : «سألت ربي أن لا أزوج إلا من كان معي في الجنة فأعطاني». ولقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ولا يليق أن تكون المشركة أم المؤمنين ، ويحرم عليه أيضا نكاح الأمة ولو مسلمة ، لأن نكاحها مشروط بأمرين : خوف العنت ، وعدم وجود مهر الحرة ، وكلا الأمرين مفقود منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما تسريه بالأمة الكتابية ففيه خلاف. قوله : (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) أظهر في محل الإضمار ، تشريفا لهذا الوصف ، وإظهارا لعظمة قدره عليه.

قوله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) هذا الشرط في الشرط الأول ، فإن هبتها نفسها لا توجب حلها ، إلا إذا أراد نكاحها ، بأن يحصل منه القبول بعد الهبة ، أو يسألها في ذلك قبل الهبة فتدبر. قوله : (خالِصَةً) مصدر معمول لمحذوف ، أي خلصت لك خالصة ، ومجيء المصدر على هذا الوزن كثير ، كالعاقبة والعافية والكاذبة. قوله : (من غير صداق) أي ومن غير ولي وشهود. قوله : (وغيره) أي كهبة. قوله : (بخلاف المجوسية) إلخ ، فلا تحل لمالكها إلا إذا استسلمها ، وذلك كجواري السودان والحبشة والمغرب ، لأنهن يجبرن على الإسلام ، ولذا لا يجوز للكفار شراؤهن كما هو مقرر في الفقه. قوله : (وأن تستبرأ قبل الوطء) أي كتابية كانت أو مجوسية. قوله : (متعلق بما قبل ذلك) أي وهو قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) والمعنى : أحللنا لك أزواجك ، وما ملكت يمينك ، والموهوبة لك ، لئلا يكون عليك ضيق. قوله : (لما يعسر التحرز عنه) أي لقولهم إذا ضاق الأمر اتسع.

قوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) إلخ ، اتفق المفسرون على أن المقصود من هذه الآية ، التوسعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معاشرته لنسائه ، واختلفوا في تأويله ، وأصح ما قيل فيها : التوسعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك القسم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت

٢٤٢

ابْتَغَيْتَ) طلبت (مِمَّنْ عَزَلْتَ) من القسمة (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في طلبها وضمها إليك ، خير في ذلك بعد أن كان القسم واجبا عليه (ذلِكَ) التخيير (أَدْنى) أقرب إلى (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَ) ما ذكر المخير فيه (كُلُّهُنَ) تأكيد للفاعل في يرضين (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من أمر النساء والميل إلى بعضهن ، وإنما خيرناك فيهن تيسيرا عليك في كل ما أردت (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَلِيماً) (٥١) عن عقابهم (لا يَحِلُ) بالتاء والياء (لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) بعد التسع اللاتي اخترنك (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ) بترك إحدى التاءين في الأصل (بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) بأن

____________________________________

أغار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقول : أوتهب المرأة نفسها لرجل ، فلما أنزل الله عزوجل (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) قالت : قلت : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك ، وقيل : إن ذلك في الواهبات أنفسهن ، وحينئذ فيكون المعنى تأخذ من شئت منهن ، وتترك من شئت ، وقيل : إن ذلك في الطلاق فالمعنى لك طلاق من شئت منهن ، وإمساك من شئت ، وعلى كل حال ، فالآية معناها التوسعة عليه في أمر النساء. قوله : (والياء بدله) أي بدل الهمزة ، وحينئذ فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء ، منع من ظهورها الثقل. قوله : (عن نوبتها) أي من القسم.

قوله : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) إلخ أي التي طلبت ردها إلى فراشك ، بعد أن عزلتها وأسقطتها من القسمة ، فلا جناح عليك. قوله : (بعد أن كان القسم واجبا عليه) هذا أحد قولين ، وقيل : كان مخيرا من أول الأمر ، ولم يكن واجبا عليه ابتداء. قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) هذا إشارة إلى حكمة تخييره في القسم وعدم وجوبه عليه ، والمعنى لم يجب عليه القسم بين نسائه مع أنه عدل ، لأن التخيير ، أقرب إلى سكون أعينهن وعدم حزنهن ، وأقرب إلى رضاهن بما حصل لهن ، لأنهن إذا علمن أن الله لم يوجب على النبي شيئا من القسم ، وحصل منه القسم سررن بذلك وقنعن به. قوله : (تأكيد للفاعل) أي فهو بالرفع ، وهذه قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بالنصب توكيد للمفعول.

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) خطاب للنبي على جهة التعظيم ، ويحتمل أن يراد العموم. قوله : (والميل إلى بعضهن) أي بالطبع ، فكان يميل إلى بعضهن أكثر ، وكان يقول : اللهم إن هذا حظي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك ، واتفق العلماء على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات ، غير سوده رضي الله عنها ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها. قوله : (حَلِيماً) (على عقابهم) أي يعلم العيب ويستره ، فينبغي للإنسان أن لا يفرط في حقوقه ، لأن انتقام الحليم وغضبه أمر عظيم لما في الحديث : «اتقوا غيظ الحليم». ففي الآية ترغيب وترهيب. قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بعد التسع) أي بعد اجتماعهن في عصمتك ، فهن بمنزلة الأربع لآحاد الأمة ، فقد قصر الله نبيه عليهن ، جزاء لهن على اختيارهن الله ورسوله ، وهن التسع اللاتي توفي عنهن وهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وصفية بنت حيي ، وميمونة بنت الحرث الهلالية ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحرث المصطلقية ، وقيل المراد بعد التخيير. قوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) البدل في

٢٤٣

تطلقهن أو بعضهن وتنكح بدل من طلقت (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) من الإماء فتحل لك وقد ملك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدهن مارية وولدت له إبراهيم ومات في حياته (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢) حفيظا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) في الدخول

____________________________________

الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك ، والمراد هنا نهيه عن المفارقة والإبدال بأي وجه. قوله : (مِنْ أَزْواجٍ مِنْ) زائدة في المفعول.

قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) حال من فاعل (تَبَدَّلَ). قوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء متصل من النساء ، لأنه يتناول الأزواج والإماء ، وقيل منقطع لإخراجه من الأزواج. قوله : (وقد ملك بعدهن مارية) أي القبطية ، أهداها له المقوقس ملك القبط ، وهم أهل مصر والاسكندرية ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث له حاطب بن أبي بلتعة بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم بؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت ، فإنما عليك إثم القبط ، و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، الآية. فلما جاء حاطب بالكتاب إلى المقوقس ، وجده في الإسكندرية ، فدفعه إليه فقرأه ، ثم جعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية ، ثم كتب جوابه في كتاب صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وعلمت أن نبيا قد بقي ، وما كنت أظن إلا أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب ، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، أي وهما مارية وسيرين ، وعشرين ثوبا من قباطي مصر ، وطيبا وعودا وندا ومسكا ، مع ألف مثقال من الذهب ، ومع قدح من قوارير ، وبغلة للركوب ، وأهدى إليه جارية أخرى زيادة على الجاريتين ، وخصيا يقال له مابور ، والبغلة هي دلدل وكانت شهباء ، وفرسا وهو اللزاز ، فإنه سأل حاطبا : ما الذي يحب صاحبك من الخيل؟ فقال له : الأشقر ، وقد تركت عنده فرسا يقال لها المرتجز ، فانتخب له فرسا من خيل مصر الموصوفة ، فأسرج وألجم ، وهو فرسه الميمون ، وأهدى إليه عسلا من عسل بنها ، قرية من قرى مصر ، فأعجب به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن كان هذا عسلكم ، فهذا أحلى ، ثم دعا فيه بالبركة. قوله : (وولدت له إبراهيم) أي في ذي الحجة سنة ثمان ، وعاش سبعين يوما ، وقيل : سنة وعشرة أشهر ، وقوله : (ومات في حياته) أي ولم يصلّ عليه بنفسه ، بل أمرهم فصلوا عليه.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلخ ، هذه الآية نزلت في شأن وليمة زينب بنت جحش ، حين بنى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن أنس بن مالك قال : كنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل ، وكان أول ما أنزل في بناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش ، حين أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها عروسا ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا ، وبقي رهط عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشيت ، حتى جاء عتبة حجرة عائشة ، ثم ظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتى إذا دخل على زينب ، فإذا هم جلوس لم يقوموا ، فرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجعت ، حتى إذا بلغ حجرة عائشة ، وظن أنهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، فإذا هم قد خرجوا ، فضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيني وبينه الستر ، وأنزل الحجاب. قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ

٢٤٤

بالدعاء (إِلى طَعامٍ) فتدخلوا (غَيْرَ ناظِرِينَ) منتظرين (إِناهُ) نضجه مصدر أنى يأني (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا) تمكثوا (مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) من بعضكم لبعض (إِنَّ ذلِكُمْ) المكث (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أن يخرجكم (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أن يخرجكم أي لا يترك بيانه ، وقرىء يستحي بياء واحدة (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) أي أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ستر (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر المريبة (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) بشيء (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ

____________________________________

لَكُمْ) أي إلا بسبب الإذن لكم. قوله : (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن لتضمينه معنى يدعى كما قدره المفسر. قوله : (فتدخلوا) (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) هذا التقدير غير مناسب ، لأنه يقتضي أن الدخول مع الإذن ، لا يجوز معه انتظار نضج الطعام ، مع أنه يجوز ، فالمناسب حذف هذا التقدير ، إذ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يدخلون من غير إذن ، وينتظرون نضج الطعام ، فنهاهم الله عن كل من الأمرين. والحاصل : أن أسباب النزول في هذه الآيات تعددت ، منها : أن قوما كانوا يدخلون بيوت النبي بغير دعوى وينتظرون نضج الطعام ، ومنها : أن قوما كانوا يدخلون بإذن ويتخلفون بعد ما طعموا مستأنسين لحديث ، ومنها : مؤاكلة الأجانب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضور زوجاته ، فنزلت آية الحجاب ، ونهى عن ذلك كله ، وهذه آيات الحجاب الخصوص أمهات المؤمنين ، وأما لعموم الأمة ، فقد تقدم في سورة النور تأمل. قوله : (مصدر أنى يأني) أي من باب رمى ، وقياس مصدر أنى ، لكن لم يسمع ، وإنما المسموع إنى بالكسر والقصر.

قوله : (فَإِذا طَعِمْتُمْ) أي أكلتم الطعام. قوله : (فَانْتَشِرُوا) أي اذهبوا حيث شئتم في الحال ، ولا تمكثوا بعد الأكل والشرب. قوله : (وَلا) (تمكثوا) (مُسْتَأْنِسِينَ) أشار بذلك إلى أن (مُسْتَأْنِسِينَ) حال من محذوف ، وذلك المحذوف معطوف على انتشروا. قوله : (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) أي لتضيقه عليه. قوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي من إخراجكم. قوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) المراد بالحق إخراجكم من منزله ، وأطلق الاستحياء في حق الله ، وأريد لازمه وهو ترك البيان. قوله : (بياء واحدة) أي قراءة شاذة في الثاني. قوله : (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) روي أن عمر قال : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأكل ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم عائشة ، وهي تأكل معهم ، فكره النبي ذلك ، فنزلت هذه الآية. قوله : (ذلِكُمْ) أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن ، وعدم الاستئناس للحديث ، وسؤال المتاع من وراء الحجاب. قوله : (من الخواطر المريبة) أي أنفى وأبعد لدفع الريبة والتهمة ، وهو يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة ، مع من لا تحل له ، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه.

قوله : (وَما كانَ لَكُمْ) أي ما صح وما استقام لكم ، وقوله : (أَنْ تُؤْذُوا) وهو اسم (كانَ) ، و (لَكُمْ) خبرها ، و (أَنْ تَنْكِحُوا) عطف على اسم (كانَ) نزلت هذه الآية في رجل من الصحابة يقال له طلحة بن عبيد الله ، قال في سره : إذا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكحت عائشة ، ثم ندم هذا الرجل ، ومشى على رجليه ، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله ، وأعتق رقبة ، فكفر الله عنه. قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي

٢٤٥

عِنْدَ اللهِ) ذنبا (عَظِيماً) (٥٣) (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) في نكاحهن بعده (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٥٤) فيجازيكم عليه (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَ) أي المؤمنات (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء والعبيد أن يروهن ويكلموهن من غير حجاب (وَاتَّقِينَ اللهَ) فيما أمرتن به (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٥٥) لا يخفى عليه شيء (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦) أي قولوا : اللهم صل على محمد وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ

____________________________________

بعد وفاته أو فراقه ، ولو قبل الدخول بها ، لأن كل من عقد عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأبد تحريمها على أمته ، وأما إماؤه فلا يحرمن على غيره إلا بمسه لهن. قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ) أي ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده. قوله : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي تظهروه على ألسنتكم ، وقوله : (أَوْ تُخْفُوهُ) أي في صدوركم ، وقوله : (فيجازيكم عليه) جواب الشرط ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) تعليل للجواب وهو بمعنى قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).

قوله : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) إلخ ، هذا في المعنى مستثنى من قوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) الآية ، روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال آباؤهنّ وأبناؤهن : يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء حجاب ، فنزلت هذه الآية. وقوله : (فِي آبائِهِنَ) أي أصولهن وإن علوا ، وقوله : (وَلا أَبْنائِهِنَ) المراد فروعهن وإن سفلوا. قوله : (وَلا نِسائِهِنَ) الإضافة من حيث المشاركة في الوصف وهو الإسلام ، فقول المفسر (أي المؤمنات) تفسير للمضاف ، ومفهومه أن النساء الكافرات ، لا يجوز لهن النظر لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كذلك ، ولا مفهوم لأزواج النبي ، بل جميع النساء المسلمات كذلك ، فلا يحل للمسلمة أن تبدي شيئا منها للكافرة ، لئلا تصفها لزوجها الكافر. قوله : (وَاتَّقِينَ اللهَ) عطف على محذوف ، والتقدير امتثلن ما أمرتن به ، واتقين الله ، وحكمة تخصيص الحجاب هنا بأمهات المؤمنين ، وإن تقدم في سورة النور عموما دفع توهم أن أزواج النبي كالأمهات من كل وجه ، فأفاد هنا أنهن كالأمهات في التعظيم والتوقير ، لا في الخلوة والنظر ، فإنهن كالأجانب بل هن أشد ، فذكر لهن حجابا مخصوصا ، فلا يقال إنه مكرر مع ما تقدم في النور. قوله : (لا يخفى عليه شيء) أي من الطاعات والمعاصي الظاهرة والخفية.

قوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) إلخ ، هذه الآية فيها أعظم دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهبط الرحمات ، وأفضل الخلق على الإطلاق ، إذ الصلاة من الله على نبيه ، ورحمته المقرونة بالتعظيم ، ومن الله على غير النبي مطلق الرحمة ، لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فانظر الفرق بين الصلاتين ، والفضل بين المقامين. قوله : (وَمَلائِكَتَهُ) بالنصب معطوف على اسم (إِنَ) ، وقوله : (يُصَلُّونَ) خبر عن الملائكة ، وخبر لفظ الجلالة محذوف تقديره : إن الله يصلي وملائكته يصلون ، وهذا هو الأتم لتغاير الصلاتين ، والمراد بالملائكة جميعهم ، والصلاة من الملائكة الدعاء للنبي بما يليق به ، وهو الرحمة المقرونة بالتعظيم ، وحينئذ فقد وسعت رحمة النبي كل شيء ، تبعا لرحمة الله ، فصار بذلك مهبط الرحمات ، ومنبع التجليات.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) أي ادعوا له بما يليق به ، وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين

٢٤٦

اللهَ وَرَسُولَهُ) وهم الكفار ، يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك ، ويكذبون رسوله (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أبعدهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٥٧) ذا إهانة وهو النار (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) يرمونهم بغير ما عملوا (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) تحملوا

____________________________________

على النبي تشريفهم بذلك ، حيث اقتدوا بالله في مطلق الصلاة ، وإظهار تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق ، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمة وصلت لهم ، وحق على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه ، فصلاة جميع الخلق عليه ، مكافأة لبعض ما يجب عليهم من حقوقه. إن قلت : إن صلاتهم طلب من الله أن يصلي عليه ، وهو مصل عليه مطلقا طلبوا أو لا؟ أجيب : بأن الخلق لما كانوا عاجزين عن مكافأته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ طلبوا من القادر المالك أن يكافئه ، ولا شك أن الصلاة الواصلة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله لا تقف عند حد ، فكلما طلبت من الله ، زادت على نبيه ، فهي دائمة بدوام الله.

قوله : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) إن قلت : خص السّلام بالمؤمنين ، دون الله والملائكة. أجيب بأن هذه الآية لما ذكرت عقب ذكر ما يؤذي النبي ، والأذية إنما هي من البشر ، فناسب للتخصيص بهم ، لأن في السّلام سلامة من الآفات ، وأكد السّلام دون الصلاة ، لأنها لما أسندت لله وملائكته ، كانت غنية عن التأكيد. واعلم أن العلماء اتفقوا على وجوب الصلاة والسّلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختلفوا في تعيين الواجب ، فعند مالك تجب الصلاة والسّلام في العمر مرة ، وعند الشافعي تجب في التشهد الأخير من كل فرض ، وعند غيرهما تجب في كل مجلس مرة ، وقيل : تجب عند ذكره ، وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد ، وبالجملة فالصلاة على النبي أمرها عظيم ، وفضلها جسيم ، وهي من أفضل الطاعات ، وأجل القربات ، حتى قال بعض العارفين : إنها توصل إلى الله تعالى من غير شيخ ، لأن الشيخ والسند فيها صاحبها ، لأن تعرض عليه ، ويصلى على المصلي بخلاف غيرها من الأذكار ، فلا بد فيها من الشيخ العارف ، وإلا دخلها الشيطان ، ولم ينتفع صاحبها بها. قوله : (أي قولوا اللهم صلّ على محمد وسلم) أي اجمعوا بين الصلاة والسّلام ، وصيغ الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرة لا تحصى وأفضلها ما ذكره فيه لفظ الآل والصحب ، فمن تمسك بأي صيغة منها ، حصل له الخير العظيم.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الإيذاء في حق الله معناه تعدي حدوده ، وفي حق الرسول ظاهر. قوله : (وهم الكفار) أي اليهود والنصارى والمشركون. قوله : (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا) أي حجبهم عن الطاعة والتوحيد. قوله : (وَالْآخِرَةِ) أي بتخليدهم في العذاب الدائم. قوله : (أبعدهم) أي عن رحمته. قوله : (ذا إهانة) أي هوان واستخفاف.

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ) إلخ ، قيل : نزلت في علي بن أبي طالب ، كانوا يؤذونه ويسمعونه ، وقيل : نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها ، وقيل : نزلت في شأن المنافقين الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يطلبون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن ، فإن سكتت المرأة اتبعوها ، وإن زجرتهم انتهوا عنها ، وفي هذه الآية زجر لمن يسيء الظن بالمؤمنين والمؤمنات ، ويتكلم فيهم من غير علم ، وهي بمعنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).

٢٤٧

كذبا (وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨) بينا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع جلباب وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة ، أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن ، إلا عينا واحدة (ذلِكَ أَدْنى) أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن حرائر (فَلا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن ، بخلاف الإماء فلا يغطين وجوههن ، فكان المنافقون يتعرضون لهن (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن من ترك الستر (رَحِيماً) (٥٩) بهن إذ سترهن (لَئِنْ) لام قسم (لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن نفاقهم (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بالزنا (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) المؤمنين بقولهم : قد أتاكم العدو ، وسراياكم قتلوا أو هزموا (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنسلطنك عليهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) يساكنونك (فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) ثم يخرجون (مَلْعُونِينَ) مبعدين عن الرحمة (أَيْنَما ثُقِفُوا) وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١) أي الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به (سُنَّةَ اللهِ) أي سن الله ذلك (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأمم الماضية في منافقيهم المرجفين المؤمنين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢) منه (يَسْئَلُكَ النَّاسُ) أي أهل مكة (عَنِ السَّاعَةِ) متى تكون (قُلْ

____________________________________

قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ ، سبب نزولها : أن المنافقين كانوا يتعرضون للنساء بالأذية ، يريدون منهن الزنا ، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء ، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة ، لأن زي الكل واحد ، تخرج الحرة والأمة في درع وخمار ، فتكون ذلك لأزواجهن ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. قوله : (يُدْنِينَ) أي يرخين ويغطين. قوله : (التي تشتمل بها) أي تتغطى وتتستر بها المرأة من فوق الدرع والخمار. قوله : (فلا يغطين وجوههن) أي فكن لا يغطين وجوههن ، وهذا فيما مضى ، وأما الآن فالواجب على الحرة والأمة الستر بثياب غير مزينة خوف الفتنة. قوله : (لما سلف منهن من ترك الستر) ورد أن عمر بن الخطاب مر بجارية متقنعة ، فعلاها بالدرة وقال لها أتتشبهين بالحرائر يا لكاع ، ألقي القناع.

قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي كعبد الله بن أبي وأصحابه. قوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي فجور وهم الزناة ، وهم من جملة المنافقين. قوله : (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي بالكذب ، وذلك أن ناسا منهم كانوا إذا خرجت سراياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوقعون في الناس أنهم قد قتلوا وهزموا ويقولون : قد أتاكم العدو. قوله : (لنسلطنك عليهم) أي فتخرجهم من مجلسك وتقتلهم ، وقد فعل بهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فإنه لما نزلت في سورة براءة ، جمعهم وصعد على المنبر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ، ويا فلان قم ، فقام إخوانهم من المسلمين ، وتولوا إخراجهم من المسجد. قوله : (مَلْعُونِينَ) حال من محذوف قدره المفسر بقوله : (ثم يخرجون). قوله : (أي الحكم فيهم هذا) أي الأخذ والقتل. قوله : (على جهة الأمر به) أي أن الآية خبر بمعنى الأمر. (أي سن الله ذلك) أشار بذلك إلى أن سنة مصدر مؤكد ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فلا تحزن على وجود المنافقين في قومك ، فإنه سنة قديمة ، كما كان في قوم موسى ، منهم موسى السامري وأتباعه ، وقارون وأتباعه. قوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تغييرا ونسخا ، لكونها بنيت على أساس متين ، فليست مثل الأحكام التي تتبدل وتنسخ.

قوله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ) أي على سبيل الاستهزاء والسخرية ، لأنهم ينكرونها. واعلم أن السائل للنبي

٢٤٨

إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ) يعلمك بها أي أنت لا تعلمها (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ) توجد (قَرِيباً) (٦٣) (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أبعدهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (٦٤) نارا شديدة يدخلونها (خالِدِينَ) مقدرا خلودهم (فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحفظهم عنها (وَلا نَصِيراً) (٦٥) يدفعها عنهم (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ) للتنبيه (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (٦٦) (وَقالُوا) أي الأتباع منهم (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) وفي قراءة ساداتنا جمع الجمع (وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧) طريق الهدى (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي مثلي عذابنا (وَالْعَنْهُمْ) عذبهم (لَعْناً كَبِيراً) (٦٨) عدده وفي قراءة بالموحدة أي عظيما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا) مع نبيكم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) بقولهم مثلا : ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر (فَبَرَّأَهُ اللهُ

____________________________________

عن الساعة أهل مكة واليهود ، فسؤال أهل مكة استهزاء ، وسؤال اليهود امتحان ، لأن الله أخفى علمها في التوراة ، فإن أجابهم بالتعيين ثبت عندهم كذبه ، وإن أجابهم بقوله : علمها عند ربي مثلا ، ثبتت نبوته وصدقه ، فقول المفسر (أي أهل مكة) أي واليهود. قوله : (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن أصل ثبوتها ، وعن وقت قيامها. قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي لم يطلع عليها أحد ، وهذا إنما هو وقت السؤال ، وإلا فلم يخرج نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدنيا ، حتى أطلعه الله على جميع المغيبات ومن جملتها الساعة ، لكن أمر بكتم ذلك.

قوله : (وَما يُدْرِيكَ ما) استفهامية مبتدأ ، وجملة (يُدْرِيكَ) خبره ، والاستفهام إنكاري. قوله : (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً لَعَلَ) حرف ترج ونصب ، و (السَّاعَةِ) اسمها ، وجملة (تَكُونُ) خبرها ، و (قَرِيباً) حال وتكون تامة ، ولذا فسرها بتوجد ، والمعنى قل أترجى وجود الساعة عن قريب ، فكل منهما جملة مستقلة لما ورد : أن الدنيا سبعة آلاف سنة ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الألف السابع ، فلم يبق من الدنيا إلا القليل. قوله : (أبعدهم) أي عن رحمته. قوله : (مقدرا خلودهم) أشار بذلك إلى أن قوله : (خالِدِينَ) حال مقدرة. قوله : (فِيها) أي من السعير ، وأنثه مراعاة لمعناه. قوله : (أَبَداً) تأكيد لما استفيد من قوله : (خالِدِينَ).

قوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ) إما ظرف لخالدين ، أو ليقولون مقدم عليه ، والمعنى تصرف من جهة إلى جهة ، كاللحم يشوى بالنار. قوله : (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا) كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما ذا صنعوا عند ذلك؟ فقيل : يقولون متحسرين على ما فاتهم (يا لَيْتَنا) إلخ. قوله : (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) بألف بعد اللام ، وبدونها هنا ، وفي قوله : (السَّبِيلَا) قراءتان سبعيتان ، وتقدم التنبيه على ذلك. قوله : (سادَتَنا) جمع إما لسيد أو لسائد على غير قياس. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (جمع الجمع) أي جمع تصحيح بالألف والتاء لسادة ، الذي مفرده إما سيد أو سائد. قوله : (أي مثلي عذابنا) أي لأنهم ضلوا وأضلوا. قوله : (وفي قراءة بالموحدة) أي وهما سبعيتان. قوله : (ما يمنعه أن يغتسل معنا) إلخ ، أي لما روي أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا ، إلا أنه آدر ، فذهب يوما يغتسل ، فوضع ثوبه على حجر ، ففر الحجر بثوبه ، فجلع موسى عليه‌السلام يعدو إثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى

٢٤٩

مِمَّا قالُوا) بأن وضع ثوبه على حجر ليغتسل ، فقرّ الحجر به حتى وقف بين ملإ من بني إسرائيل ، فأدركه موسى فأخذ ثوبه فاستتر به ، فرأوه لا أدرة به وهي نفخة في الخصية (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩) ذا جاه. ووما أوذي به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قسم قسما ، فقال رجل : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وقال : يرحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ، رواه البخاري. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠) صوابا (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يتقبلها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) نال غاية مطلوبه (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) الصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب وتركها من العقاب (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) بأن خلق فيها فهما ونطقا (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ) خفن (مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) آدم بعد عرضها عليه (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً)

____________________________________

نظرت بنو إسرائيل سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر حتى نظروا إليه ، فأخذ ثوبه فاستتر به ، وطفق بالحجر ضربا ، قال أبو هريرة : والله إن به ندبا ، أي اثرا ، ستة أو سبعة من ضرب موسى.

قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ) أي أظهر له براءته لهم. قوله : (وهي نفخة في الخصية) أي بسبب انصباب مادة أو ريح غليظ فيها. قوله : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) المراد عندية مكانه وقدر لا مكان. قوله : (فغضب النبي من ذلك) أي وقال كما في رواية : «إن لم أعدل من يعدل ، خسرت وندمت إن لم أعدل». قوله : (قَوْلاً سَدِيداً) المراد قولا فيه رضا الله ، بأن يكون ما يعني الإنسان ، فدخل في ذلك جميع الطاعات القولية ، وهذا التفسير أتم من غيره. قوله : (يتقبلها) أي يثبكم عليها. قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي يمحها من الصحف ، أو يسترها عن الملائكة.

قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) اختلف في المراد بالأمانة ، فأحسن ما قيل فيها : إنها التكاليف الشرعية ، وقيل : إنها قواعد الدين الخمس ، وقيل : هي الودائع ، وقيل : الفرج ، وقيل : غير ذلك ، روي أن الله تعالى قال للسماوات والأرض والجبال : أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قال : إن أحسنتن جوزيتن ، وإن عصيتن عوقبتن ، قلن : لا يا رب نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا ، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله لئلا يقمن بها ، لا معصية ولا مخالفة لأمره ، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ، ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها. قوله : (من الثواب) بيان لما ، أي عرضناها مع الثواب والعقاب على السموات إلخ. قوله : (بأن خلق فيها فهما) أي حتى عقلت الخطاب ، وقوله : (ونطقا) أي حتى ردت الجواب.

قوله : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) أي استصغارا أو خوفا من عدم الوفاء بها ، فليس إباؤهن كإباء إبليس من السجود لآدم ، لأن السجود كان فرضا ، والأمانة كانت عرضا ، وإباؤه استكبارا ، وإباؤهن استصغارا. قوله : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن من عدم القيام بها وعدم أدائها. قوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) عطف على محذوف تقديره فعرضناها على الإنسان فحملها. قوله : (بعد عرضها عليه) روي أن الله عزوجل قال

٢٥٠

لنفسه بما حمله (جَهُولاً) (٧٢) به (لِيُعَذِّبَ اللهُ) اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) المضيعين الأمانة (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المؤدين الأمانة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للمؤمنين (رَحِيماً) (٧٣) بهم.

____________________________________

لآدم : إن عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم تطقها. فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فحملها آدم فقال : بين أذني وعاتقي ، قال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك ، وأجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل ، فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك لحيين وغلاقا ، فإذا خشيت فأغلق عليه ، وأجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه على ما حرمت عليك ، قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها ، وبين أن أخرج من الجنة ، إلا مقدار ما بين الظهر إلى العصر.

قوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) (لنفسه) أي حيث حملها ما لا تطيقه ، وقوله : (جَهُولاً) (به) أي بما حمله ، وقيل جهولا بقدر ربه ، لأنه لا يعلم قدره غيره ، وهذا يناسب تفسير الإنسان بآدم ، وعود الضمير عليه ، وإن أريد بالضمير ما يشمله وأولاده ، فيكون في الكلام استخدام ، فيقال في الأنبياء والصالحين منهم كذلك ، وفي غيرهم الظلم والجهل ، من حيث خيانته في الأمانة ومجاوزته حد الشرع.

قوله : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) اللام للعاقبة والصيرورة على حد (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) (للمؤمنين) أي حيث عفا عما سلف منهم. قوله : (رَحِيماً) (بهم) أي حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات ، وحكمة اخبار الأمة بما حصل من تحمل آدم الأمانة ليكونوا على أهبة ، ويعرفوا أنهم متحملون أمرا عظيما لم تقدر على حمله الأرض والسموات والجبال ، وقيل في حق المعصوم : إنه كان ظلوما جهولا.

٢٥١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبإ

مكيّة

إلا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية. وهي أربع أو خمس وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) حمد تعالى نفسه بذلك ، والمراد به الثناء بمضمونه من ثبوت الحمد ، وهو الوصف بالجميل لله تعالى (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) كالدنيا يحمده أولياؤه إذا دخلوا الجنة (وَهُوَ

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبأ مكية

إلا (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية. وهي أربع أو خمس وخمسون آية

بالصرف وتركه كما سيأتي ، سميت بذلك لذكر قصة سبأ فيها ، من باب تسمية الشيء باسم بعضه. قوله : (حمد تعالى) من باب فهم. قوله : (المراد به) بالجر نعت لاسم الإشارة. قوله : (الثناء بمضمونه) أي انشاء الثناء بمضمونه ، وهو الوصف بالجميل ، وليس المراد انشاء المضمون ، لأن اتصافه بالجميل أزلي ثابت له سبحانه وتعالى ، وإنما تعبدنا الله تعالى ، بتجديد حمد موافق للحمد الأزلي ، وهذا يؤيد قول بعض العلماء : إن أل في الحمد عهدية ، لأن الله لما علم عجز خلقه في كنهه ، حمد نفسه بنفسه أزلا ، وأمرهم أن يحمدوه بحمد موافق لحمده ، فتحصل أن الوصف بالجميل ثابت لله أزلا ، وإنشاء الثناء به حادث ، فقول الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) اللفظ والتلفظ حادثان دالان على معنى قديم ، وهو اتصاف الله بالجميل. إن قلت : الحمد مدح ، ومدح النفس مذموم بين الخلق ، فما وجه ذلك؟ أجيب : بأن أوصاف الرب لا تقاس على أوصاف العبيد ، ألا ترى الاتصاف بالعظمة والكبرياء ، فإنها نقص في الخلق ، كمال في الخالق ، وبهذا انهدم قول المعتزلة : إن كل ما حسنه العقل يوصف به الرب ، وكل ما قبحه العقل ينزه عنه ، وبنوا على ذلك أمورا فاسدة منها : وجوب الصلاح والأصلح ، وغير ذلك. قوله : (ملكا وخلقا) أي إن كل ما في السماوات وما في الأرض ، مملوك ومخلوق له سبحانه وتعالى.

قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي في نظير النعم التي تعطى لأهل الإيمان ، فالحمد في الآخرة مخصوص بمن آمن ، وأما الكفار فليسوا من أهله. قوله : (كالدنيا) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء. قوله : (يحمده أولياؤه) المراد بهم المؤمنون. قوله : (إذا دخلوا الجنة) أي فيقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا

٢٥٢

الْحَكِيمُ) في فعله (الْخَبِيرُ) (١) بخلقه (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) يدخل (فِي الْأَرْضِ) كماء وغيره (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كنبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من رزق وغيره (وَما يَعْرُجُ) يصعد (فِيها) من عمل وغيره (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بأوليائه (الْغَفُورُ) (٢) لهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) القيامة (قُلْ) لهم (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ) بالجر صفة ، والرفع خبر مبتدإ ، وعلام بالجر (لا يَعْزُبُ) يغيب (عَنْهُ مِثْقالُ) وزن (ذَرَّةٍ) أصغر نملة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) بيّن هو اللوح المحفوظ (لِيَجْزِيَ) فيها (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) حسن في

____________________________________

الحزن ، الحمد لله الذي صدقنا وعده. قوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلا اعتراض عليه في فعل من الأفعال.

قوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) تفصيل لبعض معلوماته التي تعلق بها مصالح الدين والدنيا. قوله : (كماء وغيره) أي كالكنوز والأموات. قوله : (كنبات وغيره) أي كالكنوز والأموات إذا اخرجت من القبور. قوله : (من رزق وغيره) أي كالبركات والملائكة والصواعق. قوله : (وَما يَعْرُجُ فِيها) ضمن العروج معنى الاستقرار ، فعداه بفي دون إلى. قوله : (من عمل وغيره) أي كالملائكة ، فهو سبحانه وتعالى محيط بجميع ذلك. قوله : (الْغَفُورُ) (لهم) أي إذا عصوه أو فرطوا في بعض حقوقه ، وفي ذلك إشارة إلى أن رحمة الله وغفرانه ، مختصان بمن يدخل الجنة ، وهذا في الآخرة ، وأما في الدنيا ، فرحمته وسعت كل شيء. قوله : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أراد الكفار بضمير التكلم جميع الخلق لا خصوص أنفسهم ، وأرادوا أيضا ينفي اتيانها ، نفي وجودها لا عدم حضورها ، مع كونها في نفس الأمر.

قوله : (قُلْ بَلى) رد لكلامهم ، لأن كلامهم نفي. فأجيب بالنفي ، ونفي النفي اثبات. قوله : (وَرَبِّي) أتى بالقسم تأكيدا للرد ، وقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ) تقوية للتأكيد ، والحكمة في وصفه تعالى بهذا الوصف ، الإهتمام بشأن المقسم عليه. قوله : (بالجر) إلخ ، أي فالقراءات الثلاث سبعيات وجهان في صيغة اسم الفاعل ، ووجه واحد في صيغة المبالغة. قوله : (لا يَعْزُبُ) بضم الزاي في قراءة الجمهور ، وكسرها في قراءة الكسائي. قوله : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) إلخ ، قرأ العامة بضم الراء في أصغر وأكبر على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وقرىء بفتح الراء ، على أن لا نافية للجنس ، و (أَصْغَرُ) اسمها ، وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) خبرها ، والمعنى على كل من القراءتين واحد ، وهو أن كل ما كان ، وما يكون ، وما هو كائن من سائر المخلوقات ، ثابت في اللوح المحفوظ ومبين فيه زيادة على تعلق علم الله به وإثباتها في اللوح ، لا لاحتياج تنزه الله عنه. إن قلت : أي حاجة إلى ذكر الأكبر بعد الأصغر ، إذ هو مفهوم بالأولى؟ أجيب : بأنه لرفع توهم أن اثبات الأصغر خوف توهم النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى ، فلا حاجة إلى إثباته ، فأفاد أن كلا مرسوم في اللوح المحفوظ لا لاحتياج.

قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، علة لقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) كأنه قال : لتأتينكم لأجل جزاء المؤمنين والكافرين ، واللام للعاقبة والصيرورة. قوله : (حسن في الجنة) أي محمود العاقبة ، وأعظمه رؤية

٢٥٣

الجنة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي) إبطال (آياتِنا) القرآن (مُعاجِزِينَ) وفي قراءة هنا وفيما يأتي معاجزين ، أي مقدرين عجزنا أو مسابقين لنا فيفوتونا لظنهم أن لا بعث ولا عقاب (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) سيىء العذاب (أَلِيمٌ) (٥) مؤلم بالجر والرفع ، صفة لرجز وعذاب (وَيَرَى) يعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) مؤمنو أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وأصحابه (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن (هُوَ) فصل (الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ) طريق (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦) أي الله ذي العزة المحمود (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قال بعضهم على وجهة التعجيب لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) هو محمد (يُنَبِّئُكُمْ) يخبركم أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ) قطعتم (كُلَّ مُمَزَّقٍ) بمعنى تمزيق (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) (أَفْتَرى) بفتح الهمزة للاستفهام ، واستغنى بها عن

____________________________________

الله تعالى. قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) عطف على قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) وما بينهما اعتراض سيق لبيان جزاء المؤمنين ، وهذا أحسن من جعله مبتدأ خبره (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ) إلخ. قوله : (في ابطال) (آياتِنا) أي بالطعن فيها ونسبتها إلى الأكاذيب. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (مقدرين عجزنا) إلخ ، لف ونشر مرتب ، والمعنى مؤملين أنهم يعجزون رسولنا ، بسبب سعيهم في إبطال القرآن. قوله : (أو مسابقين لنا) أي مغالبين لنا بسبب طعنهم في القرآن ، ظانين أن مغالبتم تمنع عنهم العذاب ، وذلك أن القرآن يثبت البعث والعذاب لمن كفر ، فيطعنون فيه ويريدون ابطاله ، لظنهم أن ذلك الإبطال ينفعهم ، فيفروا من البعث والعذاب ، لاعتقادهم بطلانه. قوله : (لظنهم أن لا بعث) إلخ ، علة لقوله : (سَعَوْا). قوله : (بالجر والرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (وَيَرَى) إما بالرفع بضمة مقدرة على الاستئناف ، أو بالنصب على أنه معطوف على يجزي ، فقول المفسر (يعلم) يصح قراءته بالوجهين ، و (الَّذِينَ) فاعل ، و (الَّذِي أُنْزِلَ) مفعول أول وهو ضمير فصل ، و (الْحَقَ) مفعول ثان ، وقوله : (وَيَهْدِي) إما عطف على (الْحَقَ) من باب عطف الفعل على الاسم الخالص ، كأنه قيل : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الحق وهاديا ، أو مستأنف ، أو حال بتقدير وهو يهدي. قوله : (مؤمنو أهل الكتاب) هذا أحد أقوال ، وقيل : المراد بهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : جميع المسلمين. قوله : (الْعَزِيزِ) أي عديم النظير والشبيه والمثيل ، أو من عز بمعنى قهر وغلب. قوله : (الْحَمِيدِ) فعيل بمعنى مفعول ، أي محمود في ذاته وصفاته وأفعاله. قوله : (هو محمد) نكروه تجاهلا وسخرية ، كأنهم لم يعرفوا منه إلا أنه رجل ، مع أنه عندهم أشهر من الشمس في رائعة النهار.

قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ) يتعين أن عامل الظرف محذوف تقديره تبعثون وتحشرون إذا مزقتم إلخ ، يدل عليه قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ولا يصح أن يكون عامله (يُنَبِّئُكُمْ) لأن الإخبار لم يقع في ذلك الوقت ، ولا قوله : (مُزِّقْتُمْ) لأنه مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا (خَلْقٍ جَدِيدٍ) لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها ، وعبارة المفسر غير وافية بالمراد ، فلو قال : يخبركم أنكم تبعثون إذا مزقتم لوفى بالمقصود. قوله : (بمعنى تمزيق) أشار بذلك إلى أن ممزق اسم مصدر ، لأن كل ما زاد على الثلاث يجيء بالميم ، مصدره وزمانه ومكانه ، على زنة اسم مفعول. قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي تنشؤون

٢٥٤

همزة الوصل (عَلَى اللهِ كَذِباً) في ذلك (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) جنون تخيل به ذلك ، قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) المشتملة على البعث والعذاب (فِي الْعَذابِ) فيها (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨) من الحق في الدنيا (أَفَلَمْ يَرَوْا) ينظروا (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فوقهم وما تحتهم (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) بسكون السين وفتحها قطعة (مِنَ السَّماءِ) وفي قراءة في الأفعال الثلاثة بالياء (إِنَّ فِي ذلِكَ) المرئي (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩) راجع إلى ربه ، تدل على قدرة الله على البعث وما يشاء (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) نبوة وكتابا وقلنا (يا جِبالُ أَوِّبِي) ارجعي (مَعَهُ) بالتسبيح (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطفا على محل الجبال ، أي ودعوناها تسبح معه (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) فكان في يده كالعجين

____________________________________

خلقا جديدا بعد تمزيق أجسامكم.

قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يحتمل أن يكون من تمام قول الكافرين (هَلْ نَدُلُّكُمْ) إلخ ، ويحتمل أن يكون من كلام السامع جوابا للقائل. قوله : (واستغنى بها) أي بهمزة الاستفهام ، لأنها كافية في التوصل للنطق بالساكن. قوله : (في ذلك) أي الإخبار بالبعث. قوله : (جنون) أي خبل في عقله. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أنه هذا إنشاء كلام من الله ردا عليهم ، وما تقدم وإن كان كلامه ، إلا أنه حكاية عنهم. قوله : (الْعَذابِ) أي في الآخرة ، وذكره إشارة إلى أنه متحتم الوقوع ، فنزل المتوقع منزلة الواقع ، وقدمه على (الضَّلالِ) وإن كان الضلال حاصلا لهم بالفعل ، لأن التسلية بحصول العذاب لهم ، أتم من الأخبار بكونهم في الضلال.

قوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير أعموا فلم يروا ، إلخ. قوله : (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) المراد به ما ينظر له من غير التفات ، وقوله : (وَما خَلْفَهُمْ) المراد به ما ينظر له بالتفات ، فالمراد جميع الجهات. قوله : (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بيان لما ، والمعنى أفلم يتفكروا في أحوال السماء والأرض ، فيستدلوا على باهر قدرته تعالى؟ وقد علمنا الله كيفية النظر بقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) الآية. قوله : (إِنْ نَشَأْ) هذا تحذير للكفار كأنه قيل : لم يبق من أسباب وقوع العذاب بكم ، إلا تعلق مشيئتنا به. قوله : (نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) أي كما خسفناها بقارون. قوله : (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) أي كما أسقطناها على أصحاب الأيكة. قوله : (بسكون السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وكل منهما جمع كسفة ، فقول المفسر (قطعة) المناسب قطعا. قوله : (في الأفعال الثلاثة) أي نشأ ونخسف ونسقط. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) (المرئي) أي من السماء والأرض.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزتنا وجلالنا. قوله : (وكتابا) أي وهو الزبور. قوله : (وقلنا) قدره اشارة إلى أن قوله : (يا جِبالُ) مقول لقول محذوف معطوف على قوله : (آتَيْنا) فهو زيادة على الفضل. قوله : (أَوِّبِي) بفتح الهمزة وتشديد الواو أمر من التأويب وهو الترجيع ، وهو قراءة العامة ، وقرىء شذوذا أوبي بضم الهمزة وسكون الواو ، أمر من آب بمعنى رجع أي ارجعي وعودي معه في التسبيح كلما سبح ، فكان داود إذا سبح اجابته الجبال وعطفت عليه (الطَّيْرَ) من فوقه ،

٢٥٥

وقلنا (أَنِ اعْمَلْ) منه (سابِغاتٍ) دروعا كوامل يجرها لابسها على الأرض (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي نسج الدروع ، قيل لصانعها سرّاد ، أي اجعله بحيث تتناسب حلقه (وَاعْمَلُوا) أي آل داود معه (صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١) فأجازيكم به (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) وقراءة الرفع بتقدير تسخير (غُدُوُّها) مسيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال (شَهْرٌ وَرَواحُها) سيرها من الزوال إلى الغروب (شَهْرٌ) أي مسيرته (وَأَسَلْنا) أذبنا (لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي

____________________________________

وقيل : كان إذا أدركه فتور ، أسمعه الله تسبيح الجبال فينشط له. قوله : (عطفا على محل الجبال) أي لأن محله نصب ، لكونه منادى مفردا ، أو مفعولا معه ، وقرىء بالرفع عطف على لفظ الجبال ، تشبيها للحركة البنائية بالحركة الإعرابية ، قال ابن مالك :

وإن يكن مصحوب أل ما نسقا

ففيه وجهان ورفع ينتقى

قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) سبب ذلك : أن الله تعالى أرسل ملكا في صورة رجل ، فسأله داود عن حال نفسه فقال له : ما تقول في داود؟ فقال : نعم هو لو لا خصلة فيه ، فقال داود : ما هي؟ قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فسأل داود ربه أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال ، فألان الله له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فهو أول من اتخذها ، وكانت قبل ذلك صفائح ، قيل : كان يعمل كل يوم درعا ويبيعها بأربعة آلاف درهم ، وينفق ويتصدق منها ، فلذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان داود لا يأكل إلا من عمل يده». قوله : (فكان في يده كالعجين) أي من غير نار ولا آلة. قوله : (دروعا كوامل) أشار بذلك إلى أن (سابِغاتٍ) صفة لموصوف محذوف.

قوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اختلف في معنى الآية فقيل : اجعله على سبيل الحاجة ولا تنهمك فيه ، بل اشتغل بعبادة ربك ، وقيل : قدر المسامير في حلق الدروع ، لا غلاظا ولا دقاقا ، ورد ذلك بأنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة إليها بسبب إلانة الحديد ، وحينئذ فالأظهر ما قاله المفسر من أن السرد الدروع ، والتقدير اجعل كل حلقة مساوية لأختها ضيقة ، لا ينفذ منها السهم في الغلظ ، لا تقبل الكسر ، ولا تثقل حاملها ، والكل نسبة واحدة. قوله : (بحيث تتناسب حلقه) بفتحتين أو بكسر ففتح جمع حلقة بفتح فسكون أو بفتحتين. قوله : (أي آل داود) تفسير للواو في (اعْمَلُوا). قوله : (صالِحاً) أي عملا صالحا ، ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه. قوله : (فأجازيكم عليه) أي إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله : (سخرنا) بدليل التصريح به في قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ). قوله : (بتقدير تسخير) أي فالجار والمجرور خبر مقدم ، و (الرِّيحَ) مبتدأ مؤخر على حذف مضاف ، والأصل وتسخير الريح كائن لسليمان ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. قوله : (غُدُوُّها شَهْرٌ) مبتدأ وخبر ، والمعنى سيرها من الغداة إلى الزوال ، مسيرة شهر للسائر المجد ، ومن الزوال للغروب مسيرة شهر ، عن الحسن : كان سليمان يغدو من دمشق فيقيل في اصطخر ، وبينهما مسيرة شهر ، ثم يروح من اصطخر فيبيت ببابل ، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع ، وتقدم أن الريح تحمل البساط بجيوشه لأي جهة توجه إليها ، فالعاصف تقلع البساط ، والرخاء تسيره.

٢٥٦

النحاس فأجريت ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وعمل الناس إلى اليوم مما أعطي سليمان (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ) بأمر (رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ) يعدل (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) له بطاعته (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢) النار في الآخرة ، وقيل في الدنيا بأن يضربه ملك بسوط منها ضربة تحرقه (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال ، وهو كل شيء مثلته بشيء ، أي صور من نحاس وزجاج ورخام ولم يكن اتخاذ الصور حراما في شريعته (وَجِفانٍ) جمع جفنة (كَالْجَوابِ) جمع جابية ، وهي حوض كبير ، يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها ، تتخذ من الجبال باليمن ، يصعد إليها بالسلالم ، وقلنا (اعْمَلُوا) يا (آلَ داوُدَ) بطاعة الله (شُكْراً) له على ما آتاكم (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) العامل بطاعتي شكرا لنعمتي

____________________________________

قوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي جعلنا النحاس في معدنه جاريا كالعين النابعة من الأرض ، وكانت تلك العين باليمن. قوله : (فأجريت له ثلاثة أيام) قيل : مرة واحدة ، وقيل : كان يسيل في كل شهر ثلاثة أيام. قوله : (وعمل الناس) إلخ ، مبتدأ خبره قوله : (مما أعطي سليمان) أي صنع الناس النحاس ، وإذابته بالنار من آثار كرامة سليمان ، لأنه قبل ذلك لم يكن يلين بنار ولا غيرها. قوله : (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) يصح أن يكون مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله ، ويصح أن يكون مفعولا لمحذوف تقديره : وسخرنا من الجن من يعمل ، ومن على كل حال واقعة على فريق. قوله : (بطاعته) أي بطاعة سليمان. قوله : (بأن يضربه ملك) إلخ ، أي فقد وكل الله ملكا بالجن المسخرين لسليمان ، وجعل في يده سوطا من نار ، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ، ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته. قوله : (أبنية مرتفعة) أي مساجد وغيرها ، وسميت بذلك لأن صاحبها يحارب فيها غيره لحمايتها ، وقيل : المراد بالمحاريب خصوص المساجد ، والأقرب ما قاله المفسر ، وليس المراد بها الطاقات التي تقف فيها الأئمة في المساجد ، إذ هي حادثة في المساجد بعد زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسميت بالمحاريب تشبيها لها بالأبنية المرتفعة ، لأنها رفيعة القدر ، ولذا خصوها بالأئمة.

قوله : (وَتَماثِيلَ) قال بعضهم : إنها صور الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام والعلماء ، كانت تصور في المساجد ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة واجتهادا ، يدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصورة» أي ليذكروا عبادتهم ، فيجتهدوا في العبادة. قوله : (ولم يكن اتخاذ الصور حراما) إلخ ، جواب عما يقال : إن اتخاذ الصور حرام ، فكيف يليق اتخاذها من سليمان؟ واعلم أن اتخاذ الصور أولا ، كان لمقصد حسن ، فلما ساء المقصد بسبب اتخاذها آلهة تعبد من دون الله ، حرم الله ، اتخاذها على العباد. قوله : (وهي حوض كبير) أي وسمي جابية ، لأن الماء يجبى فيه أي يجمع. قوله : (آلَ داوُدَ) المراد سليمان وأهل بيته. قوله : (شُكْراً) مفعول لأجله ، أي اعملوا لأجل الشكر لله ، على ما أعطاكم من تلك النعم العظيمة التي لا تضاهى ، وهذا أعظم المقاصد ، وهو العمل لأجل شكر الله على نعمه ، فالواجب على العباد خدمة الله وطاعته لذاته وسابق نعمه عليهم حيث أوجدهم من العدم ، وجعل لهم السمع والبصر والأفئدة والعافية ، وغير ذلك من أنواع النعم التي لا

٢٥٧

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ) على سليمان (الْمَوْتَ) أي مات ومكث قائما على عصاه حولا ميتا ، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة على عادتها ، لا تشعر بموته ، حتى أكلت الأرضة عصاه ،

____________________________________

تحصى. قوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي لكون هذا المقصد عزيزا ، لم يوفق له إلا القليل من الناس ، وغالب الناس عبادتهم وطاعتهم ، إما لأجل طلب الدنيا ، أو خوفا من النار وطمعا في الجنة.

فائدة ـ من جملة عمل الجن لسليمان بيت المقدس ، وذلك أن داود ابتدأ بناءه في موضع فسطاط موسى التي كان ينزل فيها ، فرفعه قدر قامة ، فأوحى الله إليه لم يكن تمامه على يديك ، بل على يد ابن لك اسمه سليمان ، فلما قضى على داود ، واستخلف سليمان وأحب إتمامه ، جمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال ، فأرسل بعضهم في تحصيل الرخام ، وبعضهم في تحصيل البلور من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح ، فلما فرغ منها ، ابتدأ في بناء المسجد ، فوجه الشياطين فرقا منهم من يستخرج الجواهر واليواقيت والدر الصافي في أماكنها ، ومنهم من يأتيه بالمسك والطيب والعنبر من أماكنه ، فأتي من ذلك بشيء كثير ، ثم أحضر الصناع لنحت تلك الأحجار ، واصلاح تلك الجواهر ، وثقب تلك اليواقيت واللآلىء ، فبناه بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وجعل عمده من البلور الصافي ، وسقفه بأنواع الجواهر ، وبسط أرضه بالعنبر ، فلم يكن على وجه الأرض يومئذ بيت أبهى ولا أنور منه ، فكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر ، فلم يزل على هذا البناء حتى غزاه بختنصر ، فخرب المدينة وهدمه ، وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر ، وحمله إلى ملكه بالعراق حين بطرت بنوا إسرائيل النعم ، وقتلوا زكريا ويحيى ، وكان ابتداء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملك سليمان ، وكان عمره سبعا وستين سنة ، وملك وهو ابن سبع عشرة ، وكان ملكه خمسين سنة ، وقرب بعد فراغه منه ، اثني عشر ألف ثور ، ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا ، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء وقال : اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان ، وقويتني على بناء هذا المسجد ، اللهم فاوزعني شكرك على ما أنعمت علي ، وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلا أمنته ، ولا سقيم إلا شفتيه ، ولا فقير إلا أغنيته والخامسة أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه ، إلا من أراد إلحادا ، أو ظلما يا رب العالمين ، وروي أن سليمان لما بنى بيت المقدس ، سأل الله تعالى خلالا ثلاثا : حكما يصادف حكمه فأوتيه ، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه ، وسأل الله حين فرغ من بنائه ، أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ، إذا علمت ذلك ، فبيت المقدس تم بناؤه وهو حي ، وهو الصحيح.

قوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) إلخ ، روي أن سليمان كان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه ، فلما أعلمه الله بوقت موته قال : اللهم أخف على الجن موتي ، حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون في الغيب أشياء ، وأنهم يعلمون ما في غد ، ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي ، واتكأ على عصاه على كرسيه فمات ، فكان الجن ينظرون إليه ويحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه على الخروج إلى الناس ، لتكرره منه قبل ذلك ، فالحكمة في إخفاء موته ، ظهور أن الجن لا يعلمون الغيب ، لا

٢٥٨

فخرّ ميتا (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) مصدر أرضت الخشبة بالبناء للمفعول ، أكلتها الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) بالهمز وتركه بألف ، عصاه ، لأنها ينسأ ويطرد ويزجر بها (فَلَمَّا خَرَّ) ميتا (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) انكشف لهم (أَنْ) مخففة أي أنهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) ومنه ما غاب عنهم من موت سليمان (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) العمل الشاق لهم ، لظنهم حياته خلاف ظنهم علم الغيب ، وعلم كونه سنة ، بحساب ما أكلته الأرضية من العصا بعد موته يوما وليلة مثلا (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) بالصرف وعدمه ، قبيلة سميت باسم جد لهم من العرب (فِي مَسْكَنِهِمْ) باليمن (آيَةٌ) دالة على قدرة الله تعالى (جَنَّتانِ) بدل (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) عن يمين واديهم وشماله ، وقيل لهم (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما رزقكم من النعمة

____________________________________

تتميم بناء بيت المقدس كما قيل ، فإن الصحيح أنه تم قبل موته بالزمن الطويل. قوله : (حتى أكلت الأرضة عصاه) فلما أكلتها أحبها الجن وشكروا لها ، فهم يأتونها بالماء والطين في خروق الخشب وقالوا : لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. قوله : (مصدر أرضت الخشبة) أي أكلت ، فمعنى دابة الأرض دابة الأكل ، وهذا أحد وجهين ، والوجه الآخر أن المراد بالأرض المعروفة ، ونسبت لها لخروجها منها. قوله : (بالهمز) أي الساكن أو المفتوح ، فتكون القراءات ثلاثا سبعيات. قوله : (الشاق لهم) اللام بمعنى على ، وفي نسخة له أي لسليمان. قوله : (لظنهم حياته) علة لقوله : (ما لَبِثُوا). قوله : (وعلم كونه) إلخ ، إما بالبناء للمفعول ، أو مصدر مبتدأ خبره قوله : (بحساب) إلخ ، فتحصل أن الجن أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت في يوم وليلة مقدارا ؛ فحسبوا على ذلك ، فوجدوه قد مات منذ سنة.

قوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) اللام موطئة لقسم محذوف ، أي والله لقد كان إلخ. و (لِسَبَإٍ) خبر (كانَ) مقدم ، و (آيَةٌ) اسمها مؤخر ، و (مَسْكَنِهِمْ) حال. قوله : (بالصرف وعدمه) أي وفي عدم الصرف قراءتان ، فتح الهمز وسكونها ، فالقراءات ثلاث. قوله : (سميت باسم جد لهم) أي وهو سبأ بن يشجب بجيم مضمومة ابن يعرب بن قحطان ، روي أن رجلا قال : يا رسول الله ، وما سبأ ، أرض أو امرأة قال : ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد عشرا من العرب ، فتيامن منهم ستة ، أي سكنوا اليمن ، وتشاءم منهم أربعة أي سكنوا الشام ، فأما الذين تشاءموا ، فلخم وجذام وغسان وعاملة ، وأما الذين تيامنوا : فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، فقال رجل : يا رسول الله ، وما أنمار؟ قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، والمقصود من تلك القصة ، اتعاظ هذه الأمة المحمدية ، ليعتبروا ويشكروا نعمة الله عليهم ، وإلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم. قوله : (فِي مَسْكَنِهِمْ) بالجمع كمساجد ، والإفراد إما بكسر الكاف أو فتحها ، ففيه ثلاث قراءات سبعيات. قوله : (باليمن) أي وكان بينها وبين صنعاء ثلاثة أيام. قوله : (دالة على قدرة الله) أي فإذا تأمل العاقل فيها ، استدل على باهر قدرته ، وأنه الخالق لجميع المخلوقات. قوله : (بدل) أي من آية التي هي اسم كان ، وصح إبدال المثنى من المفرد ، لأنه في قوة المتعدد ، وذلك أن الجنتين لما كانتا متماثلتين ، وكانت كل واحدة دالة على قدرة الله ، من غير انضمام غيرها لها ، صح جعلهما أي واحدة ، نظير قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). قوله :

٢٥٩

في أرض سبأ (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) ليس بها سباخ ، ولا بعوضة ، ولا ذبابة ، ولا برغوث ، ولا عقرب ، ولا حية ، ويمر الغريب فيها وفي ثيابه قمل فيموت لطيب هوائها (وَ) الله (رَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) (فَأَعْرَضُوا) عن شكره وكفروا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) جمع عرمة ، وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته ، أي سيل واديهم الممسوك بما ذكر ، فأغرق جنتيهم وأموالهم (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ) تثنية ذوات مفرد على الأصل (أُكُلٍ خَمْطٍ) مرّ بشع ، بإضافة أكل بمعنى مأكول وتركها ويعطف عليه (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦) (ذلِكَ) التبديل (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بكفرهم (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) بالياء والنون مع كسر

____________________________________

(عن يمين واديهم وشماله) هذا أحد قولين ، وقيل : عن يمين الذاهب وشماله. قوله : (وقيل لهم) أي على لسان أنبيائهم ، لأنه بعث لهم ثلاثة عشر نبيا ، فدعوهم إلى الله وذكروهم بنعمه ، وهذا الأمر للإذن والإباحة. قوله : (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي اصرفوا نعمه في مصارفها. قوله : (أرض سبأ) إلخ ، أشار بذلك إلى أن قوله : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) خبر لمحذوف ، فهو كلام مستأنف. قوله : (ليس بها سباخ) جمع سبخة وهي الأرض ذات الملح. قوله : (ولا بعوضة) البعوض البق ، وقوله : (ولا برغوث) بضم الباء. قوله : (فيموت) أي القمل ومثله باقي الهوام. قوله : (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي يستر ذنبوكم. قوله : (فَأَعْرَضُوا) (عن شكره) أي عن أمره واتباع رسله ، لما روي أنه أرسل الرسل لهم ثلاثة عشر نبيا ، فدعوهم إلى الله وذكروهم بنعمه وأنذروهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله علينا نعمة فقولوا له ، فليحبس عنا هذه النعم إن استطاع وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان له ولد فمات ، فرفعه رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه للكفر ، فإن أجابه وإلا قتله. قوله : (وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره) أي فكان واديهم أرضا متسعة بين جبال شامخة ، فبنت بلقيس سدا حول ذلك الوادي بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة ، بعضها فوق بعض ، وصار ماء يتساقط من الجبال خلف السد من كل جهة ، فكانوا يسقون من الأعلى ، ثم من الأوسط ، ثم من الأدنى ؛ على حسب علو الماء وهبوطه ، فالعرم هو هذا السد ، وقيل : العرم اسم للفأر الذي نقب السد لما ورد أنهم كانوا يزعمون أنهم يجدون في كهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين ، إلا ربطوا إلى جانبها هرة ، فلما جاء ما أراده بهم ، أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهررة ، فثاورتها حتى استأخرت على الحجر ، ثم وثبت ودخلت في الفرجة التي عندها ، ونقبت السد حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون ، فلما جاء السيل ، دخل تلك الفرجة حتى بلغ السد ، وفاض الماء على أموالهم فأغرقها ودفن بيوتهم.

قوله : (جَنَّتَيْنِ) تسميتها بذلك تهكم بهم لمشاكله الأول. قوله : (مفرد في الأصل) أي لأن أصلها ذوية ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا فصار ذوات ، ثم حذفت الواو تخفيفا ، ففي تثنيته وجهان : اعتبار الأصل ، واعتبار العارض ، فالأول ذواتان ، والثاني ذاتان. قوله : (مر بشع) قيل : هو شجر الأراك. وقيل : كل شجر له شوك. قوله : (بإضافة أكل) أي بضم الكاف لا غير ، وقوله : (وتركها) أي بضم الكاف وسكونها ، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله : (ويعطف عليه) أي على أكل. قوله : (مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) الصحيح أن السدر وهو النبق نوعان : نوع يؤكل ثمره وينتفع بورقه ، وهو له ثمر غض ، لا

٢٦٠