رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٥

الفروع الفقهية ، مبينا خلاف الأئمة فيها ، وله مناقشات مع الزمخشري ، ولقد اطلعت عليه ، وارتويت من مورده العذب الزلال ، وشنفت مسامعي بتحقيقه ، وارتويت من كوثر تدقيقه ، فرحم الله مؤلفه.

١٧. عناية العلماء بكتاب «رموز الكنوز» :

ظهرت عناية كبيرة للعلماء بكتاب الإمام الرسعني ، وقد ظهر هذا جليا من خلال الحلقات العلمية التي كان أهل العلم يعقدونها لإلقائه في مجالس ، وبعضهم كان يلقيه من حفظه ، وفيما يلي نذكر من كان يلقي كتاب «رموز الكنوز» على طلبة العلم :

١. فقد كان الإمام الرسعني نفسه يقوم بتدريس كتابه ، وإملائه على طلبة العلم.

٢. الشيخ عبد الصمد بن إبراهيم بن خليل البغدادي المعروف بابن الحصري (؟ ـ ٧٦٥ ه‍) (١) :

ألقى كتاب «رموز الكنوز» دروسا من لفظه بمسجد بالس ببغداد.

٣. القاضي جمال الدين عبد الصمد بن خليل الخضري الحنبلي (؟ ـ ٧٦٥ ه‍).

كان يحدث ويملي تفسير الرسعني من حفظه ، ويحضره الخلق ، منهم

__________________

(١) عبد الصمد بن إبراهيم بن خليل البغدادي ، جمال الدين ، أبو أحمد ، المعروف بابن الحصري ، الحنبلي ، اختصر تفسير الرسعني ، بعد أن ألقاه دروسا من لفظه ، بمسجد بالس ببغداد ، توفي سنة خمس وستين وسبعمائة. ذيل طبقات الحنابلة (٢ / ٤١٣) ، والدرر الكامنة (٢ / ٤٧٦) ، وشذرات الذهب (٦ / ٢٠٤).

٦١

المدرسون والأكابر (١).

٤. أبو بكر بن محمد بن قاسم بن عبد الله السنجاري ثم البغدادي ، شجاع الدين المقرئ المقانعي الحنبلي.

كان يحدث بتفسير الرسعني (٢).

١٨. منهج المؤلف في كتابه «رموز الكنوز» :

لم نقف على مقدمة المؤلف رحمه‌الله لكتابه رموز الكنوز ، حيث إن الجزء الأول من المخطوط لم نقف عليه ، وإنما وقفنا على الجزء الثاني من المخطوط والذي يبتدئ بسورة آل عمران ، ولعل المؤلف رحمه‌الله قد ذكر في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه في كتابه" رموز الكنوز" ، وعليه فإننا سوف نحاول ومن خلال دراسة كتابه" رموز الكنوز" تلمس المنهج الذي سلكه الرسعني في كتابه هذا ، فنقول :

١. يبدأ المؤلف ـ رحمه‌الله ـ بذكر طرف الآية ثم يذكر القراءات الواردة فيها ، وينسبها إلى من قرأ بها من القراء ، ثمّ يقوم بتوجيه القراءات لغويا ، ومن ثم يعرض للمعاني المختلفة المأخوذة من القراءات المختلفة.

كما أنه يثبت القراءات التي قرأها على شيوخ عصره من القراء ، سواء كانت توافق القراءات العشر أو لا ، وبهذا يعتبر كتاب" رموز الكنوز" مرجعا مهما لدارسي علوم القراءات.

٢. يذكر المعاني اللغوية ومباحث الإعراب ونكت البلاغة المتعلقة باللفظ القرآني.

__________________

(١) شذرات الذهب (٣ / ٢٠٤).

(٢) الدرر الكامنة (١ / ٥٥١) ، والمقصد الأرشد (٣ / ١٥٤).

٦٢

٣. امتاز لفظ المؤلف بالإيجاز وكان سهل العبارة ، مما جعل تفسيره قريب المنال ، سهل المأخذ.

٤. اعتمد في بيان معاني الآيات أحسن طرق التفسير ، فهو يفسر الآية بالقرآن وقراءاته ثم بالأحاديث الواردة ، ثم بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، وإيراد أسباب النزول المروية عنهم ، ثم باللغة العربية.

٥. ساق الأحاديث النبوية بأسانيده المتصلة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما ما يذكره عن الصحابة أو التابعين من الروايات فغالبا ما يذكرها دون إسناد.

٦. ذكر الحكم على بعض الأحاديث التي يسوقها ، فمن ذلك :

ـ قال عند قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً) [النمل : ٨٢] : وروي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : «هي دابة ذات زغب وريش ، لها أربع قوائم».

ـ وقال عند قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] : روى الثعلبي بإسناد لا بأس به أن ابن عباس ... الحديث.

٧. يذكر الخلافات الواردة عن السلف في التفسير ، ويعدد عنهم الروايات في ذلك.

٨. يورد إشكالات على ظاهر النظم ثم يجيب عليها ، انظر مثلا ما ذكره عند الآية رقم (٤) من سورة الأعراف.

٩. يعقب بعض الآيات بذكر فصول مهمة ، تتضمن أحكاما فقهية ، أو مسائل من أصول الدين ، أو فوائد تتعلق بالآية ؛ يطنب القول فيها ، ويذكر الآراء المختلفة حولها ، مع سرد الأدلة لكل رأي.

٦٣

١٠. موقفه من آيات الصفات :

ذكر الرسعني رحمه‌الله تعالى في كتابه «رموز الكنوز» رأيه في آيات الصفات بوضوح ، فقال (١) :

قاعدة مذهب إمامنا في هذا الباب ـ أي آيات الصفات ـ : اتباع السلف الصالح ؛ فما تأولوه تأولناه ، وما سكتوا عنه سكتنا عنه ، مفوّضين علمه إلى قائله ، منزهين الله عما لا يليق بجلاله. اه.

قلت : وقد التزم المؤلف بهذه القاعدة ، فقد رجّح تأويل قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] ، وأوله بالأمر الشديد ، ونسب هذا التفسير إلى كثير من علماء السنة ، ثم ذكر الرأي الآخر ، وهو إلحاق هذا بنظائره من آيات الصفات (٢).

١١. ذكر فوائد وطرائف رآها أو سمعها ، ومنها :

ـ قال عند قوله تعالى : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] : والبسطة : الفضيلة في الجسم وامتداد القامة. قال ابن عباس : كان أطولهم مائة ذراع ، وأقصرهم ستون ذراعا. قال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة.

قال : ولقد رأيت ـ أي المؤلف الرسعني ـ مصداق ذلك وشاهدت صحته حين أرسل الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين رئيس الأصحاب محيي الدين أبا محمد يوسف بن أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي إلى صاحب مصر ، فرجع في بعض سفراته ومعه ضرس جبار من الجبارة الأول ، قد استخرج من بعض

__________________

(١) رموز الكنوز (٨ / ٢٤١).

(٢) انظر تفسير هذه الآية في سورة القيامة ، آية : ٢٩.

٦٤

مدافنهم ، وزنه أربعة عشر رطلا ، وقد انكسرت منه فلقة ، هذا مع ما نقصه تطاول الأزمان ومرّ السنين والأحقاب عليه.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] : ومن جملة أدوية الغضب : ما أخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا غضب أحدكم فليسكت» (١).

وروى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (٢).

وأنزل الله في بعض كتبه : يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت ، فلا أمحقك مع من أمحق ، وإذا ظلمت فارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨] : صحبت شيخا من العاملين لله والمتنسّكين بالعلم والمتمسكين بالورع في سفر بطريق الشام فنزلنا قرية فعرفه بها رجل من ذوي اليسار ، فقال : أنتم الليلة أضيافي ، فقال له الشيخ : وليلة غد أضياف من نكون؟ يشير بذلك إلى نفي الاعتماد على من هو بعرضية الفناء والنفاد ، ووجوب الاستناد في طلب القوت إلى الحي الذي لا يموت.

ـ وقال عند قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٣٩ ح ٢١٣٦).

(٢) أخرجه أبو داود (٤ / ٢٤٩ ح ٤٧٨٢).

٦٥

مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٣ ـ ١٤] : قيل لبعضهم بعد خروجه من البحر : ما أعجب ما رأيت فيه؟ قال : سلامتي. فينبغي للمتلبس بهذه الحالة استذكار الآخرة والاستعداد لها ، فليجتلب ما ينجبه من طاعة الله ويجتنب ما يرديه من معصيته ...

ـ وقال عند قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] : كنا يوما نتدارس القرآن في بيت من بيوت الله برأس عين ، سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وكان عام قحط وغلاء وموت ذريع بسبب الجوع ، فأتينا على هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وعندنا رجل من ذوي اليسار يستمع القرآن سماع تفكر واعتبار ، فصاح صيحة شديدة ، وألقى نفسه في وسط الحلقة كهيئة الولهان ، ثم تراجعت إليه نفسه فقال لنا : أشهدكم أن لله في مالي مائة مكوك من الحنطة ، وستمائة درهم أصلحها بها وأطعمها لفقراء المسلمين ، أقي بها نفسي وأهلي من نار جهنم ، ثم نهض وأمضى ذلك باطلاع منا في أيام ، فكان مجموع ما أنفق نحوا من مائتين وخمسين دينارا تقريبا.

١٢. جمع بين الروايات المتعارضة الواردة في الموضوع :

ـ فقد قال عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران : ١٤٣] ، والمعنى : فقد رأيتم أسبابه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) توكيد ، على معنى : وأنتم بصراء.

وقيل : وأنتم تنظرون ما تمنيتم.

٦٦

وقال ابن عباس : وأنتم تنظرون إلى السيوف (١).

والذي يظهر لي ، ويشهد بصحته سبب النزول ، والله أعلم أن المعنى : ولقد كنتم تمنون الموت رغبة في الشهادة فقد رأيتموه ، وبلغتم ما كنتم تحبون وتتمنون ، وحالكم أنكم قوم تنتظرون الموت ، وترتقبونه رغبة في كرامة الله وما أعده للشهداء ، فلم انهزمتم ، وأسلمتم نبيكم ، وخذلتم دينكم.

ـ وقال عند قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) [آل عمران : ١٤] : وقد روي عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه ألف ومائتا أوقية (٢).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه اثنا عشر ألف أوقية (٣).

وروى الحسن البصري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه ألف ومائتا دينار.

وفيه أقاويل متعددة عن الصحابة والتابعين.

والذي يظهر ـ في نظري ـ أن المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنهم في ذلك : ليس على سبيل التحديد لزنة القنطار ، وإنما هو على سبيل التنظير للمال الكثير ، صيانة لروايات الثقات ، ولأقوال العلماء الأثبات عن التناقض والتهافت.

__________________

(١) زاد المسير (١ / ٤٦٨).

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ١٩٩) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٠٨) عن معاذ. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٦١) وعزاه لابن جرير.

قال ابن كثير في تفسيره (١ / ٣٥٢) : وهذا حديث منكر أيضا.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٣٦٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٠٧). وانظر : زاد المسير (١ / ٣٥٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٦١) وعزاه لأحمد وابن ماجه.

٦٧

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : ١٦٧] : المعنى : لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، وإنما أنتم على شفا من استئصال شأفتكم ، فعلام نجعل أنفسنا فرائس الفوارس ، وأغراض الحتوف ، وجزر السيوف ، وهذا هو التأويل الذي يشهد العلم بصحته ، لا ما ذكره الماوردي (١) من أن المعنى : لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم (٢) ، ولا ما ذكره ابن إسحاق أن المعنى : لو نعلم قتالا يجرى اليوم لقاتلنا معكم (٣) ، وهذا (٤) الذي ذكره الواحدي ، وجمهور المفسّرين. والقول الذي ذكره الماوردي رديء جدا.

والذي قاله ابن إسحاق قول تشهد العقول الرصينة بتفاهته ، لأن أهل النفاق رجعوا حين تراءت الفئتان ، وقامت الحرب على ساق ، فكيف يقولون ذلك بهذا الاعتبار في معرض الاعتذار ، والكفار قد أقبلوا بقضهم وقضيضهم يطلبون الأخذ بالثأر ، من المهاجرين والأنصار.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ

__________________

(١) علي بن محمد بن حبيب ، الماوردي ، أبو الحسن البصري ، كان من وجوه فقهاء الشافعية ، وله تصانيف كثيرة ، في أصول الفقه وفروعه ، توفي سنة خمسين وأربعمائة. (تاريخ بغداد (١٢ / ١٠٢) ، والمنتظم (٨ / ١٩٩) ، وطبقات الشافعية للأسنوي (٢ / ٣٨٧).

(٢) لم أجد ما ذكره المؤلف عن الماوردي في تفسيره المطبوع ، وقد ذكر محقق تفسير الماوردي : أن العبارة عند هذه الآية مضطربة ، فصوّبها من السيرة ، فلعله أسقط تفسير الآية ، وقد نسب هذا القول أيضا للماوردي ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٨).

(٣) زاد المسير (١ / ٤٩٨).

(٤) يعني ما ذهب إليه ، من القول الأول.

٦٨

فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) [آل عمران : ١٦٧] : قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والأكثرون : نزلت في مانعي الزكاة.

وروي عن ابن عباس ، ومجاهد أنها نزلت في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اختاره الزجّاج.

والذي آتاهم الله ـ على القول الأول ـ : المال ، وعلى القول الثاني : العلم.

والصحيح هو القول الأول ؛ لما أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آتاه مالا فلم يؤد زكاته ماله مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١).

١٣. ذكر أسانيده :

ذكر المصنف أسانيد بعض الكتب إلى أصحابها أثناء تفسيره :

فقد ذكر إسناده لكتاب ابن سوار في القراءات ، فقال : قرأت بجميع ما فيه على شيخنا العلامة أبي البقاء عبد الله بن الحسين اللغوي تلاوة ، وأخبرني أنه قرأ بجميع ذلك وهو ما فيه على الشيخ أبي الحسن علي بن المرحب البطائحي تلاوة ، وأخبره أنه قرأ بجميع ما فيه على ابن سوار المصنف تلاوة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٦٣ ح ٤٢٨٩).

٦٩

١٤. التفسير الإشاري (١) :

اعتنى الرسعني في تفسيره بذكر تفسير أرباب الإشارات والمعاني لبعض الآيات القرآنية :

ـ فقد قال عند قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] : قال بعض أهل المعاني : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] : قال بعض أهل المعاني : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بارتكاب المعاصي.

ـ وقال عند قوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] : قال بعض أرباب الإشارات : (وَأَنْتُمْ سُكارى) من حب الدنيا.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] : قال بعض أرباب الإشارات : والله ما يوسف وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوة ساعة من معاصيك.

ـ وقال عند قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢] :

قال بعض أرباب الإشارات : يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعا :

__________________

(١) هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا.

قال الإمام ابن الصلاح : يا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والالتباس.

وقال الزركشي : قيل إنه ليس بتفسير ، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة (البرهان ٢ / ١٧٠ ، ومناهل العرفان ٢ / ٥٦).

٧٠

إعظام المقام ، وإخلاص المقال ، واليقين التام ، وجمع الهمّ.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً) [الرعد : ١٥] : قال أهل المعاني : سجودها : تمايلها من جانب إلى جانب ، وانقيادها للتسخير بالطّول والقصر.

ـ وقال عند قوله تعالى : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [الروم : ١٥] : سئل يحيى بن معاذ الرازي : أي الأصوات أحسن؟ فقال : مزامير أنس في مقاصير قدس ، بألحان تحميد في رياض تمجيد ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) [لقمان : ٢٠] : قال الحارث المحاسبي : الظاهرة نعيم الدنيا ، والباطن نعيم العقبى.

١٥. الرد على القدرية (١) :

كما اعتنى الرسعني في كتابه بالرد على القدرية :

ـ فقد قال عند قوله تعالى : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) [آل عمران : ١٥٢] : وفي قوله : «صرفكم» ، إبطال لمذهب القدرية حيث أضاف الصرف إلى نفسه وجعله من فعله.

ـ وقال عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] : وفي هذه الآية دليل على أن من مات على الإيمان من أهل الكبائر لا يخلد في النار ، وبرهان قاطع على بطلان ما انتحله القدرية من قولهم : لا يجوز أن يغفر الله الكبيرة ، ولا أن يعفو عن المعاصي.

__________________

(١) القدرية : هم الذين يقولون لا قدر ، وأن الأمر أنف ، وهم قدرية في الأفعال ، معتزلية في الصفات ، وعيدية في الإيمان.

٧١

ـ وقال عند قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] : قالت جويرية بن أسماء : سمعت علي بن زيد تلا هذه الآية : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فنادى بأعلى صوته : انقطع والله هاهنا كلام القدرية.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣] : قال الواحدي (١) : هذا صريح في تكذيب القدرية ، حيث أضاف الضلالة والهداية وجعلهما إلى نفسه لمن يشاء من خلقه بالمشيئة الأزلية.

ـ وقال عند قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦٣] : قال عمر بن عبد العزيز : فصلت هذه الآية بين الناس (٢) ، يشير إلى إبطال ما انتحلته القدرية.

ـ وقال عند قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر : ٤٧] : أخرج مسلم في صحيحه والترمذي من حديث أبي هريرة قال : جاء مشركوا قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمون في القدر ، فأنزل الله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣). قال : وهذه الآية المعتضدة بالأحاديث الصحيحة المبين لسبب النزول الدافع لكل تأويل يعتصم به الخصم من جملة الدلائل الدامغة

__________________

(١) الوسيط (٣ / ٨٠).

(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (١٥ / ١٣٦).

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٦ ح ٢٦٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٥٩ ح ٢١٥٧).

٧٢

للقدرية ، والبراهين المبطلة لمذهبهم الخبيث ...

١٦. الرد على الزمخشري :

أثارت آراء الزمخشري في الكشاف مناقشات وحوارا بين العلماء ، وذلك لأن الزمخشري كان معتزلي العقيدة من ناحية ، وكان ينهج منهج الرأي والتأويل ولو كان على حساب الصناعة النحوية من ناحية ثانية.

وقد اعتنى المؤلف عناية كبيرة في الرد على مواطن الاعتزال التي كان الزمخشري يحاول أن يبثّها في ثنايا تفسيره ، ورد التجاوز الصريح على الصناعة النحوية ومتعلقاتها.

ولو أردنا حصر مناقشات الرسعني مع الزمخشري لطال الأمر بنا ، لذا فإننا نحيل القارئ إلى التفسير ، ففيه الشيء الكثير.

وقد جاءت آفة الزمخشري من أمور ، تتبعتها في كتب السير والتراجم والطبقات ، وهي كما يلي :

ـ لم يكن له لقاء ولا رواية ، بل كان يأخذ علمه من الكتب.

قال الشيخ تاج الدين الكندي : رأيت الزمخشري عند شيخنا أبي منصور الجواليقي رحمه‌الله تعالى مرتين قارئا عليه بعض كتب اللغة من فواتحها ومستجيزا لها ؛ لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولا رواية (١).

ـ غلوه في الاعتزال :

قال الشيخ تاج الدين الكندي : كان متحققا بالاعتزال (٢).

__________________

(١) وفيات الأعيان (٢ / ٣٤٠).

(٢) مثل السابق.

٧٣

وقال ابن خلكان : كان الزمخشري معتزلي الاعتقاد متظاهرا به ، حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحبا له واستأذن عليه في الدخول ، يقول لمن يأخذ له الإذن : قل له أبو القاسم المعتزلي بالباب (١).

ـ دعاء والدته عليه :

قال في إنباه الرواة (٢) : لما دخل الزمخشري بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن سبب قطع رجله ، فقال : دعاء الوالدة ، وذلك أني في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط في رجله وأفلت من يدي ، فأدركته وقد دخل في خرق ، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط ، فتألمت والدتي لذلك وقالت : قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله ، فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم ، فسقطت عن الدابة فانكسرت الرجل ، وعملت عليّ عملا أوجب قطعها.

١٧. إثارة الاعتراضات والجواب عنها :

أكثر المصنف رحمه‌الله تعالى في أثناء كتابه من إيراد الاعتراضات والإجابة عليها ، وأحيانا يورد الإجابة على الاعتراض من وجوه متعددة ، وأحيانا ينوه المصنف بذكره أجوبة لم يسبق إليها :

ـ فقد قال عند قوله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] ، بعد ذكره دخلين وإجابته عنهما : وهذان الدخلان والجواب عنهما لم أسبق إليهما ، فإن يكن ذلك صوابا فمن فضل الله تعالى ، وإن لم يكن ذلك فالله المسؤول التجاوز عني

__________________

(١) وفيات الأعيان (٥ / ١٧٠).

(٢) إنباه الرواة (٣ / ٢٦٨).

٧٤

برحمته وكرمه.

ـ وقال بعد تفسير قوله تعالى : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] : وقلّ أن ترى مثل هذا التدقيق والتحقيق في تفسير ، فإذا قرأته فادع بالرحمة والمغفرة لمن أسهر فيه ناظره ، وأتعب في استثماره خاطره.

ـ وقال بعد تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) [الممتحنة : ١٢] : وما أعلم أحدا من المفسرين لحظ هذا الذي ذكرته ، مع حكايتهم القولين المتنافيين.

١٨. تعليقه على الأقوال والنقول :

لم يكن الرسعني مجرد ناقل أو راو يسرد الروايات دون دراسة وتمحيص ، بل إنه كان يعلق أحيانا ، ويبدي رأيه حولها ، ويرجح بينها ، موردا أحيانا الأدلة على الرأي الذي اختاره ، وفيما يلي نسوق بعض الأمثلة على ذلك :

ـ قال عند قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) [آل عمران : ٥٢] : تقول : أحسست بالشّيء وحسست به ، فهو محسّ ، وقول الناس محسوس خطأ.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٢٩] : قال مجاهد والسدي وابن زيد : وجهوا وجوهكم حيث كنتم إلى الكعبة (١).

قال : وفي هذا القول نظر ؛ لأن الآية مكية ، والأمر بالتوجه إلى الكعبة كان على

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٥٥) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٦٢) ، ومجاهد (ص : ٢٣٤).

٧٥

رأس ستة عشر شهرا في المدينة.

ـ وقال عند قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] :

فإن قيل : نظم الآية يدل على تقدم الهلاك على البأس ، وهو العكس؟

قلت : المراد أردنا إهلاكها كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].

وقال الفراء (١) : وقع الإهلاك والبأس معا ، كما تقول : أعطيتني فأحسنت إليّ.

وذكر ابن الأنباري عن ذلك جوابين :

أحدهما : أن الكون مضمر في الآية ، تقديره : أهلكناها ، وكان بأسنا قد جاءها ، كما أضمر في قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] أي : ما كانت تتلوه.

الثاني : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، تقديره : وكم من قرية جاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فأهلكناها ، كقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥].

والأول هو الجواب الذي ينبغي أن يعتمد عليه.

ـ وقال عند قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] : وبعض العرب إذا وقف على «غواش» وقف بإثبات الياء ، ولا أرى ذلك في القرآن ، لأن الياء محذوفة في المصحف.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١] :

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٣٧١).

٧٦

ذهب أكثر متأخري العلماء إلى أن المراد بالحقّ : الزكاة.

قال القاضي أبو يعلى ابن الفراء : فائدة ذكر الحصاد : أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه ، وإنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه ، وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه ، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد دون ما يتلف.

وقال أيضا : «اليوم» ظرف للحقّ لا للإيتاء ، فكأنه قال : وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية.

وقال الواحدي (١) : هذا في النخيل ؛ لأن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب فيها من الصدقة. والزرع محمول عليه في وجوب الإخراج ، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد ، فيؤخر إلى زمان التنقية.

وقال صاحب الكشاف (٢) : معناه : اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تأخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.

وهذه الفوائد في نهاية ما يكون من الحسن.

ويجوز عندي ـ والله أعلم ـ أن يقال : العرب توقع اليوم على الزمان ، فيقولون : كان ذلك يوم بعاث ، ويوم صفين (٣) ، وقد قررنا ذلك فيما مضى.

__________________

(١) الوسيط (٢ / ٣٣٠).

(٢) الكشاف (٢ / ٦٩).

(٣) يوم بعاث : كان فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية ، وهو يوم من مشاهير أيام العرب (انظر : اللسان ، مادة : بعث). وكان الظهور فيه للأوس. ـ

٧٧

ـ وقال عند قوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] : جعله ابن الأنباري من باب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب.

وقال صاحب الكشاف (١) : المعنى منكم ومنهم ، فغلّب ضمير المخاطب.

ويجوز عندي أن يقال : صاروا باتباع إبليس ومشايعته وتلبسهم بطاعته كالجزء منه ومن ذريته ، ولذلك شملهم اسم الشيطنة ، فيسلم الكلام بهذا التقرير من الإضمار والتقدير.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) [الأعراف : ٨٦] : قال صاحب الكشاف : الضمير في «آمن به» يعود إلى «كل صراط» ، تقديره : توعدون من آمن به وتصدون عنه ، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير ؛ زيادة في تقبيح أمرهم ، ودلالة على عظم ما يصدون عنه.

ويجوز عندي ـ والله تعالى أعلم ـ : أن يعود الضمير إلى الله تعالى ؛ لأنه أقرب المذكورين.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٩] : قال ابن عباس : أرض مصر ، وقيل : أرض الشام. ويجوز عندي : أن يريد جنس الأرض.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)

__________________

ـ وصفين : موضع بقرب الرقة على شاطىء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس ، وكانت وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما (معجم البلدان ٣ / ٤١٤)

(١) الكشاف (٢ / ٩٠).

٧٨

[الأعراف : ١٥٧] : وهو القرآن الكريم ، سمي نورا ؛ لأنه يهتدى به ويستضاء في طريق النجاة.

فإن قيل : القرآن نزل مع جبريل ، فكيف قال «معه»؟

قلت : منهم من فسر المعيّة بالمقارنة في الزمان ، أي : النور الذي أنزل في زمانه.

وقال صاحب الكشاف (١) : المعنى أنزل مع نبوته ؛ لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به. ويجوز أن يتعلق «باتبعوا» أي : اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمر به ونهى عنه ، أو يكون المعنى : واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه.

وهذه الأوجه حسنة شديدة ، ويحتمل عندي إجراء اللفظ على ظاهره ، وأن يكون المراد بالنور الذي أنزل معه ؛ ما نزل به ليلة المعراج من القرآن ، وهي خواتيم سورة البقرة ـ على ما ذكرناه في آخرها ـ ، وما أوحاه الله إلى عبده في تلك الحضرة المقدسة ، فإن بعض القرآن يسمى نورا ، قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤]. ومعلوم أنه قد نزل بعد هذه الآية قرآن كثير.

إذا ثبت ذلك فنقول : إذا اتبع الإنسان خواتيم سورة البقرة واستضاء بنورها كان موافقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإيمان بما أنزل إليه من ربه ، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله ، وقارنه الفلاح والفوز الأبدي.

ويؤيد هذا : أن خواتيم سورة البقرة سميت نورا ؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ، أن الملك قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشر بنورين أوتيتهما : فاتحة الكتاب ،

__________________

(١) الكشاف (٢ / ١٥٧).

٧٩

وخواتيم سورة البقرة» (١).

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] وقال قوم : فالله لا يشاء الكفر ، قالوا : وهذا مثل قولك : لا أكلّمك حتى يبيضّ القار ، ويشيب الغراب ، والقار لا يبيضّ ، والغراب لا يشيب. قالوا : فكذلك تأويل الآية.

قال الزجاج (٢) : وهذا خطأ ؛ لمخالفته أكثر من ألف موضع في القرآن لا يحتمل تأويلين ؛ أنه لا يكون شيء ولا يحدث شيء إلا بمشيئة الله تعالى وعن علمه ، وسنّة الرسل تشهد بذلك ، ولكن الله تعالى غيب عن الخلق علمه فيهم ، ومشيئته من أعمالهم ، فأمرهم ونهاهم ؛ لأن الحجة إنما ثبتت من جهة الأمر والنهي ، وكل ذلك جار على ما سبق من العلم وجرت به المشيئة. هذا كله مختصر من كلام الزجاج ، وهو اعتقادنا ، وبه ندين الله تعالى.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] : قال جماعة من المفسرين : كانوا جعلوا في حبالهم وعصيّهم الزئبق وصوروها على صور الحيات ، فاضطرب الزئبق ؛ لأنه لا يستقر. وفي هذا بعد ؛ لأن الله تعالى سماه سحرا ، ووصفه بكونه عظيما وكونه كيدا.

ـ وقال عند قوله تعالى : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٣٢] : قال الواحدي : ومعنى الآية : أنهم قالوا لموسى : متى ما أتيتنا بآية مثل : اليد والعصا لتسحرنا بها فإنا لن نؤمن لك.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٥٥٤ ح ٨٠٦).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٦).

٨٠