رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٥

وأبي عمرو الياسري (١) لأبي جعفر يزيد بن القعقاع : «لكنّ» (٢) ، بالتشديد هنا ، وفي الزمر (٣).

قال مقاتل (٤) : «اتقوا» بمعنى : وحّدوا ربهم.

(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو ما يهيّأ للنّزيل ، وهو الضّيف. وانتصابه على المصدر ، تقديره : أنزلوها نزلا ، أو على الحال من «جنات» لتخصيصها بالوصف (٥) ، والعامل اللام.

وقال الفراء (٦) : على التفسير (٧) ؛ كما تقول : هو لك صدقة ، هو لك هديّة.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما من برّ ولا فاجر إلا والموت خير له ، ثم تلا : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ، وتلا : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (٨).

__________________

(١) عثمان بن مقبل بن قاسم الياسري البغدادي ، الفقيه الواعظ ، صنّف كتابا في طبقات الفقهاء. توفي سنة ست عشرة وستمائة (المقصد الأرشد ٢ / ٢٠٢ ، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ٢ / ١٢٢ ، وشذرات الذهب ٥ / ٩٦).

(٢) النشر (٢ / ٢٤٧).

(٣) عند الآية رقم : ٢٠.

(٤) تفسير مقاتل (١ / ٢١١).

(٥) انظر : التبيان (١ / ١٦٤) ، والدر المصون (٢ / ٢٩٢).

(٦) معاني الفراء (١ / ٢٥١).

(٧) أي نصبه على التفسير ، وهو التمييز.

(٨) أخرجه الطبري (٤ / ٢١٨) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٤٦) ، وابن ابي شيبة (٧ / ١٠٩) ، والطبراني في الكبير (٩ / ١٥١) ، والحاكم (٢ / ٣٢٦) ، كلهم عن ابن مسعود. وذكره السيوطي في الدر المنثور ـ

٤٠١

ومعنى الآية : وما عند الله من ثواب المتقين الأبرار خير لهم من متاع الكفار في هذه الدار.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني : القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) يعني : كتابهم ، يعني بهم الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كعبد الله بن سلام من اليهود ، والنجاشي من النصارى.

قال جابر بن عبد الله : لما مات النجاشي صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ، فقال قائل : يصلي على هذا العلج النصراني ، وهو في أرضه ، فنزلت هذه الآية (١).

قوله : (خاشِعِينَ لِلَّهِ) حال من فاعل «يؤمن» (٢).

(لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما فعل من لم يؤمن منهم من الأحبار والكبراء.

__________________

ـ (٢ / ٣٩٢) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي بكر المروزي في الجنائز والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن ابن مسعود.

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٢١٨ ـ ٢١٩) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٤٦) عن أنس. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤١٥) وعزاه لابن جرير.

(٢) انظر : التبيان (١ / ١٦٤) ، والدر المصون (٢ / ٢٩٣).

٤٠٢

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) (١) قال ابن عباس : اصبروا على البلاء والجهاد (٢).

وقيل : اصبروا على دينكم وطاعة ربكم (٣).

(وَصابِرُوا) عدوكم ، (وَرابِطُوا) في سبيل الله (٤) ، وهو لزوم الثغر للجهاد ، وأصله من ارتباط الخيل.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم ، وأبو الحسن البغداديان ، قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا الداودي ، أخبرنا السرخسي ، أخبرنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما فيها ، وموضع سوط أحدكم من الجنّة خير من الدّنيا وما فيها ، والرّوحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدّنيا وما فيها» (٥).

وأخرج مسلم منه ذكر الغدوة والروحة فقط (٦).

__________________

(١) كتب في هامش الأصل : قوله : (اصْبِرُوا) على الدين وتكاليفه ، (وَصابِرُوا) أعداء الله في الجهاد وغالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم (وَرابِطُوا) أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو ، (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (كشاف ١ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٥٣٣).

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ١٤١).

(٤) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤١٨) وعزاه لابن المنذر عن ابن عباس.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ١٠٥٩ ح ٢٧٣٥).

(٦) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٠٠ ح ١٨٨١).

٤٠٣

وفي أفراد مسلم من حديث سلمان ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتّان» (١).

وهذا الذي أشرت إليه ودللت عليه ، قول ابن عباس ، والحسن ، وجمهور العلماء ، وهو المتبادر إلى الأفهام.

وقد أخرج الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، أنه قال ـ في هذه الآية ـ : «لم يكن في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة» (٢).

ويوضح هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدّرجات؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة ، فذلكم الرّباط ، فذلكم الرّباط» (٣).

آخرها ، والحمد لله (٤).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٢٠ ح ١٩١٣).

والفتّان : الشيطان (اللسان ، مادة : فتن).

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٢٢١ ـ ٢٢٢) ، والحاكم (٢ / ٣٢٩ ح ٣١٧٧) ، والقائل هو أبي هريرة.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٢١٩ ح ٢٥١).

(٤) كتب في الهامش : بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلسا عاشرا ، وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثاني والعشرين ، مرة ثانية.

٤٠٤

سورة النساء

وهي مائة وخمس وسبعون آية في المدني ، وست في الكوفي (١).

فصل

اختلفت الرواية عن ابن عباس هل هي مكية أو مدنية. والصحيح : أنها مدنية ، إلا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] ، فإنها نزلت بمكة ، حين أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزع مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة الحجبي (٢) فيسلمها إلى العباس (٣).

وغير بعيد أن تكون مشتملة على آيات نزلت بمكة ، لكن معظمها نزل على أسباب دل النقل والعقل على أن ذلك كان بالمدينة.

فما أدري ما وجه قول الحسن ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن ابن عباس : أنها مكية.

أتراه يشك أحد أن تحريم الخمر كان بالمدينة ، وأن قصة طعمة بن أبيرق (٤) سارق الدرع ، وقد نزلت فيه آيات كثيرة في هذه السورة كانت بالمدينة (٥).

وأن قصة الزبير مع الأنصاري ، حين ترافعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال للزبير : «اسق

__________________

(١) انظر : البيان في عد آي القرآن (ص : ١٤٦).

(٢) عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عثمان بن عبد الدار الحجبي ، الصحابي المعروف. أسلم في هدنة الحديبية ، توفي سنة اثنتين وأربعين (الإصابة ٤ / ٤٥٠ ، والتقريب ص : ٣٨٤).

(٣) انظر تفصيل هذه القصة في ص : ٥٥٤ من هذا الجزء.

(٤) طعمة بن أبيرق بن عمير الأنصاري. انظر قصة الدرع في : المستدرك (٤ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ح ٨١٦٤). وقال ابن حجر في الإصابة (٣ / ٥١٨) : شهد المشاهد كلها إلا بدرا ، وقد تكلّم في إيمان طعمة.

(٥) انظر قصته في ص : ٦١٣.

٤٠٥

ثم أرسل إلى جارك ، فقال : إن كان ابن عمتك؟ ... الحديث ، ونزل فيه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) كانت بالمدينة» (١).

وأن قصة المنافق الذي أراد أن يحاكم اليهودي إلى الطاغوت ، واليهودي يريد رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بالمدينة (٢).

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] ، وأن الآيات التي نزلت في الجهاد ، والهجرة ، وصلاة الخوف ، كان ذلك كله بالمدينة.

وفي أفراد البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : «ما نزلت سورة البقرة والنّساء إلّا وأنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣) ، وكان دخوله بها في المدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(١)

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : فرعكم من أصل واحد ، وهو نفس آدم عليه‌السلام.

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعني : حواء عليها‌السلام.

و «من» للتبعيض ، إن أريد بالنفس جملة آدم ، وإلا فهي لبيان الجنس ، أو

__________________

(١) انظر هذه القصة في ص : ٥٥١.

(٢) انظر تفصيل ذلك في ص : ٥٤٦.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٩١٠ ح ٤٧٠٧).

٤٠٦

لابتداء الغاية.

قال ابن عباس وابن مسعود : خلقت بعد دخوله الجنة (١).

وقال كعب (٢) ووهب (٣) وابن إسحاق (٤) : قبل دخوله الجنة (٥).

قال ابن عباس : خلقت من ضلع من أضلاعه اليسرى (٦).

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استوصوا بالنّساء خيرا ، فإنّهنّ خلقن من ضلع ، وإنّ أعوج شيء من الضّلع أعلاه ، [فإن] (٧) ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج» (٨).

(وَبَثَّ مِنْهُما) أي : فرّق ونشر في الأرض ، من آدم وحواء (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

ولما ذكّرهم سبحانه وتعالى ما دلهم على عظيم قدرته وحكمته ، أمرهم بالتقوى

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٢).

(٢) كعب بن ماتع الحميري ، المشهور بكعب الأحبار ، من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب. أسلم في زمن أبي بكر ، وكان من أهل اليمن ، فسكن الشام ، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين (تذكرة الحفاظ ١ / ٥٢ ، والتقريب ص : ٤٦١).

(٣) وهب بن منبه بن كامل اليماني ، أبو عبد الله الأبناوي ، تابعي ثقة ، كان عابدا فاضلا. توفي سنة بضع عشرة ومائة (تهذيب الكمال ٣١ / ١٤٠ ، والثقات ٥ / ٤٨٧).

(٤) محمد بن إسحاق بن يسار ، أبو بكر المطلبي المدني ، مولى قيس بن مخرمة ، صاحب المغازي ، توفي سنة خمسين ومائة (الجرح والتعديل ٧ / ١٩١ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ١٧٢).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٢).

(٦) ذكره الماوردي (١ / ٤٤٦) ، والواحدي في الوسيط (٢ / ٤) بلا نسبة.

(٧) في الأصل : وإن. والتصويب من البخاري (٣ / ١٢١٢).

(٨) أخرجه البخاري (٣ / ١٢١٢ ح ٣١٥٣) ، ومسلم (٢ / ١٠٩١ ح ١٤٦٨).

٤٠٧

رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ).

قرأ أهل الكوفة : «تساءلون» بالتخفيف ، وشدّده الباقون (١).

فمن شدّد : فلأن أصلها تتساءلون ـ بتائين ـ ، فأدغم التاء في السين ؛ لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا.

ومن خفّف : حذف التاء الثانية.

والمعنى : تسألون به حوائجكم وحقوقكم ، كقول الرجل لأخيه : سألتك بالله ، ونشدتك بالله.

«والأرحام» أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، أو يكون عطفا على محل الجار والمجرور ، نحو : مررت بزيد وعمرا.

ويؤيده قراءة ابن مسعود : «وبالأرحام» (٢).

وقرأ حمزة : «والأرحام» بالجرّ (٣) ، فعطف المظهر على المضمر.

قال سيبويه (٤) : لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض ، إلا في ضرورة الشعر ، وأنشد :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب (٥)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٦٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٨٨) ، والكشف (١ / ٣٧٥) ، والنشر (٢ / ٢٤٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٢٦).

(٢) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص : ٢٤). وانظر : البحر المحيط (٣ / ١٦٥).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٦١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ١٨٨) ، والكشف (١ / ٣٧٥) ، والنشر (٢ / ٢٤٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٢٦).

(٤) انظر : الكتاب (٢ / ٣٨٢).

(٥) البيت للأعشى ، وينسب لعمرو بن معد يكرب ، ولخفاف بن ندبة ، ولغيرهم. والشاهد في البيت : ـ

٤٠٨

وقال الزجاج (١) : إجماع النحويين أنه يقبح أن ينسق باسم مظهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض ؛ كقوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص : ٨١].

ويستقبح النحويون : مررت به وزيد ، لأن المكني المخفوض حرف متّصل غير منفصل ، فكأنه كالتنوين في الاسم ، فكره أن يعطف اسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه.

وقال أيضا (٢) : الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر ، وخطأ في الدين ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحلفوا بآبائكم» (٣).

قال ابن الأنباري (٤) : إنما أراد حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت به عادتهم. فالمعنى : الذي كنتم تسألون به وبالأرحام في الجاهلية.

وقال مكي (٥) : هو قليل في الاستعمال ، بعيد في القياس ، لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر ، ويقبح في أحدهما ما يقبح في الآخر ، فكما لا يجوز : واتقوا الله الذي تسألون بالأرحام ، و «ه» ،

__________________

ـ عطف" الأيام" على الكاف. انظر البيت في : الكتاب لسيبويه (٢ / ٣٨٣) ، وابن يعيش (٣ / ٧٩) ، والخزانة (٢ / ٣٣٨) ، والقرطبي (١٠ / ١٤) ، ومعاني الزجاج (٢ / ٧) ، والوسيط (٢ / ٦) ، والبحر المحيط (٣ / ١٦٦).

(١) معاني الزجاج (٢ / ٦).

(٢) أي : الزجاج في معانيه ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٢٤٥٠ ح ٦٢٧٢) ، ومسلم (٣ / ١٢٦٧ ح ١٦٤٦).

(٤) انظر : زاد المسير (٢ / ٣).

(٥) الكشف (١ / ٣٧٥ ـ ٣٧٦).

٤٠٩

فكذلك لا يحسن : تسألون به والأرحام.

قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي : حفيظا يرقب عليكم أعمالكم.

(وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (٣) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) (٤)

قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) قال سعيد بن جبير : نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير ، لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه ، فرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : سمعنا وأطعنا ، نعوذ بالله من الحوب الكبير (١).

والخطاب بقوله : «وآتوا» للأولياء والأوصياء.

وسمّاهم يتامى بطريق المجاز ؛ لقرب عهدهم باليتم ، ويجوز أن يكون المراد باليتامى : الصغار.

والمراد بإيتائهم أموالهم : حفظها وتنميتها ، وكفّ الأيدي الخاطفة من قضاة السوء وولاته عنها إلى أن يؤتوها سليمة.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٤). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١٤٦) من قول مقاتل والكلبي ، والثعلبي (٣ / ٢٤٢) ، ومقاتل (١ / ٢١٣ ـ ٢١٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٤) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

٤١٠

(وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) قال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ، ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدراهم الجياد [ويطرح] (١) مكانها الزيوف (٢).

وقال غيره : «ولا تتبدلوا الخبيث» وهو الحرام الذي يختزلونه من أموال الأيتام ، «بالطيب» وهو الحلال من أموالكم (٣).

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي : ضامّين لها إلى أموالكم.

قال السدي : لا تخلطوها بأموالكم ، ثم تأكلوها جميعا (٤).

(إِنَّهُ) يعني : أكل أموالهم ، (كانَ حُوباً كَبِيراً) أي : إثما عظيما.

وقرأ الحسن : «حوبا» بفتح الحاء (٥).

قال ابن قتيبة (٦) : فيه ثلاث لغات : حوب ، وحوب ، وحاب.

قال الفرّاء (٧) : أهل الحجاز يقولون : حوب ـ بالضم ـ ، وتميم يقولونه بالفتح.

__________________

(١) زيادة من زاد المسير (٢ / ٥).

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٢٢٩) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٦). وذكره الماوردي (١ / ٤٤٧) ، والواحدي في الوسيط (٢ / ٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٦) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ١٤٣).

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ٢٣٠) عن مجاهد ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٦) عن السدي. وذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٧).

(٥) مختصر ابن خالويه في شواذ القرآن (ص : ٢٤) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨٦).

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ١١٨).

(٧) لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في : زاد المسير (٢ / ٥).

٤١١

قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) اختلفوا في تنزيلها وتأويلها ، فقيل : لما نزلت هذه الآية في اليتامى ، وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، وأخذوا يتحرجون من ولايتهم.

وكان الرجل ربما كان تحته العشر من الأزواج أو أكثر ، أو أقل ، فلا يقوم بحقوقهن ، ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في أموال اليتامى فتحرجتم منها ، فخافوا أيضا ترك العدل في النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرّج من ذنب ، أو تاب عنه وهو مرتكب مثله ، فهو غير متحرّج ولا تارك لجنس ذلك الإثم.

وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة (١) ، والسدي ، ومقاتل ، والأكثرين (٢).

وقيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا ، وهم يتحرجون من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم الجور في أموال اليتامى فخافوا الزنا ، فانكحوا ما حلّ لكم من

__________________

(١) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي ، أبو الخطاب البصري ، الحافظ العلامة الضرير المفسر. توفي بواسط في الطاعون سنة ثماني عشرة ومائة (تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٣).

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٧). وذكره مقاتل في تفسيره (١ / ٢١٤) ، والماوردي (١ / ٤٤٨) ، والواحدي في أسباب النزول (ص : ١٤٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٨) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. ومن طريق آخر عن ابن عباس ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

٤١٢

النساء ، ولا تحوموا حول المحرّمات. وهذا المعنى مروي عن مجاهد (١).

وقيل : إنهم تحرّجوا من نكاح اليتامى ، كما تحرّجوا من أموالهم ، فرخّص الله لهم في ذلك ، فقيل لهم : وإن خفتم يا أولياء اليتامى ، أن لا تعدلوا فيهن إذا تزوجتموهن ، فانكحوا عددا يمكنكم العدل فيه. وهذا مروي عن الحسن البصري (٢).

وقيل : المعنى : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن تجوروا في صدقاتهنّ ، أو تسيئوا صحبتهنّ لعدم من يغضب لهنّ ، ويقوم بنصرهنّ ، فانكحوا سواهنّ من الغرائب اللواتي أحلّ الله لكم. وهذا المعنى مروي عن عائشة رضي الله عنها (٣).

أخبرني الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا : أخبرنا أبو الوقت ، أخبرنا الداودي ، أخبرنا ابن حمويه ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، «أنّه سأل عائشة عن قول الله عزوجل : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [فقالت] (٤) : يا ابن أختي ؛ هذه

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٢٣٥) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٧) ، ومجاهد (ص : ١٤٤) ، والثعلبي (٣ / ٢٤٥). وذكره الماوردي (١ / ٤٤٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٧).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ١٩٤٩ ، ١٩٥٨ ، ١٩٧٥) ، ومسلم (٤ / ٢٣١٣ ـ ٢٣١٤) ، وأبو داود (٢ / ٢٢٤) ، والنسائي (٣ / ٣١٥ ، ٦ / ٣١٩) ، والبيهقي في سننه (٧ / ١٤١ ـ ١٤٢) ، والطبري في تفسيره (٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٢) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٧).

(٤) زيادة من الصحيح (٤ / ١٦٦٨).

٤١٣

اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ أعلى سنّتهنّ من الصّداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النّساء سواهنّ» (١).

وقال ابن عباس ـ في رواية عنه ـ : قصر الرجال على أربع من النساء من أجل أموال اليتامى (٢) ، لأن أولياء اليتامى مالوا على أموالهم بسبب كثرة النساء.

قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي : علمتم ، (أَلَّا تُقْسِطُوا) أي : لا تعدلوا. يقال : أقسط يقسط فهو مقسط ؛ إذا عدل (٣) ، قال الله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات : ٩] ، وقسط يقسط فهو قاسط ؛ إذا جار (٤) ، قال الله : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥].

وقرأ إبراهيم النخعي (٥) : " تقسطوا" بفتح التاء (٦) ، وفيه وجهان :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٦٨ ح ٤٢٩٨) ، ومسلم (٤ / ٢٣١٣ ح ٣٠١٨).

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٢٣٣) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٤٢٨) وعزاه للفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) انظر : اللسان ، مادة : (قسط).

(٤) مثل السابق.

(٥) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي ، أبو عمران الكوفي ، ثقة فقيه ، كان مفتي أهل الكوفة. توفي سنة ست وتسعين ومائة وهو مختف من الحجاج (تهذيب الكمال ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٤١ ، والتقريب ص : ٩٥).

(٦) انظر : مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ص : ٢٤) ، والمحتسب لابن جني (١ / ١٨٠) ، والبحر المحيط (٣ / ١٧٠).

٤١٤

أحدهما : أنه من العدل أيضا.

قال الزجاج (١) : قسط وأقسط واحد ، إلا أن الأفصح أقسط ؛ إذا عدل.

الوجه الثاني : أنه من الجور ، على أن «لا» مزيدة.

و" اليتامى" : جمع لذكران الأيتام وإناثهم ، وهو جمع يتيمة على القلب ، كما قيل : أيامى ، والأصل : أيائم ويتائم.

(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي : ما حلّ ، لأن منهن ما هو حرام.

وقرأ ابن أبي عبلة (٢) : «من طاب» (٣) على الأصل ، لأن «من» لمن يعقل ، على أن العرب تضع «من» موضع «ما» و «ما» موضع «من». قال الله سبحانه : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] ، وقال : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥].

وحكى أبو عمرو بن العلاء : أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان ما يسبح له الرعد (٤).

وقال ابن جرير (٥) : أراد الفعل ولم يرد أعيان النساء ، فلذلك قال : «ما» ولم يقل : «من».

وقال مجاهد : فانكحوا النكاح الذي طاب لكم (٦) ، ف «ما» على هذا عبارة عن

__________________

(١) انظر : معاني الزجاج (٥ / ٢٣٥).

(٢) شمر بن يقظان بن المرتحل العقيلي الشامي المقدسي ، شيخ فلسطين. توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري ١ / ١٩ ، وسير أعلام النبلاء ٦ / ٣٢٣ ، والثقات ٤ / ١١).

(٣) انظر : البحر المحيط (٣ / ١٧٠).

(٤) ذكره الثعلبي (٣ / ٢٤٦).

(٥) ذكره الطبري (٤ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧).

(٦) أخرجه الطبري (٤ / ٢٣٦) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٨).

٤١٥

النكاح.

وقيل : الإناث يجرين مجرى غير العقلاء ، ومنه : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٣].

وقيل : «ما» مصدرية ، أي : نكاحا طاب لكم.

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) حال من «طاب» ، أو بدل من «طاب» (١) ، ومنعهنّ الصرف : العدل والوصف ، أو العدل عن صيغها ، والعدل عن تكريرها ، التقدير : اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، كما قال في وصف الملائكة : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] ، ولم يرد بشيء من ذاك العطف ، إذ العدول إلى ذلك عن لفظ التسعة عيّ تأباه فصاحة القرآن وبلاغته.

قال القاضي أبو يعلى (٢) : الواو هاهنا لإباحة أي الأعداد شاء ، لا للجمع ، وهذا العدد إنما هو للأحرار لا للعبيد ، في قول الأئمة الثلاثة : أحمد ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مالك : هم كالأحرار (٣).

وسباق الآية وسياقها يوجبان التقيد بالأحرار دون العبيد ، ألا تراه يقول : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، والعبد لا يملك.

قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) (٤) يعني : بين الأربع ، (فَواحِدَةً) أي : فانكحوا

__________________

(١) انظر : التبيان (١ / ١٦٦) ، والدر المصون (٢ / ٣٠١).

(٢) انظر : زاد المسير (٢ / ٨).

(٣) المغني (٧ / ٦٥) ، والهداية (١ / ١٩٤) ، والروضة (٧ / ١٦٣) ، وبداية المجتهد (٢ / ٤٧).

(٤) كتب في الهامش : بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثالث والعشرين ، مرة ثانية.

٤١٦

واحدة.

وقرأ الحسن البصري والأعمش : «فواحدة» (١) بالرفع ، على معنى : فواحدة كافية ، (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، يعني : من السراري غير محصورات بعدد ، إذ لا قسم لهنّ.

(ذلِكَ) إشارة إلى نكاح الأربع ، أو الواحدة عند خوف الجور في الأربع (أَدْنى) أقرب ، (أَلَّا تَعُولُوا) أي : تميلوا فتجوروا ، ومنه : عال الميزان ؛ إذا مال (٢).

قال الفرّاء (٣) : عال الرّجل يعول عولا ؛ إذا مال وجار.

وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وإبراهيم ، وقتادة ، والربيع ، والسدي ، والزجّاج (٤) ، وابن الأنباري ، وجمهور العلماء (٥).

وقال الشافعي رضي الله عنه : «تعولوا» : تكثر عيالكم (٦).

وردّه الزجاج فقال (٧) : جميع أهل اللغة يقولون : هذا القول خطأ.

يريد الزجاج بذلك أنه إنما يقال : أعال الرّجل يعيل ؛ إذا كثر عياله (٨). وأفسده

__________________

(١) انظر : النشر (٢ / ٢٤٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨٦).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (عول).

(٣) انظر : معاني الفراء (١ / ٢٥٥).

(٤) معاني الزجاج (٢ / ١١).

(٥) انظر : الطبري (٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٦٠) ، والوسيط (٢ / ٩) ، وزاد المسير (٢ / ٩).

(٦) ذكره الماوردي (١ / ٤٥٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ١٠).

(٧) معاني الزجاج (٢ / ١١).

(٨) انظر : اللسان ، مادة : (عول).

٤١٧

أيضا من حيث المعنى ، فقال : إباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

وقد سلكوا في تصحيح قول الشافعي طرقا منها :

أنه لغة حمير ، وأنشدوا :

وإنّ الموت يأخذ كلّ حيّ

بلا شكّ وإن أمشى وعالا (١)

أي : كثرت ماشيته وعياله.

ومنها : أنه من عالت الفريضة ؛ إذا كثرت سهامها (٢).

ومنها : ما ذكره الزمخشري (٣) : أنه من عال الرّجل عياله يعولهم ، مثل : مانهم يمونهم ، لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع ، وكسب الحلال.

وكلام مثل الشافعي من أعلام العلم ، ورؤوس المجتهدين ، وأئمة الشرع ، حقيق بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظن به تحريف «تعيلوا» إلى «تعولوا» ، ـ ... إلى أن قال : ـ كان أعلى كعبا ، وأطول باعا في علم كلام العرب ، من أن يخفى عليه [مثل] (٤) هذا.

قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج ، وقيل : للأولياء ، على وجه الزجر لهم عما ألفوه من حيازة صدقات النساء دونهن ، ردعا لهم عن نكاح

__________________

(١) البيت لم أعرف قائله. وهو في : البحر المحيط (٣ / ١٧٣) ، والدر المصون (٢ / ٣٠٤) ، والقرطبي (٥ / ٢٢) ، وروح المعاني (٤ / ١٩٧).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (عول).

(٣) الكشاف (١ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠).

(٤) زيادة من الكشاف (١ / ٥٠٠).

٤١٨

الشّغار ، وهو : جعل الأبضاع أعواضا في النكاح. وواحد الصّدقات : صدقة ، وهي المهور.

«نحلة» مصدر أو حال من المخاطبين ، على معنى : آتوهن ناحلين (١).

قال ابن عباس : «نحلة» : فريضة وموهبة من الله للنساء.

وقيل : ملّة ودينا ، يقال : فلان ينتحل كذا ، أي : يدين به (٢).

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) أيها الأزواج أو الأولياء ، أو يكون الخطاب لجنس الرجال ، (عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) الضمير في «منه» جار مجرى اسم الإشارة ، كأنه قال : عن شيء من ذلك ، كقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) [آل عمران : ١٥] بعد ذكر الشهوات ، أو يرجع إلى معنى الصّدقات ، وهو الصّداق.

وقوله : (نَفْساً) تمييز (٣) ، وهو اسم جنس ، (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) وصفا مصدر محذوف ، أي : أكلا هنيئا مريئا ، أو حال من الضمير في «كلوه» (٤).

والهنيء : اللذيذ السائغ ، الخالص من شوائب التنغيص (٥) ، والمريء : المحمود العاقبة التام الهضم (٦).

والمقصود : المبالغة في الحلّ ، ونفي التبعة.

__________________

(١) انظر : التبيان (١ / ١٦٦) ، والدر المصون (٢ / ٣٠٥).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (نحل).

(٣) انظر : التبيان (١ / ١٦٦) ، والدر المصون (٢ / ٣٠٦).

(٤) انظر : التبيان (١ / ١٦٧) ، والدر المصون (٢ / ٣٠٧).

(٥) انظر : اللسان ، مادة : (هنأ).

(٦) انظر : اللسان ، مادة : (مرأ).

٤١٩

(وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (٥) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا) (٦)

قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) والسّفهاء : الجهلة ، وهذا نهي للإنسان أن يدفع ماله الذي خوّله الله إياه وجعله قواما لمعيشته ، إلى من لا يقوم باستصلاحه من النساء والأطفال ، والمبذّرين من الأولاد.

وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن (١).

وكانوا يقولون : اتجروا واكتسبوا ، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم ، كان أول ما يأكل دينه (٢).

وكان سفيان الثوري يقلب بضاعته ويقول : لولاك لتمندل بي بنو العباس (٣).

وقيل : هو خطاب لأولياء الأيتام ، والسفهاء المحجور عليهم ، وأضاف الأموال إلى الأولياء لأنهم قوّامها ، أو لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس ؛ كقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) [النساء : ٢٥].

__________________

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٥ / ٣٦٤).

(٢) ذكره الكتاني في التراتيب الإدارية (٢ / ٧٣).

(٣) انظر : الحلية (٦ / ٣٨١) ، وسير أعلام النبلاء (٧ / ٢٤١) ، وتفسير النسفي (١ / ٢٠٤) ، وفيض القدير (٥ / ٣٦٤) ، والتراتيب الإدارية (٢ / ٧٣).

٤٢٠