رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٥

غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (١٦٤)

ثم نهى الله المؤمنين عن أن يكونوا كالمنافقين فقال : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي : لأجل إخوانهم ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] ، والمعنى : لإخوانهم في السبب ، وهو النفاق.

وقيل : في النسب.

(إِذا ضَرَبُوا) أي : سافروا ، وساروا فيها.

قال الزجّاج (١) : إنما قال : (إِذا ضَرَبُوا) ، ولم يقل : «إذ» لأنه هذا شأنهم أبدا ، يقولون : فلان إذا حدّث صدق ، وإذا ضرب صبر ، و «إذا» لما يستقبل ، إلا أنه لم

__________________

(١) لم أقف عليه في معاني الزجاج ، وهو في زاد المسير منسوب إليه (١ / ٤٨٤).

٣٤١

يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى.

وقال غيره : هو على حكاية الحال الماضية.

(أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز ، مثل : صائم وصوّم ، ونائم ونوّم ، وفيه إضمار تقديره : قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو غزوا فماتوا أو قتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قال ابن عباس : ليجعل الله ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم سلموا ، «حسرة» أي : حزنا وأسفا في قلوبهم (١).

واللام في «ليجعل» ، متعلقة ب «قالوا» على معنى : قالوا ذلك ، واعتقدوه ليجعله الله حسرة في قلوبهم.

ويجوز أن تكون متعلقة بالنهي ، أي لا تكونوا كالذين كفروا في هذا القول والاعتقاد ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة.

(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فهو الفاعل للإحياء والإماتة في الحضر والسفر ، وكلاهما سببان بالنسبة إلى القدر.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : «يعملون» بالياء ، حملا على لفظ الغيبة في الآية. وقرأ الباقون بالتاء (٢) ، ردا على قوله : (لا تَكُونُوا).

فالخطاب على هذا للمؤمنين ، وعلى تلك للكافرين.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) قرأ نافع وأهل الكوفة إلا أبا

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٨٤).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥) ، ولابن زنجلة (ص : ١٧٧) ، والكشف (١ / ٣٦١) ، والنشر (٢ / ٢٤٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢١٧).

٣٤٢

بكر : «متّم» «ومتنا» بكسر الميم حيث وقع ، وقرأ الباقون بضم الميم (١) ، غير أن حفصا ضم الميم في هذه السورة خاصة.

فمن ضمّ فلأنه من مات يموت ؛ كقال يقول. ومن كسر فعلى لغة من قال : مات يمات ، مثل : دام يدام. والقراءة الأولى أوجه.

واللام في «ولئن» ، لام القسم ، تقديره : والله لئن قتلتم أيها المؤمنون في سبيل الله أو متّم ، " لمغفرة من الله" جواب القسم ، وهذا الجواب سدّ مسد جواب الشرط ، ومثله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

والمعنى : لمغفرة من الله لذنوبكم بسبب الجهاد ، ورحمة منه لكم ، (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من عرض الدنيا.

وقرأ حفص : «يجمعون» بالياء (٢) ، على معنى : خير مما يجمع غيركم من الدنيا.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ) الموصوف بالمغفرة والرحمة ، (تُحْشَرُونَ).

قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) «ما» صلة ؛ كقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] ، والتقدير : فبرحمة من الله أنعم بها عليك وعليهم ، لنت لهم فشملتهم لطفا ، ووسعتهم عطفا ، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) يعني : جافيا غليظا سيء الخلق (٣) ، (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي : لتفرّقوا عنك ، ونفروا منك (فَاعْفُ عَنْهُمْ)

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٤٥ ـ ٤٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ١٧٨) ، والكشف (١ / ٣٦١) ، والنشر (٢ / ٢٤٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢١٨).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٧) ، والكشف (١ / ٣٦٢) ، والنشر (٢ / ٢٤٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢١٨).

(٣) انظر : الطبري (٤ / ١٥١) ، وزاد المسير (١ / ٤٨٦).

٣٤٣

ما يخصك ، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) تفريطهم في حقي عليهم ، (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) استخرج ما عندهم فيما لم يأتك فيه وحي.

وفي قراءة ابن عباس : «وشاورهم في بعض الأمر» (١) ، واشتقاقه من شرت العسل ، وأنشدوا :

 ..........

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها (٢)

وقال الزجّاج (٣) : يقال : شاورت الرّجل مشاورة وشوارا ، وما يكون من ذلك اسمه : المشورة ، وبعضهم يقول : المشورة على وزن قسورة ، ومعنى قولهم : شاورت فلانا : أظهرت ما عندي وما عنده ، وشرت الدابة ؛ إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها ، وشرت العسل ؛ إذا أخذته من مواضع النحل ، وعسل مشار (٤).

قال الأعشى :

كأنّ القرنفل والزّنجبيل

باتا بفيها وأريا مشارا (٥)

__________________

(١) انظر : المحتسب (١ / ١٧٥) ، والمصاحف (ص : ٨٥) ، وهي قراءة شاذة.

(٢) عجز بيت لخالد بن زهير ، وصدره : (وقاسمها بالله حقا لأنتم). انظر : ديوان الهذليين (١ / ١٥٨) ، وشرح أشعار الهذليين (١ / ٢١٥) ، واللسان ، مادة : (سلا) ، والقرطبي (١ / ٤٠٧ ، ٧ / ١٧٩) ، والطبري (٨ / ١٤١) ، وزاد المسير (١ / ٨٤ ، ٤٨٧) ، والدر المصون (١ / ٢٣٠) ، وروح المعاني (١ / ٢٦٤).

(٣) معاني الزجاج (١ / ٤٨٥).

(٤) انظر : اللسان ، مادة : (شور).

(٥) البيت للأعشى ، انظر : ديوانه (ص : ٨٥) واللسان ، مادة : (زنجبيل ، شور) ، وزاد المسير (١ / ٤٨٧ ، ٨ / ٤٣٨) ، والدر المصون (٦ / ٤٤٦) ، وروح المعاني (٢٩ / ١٦٠).

ولفظ الديوان :

كأنه جنيّا من الزنجبيل

خالط فاها وأريا مشورا

٣٤٤

والأري : العسل.

فإن قيل : ما الحكمة في كون من لم يخلق الله في بني آدم أكمل منه ، وأكثر علما ، وأصوب رأيا ، وأثقب فهما ، يؤمر بمشاورة من هو دونه؟

قلت : فيه حكم ؛ منها : تطييب قلوب أصحابه ، وتشريفهم بذلك ، وإرشادهم إلى الاستنان به.

قال علي رضي الله عنه : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه ، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم (١).

وقال بعض الحكماء : ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ، ولا حصّنت النعم بمثل المواساة ، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر (٢).

قرأت على أبي المجد القزويني ، أخبركم أبو منصور الطوسي ، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود (٣) ، حدثنا المطهر بن علي ، أخبرنا أبو ذر الصالحاني (٤) ، حدثنا أبو الشيخ بن حيان الحافظ (٥) ، حدثنا علي بن العباس المقانعي ، حدثنا أحمد بن محمد بن

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٨٨).

(٢) مثل السابق.

(٣) الحسين بن مسعود ، أبو محمد ، البغوي الفراء ، الملقب بمحيي السنة ، صاحب كتاب" شرح السنة" ، و" التفسير" ، وكتاب" المصابيح". توفي سنة ست عشرة وخمسمائة (التقييد ١ / ٢٥١ ، وسير أعلام النبلاء ١٩ / ٤٣٩).

(٤) محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أبو ذر الأصبهاني الواعظ. توفي سنة أربعين وأربعمائة (العبر ٢ / ٢٧٧ ، وشذرات الذهب ٣ / ٢٦٤).

(٥) عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ، أبو محمد الأصبهاني ، المعروف بأبي الشيخ ، محدّث أصبهان. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة (سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٧٦ ، وشذرات الذهب ٣ / ٦٩).

٣٤٥

ماهان ، أخبرني أبي ، حدثنا طلحة بن زيد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

وقرأت على أبي القاسم ، علي بن أبي منصور الموصلي ، أخبركم أبو زكريا ، يحيى بن أسعد بن بوش (٢) ، فأقرّ به ، أخبرنا أبو العز بن كادش (٣) ، أخبرنا أبو علي الجازري (٤) ، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري (٥) ، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري (٦) ، حدثنا أبي (٧) ، عن أبي جعفر محمد بن عمران ، قال : يقال : توأم الرأي خير من الفذّ ، ورأي الثلاثة لا ينقض.

قال محمد : ويقال : نصف عقلك مع أخيك. يعني : في المشاورة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٢١٦) ، وأحمد (٤ / ٣٢٨) كلاهما من رواية أبي هريرة ، وعبد الرزاق (٥ / ٣٣١) ، وابن أبي حاتم في تفسيره (٣ / ٨٠١).

(٢) يحيى بن أسعد بن بوش البغدادي الأزجي ، حدّث بالسند ، وكان عاميا. توفي سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة (التقييد لابن نقطة ٢ / ٣٠٥ ، وسير أعلام النبلاء ٢١ / ٢٤٣).

(٣) أحمد بن عبيد الله بن محمد السلمي ، أبو العز العكبري ، المعروف بابن كادش. توفي سنة ست وعشرين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٥٥٨ ، والشذرات ٤ / ٧٨).

(٤) محمد بن الحسين الجازري ، لم أجد ترجمته ، ولكنه ورد في سياق ترجمة ابن كادش (ت ٥٢٦ ه‍) على أنه من مشايخ ابن كادش المذكور (انظر : سير أعلام النبلاء ١٩ / ٥٥٨).

(٥) المعافى بن زكريا بن يحيى ، أبو الفرج النهراوني الجريري. توفي سنة تسعين وثلاثمائة. (تاريخ بغداد ١٣ / ٢٣٠ ، وسير أعلام النبلاء ١٦ / ٥٤٤).

(٦) تقدمت ترجمته.

(٧) القاسم بن محمد بن بشار الأنباري ، أبو محمد ، علّامة بالأدب والأخبار. توفي سنة أربع وثلاثمائة (الأعلام للزركلي ٥ / ١٨١).

٣٤٦

قال محمد : ويقال : ما هلك امرؤ عن مشورة ، ولا سعد امرؤ استغنى برأيه (١).

وقال الشاعر :

خليليّ ليس الرأي في صدر واحد

أشيرا عليّ اليوم ما تريان (٢)

واعلم أن المراد من الآية : وشاور ذوي الرأي ، والعقول من أصحابك.

وقد روى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال : يريد : أبا بكر وعمر رضي الله عنهما (٣).

(فَإِذا عَزَمْتَ) وقرئ شاذا : «عزمت» بضم التاء (٤) ، على معنى : عزمت لك على أمر ، وقضيته وأمضيته ، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لا على المشورة.

قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (٥) قال ابن السائب : إن ينصركم الله كما فعل يوم بدر ، فلا غالب لكم ، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) كما فعل يوم أحد (٦).

(فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد الله.

وقيل : من بعد خذلانه.

والأظهر : الأول ، بتقدير حذف المضاف ، أي : من بعد خذلان الله.

قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أخرج أبو داود في سننه ، والترمذي في جامعه ،

__________________

(١) أخرجه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح والأنيس الناصح (ص : ٣٧٩).

(٢) البيت لعطارد بن قران ، انظر : جمهرة الأمثال (١ / ١٢٦) ، والمستطرف (١ / ١٦٨).

(٣) أخرجه الحاكم (٣ / ٧٤) ، والبيهقي في الكبرى (١٠ / ١٠٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٥٩) وعزاه للحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه.

(٤) انظر : المحتسب (١ / ١٧٦) ، والبحر المحيط (٣ / ١٠٥) وهي قراءة شاذة.

(٥) كتب في هامش الأصل : بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس الثامن عشر ، مرة ثانية.

(٦) انظر : تفسير أبي السعود (٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦) بلا نسبة.

٣٤٧

عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض القوم : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فأنزل الله هذه الآية إلى آخرها (١).

وروى الضحاك عن ابن عباس : أن رجلا غلّ من غنائم هوازن يوم حنين ، فنزلت هذه الآية (٢).

ونقل عنه أيضا : أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخصهم بشيء من المغانم ، فنزلت (٣).

وقال قتادة : غلّ قوم يوم بدر ، فنزلت (٤).

وقال ابن السائب ومقاتل (٥) : نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخاف أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أخذ شيئا فهو له ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم أعهد إليكم أن لا تبرحوا ، أظننتم أنّا نغل» (٦).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٣١) ، والترمذي (٥ / ٢٣٠).

(٢) ذكره الثعلبي في تفسيره (٣ / ١٩٥) ، والواحدي في أسباب النزول (ص : ١٣١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٠).

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ١٥٥ ـ ١٥٦). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١٣١) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٢) وعزاه لابن أبي شيبة وابن جرير.

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ١٥٧). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١٣١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٠) ، والسيوطي في الدر (٢ / ٣٦٣) وعزاه لعبد بن حميد.

(٥) تفسير مقاتل (١ / ٢٠٠).

(٦) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١٣١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٠).

٣٤٨

وقال ابن إسحاق : نزلت في غلول الوحي (١).

وقد اختلف القراء في هذا الحرف ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : «يغل» بفتح الياء وضم الغين. وقرأ الباقون بالعكس من ذلك (٢).

وأصل الباب : الاختفاء ، يقال : غلّ من المغنم غلولا ، وأغلّ إغلالا ؛ إذا أخذه في خفية ، وأغلّ الجازر ؛ إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد. والغلّ : الحقد الكامن في الصدر. والغلالة : ثوب يلبس تحت الثياب ، والغلل : الماء الذي يجري تحت الشجر (٣).

والمعنى : ما ينبغي لنبي ولا يصح له أن يغلّ ؛ لأن النبوة تنافي الغلول.

ومن قرأ : " يغلّ" ـ بضم الياء وفتح الغين ـ ، فهو راجع إلى معنى القراءة الأخرى ، أي : ما كان لنبي أن يوجد غالا ، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا.

وقال الحسن ـ في معنى هذه القراءة ـ : «أن يغلّ» أي : يخان (٤). وهو الذي يقتضيه سبب نزول الآية على ما رواه الضحاك ، وقاله قتادة ، وهو اختيار ابن قتيبة (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ١٥٦). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٠).

(٢) انظر : الحجة للفارسي (٢ / ٤٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ١٧٩) ، والكشف (١ / ٣٦٣) ، والنشر (٢ / ٢٤٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢١٨).

(٣) انظر : معجم مقاييس اللغة (٤ / ٣٧٥ ـ ٣٧٧) ، وتهذيب اللغة للأزهري (١٦ / ٩٤) ، واللسان ، مادة : (غلل).

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ١٥٧) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٠٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٢) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٥) تفسير غريب القرآن (ص : ١١٤).

٣٤٩

وقال الفرّاء : يخوّن ، واختاره الزجّاج (١).

وردّه ابن قتيبة ، فقال (٢) : لو أراد «يخوّن» لقال : يغلّل ، كما [يقال] (٣) : يفسّق.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) صرفه قوم عن ظاهره ، وقالوا : يأتي يوم القيامة بإثم ما غلّ.

والصحيح : أنه يأتي به يوم القيامة يحمله على عنقه ، لما أخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فذكر الغلول فعظّمه ، وعظّم أمره ، ثم قال : لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك.

لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٢٤٦) ، ومعاني الزجاج (١ / ٤٨٤).

(٢) تفسير غريب القرآن (ص : ١١٥).

(٣) في الأصل : قال. والتصويب من تفسير غريب القرآن ، الموضع السابق.

٣٥٠

أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك» (١).

الرّغاء : صوت البعير ، والثّغاء : صوت الشاة.

والنفس : ما يغلّه من السبي. والرّقاع : الثياب.

والصّامت : الذهب والفضة.

ومعنى : " لا ألفينّ" : لا أجدنّ ، ومنه قوله تعالى : (ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [البقرة : ١٧٠] ، أي : وجدنا.

أخبرنا أبو علي بن سعادة في كتابه ، أخبرنا أبو القاسم بن محمد بن عبد الواحد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أخبرنا أبو بكر بن مالك ، أخبرنا عبد الله بن الإمام أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، وأبان ، قالا : حدثنا قتادة ، عن سالم ، عن معدان ، عن ثوبان ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فارق الرّوح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنّة : الكبر ، والدّين ، والغلول» (٢). هكذا رواه الأكثرون ، وجوّده الدارقطني ، فقال : إنما هو الكنز ، بالنون والزاي.

فصل

ذهب جماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ؛ إلى أن الغالّ من الغنيمة يحرّق متاعه كله ، إلا الحيوان ، والمصحف ، والسلاح.

وبه قال الإمام أحمد (٣) ، لما روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر ، حرّقوا متاع الغالّ

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ١١١٨ ح ٢٩٠٨) ، ومسلم (٣ / ١٤٦١ ح ١٨٣١).

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ١٣٨ ح ١٥٧٢) ، وأحمد (٥ / ٢٧٦ ح ٢٢٤٢٣).

(٣) انظر : المغني (٩ / ٢٤٥).

٣٥١

وضربوه» (١).

وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فاحرقوا متاعه ، واضربوه» (٢).

قال الإمام أحمد رضي الله عنه : ولا يصلي الإمام على الغالّ من الغنيمة ، لأن رجلا من أصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي يوم حنين ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلّوا على صاحبكم. فتغيّرت وجوه النّاس لذلك ، فقال : إنّ صاحبكم غلّ ، ففتّشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين» (٣).

قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) تعالى الله أن ينسب الظلم إليه ، لاستحالته عليه ، فعقابه عدل ، وثوابه فضل.

قوله : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) فعمل بطاعة الله وطاعة الرسول ، (كَمَنْ باءَ) أي : رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ).

قوله : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي : ذوو درجات ، أو أهل درجات ، على حذف المضاف.

يعني : أن من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله تتفاوت منازلهم عنده ، فأهل الجنة يتفاوتون في الدرجات النفيسة الرفيعة ، وأهل النار يتفاوتون في المنازل الخسيسة الوضيعة. هذا معنى قول ابن عباس ، والأكثرين (٤).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣ / ٦٩ ح ٢٧١٥).

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ٦٩ ح ٢٧١٣).

(٣) أخرجه أبو داود (٣ / ٦٨ ح ٢٧١٠).

(٤) الوسيط (١ / ٥١٦) ، وزاد المسير (١ / ٤٩٣). وانظر : الطبري (٤ / ١٦٢).

٣٥٢

وقال سعيد بن جبير : " هم درجات" أي : أهل الجنة الذين اتبعوا رضوان الله (١).

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ، فيجازي كلّا بعمله.

قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : أنعم عليهم (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : من نسبهم ، فحازوا به فخرا مؤبدا ، وذخرا مخلدا ، ومنه قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

قالت عائشة : هذه الآية للعرب خاصة (٢).

وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ : «من أنفسهم» بفتح الفاء ، وهي قراءة فاطمة رضي الله عنها ، والضحّاك ، وأبي الجوزاء (٣) ، على معنى : بعث فيهم رسولا من أشرفهم نسبا وأكرمهم محتدا ، لأنه صفوة بني هاشم ، وبنو هاشم صفوة قريش ، وقريش صفوة كنانة ، وكنانة صفوة ولد إسماعيل.

نسب كأنّ عليه من شمس الضّحى

نورا ومن فلق الصّبح عمودا

وهذا معنى قول ابن عباس ، والأكثرين (٤).

واختار الزجّاج (٥) القول بعمومها في جميع المؤمنين ، على معنى : بعث في المؤمنين رسولا من أنفسهم : من نسل آدم ، ليس بملك من الملائكة ، ولا خلق لا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ١٦٢) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٠٨).

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٣٢) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٨٠٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٧) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.

(٣) مختصر ابن خالويه في الشواذ (ص : ٢٣).

(٤) زاد المسير (١ / ٤٩٤).

(٥) معاني الزجاج (١ / ٤٨٧).

٣٥٣

يعرفونه.

ووجه الامتنان عليهم بكونه من العرب ـ على القول الأول ـ : أنهم يألفونه ، ويعرفونه ، ويفهمون عنه ما يصدر منه ، ويعلمون صدقه وأمانته ، ويدأبون في نصره ، ويرغبون في إظهار أمره ، مراعاة لأحسابهم ، وحفظا لأنسابهم.

وعلى القول الثاني ـ الذي اختاره الزجّاج ـ يتوجه الامتنان عليهم حيث جعل الرسول منهم آدميا يلابسهم ، ويخالطهم ، فإن الشكل يميل إلى شكله ، والجنس يميل إلى جنسه ؛ لأنسه به.

وباقي الآية مفسّر في البقرة إلى قوله : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذه «إن» هي الخفيفة من الثقيلة ، واللام : هي الفارقة بينها وبين النافية ، والتقدير : وإن الشأن والحديث ، (كانُوا مِنْ قَبْلُ) بعثة محمد إليهم ، (لَفِي ضَلالٍ) عن الحق (مُبِينٍ) ظاهر لمن له أدنى مسكة من دراية وهداية ، يأكلون الخبائث والحرام ، ويعبدون الطواغيت والأصنام ، فمنّ عليهم بإنزال الكتاب وإرسال محمد إليهم ، وتزكيتهم بالعلم والحكمة ، بعد أن كانوا أجهل شيء وأضلّه.

(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا

٣٥٤

عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (١٦٨)

قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) هذه واو العطف إما على قصة أحد ، وإما على محذوف ، تقديره : أفعلتم كذا؟ وقلتم حينئذ كذا؟ دخلت عليها همزة الاستفهام ، وهو بمعنى التوبيخ والتقريع ، و «لمّا» في موضع نصب ب «قلتم» ، " أصابتكم" في موضع جر ، على معنى : قلتم وقت إصابتكم (١) ، والمصيبة : قتلهم يوم أحد ، (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر قتلا وأسرا.

(قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي : كيف أصابنا هذا ، ونحن مسلمون موعودون بالنصر والغلبة؟

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لأنكم خالفتم أمر رسولي ، وفارقتكم المركز ميلا إلى الغنيمة ، وذهابا مع الطمع. هذا معنى قول ابن عباس (٢) ومقاتل (٣).

وقيل : «هو من عند أنفسكم» حيث أكثرتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشرتم عليه بالخروج من المدينة ، وعكستم رأيه وخالفتم أغراضه التي يجريها على وفق الحكمة والمصلحة. وهذا معنى قول قتادة (٤).

وقد روي عن علي رضي الله عنه قال : «جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ،

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٢ / ٢٥١).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (١ / ٥١٧) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٦). وذكره السيوطي بمعناه في الدر المنثور (٢ / ٣٦٨) وعزاه لابن المنذر.

(٣) تفسير مقاتل (١ / ٢٠١).

(٤) أخرجه الطبري (٤ / ١٦٤). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٣٦٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

٣٥٥

فقال : إن الله تعالى قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء ، على أن يقتل منهم عدّتهم. فذكر ذلك للناس ، فقالوا : عشائرنا وإخواننا ، نأخذ منهم الفداء ويستشهد منا عدتهم. فقتل منهم يوم أحد سبعون ، عدد أسارى بدر» (١).

فعلى هذا يكون المعنى : «قل هو من عند أنفسكم» بأخذكم الفداء ، واختياركم حين خيّرتم يوم بدر القتل.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على نصركم ، وإدالتكم من عدوكم.

قوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وأبو سفيان وأصحابه.

(فَبِإِذْنِ اللهِ) بقضائه وقدره ، (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ).

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) معناه : ليميز بينهم ، فيظهر إيمان المؤمنين ، وحسن نيّاتهم ، بصبرهم وثباتهم ، ويظهر نفاق المنافقين ، بفشلهم وقلة صبرهم.

قال ابن عباس : يريد بالذين نافقوا : عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين انصرفوا عن رسول الله يوم أحد ، فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام ، فقال لهم : أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم ، ودعاهم إلى القتال في سبيل الله ، فذلك قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) (٢) ، أي : ذبّوا عن حرمكم ، وحسبكم ، ونسبكم ، أو كثّروا السواد إن لم يكن لكم نية في الجهاد (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ١٣٥ ح ١٥٦٧) ، وابن حبان (١١ / ١١٨ ح ٤٧٩٥).

(٢) ذكره الطبري (٤ / ١٦٨) ، والماوردي (١ / ٤٣٥) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (١ / ٥١٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٧).

٣٥٦

لَاتَّبَعْناكُمْ) كلام يلوح منه اللوم على ترك القوم ما اقتضاه رأي عبد الله بن أبيّ من الاعتصام بحدود المدينة.

المعنى : لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، وإنما أنتم على شفا من استئصال شأفتكم ، فعلام نجعل أنفسنا فرائس الفوارس ، وأغراض الحتوف (١) ، وجزر السيوف.

وهذا هو التأويل الذي يشهد العلم بصحته ، لا ما ذكره الماوردي (٢) من أن المعنى : لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم (٣) ، ولا ما ذكره ابن إسحاق أن المعنى : لو نعلم قتالا يجري اليوم لقاتلنا معكم (٤) ، وهذا الذي ذكره الواحدي (٥) ، وجمهور المفسّرين. والقول الذي ذكره الماوردي رديء جدا.

والذي قاله ابن إسحاق قول تشهد العقول الرصينة بتفاهته ، لأن أهل النفاق رجعوا حين تراءت الفئتان ، وقامت الحرب على ساق ، فكيف يقولون ذلك بهذا الاعتبار في معرض الاعتذار ، والكفار قد أقبلوا بقضّهم وقضيضهم (٦) ، يطلبون الأخذ بالثأر ، من المهاجرين والأنصار.

__________________

(١) الحتف : الموت ، وجمعه : حتوف (اللسان ، مادة : حتف).

(٢) علي بن محمد بن حبيب ، الماوردي ، أبو الحسن البصري ، نسبته إلى بيع ماء الورد ، له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه ، ولقب بقاضي القضاة في سنة ٤٢٩ ه‍. توفي سنة خمسين وأربعمائة (تاريخ بغداد ١٢ / ١٠٢ ، والأعلام للزركلي ٤ / ٣٢٧).

(٣) لم أقف عليه. وقد نسب هذا القول للماوردي ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٩٨).

(٤) زاد المسير (١ / ٤٩٨).

(٥) الوسيط (١ / ٥١٨).

(٦) القضّ : الحصى ، والقضيض : ما تكسرّ منه ودقّ. والمراد : بأجمعهم (اللسان ، مادة : قضض).

٣٥٧

(هُمْ) يعني : المنافقين (لِلْكُفْرِ) الذي كانوا يتباعدون عنه بألسنهم (يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، لأنهم كانوا ينطقون بالإيمان ، ويقولون : نحن أنصار الله ، وأنصار رسوله ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الشقاق والنفاق.

قوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) : «الذين» إما أن يكون نصبا على الذم ، أو على البدل من «الذين نافقوا» ، أو رفعا ، على معنى : هم الذين ، أو على الإبدال من واو «يكتمون» ، أو جرا على البدل من الضمير في «أفواههم» ، أو من الضمير في «قلوبهم» (١) ، كما في قوله :

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (٢)

والمعنى : قالوا لإخوانهم في النفاق ، أو في النسب ، على معنى : قال بعضهم لبعض (لَوْ أَطاعُونا) ، فيما أشرنا به عليهم ، يعنون : الذين ثبتوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى استشهدوا (ما قُتِلُوا). وقيل : المعنى : قالوا لأجل إخوانهم المقتولين : " لو أطاعونا ما قتلوا".

" وقعدوا" يعني : ابن أبيّ وأصحابه قعدوا عن الجهاد ، وعن نصر الرسول والمؤمنين.

(قُلْ) لهم ـ يا محمد مظهرا فساد هذا الاعتقاد ـ : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي : ادفعوه ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن الحذر يدفع القدر.

__________________

(١) انظر : التبيان (١ / ١٥٧) ، والدر المصون (٢ / ٢٥٥).

(٢) البيت للفرزدق ، انظر : ديوانه (٢ / ٢٩٧) ، وابن يعيش (٣ / ٦٩) ، وشرح الشذور (ص : ٢٤٥) ، ومشاهد الإنصاف (١ / ٣٣٧) ، والبحر (٦ / ٢٠٦) ، والدر المصون (٤ / ٥٢٩).

٣٥٨

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (١٧٥)

قوله تعالى (١) : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) وقرأ ابن عامر : «قتّلوا» بالتشديد (٢).

أخرج مسلم في صحيحه من حديث مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). قال : أما إنّا قد سألنا عن ذلك ، فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع عليهم ربّهم اطّلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا؟ قالوا : أي شيء نشتهي ، ونحن

__________________

(١) كتب في الهامش : بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي المجلس التاسع عشر ، مرة ثانية.

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٤٩) ، والكشف (١ / ٣٦٤) ، والنشر (٢ / ٢٤٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٨٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢١٩).

٣٥٩

نسرح في الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب! نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا ، حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» (١).

وأخرج الترمذي من حديث جابر بن عبد الله ، قال : «لقيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : يا جابر ؛ ما لي أراك منكسرا؟ قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي ، وترك عيالا ودينا. قال : أفلا أبشّرك بما لقي الله به أباك؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : ما كلّم الله أحدا قطّ إلّا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلّمه كفاحا (٢) وقال : يا عبدي تمنّ عليّ ، أعطك ، قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال الرّبّ تبارك وتعالى : إنّه قد سبق منّي أنّهم [إليها] (٣) لا يرجعون. قال : أنزلت فيه هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ..). الآية» (٤). قال الترمذي : هذا حديث حسن.

وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش ، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، قالوا : من يبلّغ إخواننا عنّا أنّنا في الجنّة نرزق ؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ، فقال الله عزوجل : أنا أبلّغهم عنكم ، فأنزل الله هذه الآية» (٥).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٠٢ ح ١٨٨٧).

(٢) كفاحا : أي : مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول (اللسان ، مادة : كفح).

(٣) زيادة من الترمذي (٥ / ٢٣٠).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٣٠ ح ٣٠١٠).

(٥) أخرجه أبو داود (٣ / ١٥ ح ٢٥٢٠) ، وأحمد (١ / ٢٦٥ ح ٢٣٨٨).

٣٦٠