رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ١

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٥

الحول على النصارى حتى هلكوا» (١).

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نفتعل ، من البهلة ـ بضم الباء وفتحها ـ وهي اللّعنة ، ويكون الابتهال بمعنى : الدعاء والتضرع ، فالمعنى : نجتهد في الدعاء على الكاذب. والمعنيان مرويان عن ابن عباس (٢).

قوله : (إِنَّ هذا) يعني : الذي أوحاه إليه ، (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ)" هو" فصل ، وجاز دخول اللام عليها ـ وهي فصل ـ لأنها أقرب إلى المبتدأ من الخبر.

والخبر تدخل عليه اللام التي أصلها للمبتدأ ، فدخولها على ما هو أقرب أولى ، أو يقال : «لهو» مبتدأ ، " القصص" خبره ، والجملة خبر «إنّ» (٣).

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ردّ على النصارى ، وتكذيب لهم في اعتقادهم التثليث. ودخلت «من» هاهنا توكيدا للنفي (٤).

و «إله» في موضع رفع بالابتداء ، والخبر «إلا الله» (٥).

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن المباهلة ، أو عن هذا البيان الواضح ، (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) فيستحقون مضاعفة العذاب ، مضافا إلى العذاب المستحق بسبب

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٢٩٩ ـ ٣٠١) ، والحاكم (٢ / ٦٤٩). وذكره الثعلبي (٣ / ٨٥) ، والواحدي في الوسيط (١ / ٤٤٤) ، وأسباب النزول (ص : ١٠٧) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١) وعزاه للحاكم وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٦٦٨) ، وذكره الواحدي في الوسيط (١ / ٤٤٥) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٣٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) انظر : التبيان (١ / ١٣٨) ، والدر المصون (٢ / ١٢٣).

(٤) ذكر هذا الزجّاج في معانيه (١ / ٤٢٤).

(٥) انظر : التبيان (١ / ١٣٨) ، والدر المصون (٢ / ١٢٣).

٢٠١

الكفر ، ويشهد لذلك قوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨].

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(٦٤)

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ) وهي : «لا إله إلا الله» ، ولعمري إنها كلمات ، ولكن العرب تسمى الكلام المشتمل على شرح قصة : " كلمة" ، وقد سبق ذكره.

(سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي : عدل بيننا وبينكم ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود(١).

قال الزجاج (٢) : يقال للعدل : سواء وسوى وسوى. قال زهير بن أبي سلمى :

أروني خطّة لاضيم فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء

فإن نزل السّواء فليس بيني

وبينكم بني حصن بقاء (٣)

__________________

(١) انظر : مختصر الشواذ لابن خالويه (ص : ٢٣) ، والطبري (٣ / ٣٠٣).

(٢) معاني الزجاج (١ / ٤٢٥).

(٣) البيتان لزهير بن ربيعة المزني ، شاعر جاهلي ، أحد أصحاب المعلقات. انظر : ديوانه (ص : ٢١) ، وفيه : «أرونا سنة» بدل «أروني خطة». وانظر البيت الأول في : اللسان ، مادة : (سوا) ، والبحر المحيط (٢ / ٥٠٧) ، والدر المصون (١ / ١٠٤ ، ١٢٥) ، والقرطبي (٤ / ١٠٦ ، ١١ / ٢١٢) ، وزاد المسير (١ / ٤٠٢) ، والحجة للفارسي (١ / ١٦٢) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ١٢٦).

٢٠٢

فالمعنى : هلموا إلى كلمة عادلة ، مستوية بيننا وبينكم ، لا تختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن.

وقرأ الحسن البصري : «سواء» ، بالنصب ، على معنى : استوت سواء (١).

«ألا نعبد» بدل من «كلمة» ، أو في موضع رفع ، على معنى : هي (٢).

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ... وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) كما اتخذتم عيسى وعزيرا ، وهم بشر مثلنا ، أو لا نطيع الأحبار في ما حرّموا وحلّلوا من غير شريعة ، كما قال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١].

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن التوحيد ، وعن ما أتيتم به من الهدى والبيان (فَقُولُوا) على وجه التضليل لآرائهم ، والتقريع لهم : (اشْهَدُوا) اعلموا ، وأعلموا من وراءكم ، (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) مستسلمون منقادون للحق ، إذ تعاصيتم عليه ، ونكصتم عنه. وبهذه الآية العظيمة دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيصر ملك الروم إلى الإسلام حين كتب إليه يقول : «من محمّد رسول الله إلى قيصر عظيم الرّوم : سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد : فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين (٣) ، و (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)» (٤).

__________________

(١) انظر : البحر المحيط (٢ / ٥٠٦).

(٢) انظر : التبيان (١ / ١٣٨) ، والدر المصون (٢ / ١٢٥).

(٣) المراد بهم : الخدم والخول ، يعني : بصده لهم عن الدين (تاج العروس ، مادة : أرس).

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٩ ح ٧) ، ومسلم (٣ / ١٣٩٦ ح ١٧٧٣).

٢٠٣

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٦٥) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

قوله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) قال ابن عباس : اجتمع عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحبار اليهود ، ونصارى نجران ، فقال هؤلاء : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقال هؤلاء : ما كان إلا نصرانيا ، فنزلت هذه الآية (١).

(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) التي حدثت اليهودية بعد نزولها ، (وَالْإِنْجِيلُ) الذي نزلت النصرانية بعد نزوله ، (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد موت إبراهيم بدهر طويل ، فبين إبراهيم وموسى نحو من ستمائة سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وثمانمائة سنة.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) استحالة ما ادعيتم ، وقبح ما أتيتم ، فتحجمون عن الجدال بالمحال.

قوله : (ها أَنْتُمْ) قرأ نافع وأبو عمرو بتليين الهمز مع المد ، وقرأ ابن كثير

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٣٠٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٣٥) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل. وذكره في لباب النقول (ص : ٥٣).

٢٠٤

بالقصر والهمز ، على وزن : هعنتم ، وقرأ الباقون بالمد والهمز (١) ، وأصله : «ءأنتم» فقلبت الهمزة هاء ، فعلى هذا هو استفهام في معنى التعجب من جهلهم.

وقيل : «ها» للتنبيه ، «أنتم» مبتدأ ، (هؤُلاءِ) خبره (٢).

(حاجَجْتُمْ) جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولى ، على معنى : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم وجهلكم أنكم (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، وقيل : " هؤلاء" [بمعنى : الذين ، و" حاججتم"] (٣) صلته ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) دين إبراهيم ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

ثم [وصفه بالحنيفية] (٤) ونزّهه عمّا نسبوه إليه من اليهودية والنصرانية فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ ..). الآية.

قوله عزوجل : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) قال ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود ، حين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ، إنه كان يهوديا ، وما بك إلا الحسد (٥).

وقيل : إنها نزلت في مخاصمة جعفر بن أبي طالب ، وعمرو بن العاص عند

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٢ ـ ٢٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ١٦٥) ، والكشف (١ / ٣٤٦) ، والنشر (١ / ٤٠١ ـ ٤٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٧٥ ـ ١٧٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٠٧).

(٢) انظر : التبيان للعكبري (١ / ١٣٩) ، والدر المصون (٢ / ١٢٩).

(٣) ما بين المعكوفين غير ظاهر في الأصل ، والمثبت من الكشاف (١ / ٣٩٨).

(٤) ما بين المعكوفين بياض في الأصل ، ولعله كما أثبتناه.

(٥) ذكره الواحدي أسباب النزول (ص : ١٠٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٣).

٢٠٥

النجاشي ، وكان من حديثهم ما رواه أبو صالح (١) عن ابن عباس ، وعبد الرحمن بن غنم (٢) عن أصحاب رسول الله ، ويونس بن بكير (٣) عن محمد بن إسحاق رفعه ، دخل حديث بعضهم في بعض ، قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة ، واستقرت بهم الدار ، وهاجر رسول الله إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا : إنّ لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر ، فاجمعوا مالا وأهدوه للنجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب (٤) لذلك رجلان من ذوي آرائكم ، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا والأدم (٥) وغيره ، فركبا البحر وأتيا النجاشي ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلّما عليه ، وقالا له : إنّ قومنا لك ناصحون وشاكرون ، ولصلاحك محبّون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك من هؤلاء القوم الذين قدموا عليك ؛ لأنهم قوم رجل كذّاب ، خرج فينا يزعم أنه رسول الله ، ولم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء ، وإنّا كنا قد ضيّقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا ، لا يدخل عليهم أحد ، ولا يخرج منهم أحد ، فلمّا

__________________

(١) أبو صالح هو مولى أم هانئ (التقريب ص : ١٢٠).

(٢) عبد الرحمن بن غنم ـ بفتح المعجمة وسكون النون ـ الأشعري ، شيخ أهل فلسطين وفقيه الشام.

وكان مولده في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. توفي سنة ثمان وسبعين (تذكرة الحفاظ ١ / ٥١).

(٣) يونس بن بكير بن واصل الشيباني ، أبو بكر الجمّال ، الكوفي ، المحدّث ، صاحب المغازي. توفي سنة تسع وتسعين ومائة (تهذيب الكمال ٣٢ / ٤٩٧).

(٤) ندب القوم إلى الأمر يندبهم ندبا : دعاهم وحثّهم (اللسان ، مادة : ندب).

(٥) الإدم بالكسر والأدم بالضم : ما يؤكل مع الخبز أيّ شيء كان (النهاية في غريب الحديث ، مادة : أدم).

٢٠٦

اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه (١) ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم.

قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس ، رغبة عن دينك وسنّتك.

قال : فدعاهم النجاشي ، فلما حضروا صاح جعفر بالباب : يستأذن عليك حزب الله ، فقال لهم النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ، ففعل جعفر ، فقال النجاشي : نعم ، فليدخلوا بأمان الله وذمته ، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون (٢) بحزب الله ، وما أجابهم به النجاشي ، فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له ، فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي : ما منعكم أن تسجدوا لي ، وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملّكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله منّا نبيا صادقا ، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي السلام ، تحية أهل الجنة ، فعرف النجاشي أن ذلك حق ، وأنّه في التوراة والإنجيل. قال : أيكم الهاتف : يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر : أنا ، قال : يتكلم ، قال : إنك ملك من ملوك الأرض ، ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ، ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي ، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر ، فتسمع محاورتنا. فقال عمرو

__________________

(١) يعني : جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٢) قال في النهاية : يرطنون بحزب الله ، أي : يكنون ولم يصرّحوا بأسمائهم (النهاية في غريب الحديث ، مادة : رطن).

٢٠٧

لجعفر : تكلم ، فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين : أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا ، ردّنا إليهم ، فقال النجاشي : أعبيدهم يا عمرو أم أحرار؟ قال : بل أحرارا كرام ، فقال النجاشي : نجوا من العبودية. قال جعفر : فسلهما : هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو : لا ، ولا قطرة. قال جعفر : سلهما : هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي : يا عمرو ؛ إن كان قنطارا فعليّ قضاؤه. قال عمرو : [لا] (١) ولا قيراط ، قال النجاشي : فما تطلبون منهم؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد ، على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ، ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومنا وقومهم لتدفعهم إلينا ، فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه ، والدين الذي اتبعتموه؟ اصدقني ، قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه وتركناه ، فهو دين الشيطان وأمره ، كنا نكفر بالله تعالى ، ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحوّلنا إليه : فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول كريم ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له ، فقال النجاشي : يا جعفر ؛ تكلمت بأمر عظيم ، فعلى رسلك.

ثم أمر النجاشي فضرب النّاقوس (٢) ، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب ، فلما اجتمعوا قال : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ابن مريم صلى الله عليه ، هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيا [مرسلا] (٣)؟ قالوا : اللهم نعم ، قد

__________________

(١) زيادة من تفسير الثعلبي (٣ / ٨٩) ، وأسباب النزول (ص : ١١٠).

(٢) الناقوس : مضراب النصارى الذي يضربونه لأوقات الصلاة (اللسان ، مادة : نقس).

(٣) زيادة من تفسير الثعلبي (٣ / ٨٩) ، وأسباب النزول (ص : ١١٠).

٢٠٨

بشّرنا به عيسى ابن مريم (١) ، وقال : من آمن به فقد آمن بي ، ومن كفر به فقد كفر بي ، فقال النجاشي : يا جعفر ، هي! بم يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قالوا : يقرأ علينا كتاب الله ، ويأمرنا بالمعروف ، وينهانا عن المنكر ، ويأمر بحسن الجوار ، وصلة الرّحم ، وبرّ اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له ، فقال له : اقرأ عليّ شيئا مما يقرأ عليكم ، فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ، ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدمع ، وقالوا : يا جعفر ؛ زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النجاشي ، فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه ، فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة (٢) من سواكه قدر ما تقذي العين ، فقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.

ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم سيوم (٣) بأرضي ، يقول : آمنون ، من سبّكم أو آذاكم غرم ، ثم قال : أبشروا ولا تخافوا ، فلا دهورة (٤) اليوم على حزب إبراهيم ، فقال عمرو للنجاشي : ومن حزب إبراهيم؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم ، فأنكر ذلك المشركون

__________________

(١) ومصداق ذلك من القرآن ، قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ..). الآية [الصف : ٦].

(٢) النفثة والنفاثة : الشظية من السواك تبقى في فم الرجل فينفثها (اللسان ، مادة : نفث).

(٣) سيوم : أي : آمنون (النهاية في غريب الحديث ، مادة : سيم).

(٤) الدهورة : جمعك الشيء وقذفك به في مهواة. كأنه أراد لا ضيعة عليهم ، ولا يترك الله حفظهم وتعهدهم (النهاية في غريب الحديث ، مادة : دهر).

٢٠٩

وادّعوا في دين إبراهيم ، ثم ردّ النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه ، وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة ، فاقبضوها ، فإن الله ملّكني ولم يأخذ مني رشوة ، قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير دار ، وأكرم جوار ، فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم في خصومتهم في إبراهيم على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على ملّته وسنّته (وَهذَا النَّبِيُ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

أنبأنا حنبل بن عبد الله بن الفرج بن شعبان أبو علي (٢) ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين (٣) ، أخبرنا أبو علي بن المذهب (٤) ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي (٥) ، أخبرنا عبد الله ـ يعني : ابن الإمام أحمد ـ قال : حدّثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١٠٨ ـ ١١١) ، والثعلبي في تفسيره (٣ / ٨٨ ـ ٩٠) مرسلا ، والسيوطي في الدر (٢ / ٢٣٧) وعزاه لعبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم.

(٢) كان يكبر بجامع المهدي وينادي في الأملاك ، سمع مسند الإمام أحمد جميعه من أبي القاسم ابن الحصين. توفي سنة أربع وستمائة (سير أعلام النبلاء ٢١ / ٤٣١ ، وتكملة الإكمال ٢ / ٣١٥).

(٣) هبة الله بن محمد بن الحصين الشيباني ، أبو القاسم البغدادي ، الكاتب ، مسند العراق. توفي سنة خمس وعشرين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٥٣٦).

(٤) الحسن بن علي التميمي ، أبو علي الواعظ ، سمع المسند والزهد للإمام أحمد. توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة (التقييد لابن نقطة ١ / ٢٧٩ ، والعبر ٢ / ٢٨٥ ، وشذرات الذهب ٣ / ٢٧١).

(٥) أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي ، أبو بكر القطيعي الحنبلي ، الشيخ العالم المحدّث ، مسند العراق ، راوي مسند الإمام أحمد وغيره. توفي في ذي الحجّة سنة ثمان وستين وثلاثمائة (لسان الميزان (١ / ١٤٥ ، وسير أعلام النبلاء ١٦ / ٢١٠).

٢١٠

عبد الله (١) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكلّ نبيّ ولاة من النّبيّين ، وإنّ وليّي منهم أبي وخليل ربي ، ثمّ قرأ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)» (٢).

(وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)

قوله : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) (٣) قال ابن عباس : نزلت في قول اليهود لمعاذ بن جبل ، وعمار بن ياسر : تركتما دينكما ، واتبعتما دين محمد (٤).

قوله تعالى : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) يعني : القرآن ، والآيات المشتملة على نعته ، والشهادة برسالته في التوراة والإنجيل (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنها حق.

__________________

(١) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٤٠٠ ح ٣٨٠٠).

(٣) كتب مقابلها في الأصل : وبلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلسا سابعا ، مرة ثانية.

(٤) ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١١١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٤).

٢١١

قوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) وهو إيمانهم بالنبي أول النهار ، وكفرهم به آخره.

يقصدون بذلك إدخال الشبهة ، وإيقاع الريبة في قلوب المسلمين ، وقد سبق تفسير الآية في البقرة (١).

قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال الحسن : تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار اليهود ، فقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد باللسان أول النهار ، واكفروا آخره ، وقولوا : بأنّا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس بذلك المنعوت ، المبعوث آخر الزمان ، فيشك أصحابه في دينهم. ويقولون : هم أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، فيرجعون إلى دينهم (٢) ، فنزلت هذه الآية (٣).

ووجه النهار : أوله (٤).

وأنشدوا :

__________________

(١) الآية رقم (٤٢).

(٢) في أسباب النزول : فيرجعون عن دينهم إلى دينكم.

(٣) أخرجه الطبري (٣ / ٣١١ ـ ٣١٢) عن السدي بمعناه ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٧٩). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ١١٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٥) كلاهما عن الحسن والسدي. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٤١) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.

(٤) ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن (١ / ٩٦) ، والزجاج في معاني القرآن (١ / ٤٢٩) ، والنحاس في معاني القرآن (١ / ٤٢٠) ، وابن قتيبة في غريب القرآن (ص : ١٠٦).

٢١٢

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النّساء حواسرا يندبنه

قد قمن قبل تبلّج الأسحار (١)

قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من تمام كلام اليهود ، يقول علماؤهم لقلّتهم : لا تصدّقوا إلا من تبع دينكم ، وجاء باليهودية.

واللام في قوله «لمن» صلة (٢).

ولا تصدقوا أن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم من العلم ، وفلق البحر ، والمن والسلوى ، وغير ذلك ، ولا تصدقوا أنهم يحاجوكم عند ربكم ، لأنكم أقوم منهم قيلا ، وأهدى سبيلا.

ويكون قوله على هذا : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) كلاما معترضا من الله تعالى ، وهذا معنى قول مجاهد والأخفش (٣).

وقيل : إن قوله : «ولا تؤمنوا» متعلق بقوله : «أن يؤتى» على معنى : لا تظهروا إيمانكم أن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب ، إلا لمن تبع دينكم من الأحبار والأشياخ الذين يؤمن تزلزلهم ورجوعهم عن دينهم فقط ، ولا تفشوا ذلك إلى

__________________

(١) البيتان للربيع بن زياد العبسي يبكي مالك بن زهير بن خزيمة العبسي الذي قتل في عوف ابن بدر. وانظرهما في : معاني الزجاج (١ / ٤٢٩) ، وزاد المسير (١ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦) ، والخزانة (٣ / ٥٨٣). والمعنى : من كان مسرورا بمقتله فخليق به أن يسرّ ؛ لأن حزننا عليه أصابنا بكل هذا.

ومعنى" حواسرا يندبنه" : أي يكشفن عن وجوههن ، وأصبحن لا يبالين أن يراهن الأجانب لما حلّ بهنّ من المهانة.

(٢) قال النحاس في إعراب القرآن (١ / ٣٨٦) : هذه الآية من أشكل ما في السورة ، والإعراب بيّنها.

(٣) انظر : الطبري (٣ / ٣١٤) ، وزاد المسير (١ / ٤٠٦).

٢١٣

المسلمين ، فيزدادوا ثباتا على دينهم ، وجرأة علينا ، ولا تظهروه للمشركين فيرغبوا في الإسلام.

(أَوْ يُحاجُّوكُمْ) عطف على «أن يوتى» ، على معنى : لا تظهروا إيمانكم أن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم ، أو أنهم يحاجوكم عند ربكم ، ويكون لهم الغلبة ، إلا لأهل دينكم ، وعلى هذا يكون (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) كلاما معترضا.

وقيل : تم كلام اليهود عند قوله : (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، فقال الله لنبيه : (قُلْ إِنَّ الْهُدى) ، «إن» واسمها (هُدَى اللهِ) بدل من «الهدى» ، «أن يؤتى» خبر «إنّ» ، والمعنى : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحق الذي جاءكم به موسى فغيّرتموه وبدّلتموه حتى (يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ، أي : في حكم ربكم ، كما تقول : هذه المسألة عند أحمد كذا ، وعند الشافعي كذا ، أي : في حكمه ، أو يكون المعنى : حتى يحاجوكم عند الله يوم القيامة ، فيقرعوا باطلكم بحقهم.

وقيل أيضا : تم كلام اليهود عند قوله : «تبع دينكم» ، «قل» لهم يا محمد : " إن الهدى" الذي ينبغي أن يهتدى ويقتدى به" هدى الله". وقل لهم موبخا لهم : «أن يؤتى» : لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، دعاكم إلى قول ما قلتم (١).

ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن كثير : «أان يؤتى أحد» (٢) بتحقيق الهمزة الأولى ،

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٢ / ١٣٦) وما بعدها.

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٢٦) ، ولابن زنجلة (ص : ١٦٥) ، والكشف (٧ / ٣٤٧) ، والنشر (١ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٧٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٠٧).

٢١٤

وتليين الثانية ، والفصل بألف على الاستفهام للتوبيخ ، بمعنى «ألأن يؤتى أحد» (١).

فإن قيل : كيف يرتبط «أو يحاجوكم» بما قبله على هذا المعنى؟

قلت : التقدير : فعلتم ما فعلتم ، وقلتم ما قلتم ، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولما يتصل به [عند كفركم به] (٢) من محاجتهم لكم عند ربكم ، فحملكم على ذلك الحسد ، ألا تراه يقول : (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ).

ولقراءة ابن كثير وجوه من المعاني والإعراب ، فإن قلنا : هو من تمام كلام اليهود ، فيكون في موضع رفع بالابتداء ، خبره محذوف ، تقديره : تعترفون وتظهرون. أو في موضع نصب بتقدير : تشيعون وتظهرون ذلك الذي أوتوه.

وإن قلنا : هو من كلام الله ، فجائز أن يكون توبيخا لليهود كما سبق. وجائز أن يكون خطابا للمؤمنين ، على معنى : لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون يحسدونكم ، ويفعلون ما يفعلون.

وقرأ الحسن البصري والأعمش : «إن يؤتى» بكسر الهمزة (٣) ، على معنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، وقولوا لهم : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعني : ما تؤتون مثله ، فلا يحاجوكم ، فيكون من كلام اليهود بعضهم لبعض.

__________________

(١) وقد ضعّف أبو علي الفارسي قراءة ابن كثير فقال : وهذا موضع ينبغي أن ترجّح له قراءة غير ابن كثير على قراءته ؛ لأن الأسماء المفردة ليس بمستمر فيها أن تدل على الكثرة (انظر : الحجة ٢ / ٢٨).

(٢) زيادة من الكشاف (١ / ٤٠١).

(٣) مختصر ابن خالويه (ص : ٢١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٧٦) ، والقراءات الشاذة للقاضي (ص : ٣٥).

٢١٥

وقيل على هذه القراءة : هو من كلام الله بلا اعتراض ، ويكون كلام اليهود تاما عند قوله : (تَبِعَ دِينَكُمْ) ، فالمعنى : قل يا محمد ؛ إن الهدى هدى الله ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) بمعنى : إلا أن يحاجوكم اليهود بالباطل ، فيقولون : نحن أفضل منكم.

وقوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي : عند فعل ربكم بكم ذلك. وتكون «أو» على هذا القول بمعنى الجحد والنفي. وهذا معنى قول سعيد بن جبير ، والحسن (١) ، ومقاتل (٢).

قال الفرّاء (٣) : ويجوز أن تكون «أو» بمعنى حتى. كما يقال : تعلّق به أو يعطيك حقك ، أي : حتى يعطيك حقك.

وقال امرؤ القيس (٤) :

فقلت له لاتبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

أي : حتى نموت.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) النبوة والكتاب ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) لا من تشاءون أنتم أيها اليهود ، (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) بمن يصلح للاصطفاء والاجتباء.

__________________

(١) الماوردي (١ / ٤٠٢) ، وزاد المسير (١ / ٤٠٦).

(٢) تفسير مقاتل (١ / ١٧٨).

(٣) معاني الفراء (١ / ٢٢٣).

(٤) هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي ، جاهلي ، من الطبقة الأولى من الشعراء (طبقات الشعراء ص : ٤٩ ، ومعجم الشعراء ص : ٩). انظر البيت في : ديوانه (ص : ٦٦) ، والدر المصون (٢ / ١٣٩) ، والخصائص (١ / ٦٣) ، وابن يعيش (٧ / ٢٢) ، والقرطبي (٧ / ٢١٨ ، ١٠ / ٣٩١ ، ١٦ / ٢٧٣) ، والطبري (١٣ / ١٩٢).

٢١٦

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) وهي النبوة ، في قول مجاهد (١) ، والقرآن والإسلام ، في قول ابن جريج (٢).

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على أوليائه وأهل طاعته.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧٦)

قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (٣) قال ابن عباس : أودع رجل عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدّاها إليه ، فمدحه الله بهذه الآية ، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء (٤) دينارا ، فخانه ، فذمّه الله بهذه الآية (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣ / ٣١٦) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٦٨٢) ، ومجاهد (ص : ١٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٢٤٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ٣١٦). وذكره الماوردي (١ / ٤٠٢) ، والواحدي في الوسيط (١ / ٤٥٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ٢٤٢) وعزاه لابن جرير.

(٣) كتب مقابلها في الأصل : بلغ محمد بن أحمد قراءة بمسجد الرقي مجلسا ثالثا.

(٤) فنحاص بن عازوراء : من أحبار اليهود الذين كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعنتونه ويأتونه اللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، من بني قينقاع ، وكان من علمائهم وصاحب بيت مدراسهم ، وهو الذي نسب الفقر إلى الله والغنى لليهود (السيرة لابن هشام ٣ / ٩٦ ـ ٩٧).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (١ / ٤٥١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٨).

٢١٧

وقال مقاتل (١) : الأمانة ترجع إلى من أسلم من أهل الكتاب ، والخيانة إلى من لم يسلم.

وقيل : أن الذين يؤدون الأمانة : النصارى ؛ لغلبة الأمان عليهم ، والذين لا يؤدونها : اليهود ؛ لغلبة الخيانة عليهم (٢).

والباء بمعنى : على ، وقد سبق ذكر القنطار (٣).

والدينار (٤) : فارسي معرب ، وأصله دنّار ، كما قدّمنا ذكره ، وهو وإن كان معرّبا ، فليس تعرف له العرب اسما غير الدينار ، فقد صار كالعربي ، ولذلك اشتقوا منه [فعلا] (٥) ، فقالوا : رجل مدنّر : كثير الدنانير ، وبرذون مدنّر : [أشهب] (٦) مستدير النقش ببياض وسواد (٧).

والمراد بقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) لزوم التقاضي.

__________________

(١) تفسير مقاتل (١ / ١٧٧) بمعناه. وانظر : زاد المسير (١ / ٤٠٩).

(٢) فائدة : قال ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٠٩) : فإن قيل : لم خصّ أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا ، والخلق على ذلك؟

فالجواب : أنهم يخونون المسلمين استحلالا لذلك.

(٣) عند الآية (١٤) من هذه السورة.

(٤) الدينار : (٢٤) قيراطا ، والقيراط (٣) حبات من وسط الشعير ، فوزنه (٧٢) حبة. والدينار : هو المثقال ، والقنطار ٤ أرباع ، والربع (٣٠) رطلا ، والرطل (١٢) أوقية ، والأوقية (١٦) درهما ، والدرهم (٣٦) حبة شعير (انظر : أحكام القرآن لابن العربي ١ / ٢٧٥ ، ومعجم ألفاظ القرآن ، مادة : دنر).

(٥) زيادة من زاد المسير (١ / ٤٠٩).

(٦) مثل السابق.

(٧) زاد المسير (١ / ٤٠٩).

٢١٨

فصل

اختلف القراء في الهاء المتصلة بالفعل المجزوم ، فقرأ أبو بكر (١) وأبو عمرو وحمزة (٢) : «يؤدّه» ، و «لا يؤدّه» ، و (نُؤْتِهِ مِنْها) (٣) في موضعين في هذه السورة. وفي النساء : «نولّه» ، (وَنُصْلِهِ) (٤) ، وفي الشورى : (نُؤْتِهِ مِنْها) (٥) بإسكان الهاء في السبعة (٦) ، وقرأ ذلك قالون بكسر الهاء من غير ياء. وقرأ الباقون بصلة الهاء بياء في الوصل.

وحجّة من قرأ بالإسكان : أن هذه الأفعال قد حذفت الياء التي قبل الهاء فيها

__________________

(١) شعبة بن عياش الكوفي ، أبو بكر ، الإمام ، أحد رواة الإمام عاصم. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري ١ / ٣٢٥ ، وميزان الاعتدال ٧ / ٣٣٧ ـ ٣٤٠).

(٢) حمزة بن حبيب الزيات ، أبو عمارة الكوفي ، أحد القراء السبعة ، توفى سنة ست وخمسين ومائة (طبقات القراء لابن الجزري ١ / ٢٦١ ، والجرح والتعديل ٣ / ٢٠٩).

(٣) الآية : ١٤٥.

(٤) الآية : ١١٥.

(٥) الآية : ٢٠.

(٦) وقد طعن الزجاج في هذه القراءة فقال : هاء الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيّن ؛ لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ولا تسكّن في الوصل ، إنما تسكّن في الوقف. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه كما غلط عليه في (بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] (انظر : معاني الزجاج ١ / ٤٣٢).

وقال السمين الحلبي في الدر المصون (٢ / ١٤١) : وهذا الردّ من الزجاج ليس بشيء ؛ لوجوه ، منها : أنه فرّ من السكون إلى الاختلاس ، والذي نصّ على أن السكون لا يجوز نصّ على أن الاختلاس أيضا لا يجوز ، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس.

ومنها : أن هذه لغة ثابتة عند العرب حفظها الأئمة الأعلام ؛ كالكسائي والفراء ، فيسكّنون الهاء كما يسكّنون ميم (أنتم) و (فمنهم) وأصلها الرفع.

٢١٩

للجزم ، وصارت الهاء في موضع لام الفعل ، وحلّت محلها ، فأسكنت كما تسكن لام الفعل.

ألا ترى أنهم قد قالوا : لم يقر فلان القرآن ، فحذفوا حركة الهمزة للجزم وأبدلوا من الهمزة الساكنة ألفا لانفتاح ما قبلها ، ثم حذفوا أيضا الألف للجزم ، كذلك حذفوا الباء قبل الهاء للجزم ، وأسكنوا الهاء للجزم ، إذ حلت محل لام الفعل.

وليست هذه العلّة بالقوية.

وفيه علّة أخرى : وذلك أن من العرب من يسكّن هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها ، فيقولون : ضربته ضربا شديدا. يحذفون صلتها ، ويسكّنونها كما يفعلون بميم الجمع ، فالهاء إضمار والميم إضمار ، فجريا مجرى واحدا في جواز الإسكان. وقد كان يجب أن يكون الحذف مع الهاء أقوى منه مع الميم ، لأن صلة الميم أصل من الاسم المضمر ، وصلة الهاء إنما هي تقوية ، فإذا حسن حذف ما هو أصل ، فحذف ما هو غير أصل أقوى. وهذا الوجه أقوى من الأول على ضعفه أيضا.

وحجّة من قرأ بالكسر من غير ياء : أنه أجرى على أصله ، قبل الجزم.

وحجّة من وصل بياء : أن الهاء حرف ضعيف خفي ، فقوي بالياء في الكسر ، وبالواو في الضم (١).

والسبعة وجمهور القرّاء على ضم الدال من «دمت» ، وهي لغة أهل الحجاز (٢) ،

__________________

(١) انظر : الحجة لابن زنجلة (ص : ١٦٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٠٧ ـ ٢١٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ١٧٦).

(٢) انظر : الدر المصون (٢ / ١٤٣).

٢٢٠