تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ

____________________________________

الرَّسُولَ) في كل ما يأمركم به (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله سبحانه ويتفضل عليكم جزاء أعمالكم.

[٥٨] وإذ تقدم وعد الله لعباده الصالحين باستخلافهم الأرض ذكر أنه ليس الكفار أعجزوه سبحانه فلم يتمكن منهم ، وإنما ذلك امتحان لأيام قلائل حتى يصيروا إلى النار (لا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن يا رسول الله ، أو من يأتي منه الظن (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي قد أعجزونا عن أخذهم وإزالتهم والانتقام منهم (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مستقرهم ومصيرهم من «أوى» بمعنى اتخذ المأوى (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المأوى النار المعدة للكفار.

[٥٩] ومن أدب العائلة أن يكون للزوجين أوقات خلوة ، لا يدخل عليهم من الخدم والأطفال أحد إلا بعد الاستئذان ، فقد تقدم لزوم الاستئذان لمن في خارج البيت إذا أراد الدخول ، وهنا يبين السياق لزوم الاستئذان لمن في داخل البيت إذا أراد الدخول في غرفة العائلة ، وذلك في ثلاثة أوقات ، هي قبل وقت صلاة الفجر ، وقبل وقت صلاة الظهر أو بعده ، وبعد وقت صلاة العشاء حيث أن في هذه الأوقات يستريح الإنسان ، وكثيرا ما تبدو العورات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) أي يلزم أن يطلبوا الإذن منكم إذا أرادوا الدخول في غرفتكم الخاصة ومحل استراحتكم (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وهم العبيد والإماء ، ونسبة الملك إلى اليمين لأن اليد ـ وبالأخص اليمين ـ هي العضو الكثير

٧٢١

وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ

____________________________________

العمل الذي يكتسب حتى ينفق الإنسان الثمن في شراء العبد (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأطفال المميزين ، أما سائر الناس كالأولاد الكبار والأقرباء الذين يجمعهم دار واحدة ، فقد سكتت عنهم الآية لوضوح أنهم مردوعون ذاتا عن اقتراف الدخول بلا استئذان ، كما سيفهم من الآية الآتية. (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في كل يوم (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) حيث الإنسان في فراش النوم ، أو يبدل ثوبه للخروج (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) بعد الرجوع إلى الدار (مِنْ) بعد (الظَّهِيرَةِ) والمراد إما وقت القيلولة قبيل الظهر وإما وقت المنام بعد الظهر (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) حيث يخلع الإنسان ثيابه للمنام ، هذه (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) وإنما سمي الأوقات بالعورة ، لانكشاف العورة في هذه الأوقات غالبا ، من باب الإسناد إلى السبب ، فالأوقات مبدية للعورة ، لا أنها عورة ، أو من باب الإسناد إلى الظرف ، فالأوقات ظرف لظهور العورة ، ولا يخفى أن الملاك موجود في غير هذه الأوقات الثلاث فيما جرت العادة بالخلوة فيها (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) أي الخدم والغلمان (بَعْدَهُنَ) أي فيما بعد هذه الأوقات الثلاثة والمراد ببعدهن ، سائر الأوقات ، لا خصوص بعد المقابل لقبل ، نحو «من بعد الله» (طَوَّافُونَ) الطائف هو الذي يختلف إلى مكان ، ومنه سمي الطواف والسعي ، في الحج ، طوافا (عَلَيْكُمْ)

٧٢٢

بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

____________________________________

أولئك الخدم والغلمان ، ويظهر من الآية ، أن الجناح في الأوقات الثلاثة ليس خاصا بالطائف ، بل جناح على الزوجين أيضا ، كما أن الظاهر من الآية عموم الحكم حتى بالنسبة إلى غير الزوجين ممن يخلو بنفسه في غرفته ، لإطلاق الآية ، ووجود العلة (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي طواف بعضكم وهم الخدم والغلمان على بعض وهم الزوجان ومن إليهما ، ولعل الإتيان بهذه الجملة للإشارة إلى أنه لا ينبغي التحشم في غير الأوقات الثلاثة ، ألستم جميعا بعض من كل؟ وهذا لبيان الأدب المتوسط بين الإفراط لمن يأذن حتى في هذه الأوقات ـ كما نرى عند بعض الجاهلين في هذا الزمان ـ وبين التفريط لمن لا يأذن حتى في غير هذه الأوقات ترفعا وأنفة ، أو المراد طوافكم عليهم لطلب الحاجة والتربية ، وطوافهم عليكم للخدمة ، وكما بين الله لكم هذا الحكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الدالة على الأحكام والآداب (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما هو صلاحكم (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى عنه.

[٦٠] (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ) أيها المؤمنون والتخصيص ب «منكم» لأن العبيد إذا بلغوا بقي حالهم كالسابق (الْحُلُمَ) أي وقت الاحتلام ، وهو البلوغ (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) أي يجب عليهم الاستئذان إذا أرادوا الدخول ، في أي وقت كان ، فإن الإنسان يتأدب أما الحر الكبير ربما لا يتأدب أمام الطفل والعبد (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ) ذكروا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأطفال والخدم ، في الأوقات الثلاث أو كما استأذن الذين بلغوا قبلهم من

٧٢٣

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ

____________________________________

الأحرار ، وكما بين الله سبحانه هذا الحكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالة على الأخلاق والأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصالح (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى ، فاللازم أن يتبع الإنسان أحكامه لأنها صادرة عن علم وحكمة.

[٦١] وإذ قد تقدم حرمة إبداء النساء زينتهن ولزوم الحجاب ، جاء السياق ليستثني عن ذلك النساء اللاتي تقدمن في السن ، حتى خلت أجسامهن عن الإثارة ، وعفت نفوسهن عن الشهوة ، فلا يثرن شهوة ، ولا يشتهين أمرا (وَالْقَواعِدُ) جمع قاعدة ، وهي التي قعدت عن الحيض وقابلية الزواج (مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي) جمع التي (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي لا يطمعن في النكاح و «يرجون» مشترك بين الجمع المذكر والمؤنث ، كما لا يخفى. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ) أي يتركن (ثِيابَهُنَ) المرتبطة بالنساء كالجلباب الذي تلبسه المرأة فوق الخمار والحجاب وما أشبه ذلك ، فقد جاز لهن أن يخرجن بملابسهن العادية ، بدون ستر البدن بجلباب كبير وبدون ستر الوجه واليدين والقدمين ، في حال كونهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) التبرج الظهور ، أي غير ظاهرات مع زينة مثيرة ، كالحلي ، والثياب الجميلة ، والزخارف الملونة ، فاللازم أن يكون قصدهن التخفيف لإظهار الزينة (وَ) مع ذلك (أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ)

٧٢٤

خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ

____________________________________

بلبس الجلباب وعدم وضع ثيابهن (خَيْرٌ لَهُنَ) من وضعها ، بأن يلبس الجلباب كسائر النساء فإن ذلك ثوب حشمة ووقار (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم التي تقولونها حول النساء القواعد ، والتي تقولها النساء عن نفسهن (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم ، وقلوبهن ، فإذا زاغت كلمة أو التوى قصد علمه الله سبحانه ، وحاسبكم عليه.

[٦٢] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الأكل والمواكلة ، مما يرتبط بالعائلة ، والأصدقاء ، بعد ما بين حكم البيوت والخلوة والاستئذان في خارجها وداخلها قال الإمام الباقر عليه‌السلام : أن أهل المدينة ـ قبل أن يسلموا ـ كانوا يعتزلون الأعمى والأعرج والمريض وكانوا لا يأكلون معهم وكان الأنصار فيهم تيه وتكرم ، فقالوا : إن الأعمى لا يبصر الطعام والأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا طعامهم على ناحية وكانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح ، وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون : لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا من مواكلتهم ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ذلك : فأنزل الله عزوجل(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) (١) أي ليس عليه ضيق يوجب اعتزالهم (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) في أكله مع الناس (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ومن المعلوم أن الآية لم تسق للإطلاق من جهة أقسام الأمراض المعدية وإنما سيقت لبيان أمر آخر ، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة ، ثم بين سبحانه حكما آخر وهو جواز أن يتناول الإنسان من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٥ ص ٥٣.

٧٢٥

وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ

____________________________________

البيوت المذكورة بدون استئذان أربابها.

(وَلا) حرج (عَلى أَنْفُسِكُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أزواجكم ، فلا محل لأن يتحرج عن الأكل من بيته باحتمال أن يكون المأكول خاصا بالزوجة أو الزوج أو لشخص غريب وضعه هناك أمانة أو نحو ذلك ، وربما احتمل أن يكون المراد بيت الأولاد ، فنسب بيت الأولاد إلى الإنسان نفسه (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) ويشمل الأجداد (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) وتشمل الجدات (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) سواء كان الآكل أخا أو أختا (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ) من الأبوين أو من واحد منهما (أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ) والظاهر شموله لأعمام الأب والأم (أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) وهي في الشمول لمطلق العمة كالسابق (أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ) أخ الأم (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) أخت الأم ، وفي عمومها ما سبق (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) مفاتح جمع مفتح ، وهو المفتاح ، أي البيت الذي عندكم مفتاحه ، قال الصادق عليه‌السلام : الرجل له وكيل ، يقوم في ماله فيأكل في غير إذنه (أَوْ) بيت (صَدِيقِكُمْ) فقد ورد عنهم عليهم‌السلام إنهم قالوا : لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله قدر حاجتهم من غير

٧٢٦

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ

____________________________________

إسراف (١). وقال الصادق عليه‌السلام : هؤلاء الذين سمى الله عزوجل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم وكذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه (٢). وقال عليه‌السلام في قوله «ليس عليكم جناح» : بإذن وبغير إذن (٣). (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون (جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فليس على الإنسان بأس أن يأكل مع غيره أو منفردا ، وهذا بيان كيفية الأكل بعد ما بين سبحانه مكان الأكل ، فقد كان بعض الناس يتحرج أن يأكل الطعام وحده ، وأشتات جمع شتيت ، ومعناه المتفرق «و» إذ بين سبحانه كيفية الأكل ومكان الأكل جاء السياق لبيان بعض آداب البيوت عطفا على ما سبق من الآداب فقال (فَإِذا دَخَلْتُمْ) أيها المسلمون (بُيُوتاً) من تلك البيوت أو غيرها (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ليسلم بعضكم على بعض ، قال الصادق عليه‌السلام : هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم (٤) (تَحِيَّةً) منصوب على المصدر ، إذ هو بمعنى تسليما ، أي حيوا تحية وسلموا تسليما وأصل التحية أن الإنسان كان إذا رأى غيره قال «حياك الله» أو «لتحيى» والمعنى أن يبقى حيا ، حتى شرع الإسلام السلام ، وهو أفضل من التحية ـ بالمعنى المتقدم ـ إذ الحياة لا تلازم السلامة ، أما السلامة فهي تلازم الحياة مع الزائد ، ومن هناك سمي كل ترحيب يبدي به عند اللقاء ، بالتحية (مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي أنها تحية جاءت من عنده

__________________

(١) فقه القرآن : ج ٢ ص ٣٣.

(٢) الكافي : ج ٦ ص ٢٧٧.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢٤ ص ٢٨٣.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٨١.

٧٢٧

مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

____________________________________

سبحانه ، بأمره لكم أن تبدؤوا بها.

في حال كونها (مُبارَكَةً) أي لها البركة ، فإن السلام يوجب الزيادة في العلاقات ، مع ما له من الآثار الغيبية (طَيِّبَةً) لما فيها من طيب العيش بالتواصل والأجر الكبير ، وقد ورد أن في السلام والجواب مائة حسنة تسع وتسعون منها للمسلم وواحدة للمجيب ، وكما بين الله لكم هذه الأحكام (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ) أيها المسلمون (الْآياتِ) الدالة على الأحكام والآداب (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعملوا عقولكم فتسعدوا في الحياة.

[٦٣] وإذ بين سبحانه علاقة المسلمين بعضهم مع بعض في المأكل ، والاجتماع والتحية ، وسائر ما تقدم بيّن الأدب اللازم رعايته مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رئيس المسلمين الأعلى فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بأن اعتقدوا بالله ، وصدقوا بالرسول ، عن حقيقة وقلب ، لا بمجرد اللفظ (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي مع الرسول (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي أمر يقتضي الاجتماع كالمشورة ، والحرب ، وما أشبه (لَمْ يَذْهَبُوا) من عنده (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي يطلبوا الإذن من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الذهاب والانصراف (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا رسول الله (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) إيمانا صادقا راسخا (بِاللهِ

٧٢٨

وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ

____________________________________

وَرَسُولِهِ) إذ عدم الاستئذان دليل على عدم تمكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قلوبهم ، ونشوب الإيمان في أعماقهم (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) يا رسول الله (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ولعل الإتيان بهذه الجملة للتنبيه على أنه لا ينبغي لهم أن يستأذنوا اعتباطا للتخلص من التبعة ، وإنما الاستئذان لبعض الأمور المحتاج إليها (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فإن إعطاء الإذن بيد الرسول ، إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي اطلب لهم من الله الغفران ، فلعل الاستئذان كان عبثا لمحاولة الفرار عن الأمر الجامع فهم في معرض سخط الله الذي لا يدفعه إلا الاستغفار (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر الذنب (رَحِيمٌ) يتفضل على المؤمنين باللطف والرحمة ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في حنظلة ، وذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، فاستأذن رسول الله أن يقم عند أهله فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال واستشهد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض ، فسمي غسيل الملائكة (١).

[٦٤] ومن جملة الآداب التي يلزم مراعاتها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بينه سبحانه بقوله : (لا تَجْعَلُوا) أيها المسلمون (دُعاءَ الرَّسُولِ) نداءه عند

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢٦.

٧٢٩

بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً

____________________________________

المخاطبة فيما (بَيْنَكُمْ) ولعل الإتيان بهذه الكلمة ، لبيان أنه ينبغي احترامه وهو بينكم ، فإنه الرسول ، في قبال من يحترم غيره في الخارج دون الخلوة فيما بينهما (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) كما ينادي بعضكم بعضا بالاسم ، أو اللقب فلا تقولوا يا محمد ، ويا أبا القاسم ، بل قولوا يا رسول الله ، يا نبي الله ، قال الصادق عليه‌السلام : قالت فاطمة عليها‌السلام : لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله أن أقول له يا أبت ، فكنت أقول يا رسول الله ، فأعرض عني مرة أو اثنين أو ثلاثا ثم أقبل علي وقال : يا فاطمة إنها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك أنت مني وأنا منك ، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبرياء ، قولي يا أبت فإنها أحيا للقلب وأرضى للرب (١).

أقول : لعل المراد بالنسل الأئمة عليهم‌السلام.

ثم رجع السياق إلى ما تقدم من لزوم الاستئذان لدى إرادة الانصراف (قَدْ يَعْلَمُ) قد للتحقيق ، أو جار مجرى التعريض ، فقد تقول لولدك ـ مهددا ـ قد أطلع إلى عملك ، بمعنى أن احتمال اطلاعي كاف في أن ترتدع (الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) التسلل الخروج في خفية وهدوء وحذر (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (لِواذاً) وهو أن يتستر الإنسان بشيء مخافة أن يراه أحد ، من لاذ بمعنى : التجأ ، فقد كان بعض المسلمين يقومون في هدوء وحذر ويتسترون ببعض الأصحاب الجالسين أو

__________________

(١) المناقب : ج ٣ ص ٣٢٠.

٧٣٠

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)

____________________________________

الواقفين ، لئلا يراهم الرسول حين يريدون الانصراف ، بدون الاستئذان ، وفي قوله «قد يعلم الله» تهديد لمن يفعل ذلك (فَلْيَحْذَرِ) أي يجب أن يحذر ويخاف (الَّذِينَ يُخالِفُونَ) أي يعرضون (عَنْ أَمْرِهِ) تعالى (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي بينة وعقوبة في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

[٦٥] (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالكل ملكه والكل تحت تصرفه ، فكيف يمكن أن يخالفه أحد ولا يخشاه؟ (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الأعمال والكلام في «قد» ما تقدم ، وفي هذا تهديد لمن يخالف (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) وهو يوم الموت ، أو يوم القيامة ، والمراد الرجوع إلى حسابه وجزائه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم ، إخبارا يتعقبه الجزاء ، وهذا كقولك لمن تريد وعده أو إيعاده «سأخبرك بما عملت» (بِما عَمِلُوا) من الطاعة والمعصية (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيجازي كلا حسب عمله وما صدر منه ، و «يوم» منصوب على الظرفية ، أي «ينبئهم في يوم يرجعون إليه» ، وإنما دخل «الفاء» لإفادة الترتيب بين الإخبار وبين والرجوع.

٧٣١

(٢٥)

سورة الفرقان

مكية / آياتها (٧٨)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفرقان» وهي كسائر السور المكية تتعرض للعقيدة وما يتبعها وحيث ختمت سورة النور بأن لله ما في السماوات والأرض ، ابتدأت هذه السورة بأن لله التشريع ، لتلائم التشريع مع التكوين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال ، وقد اعتاد الإنسان أن يجعل شعاره أفضل شيء يشير إلى نفسيته ومنهاجه ، وهل هناك شيء أفضل من اسم الله سبحانه ليجعل شعارا؟ ، وهل بعد ذلك شيء أفضل من الرحمة التي تعم التكوين وإعطاء الخير والهداية ، ليعقب باسم الإله؟

٧٣٢

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)

____________________________________

[٢] (تَبارَكَ) هو من باب التفاعل ، من البركة ، إما بمعنى تكاثر خيره ، أو من البروك ، بمعنى الاستقرار ، أي دام وثبت (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أي القرآن ، وسمي فرقانا لأنه المفرق بين الحق والباطل (عَلى عَبْدِهِ) محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِيَكُونَ) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِلْعالَمِينَ) أي جميع عوالم العقلاء من الإنس والجن في الأجيال المختلفة والأصقاع المختلفة (نَذِيراً) أي منذرا عن المعاصي والكفر والآثام ، وإنما ذكر هذا الوصف ، لأن التنقية عن الشرك والمعاصي مقدم على التحلية بالإيمان والطاعات.

[٣] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك ، وحق للمالك أن يشرع ، كما أن المالك أعرف بما يصلح مملوكه من غيره ، فهو أحسن نظاما وخير دينا من غيره (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعمت اليهود والنصارى والمشركون جعلوا عزيرا والمسيح والملائكة أولاد الله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) تعالى (شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) يشاركه في الكون ، كما زعم المشركون ، حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله سبحانه (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فله الخلق ، كما أن له الملك ، وصرح بذلك لعدم التلازم بينهما (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) حسب الحكمة والصلاح ، أي وضع لكل شيء حدا في الكيفية والكمية ومدة البقاء إلى غير ذلك من الأمور

٧٣٣

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ

____________________________________

المكتنفة بكل مخلوق.

[٤] (وَاتَّخَذُوا) أي اتخذ الكفار (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (آلِهَةً) المراد بالجمع الجنس حتى يشمل الواحد ، كما يراد بالجنس الجمع في كثير من الموارد ، وتلك الآلهة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) لا تقدر على خلق شيء (وَهُمْ) تلك الآلهة (يَخْلُقُونَ) مخلوقة لله سبحانه ، والإتيان بلفظ العاقل سيرا على مذهب القوم الذين كانوا يزعمون عقل الأصنام (وَلا يَمْلِكُونَ) تلك الآلهة (لِأَنْفُسِهِمْ) فكيف لغيرهم (ضَرًّا) بأن تدفعه عن نفسها (وَلا نَفْعاً) بأن يجلبونه لأنفسهم ، في مقابل الله الذي يخلق ولم يخلق ، ويتمكن على كل نفع وإضرار بالنسبة إلى جميع الناس (وَلا يَمْلِكُونَ) لأحد (مَوْتاً وَلا) لميت (حَياةً وَلا) لأحد (نُشُوراً) أي إحياء بعد الموت ، فكيف يترك الكفار عبادة الله القادر على كل شيء والخالق لكل شيء والمالك لكل مملوك ، ويعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على شيء ولم تخلق شيئا وليس لها شيء؟.

[٥] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حول القرآن الذي أنزله الله على رسوله (إِنْ هَذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) أي كذب (افْتَراهُ) الرسول ، على الله سبحانه ، بأن نسبه إليه تعالى بالكذب ، (وَأَعانَهُ) أعان الرسول (عَلَيْهِ) على هذا الإفك (قَوْمٌ آخَرُونَ) فقد كانوا يقولون إن

٧٣٤

فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)

____________________________________

عداس مولى حويطب ويسار غلام العلاء وحبر مولى عامر ، هم الذين أعانوا الرسول على إنشاء هذا القرآن ، وقد كان أولئك من أهل الكتاب.

وعن الباقر عليه‌السلام : يعنون أبا فكيهة وحبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب (١) (فَقَدْ جاؤُ) أي هؤلاء الكفار (ظُلْماً) إذ ظلموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه النسبة إليه (وَزُوراً) أي افتراء ، فكيف يمكن للعبد أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي لا يمكن أن يأتي به فصحاء قريش وعقلائهم؟ كما قال سبحانه : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٢)؟.

[٦] (وَقالُوا) أي قال جماعة آخرون من الكفار (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) جمع أسطورة ، وهي الحديث الخيالي الذي لا واقع له ، أي قالوا أن هذا القرآن أحاديث المتقدمين وما سطروه في كتبهم جمعها محمد وكتبها ليدعي بها النبوة (فَهِيَ) أي هذه الأساطير (تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه يقرؤها عليه بعض أصدقائه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي صباحا وعشيا ، ليحفظها ويقرأها على الناس ، وقد كانوا مناقضين في أقوالهم فمرة يقولون إفك افتراه ، ومرة إنها أساطير الأولين ، مع أن الرسول لم يكن كاتبا ، ثم ينسبون الإلقاء إلى أفراد لم يكن لهم علم ولسان ، ومع ذلك كله لم يقدروا على أن يأتوا بأقصر سورة مثله.

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ١١١.

(٢) النحل : ١٠٤.

٧٣٥

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧)

____________________________________

[٧] (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (أَنْزَلَهُ) أي أنزل هذا القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي الخفي (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو بعلمه الشامل يعلم مقدار قدرة البشر ، ولذا ترى الذي أنزله فوق قدرتهم إذ لا يتمكنون أن يأتوا بمثله ، ولو كان افتراء من عند جاهل لا يعلم مقادير قدرة الناس لأمكنوا من معارضته والإتيان بمثله. (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ غَفُوراً) حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ليتوب من يتوب (رَحِيماً) يرحم العباد ويتفضل عليهم.

[٨] لقد كان هذا قولهم في القرآن أما قولهم حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) أصل هذه الجملة تستعمل بمعنى «أي شيء له» ولكن استعملت بعد ذلك في مجرد الاستفهام (يَأْكُلُ الطَّعامَ) أي كيف يكون رسولا وهو يأكل الطعام (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ)؟ فقد كانوا يظنون أن هذه الأمور تنافي شأن الرسالة (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) من السماء ، كي نراه (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي معينا له على الإنذار والتخويف و «لو لا» بمعنى «هلا» ولنسأل هؤلاء القائلين : لماذا يجب أن يكون الرسول لا يأكل الطعام ، ولا يمشي في الأسواق؟ ولماذا يلزم أن يكون معه ملك يرى؟ إن الكفار لم يكن لهم منطق في هذه الكلمات إلا السخافة والاقتراح المجرد والعناد.

٧٣٦

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

[٩] (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ) من جانب السماء ، أو المراد يعطى (كَنْزٌ) من الذهب والفضة وسائر الجواهر ، حتى يكون ذا مال ، فقد كانوا يستغربون أن يكون الرسول لا مال له (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) من تلك البستان حتى لا يحتاج إلى اشتراء الفواكه والخضر من السوق (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون أيها المؤمنون (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) قد سحروه ، وذهب عقله ، ومن ذهاب عقله ادعائه النبوة ، وكلامه بكلام المجانين.

[١٠] (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي الأشباه فتارة شبهوك بالمسحور ، وتارة بالمجنون ، وتارة بالشاعر ، وهكذا (فَضَلُّوا) عن الطريق ، وسبيل الهداية (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) حيث أبعدوا أنفسهم عنك (سَبِيلاً) يهديهم إلى الحق ، إنهم بعّدوا أنفسهم منك ، ولا طريق إلى الله سبحانه سواك ، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الهدى.

[١١] (تَبارَكَ) أي تقدس وتعالى ـ وقد تقدم معناه ـ (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الذي اقترحوه ، من الكنز والبستان ، ثم فسر سبحانه ما هو خير بقوله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من

٧٣٧

وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ

____________________________________

تحت أشجارها (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) في هذه الدنيا ، ولكن الإيمان حيث كان مرتبطا بالقلوب ، ولأجل الامتحان ، يلزم تجرد الأنبياء عن المال ـ بدء الدعوة ـ ليظهر صدق المؤمن ، وإلا فالناس كلهم تبع للمال ، يميلون حيث مال.

ولعل ذكر هذه المحاورات بين الرسول وبين القوم ، وبيان ما كانوا يقولون في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي القرآن ، لأجل تعليم الناس كيفية الاحتجاج ، وإرشاد الذين يريدون الإصلاح إلى الأتعاب التي يواجهونها في طريقهم ، ليأخذوا أهبتهم عند الحركة ، ويستعدون للدفاع والكفاح حسب اطلاعهم على مقدار قوى الخصم ، ولتظهر منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكانته السامية.

[١٢] هؤلاء لا يكذبونك لأنهم لم يجدوا دليلا على صدقك (بَلْ) إنما يكذبونك لأنهم لا يخافون المعاد فقد (كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي بالقيامة (وَأَعْتَدْنا) هيئنا (لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) نارا تسعر وتتلظى.

[١٣] (إِذا رَأَتْهُمْ) أي رأت النار هؤلاء الكفار (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وإنما نسب الرؤية إلى النار ، مع أن النار لا عين لها ، لزيادة التهويل حتى كأن النار تراهم وتنظر إليهم نظرة الغضبان الحانق ، والقلب من أنواع البلاغة كما قال الشاعر :

ولما أن جرى سمن عليها

كما طينت بالفدن السياعا

٧٣٨

سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ

____________________________________

(سَمِعُوا لَها) أي للنار (تَغَيُّظاً) فإنها تتقطع عند اشتدادها ، كما يسمع الإنسان صوت الأعواد حين تنقطع في النار (وَزَفِيراً) وهو صوتها عند النفس والالتهاب.

[١٤] (وَإِذا أُلْقُوا) أي ألقي هؤلاء الكفار (مِنْها) من النار (مَكاناً ضَيِّقاً) أي في مكان ضيق من النار ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم في النار كالوتد في الحائط (مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم إلى بعض ، أو قد قرن أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، أو قرنوا مع الشياطين (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الثبور : الهلاك أي طلبوا هلاكهم ، قائلين وا ثبورا ، أي يا هلاك احضر وأرحنا من هذه المشقات.

[١٥] فيقال لهم حينذاك (لا تَدْعُوا) أيها الكفار (الْيَوْمَ) في النار (ثُبُوراً واحِداً) وهلاكا واحدا (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ولعله كناية عن أن قول الويل لا ينفعكم وإن كثر ، كما يقال لمن يبكي حزنا على فقد شيء ، ابكي كثيرا ، يراد أن البكاء لا ينفع ، وإن بكى الإنسان كثيرا.

[١٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يصرون على كفرهم وعصيانهم (أَذلِكَ) أي هل هذا المرجع وهذه العاقبة السيئة (خَيْرٌ) للإنسان (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) أي : البساتين التي يخلد فيها الإنسان ولا يخرج منها إلى الأبد (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) الذين يتقون الكفر

٧٣٩

كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧)

____________________________________

والعصيان؟ (كانَتْ) تلك الجنة (لَهُمْ) أي للمتقين (جَزاءً) على أعمالهم (وَمَصِيراً) أي محلا يصيرون إليه.

[١٧] (لَهُمْ فِيها) أي في الجنة (ما يَشاؤُنَ) من أنواع النعيم واللذات (خالِدِينَ) باقين إلى الأبد (كانَ) إدخالهم في الجنة ـ المفهوم من الكلام ـ (عَلى رَبِّكَ وَعْداً) أي وعدهم ربك وعدا (مَسْؤُلاً) أي يسأل الله عن هذا الوعد ، والسائلون هم الأتقياء فإنهم يسألون الله أن يفي لهم بالوعد ، وهذا تأكيد للأمر ، يعني إن الوعد وعد قطعي حتى إنه يسأل عنه ، وليس من قبيل وعد بعض الناس الذي هو مجرد لقلقة لسان.

[١٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي يجمع الله هؤلاء الكفار للحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة (وَ) يحشر (ما يَعْبُدُونَ) من الآلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) ولعل المراد هنا المسيح والملائكة وأمثالهم ، أو الأعم منهم ومن الأصنام ، وينطق الله الأصنام بقدرته ليتكلموا حتى يكون زيادة في تقريع الكفار.

(فَيَقُولُ) الله تعالى لهؤلاء المعبودين الذين جعلوا شركاء له (أَأَنْتُمْ) أيها المعبودون (أَضْلَلْتُمْ عِبادِي) المشركين (هؤُلاءِ) الذين تشاهدونهم إلى جنبكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) بطغيانهم ، بأن أشركوا

٧٤٠