تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ

____________________________________

إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١) وهذا أقرب إلى السياق ، حيث إن الكلام حول العقيدة ، والرسالة ، والقرآن ، وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مع الأئمة عليهم‌السلام وهو من الملكوت (٢).

[٨٧] إن الإنسان لم يؤت إلا قليلا من العلم ، وإن القرآن الذي يرشد الإنسان إلى مناهج الحياة بعد إرشاده إلى العقيدة الصحيحة ، أنه من أمر الله سبحانه وفضله على البشر ، حدوثا وبقاء ، ولو شاء لمحاه من بين الناس حتى يرجعوا جهالا ، وهذا كما تقول لتلميذك : أنت لا تعرف شيئا ، وما تعرفه فإنه مني ، ولو شئت لأخذت كتب علمك ، حتى تبقى جاهلا ، كما كنت (وَلَئِنْ شِئْنا) وأردنا (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن بأن نمحي صورته من ذهنك ، ونرفع نسخه من بين الناس (ثُمَ) لو فعلنا ذلك (لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) أي بالذي أوحينا إليك (عَلَيْنا وَكِيلاً) فلا أحد يقدر على استرداده منا ، أي لا تجد موكلا بالقرآن لك ، على ضررنا ، وخلاف إرادتنا ، يستوفيه منا ليسلمه إليك.

[٨٨] (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) إن الذي وهبك هذا القرآن ، وأبقاه عندك ، هو تفضل الله سبحانه عليك ـ والاستثناء منقطع ـ (إِنَّ فَضْلَهُ) تعالى

__________________

(١) الشورى : ٥٣.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٢٧٣.

٣٤١

كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ

____________________________________

(كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) حيث أنعم عليك بالنبوة ، وبإعطاء القرآن ، وبإبقائه عندك ، وهذا لتنبيه الناس حتى يشكروا هذه النعمة العظيمة ، فإن القرآن أعظم نعم الله سبحانه ، حيث يقرر الحياة السعيدة ، مما لا تصل إليها البشرية بعقليتها ، ولو صقلت ألف عام.

[٨٩] فإن القرآن ليس كلاما عاديا ، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) متعاونين بعضهم مع بعض (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في جميع خصوصياته البلاغية والمنهجية والعلمية ، وسائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لأنه خارج عن طوقهم وقدرتهم (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) معينا وظهرا يساعد بعضهم بعضا ، وقد مضى على القرآن ألف وأربعمائة عام ، ولم يأت من يأتي بمثل القرآن ، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات ، وجاء الباب بالمبكيات ، أما من كان أبلغ الناس ، ففكر وقدر ، ثم قال إن هذا إلّا سحر يؤثر ، وكما أنه لم يأت بعصى موسى عليه‌السلام وإحياء عيسى عليه‌السلام ، وغرق نوح عليه‌السلام أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد.

[٩٠] (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) بيّنا للناس ، وجئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى ، كالإتيان بقصة موسى في سبعين

٣٤٢

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا

____________________________________

لباس ، وهكذا ، وهذا معنى التصريف ، فإنه أن يقلب الشيء الواحد في صور شتى (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للحق مع إتمام الحجة عليهم.

[٩١] إن الله أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول ومنهاجا للحياة السعيدة وكلمة باقية يستنير بها الأقوام ، ويهتدون سبيلا ، لكن الكفار الذين أبوا إلا الجحود والتوغل في العناد ، أغمضوا النظر عنه ، وأخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة ولا تبقى مع الأجيال وإنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة ، (وَقالُوا) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) بأنك رسول الله ، وإن ما جئت به هو من عند الله (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي حتى تشقق الأرض ، وتخرج منها عين ماء نستفيد منها ، فإن أرض مكة قليلة الماء تحتاج إلى العيون والأنهار.

[٩٢] (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) بأن تدعو ربك فيحدث لك جنة في طرفة عين (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) من الماء (خِلالَها) أي وسطها (تَفْجِيراً) تشقيقا ، حتى يجري الماء في تلك الأنهر.

[٩٣] (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يهددهم بالعذاب من السماء ، وقد ذكر سبحانه (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ

٣٤٣

كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً

____________________________________

ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (١) فهنا يقولون أسقط علينا ـ حسب زعمك : إنك تقدر على كل شيء ، وإنك رسول الله ـ السماء. (كِسَفاً) وهي جمع كسفة ، بمعنى القطعة ، وزن السدرة ، وسدر وكسفا حال من السماء ، ولا يخفى أنه بناء على كون السماء هي المدار ، يكون كلامهم هذا حسب زعمهم ، بأن السماء جسم ، أما قوله (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) فلعل المراد ، الكسف التي منشأها السماء ، فإن القطع المعدنية تقذف من جانب العلو ، كما ذكره أهل الفلك (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي في حال كونهم قبيلة قبيلة ، وصنفا صنفا حتى نشاهدهم فنصدق بك ، ولعلهم أخذوا ذلك من قوله سبحانه (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢) ولم يعرفوا أن المراد «جاء أمر ربك» وأن الملائكة يوم تأتي (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) (٣).

[٩٤] (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي بيت مملوء من ذهب ، وأصله من الزخرفة ، وهي الزينة ، فكأن إطلاقه على الذهب مجازا من باب الأولى ، لأن الذهب يزين به (أَوْ تَرْقى) وتصعد (فِي السَّماءِ) بأن نراك قد صعدت (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وصعودك ، لأنا نحتمل ، أن ذلك من باب السحر ، وأنك قد تصرفت في أبصارنا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) من

__________________

(١) الطور : ٤٥.

(٢) الفجر : ٢٣.

(٣) الفرقان : ٢٣.

٣٤٤

نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)

____________________________________

جانب الله (نَقْرَؤُهُ) مكتوب فيه نبوتك وصدقك في دعاويك ، وقد كانوا من الجهل والغباوة بحيث يفرقون بين الصعود ، وبين الإنزال بالكتاب ، فإن من يتمكن من السحر في الصعود ، يتمكن من السحر في إنزال الكتاب أيضا (قُلْ) يا رسول الله في جواب هذه الاقتراحات (سُبْحانَ رَبِّي) أي أنزه ربي عن المثل والذمائم وهذه جملة تستعمل للتعجب ، وكان الأصل في ذلك ، أن المعنى كون الله منزها ، أما ما جرى بيننا ، فليس منزها (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي لست أنا إلا رسول ، فالواجب علىّ أن آتى بمنهاج السماء ، ومعي من الأدلة ما تثبت أني رسول ، أما أن آتى بكل ما يقترح الناس من الخوارق ، فإن هذا ليس من شأن الرسول ، فإن كان الشخص من أهل الإنصاف ، كفاه ما جئت به من القرآن الحكيم دليلا ، وإن كان الشخص معاندا فلا يؤمن ولو جئت له بألف دليل ، وقد كانت الأمم تسأل أنبياءها بالمقترحات ، ثم لم تؤمن ، كما حدث في قصة صالح النبي عليه‌السلام ، وقد ورد في شأن نزول هذه الآيات : أن جماعة من قريش وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سيفان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج والنضر بن الحارث ، وأبو البختري ابن هشام ، اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلموه وخاصموه ، فبعثوا إليه ، أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ، فبادر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وكان حريصا على رشدهم ، فجلس إليهم ، فقالوا يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك ، فلا نعلم أحد أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، شتمت الآلهة ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وفرقت

٣٤٥

____________________________________

الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك ، وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا ، وإن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولا ، وأنزل كتابا ، فإن قبلتم ما جئت به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا؟ قالوا فما أحد ليس أضيق بلدا منا ، فاسأل ربك أن يسيّر هذه الجبال ، ويجري لنا أنهارا كأنها الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى ، وليكن فيهم قصي ، فإنه شيخ صدوق ، لنسألهم عما تقول ، أحق أم باطل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بهذا بعثت ، قالوا : فإن لم تفعل ذلك ، فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك ، ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بهذا بعثت ، وقد جئتكم بما بعثني الله به ، فإن قبلتم ، وإلا فهو يحكم بيني وبينكم ، قالوا : فأسقط علينا السماء ، كما زعمت إن ربك ، إن شاء فعل ذلك؟ قال ذاك إلى الله إن شاء فعل ، وقال قائل منهم لا نؤمن ، حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام معه عبد الله ابن أبي أمية المخزومي ابن عمة عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل ، ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به؟ فلم تفعل ، فو الله لن أومن بك أبدا ، حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه وأنا أنظر ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك وكتاب يشهد لك ، فأنزل الله سبحانه الآيات (١).

[٩٥] ثم ذكر سبحانه ، أن سبب امتناع هؤلاء عن الإيمان بالرسول ، إنكارهم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٢٠.

٣٤٦

وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً

____________________________________

لأن يكون البشر رسولا ، إما لأنهم يظنون أن منصب الرسالة فوق أن يناله بشر ـ أو للحسد ـ أو نحو ذلك (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) أي لم يصرف المشركين عن الإيمان بالرسول وتصديقه (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي حين أتتهم الهداية والرشاد ، (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء عن «شيء» المحذوف الذي هو فاعل «منع» فالاستثناء مفرغ (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) أي كيف يمكن أن يرسل الله بشرا للرسالة وأداء الوحي؟ والمراد ب «قولهم» شبهتهم التي تظهر بالقول.

[٩٦] (قُلْ) يا رسول الله لهم : إن الملائكة لا تصلح لأن ترسل إلى البشر الجمهور ، لأنه ليس من جنسهم ، ولا تصلح الأرض محلّا لهم ، فإن الله سبحانه قادر على كل شيء ، لكن الله تعالى جعل للأرض قوانين عامة ، وأجرى سننه وفق تلك القوانين ، ومن تلك القوانين ، كون الرسول من جنس البشر ، وإن الملك لا ينسجم ، كما أن الحيوان لا ينسجم مع البشر بأن يكون رسولا إليه ، فإذا طلب طالب أن يكون الطير رسولا ، كيف يكون مضحكا ـ وإن كانت قدرة الله فوق ذلك ـ كذلك من يطلب أن يكون الملك رسولا؟ (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) ولم يكن بشر فيها (يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي ساكنين قاطنين ، فإن المشي والاطمئنان كناية عن ذلك ، إذ غير الساكن لا يكون ماشيا مطمئنا ، بل يمشي مضطربا قلبه ، يهفو نحو وطنه ومحله (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) أي من جانب العلو (مَلَكاً

٣٤٧

رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ

____________________________________

رَسُولاً) أي رسولا من جنس الملك ، لأنه حينئذ ينسجم مع المرسل إليهم ، أما وفي الأرض بشر ، فالرسول لا بد وأن يكون من جنسهم ، ثم لماذا الملائكة؟ أللتعنت والاقتراح؟ فلا يفيد الملائكة أيضا ، أم للحجة والبرهان؟ فالرسول معه ما يدل حجة وبرهانا ، ولا يقاس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر الناس ، فإنه صالح لأن يعاشر الملائكة بخلاف غيرهم فلا يستشكل بأنه ما الفرق بين الرسول وغيره؟

[٩٧] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون أن يكون الرسول إليهم ملكا ولا يقتنعون بك (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فالله شاهد على رسالتي ، حيث أجرى على لساني القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله ، فلو كنت كاذبا في دعواي لزم ـ في الحكمة ـ أن لا أتمكن على شيء يعجز البشر عنه ، فإجراء الله المعجزة على يدي دليل على صدق دعواي ، كما أن إمضاء الرئيس إذا كان مع المستخدم كفاه دليلا على كونه من قبل الرئيس (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً) مطلعا على أحوالهم (بَصِيراً) يبصر حركاتهم وسكناتهم فلو افترى عليه أحد ، لزم عليه ـ في الحكمة ـ أن يفضحه ، لا أن يجري بعض النواميس الخارقة على يده.

[٩٨] إن هؤلاء الكفار تركوا عقولهم ، وركبوا أهواءهم ، ولذا تركهم سبحانه في ضلالهم يعمهون ، وإلا فما حجة من تمت عليهم الحجة ، ووضحت لهم المحجة؟ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) بأن يلطف عليه الألطاف الخفية ، حين رأى منه الإيمان والإذعان (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حقيقة الذي

٣٤٨

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ

____________________________________

رأى السبيل ، وآمن وأخذ الله بيده إلى النجاح والسعادة ـ والياء من المهتد محذوف تخفيفا ـ (وَمَنْ يُضْلِلْ) الله ، بأن منع منه الألطاف الخفية ، بعد أن أراه السبيل فأعرض ولم يؤمن ، كالسيد الذي يعرض عن عبده ، حيث يراه يعمل باطلا ، فيتركه حتى يضل ، فإنه يقال في العرف : إن السيد أفسد عبده ، حيث لم يضرب على يده (فَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لَهُمْ) أي للضال (أَوْلِياءَ) يتولون شؤونه وينصرونه (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، ومن يتولاه في الظاهر ، فليست ولايته كولاية الله التي تهيئ خير الدنيا والآخرة ، فالمراد بالنفي ، نفي الأنبياء حقيقة ، لا نفي الأولياء صورة ، فهو كقوله عليه‌السلام : يا أشباه الرجال ولا رجال (١) إن حال الضالين في الدنيا ، أنه لن تجد لهم أولياء ، أما حالهم في الآخرة (وَنَحْشُرُهُمْ) ، أي نجمعهم للحساب ، فإن الحشر بمعنى الجمع (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فإنهم يسحبون على وجوههم إلى النار ، كما يفعل في الدنيا ، بمن يراد كمال إهانته ، في حال كونهم (عُمْياً) جمع أعمى ، وهو الذي لا بصر له (وَبُكْماً) جمع أبكم ، وهو الذي لا يتمكن من الكلام ، (وَصُمًّا) جمع أصم ، وهو الذي لا يسمع ، فهم بهذه الحالة المزرية المخزية يحشرون هناك فقد عموا عن الحق في الدنيا ، ولم ينطقوا بالشهادة والخير ، ولم يعيروا أسماعهم للدعوة ، فليكونوا هناك كذلك جزاء لما اقترفوه هنا ، (مَأْواهُمْ) أي محلهم ومصيرهم ومنزلهم ، من أوى يأوى ، بمعنى

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ٢٧ ص ٩٢.

٣٤٩

جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ

____________________________________

اتخذ المأوى (جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهيبها ، والمراد أنه كلما أشرفت على الخمود ، وإلّا فنار جهنم لا تنقض أبدا (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي اشتعالا والتهابا وتوقدا.

[٩٩] (ذلِكَ) العذاب في المحشر وفي النار (جَزاؤُهُمْ) الذي استحقوه بسبب أنهم (كَفَرُوا بِآياتِنا) ولم يؤمنوا بها (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً) بأن تبددت لحومنا بعد الموت ، حتى لم تبق إلا العظام (وَرُفاتاً) مما تهشم بالفت ، كالأعواد اليابسة البالية (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) محيون بعد الموت (خَلْقاً جَدِيداً) كما كنا سابقا؟ قالوا ذلك على وجه الإنكار.

[١٠٠] (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء المنكرون للبعث (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أوجدهما من العدم (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإن الإنسان بعد الحشر مثل الإنسان قبل الموت ـ باعتبار ـ كما أنه هو باعتبار آخر ، فإن الإعادة ليست أصعب من الابتداء ، كما قال سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (وَجَعَلَ) الله (لَهُمْ) أي لهؤلاء في الإعادة (أَجَلاً) أي وقتا (لا رَيْبَ فِيهِ) فإنه من الوضوح

__________________

(١) يس : ٨٠.

٣٥٠

فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)

____________________________________

بحيث لا ينبغي الارتياب والشك فيه ، فهو نفي الريب الصحيح بلسان نفي الحقيقة ، نحو «ولا رجال» (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) الذي ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، فإن الإنسان إذا لم يرضخ لأوامر الله تعالى ، فقد ظلم نفسه ، حيث عرضها للعقاب الدائم (إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا للسماء.

[١٠١] إن من يأمر غيره بالكرم ، لا بد وأن يكون كريما ، وإلا قيل : «لا تبغ منقبة وتأتي ضدها» فهؤلاء الكفار الذين كفروا بالله ورسوله والمعاد ، والذين اقترحوا البيت من الذهب ، وتفجير العين ، والبساتين ، وغيرها ، أن ملكوا كل شيء ، لم يكونوا يبذلون شيئا ، فهم أشحاء في الإعطاء ، أسخياء في الطلب (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) وخزائن رحمة الله ، هي الماء ، والتراب ، والشمس ، والهواء ، التي تتولد منها الأشياء والإرادة الأزلية التي تهب الحياة والفضيلة ، وغيرهما ، فكما أن الخزينة مركز الجواهر والنقود ، كذلك هذه الأشياء مصدر ما في الكون من الوجود والنفائس (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) ولم تبذلوا (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي لأجل خشية أن تفتقروا إذا بذلتم ـ مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا ـ فمن هذا النحو من الشح والبخل شأنه ، كيف يقترح هذه الاقتراحات المادية الدسمة؟ (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا ، من «قتر» بمعنى ضيق في النفقة ، والقتور صيغة مبالغة ، وهذا شبه الاستهزاء بالمقترحين ، والسخرية

٣٥١

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ

____________________________________

باقتراحهم ، كما قال سبحانه (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١).

[١٠٢] إن الأمة المعاندة ، لا تفيدها الخوارق ، فهؤلاء ، وإن طلبوها ، وعلقوا إيمانهم بها ، إلا أنها إذا جاءت لا يؤمنون ، حالهم حال الأمة السابقة ، أليس جاء موسى بأعظم من هذه الخوارق ، ولم تنفع كلها في إيمان قوم فرعون؟ وهل الأمم إلا أمثالا؟ (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي خوارق واضحات ، وهي «اليد» و «العصا» و «الحجر» و «البحر» و «الطوفان» و «والجراد» و «القمل» و «الضفادع» و «الدم» كما ورد بذلك الآيات والروايات ـ وقد مر تفسيرها ـ (فَسْئَلْ) يا رسول الله (بَنِي إِسْرائِيلَ) اليهود المعاصرين لك ، وإنما أمر بالسؤال ، ليكون كلام اليهود أبلغ في الحجة ، فإن كفار مكة المقترحين ، كانوا أسمع من اليهود ، فهم يذعنون لليهود بما لا يذعنون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذْ جاءَهُمْ) ومع كل هذه الآيات (فَقالَ لَهُ) أي لموسى عليه‌السلام (فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) قد سحروك وذهب عقلك ، ولذا تدعي النبوة ، أو أن المراد «ساحرا» فوضع المفعول موضع الفاعل ـ كما ذكر أهل الأدب ـ أن كلّا من الفاعل والمفعول ينوب مناب الآخر.

[١٠٣] (قالَ) موسى عليه‌السلام في جواب فرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون

__________________

(١) البقرة : ١٦.

٣٥٢

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا

____________________________________

(ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات ، ولعل الإتيان ب «هؤلاء» التي هي للعاقل ، كون الآيات تعمل عمل العاقل ، فالعصا تصير ثعبانا تأكل ، والجراد تهاجم مهاجمة العاقل ، وهكذا (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليست سحرا ، ولست أنا مسحورا (بَصائِرَ) أي أنزلها لأجل أن تكون حججا وبراهين ، فبصائر جمع بصيرة ، بمعنى مبصرة ، أو المراد ذات بصائر ، أو أطلق البصيرة على سبب البصيرة مبالغة ، أو مجازا لعلاقة السبب والمسبب (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) من ثبره الله بمعنى أهلكه ، والثبور بمعنى الهلاك ، والمراد به الهلاك على الكفر ، وإنما قال «أظن» لعدم علمه بذلك ، وإنما ظن حسب الظاهر من عناده ، مع احتماله إيمانه ، أو للتشابه اللفظي ، وإن كان عالما بذلك ، فإن الظن يستعمل بمعنى العلم.

[١٠٤] (فَأَرادَ) فرعون بعد إتمام الحجة عليه ، حيث لم يجد مخلصا من موسى وحججه القوية (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أي يزعج بني إسرائيل ويطردهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، مقر سلطته (فَأَغْرَقْناهُ) أي أغرقنا فرعون (وَمَنْ مَعَهُ) من جنوده وأشراف قومه (جَمِيعاً) لم ينج منهم أحد ، وهكذا مصير الكفار أعداء الله ورسوله.

[١٠٥] (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد هلاك فرعون وقومه (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا

٣٥٣

الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ

____________________________________

الْأَرْضَ) أي كونوا فيها ، مقابل إرادة فرعون تبعيدكم ، والمراد إما أرض مصر ، فقد سكنها بنوا إسرائيل فيما بعد ، أو الأعم مقابل إرادة فرعون إخراجهم من أرض مصر والشام وفلسطين ـ كما ذكر بعض أهل التفسير ـ أو مطلق الأرض ، أي بقوا هؤلاء ، وذهب أعداءهم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وهي القيامة (جِئْنا بِكُمْ) يا بني إسرائيل (لَفِيفاً) قد لف بعضكم في بعض ، فلكم إرث الأرض هنا ، ولكم الآخرة هناك ، أو المراد لفيفا أنتم في آل فرعون ، ليجازى أولئك هناك ، كما جوزوا هنا.

[١٠٦] وإذ قد تقرر ، أن الاقتراحات لا معنى لها ، وأن القران هو وحده كاف دلالة للنبوة ، وحجة على القوم ، يرتد السياق إلى هذا الكتاب الحكيم ليبين ما هو (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا القرآن بالحق ، فإنا لم ننزل القران ، إلا للإيمان به ، واتباع سبيله ، مقابل إنزال الشياطين الكذب على الكهان (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي وقد كان القرآن مصاحبا للحق ، فما فيه هدى ونور ومطابق للواقع ، مقابل ما نزل بالحق ، ولكنه لا يصحب الحق ، كما لو أعطى الولي عبده كتابا ، ليعمل فيه ، وقد كتب فيه اشتباها شيء باطل ، فإن إعطاء المولى بالحق ، لأنه له السلطة على العبد ، وقصده الحق ، لكن الكتاب المعطى ، كان مصاحبا للباطل ، والحاصل أن هذا القرآن حق فاعلا وفعلا ، أو المراد أن الإنزال كان بالحق ، والوصول إلى الرسول كان بالحق ، فلم يطرئه تحريف في البين ، وإن شئت قلت إن الملحوظ إما جهتا الفاعل

٣٥٤

وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا

____________________________________

والفعل ، أو الفاعل والقابل (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا مُبَشِّراً) لمن آمن ، وأطاع بالثواب (وَنَذِيراً) لمن كفر ، أو عصى بالعقاب.

[١٠٧] (وَ) أنزلناه (قُرْآناً فَرَقْناهُ) في نيف وعشرين سنة ، فلم ننزله جملة واحدة ، وإنما تدريجا منجما ، من فرق بمعنى التفريق ، والإرسال جزءا فجزءا (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي على تؤدة ، وفي أزمنة مختلفة ، من مكث بمعنى لبث ، فقد جاء القرآن ليربي الأمة تربية إسلامية ، وذلك يحتاج إلى التدريج ، وأن ينزل بكل مناسبة جزء منه ، ليكون تحريكا ، وليس كالكتب المدونة ، كتابا يقرأه الإنسان ليعلم ما فيه ـ فحسب ـ أو فكرة يستعرضها الشخص ، وقد أدّى القرآن مفعوله ، بهذه الحكمة المفرقة له أزمانا ومناسبات ، حتى ربي الجيل واندفع ، وباندفاع أولئك يندفع المسلمون إلى الأبد (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على حسب الحاجة ، ووقوع الحوادث ، لا جملة ومجموعا ، وكان لفظ «التنزيل» حيث أنه من باب التفعيل دال على التكثير في النزول الملازم للتدريج.

[١٠٨] وإذ تبين حقيقة القرآن ، وكونه منزلا من عند الله بالحق ، وفيه الحق ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فقد ثبتت الحجة من جانب الله تعالى ، ولم يبق إلا الإطاعة أو العصيان (قُلْ) يا رسول الله للكفار (آمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فإنّا قد تم من جانبنا الأمر ، وبقي في جانبكم ، فمن أراد الخير فليؤمن ، ومن أراد الشر فلا يؤمن ،

٣٥٥

إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)

____________________________________

أما العلماء فإنهم يؤمنون ـ طبعا ـ لما يرون فيه من الحق (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطاهم الله علم الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء عليهم‌السلام (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول هذا القرآن ، كعبد الله بن سلام وغيره ، من اليهود والنصارى (إِذا يُتْلى) أي يقرأ (عَلَيْهِمْ) القران (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) أي يسقطون على وجوههم ، وأذقان جمع ذقن ، وهو منتهى الوجه ، وإنما خص الذقن لأن من سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه (سُجَّداً) جمع ساجد ، وذلك لأن الإنسان الذي يخر على الأرض للسجود ، إذا لم يتمالك نفسه ، وقع ذقنه أولا على الأرض ، فليس المراد أنهم يجعلون أذقانهم فقط.

[١٠٩] (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له عن الباطل ، فما أرسله من القرآن حق ، لا يشوبه شيء (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) «إن» مخففة من الثقيلة ، أي أنه كان وعد الله سبحانه في الكتب السابقة بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنزال الكتاب لمفعولا ـ يفعل ـ فلا خلف فيه ، وها نحن نرى الوعد قد أنجز فآمنا وصدقنا.

[١١٠] إنهم يغلبهم التأثر ، حتى أنهم يبكون من شدة التأثر الحاصل لهم من استماع القرآن (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) فهم يسقطون على الأذقان ، ويسجدون ويبكون من شدة ما خالج نفوسهم من التأثر بالقرآن وبعظمة الله سبحانه (وَيَزِيدُهُمْ) ما في القرآن من المواعظ والعبر (خُشُوعاً)

٣٥٦

قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها

____________________________________

على خشوعهم بأصل تلاوته.

[١١١] وإذ قد تمت الحجة عليهم ، فلم يبق عند المشركين ، إلا أن يقولوا «وما الرحمن»؟ فقد كانوا يكرهون هذا الاسم ، بلا حجة ، أو بتعليل أنهم يناقشون في أصل الإله ، وفي وحدته ، وفي أن يسمى رحمانا؟ ولذا يؤمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحاجهم في هذا أيضا ، فإن الله هو الرحمن ، فهما لفظان على معنى واحد ، فما هذا اللجاج والسخافة؟ (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) فقولوا يا الله ، أو قولوا يا رحمن (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فكلاهما تعبير عن الذات الواحد المستجمع لجميع صفات الكمال ، والقادر والخالق والرازق والحي والقيوم ، وغيرها من سائر أسمائه وهي علاماته التي تشير إليه لذلك الذات ، سواء أشرتم إليه بيا الله ، أو بيا رحمن ، وذكر بعض في شأن نزول هذه الآية أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ساجدا ذات ليلة بمكة يدعوا «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون هذا يزعم أن له إلها واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى ، فنزلت هذه الآية ، وقد كان المشركون يؤذون الرسول إذا قام للصلاة ، وبهذه المناسبة جاء الأمر بالتوسط في الصلاة ، فقد روي عن الصادق عليه‌السلام ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان إذا صلى فجهر في صلاته ، سمع المشركون ، فشتموه وآذوه ، فأمر سبحانه بترك الجهر ، وكان ذلك بمكة في أول الأمر (١) (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) فإن الإخفات أبعد عن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٨ ص ٦٨.

٣٥٧

وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)

____________________________________

الخشوع ، إذ أن الصوت المتوسط ، يدخل السمع ، فيكون تلقي القلب له أكثر ويكون للخشوع أقرب (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) الجهر والإخفات ، و «ذلك» إشارة إلى كل واحد منهما (سَبِيلاً) ، وعن الصادق عليه‌السلام المخافتة ما دون سمعك ، والجهر أن ترفع صوتك شديدا (١).

[١١٢] وأخيرا تلخص العقيدة في هذه الجمل (وَقُلِ) يا رسول الله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا يستحق أحد الحمد سواه ، إذ هو الإله المتفرد الواحد (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما يقول اليهود عزير ابن الله ، والنصارى المسيح ابن الله ، والمشركون الملائكة بنات الله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما يجعل المشركون لله شركاء في ملكه وسلطانه ، ولعل الإتيان بقوله «في الملك» للإشارة إلى رد دعوى المشركين ، فإن كان له شريك ، فما ذا صنع شريكه في السماوات والأرض؟ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ) يلي شؤونه وينصره سواء كان إلها ، أو محالفا ، وقوله (مِنَ الذُّلِ) لأن الشخص قد يتخذ وليا من ذلة وعجز في نفسه يريد أن يتقوى بذلك الولي ، أنه سبحانه ليس له ولي من هذا القبيل ، وإنما له أولياء من المتقين تفضل عليهم بولايتهم جودا وكرما (وَكَبِّرْهُ) يا رسول الله (تَكْبِيراً) لائقا بشأنه فهو أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم ، وهكذا تختم السورة بالتكبير ، كما بدأت بالتسبيح.

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ص ٣١٥.

٣٥٨

(١٨)

سورة الكهف

مكيّة / آياتها (١١١)

سميت السورة بهذا الاسم ، لأن فيها لفظة «الكهف» وقصة أصحاب الكهف ، والكهف هو مغارة الجبل ، ضيق فمها ، واسع داخلها ، وهذه السورة كسائر السور المكية ، تعالج قضية العقيدة ، في أسلوب قصصي رائع ، وليست القصص القرآنية من نسج الخيال ، وإنما قصص حقيقية ، اقتبست منها محل الحاجة ، لتبني الكيان البشري ، بما يوفر له السعادة والخير ، وإذ ختمت سورة بني إسرائيل بتحميد الله سبحانه ، ابتدأت هذه السورة بتحميده أيضا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسمك يا الله ، فإن اسم الله إذا وضع على شيء أمن كل الأخطار ، كيف لا ، وقد ارتبط بخالق الأرض والسماء ، والحافظ القائم على كل شيء ، وهو الرحمن الرحيم ، الذي يتفضل بالرحم على كل شيء ، كما قال سبحانه ، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٣٥٩

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢)

____________________________________

كُلَّ شَيْءٍ) (١) وليس الرحم في الله سبحانه ، بمعناه في البشر ، إذ لا تأثر له سبحانه ، وإنما بمعنى التفضل ، كما قالوا : «خذ الغايات واترك المبادي».

[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي أن جنس الحمد له سبحانه ، إذ جميع المحامد راجعة إليه ، حتى أن الغير لو تفضل على الإنسان بشيء ، فإن فضله ذلك في طول أفضال الله سبحانه (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ) محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْكِتابَ) أي القرآن (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي للكتاب (عِوَجاً) أي اعوجاجا ، بأن يكون بعض مناهجه معوجة ، أو بعض ما أخبر به من أصول المبدأ والمعاد والقصص مخالفة للواقع.

[٣] في حال كون الكتاب (قَيِّماً) معتدلا مستقيما ، وإنما أنزل الكتاب (لِيُنْذِرَ) الرسول الناس (بَأْساً شَدِيداً) أي عذابا شديدا ونكالا (مِنْ لَدُنْهُ) من عنده ، إن لم يؤمنوا ، وركبوا رؤوسهم سادرين في غيّهم ، (وَيُبَشِّرَ) الرسول (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ) صحّت عقيدتهم (يَعْمَلُونَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وهي الأعمال التي أمر الله بها ، وقد ذكرنا أن ذلك يلازم عدم الإتيان بالمعاصي ، فإنه لا يقال لمن اختلط بين الأمرين ، أنه يعمل الصالحات (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) في الدنيا بالرفاه والسلام والصحة وما أشبه ، وفي الآخرة بالثواب والجنة.

٣٦٠