تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ

____________________________________

ألم تصل إليهم (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)؟ بيان ما في الكتب الأولى من أخبار الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم كحال أولئك الأمم ، إذا جئناهم بآية كفروا ، فتحل عليهم العقوبة؟ أو المراد إنا جئناهم بآية ، وهي القرآن الذي هو مشتمل على الحجج التي كانت في الصحف السابقة ، وهل من بينة وحجة بعد القرآن؟ و «بينة» صفة «آية» المقدرة ، أي الآية البينة ـ بمعنى الواضحة ـ.

[١٣٥] لقد تمت على هؤلاء الحجة بنزول القرآن ، فإن يهلكوا بعد ذلك ، ويدخلوا النار ، فليس إلا من أنفسهم ولسوء تلقيهم للآيات (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) أي أهلكنا هؤلاء الكفار (بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل القرآن أو من قبل الرسول ـ أهلكناهم بأعمالهم السيئة ، وبكفرهم ـ (لَقالُوا) واحتجوا على الله سبحانه يا (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي لماذا لم ترسل إلينا من يبين لنا أوامرك (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ونعمل بما فيها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالعذاب (وَنَخْزى) من النار؟ وقد كان حينذاك الحق معهم ، فكيف يعذب من لم يتم عليه الحجة؟ أما وقد أرسلنا الرسول وعصوا ، فإنهم قد استحقوا العذاب ولو عذبناهم لا مجال لهم للاحتجاج.

[١٣٦] وإذ قد تمت الحجة عليهم ، ولم يؤمنوا ، فلينتظروا العذاب (قُلْ)

٥٢١

كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)

____________________________________

يا رسول الله لهم (كُلٌ) أيّ واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) منتظر ليرى المصير ، وينظر لمن الغلب ، وأينا يعذب وأينا ينعم؟ (فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا أيها الكفار ـ وهذا أمر للتهديد ـ (فَسَتَعْلَمُونَ) إذا متّم (مَنْ) منا ومنكم (أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي الطريق المستقيم ، والدين الصحيح (وَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق ، هل نحن أم أنتم؟

٥٢٢

تقريب القران الى الأذهان

الجزء السّابع عشر

من آية (١) سورة الأنبياء

إلى آية (٧٩) سورة الحج

٥٢٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٥٢٤

(٢١)

سورة الأنبياء

مكية / آياتها (١١٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر الأنبياء عليهم‌السلام وقصصهم ، وهذه السورة كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة ، الألوهية ، والرسالة ، والمعاد وحيث ختمت سورة «طه» بالوعيد ، فتحت هذه السورة بذكر القيامة التي هي محل الثواب والعذاب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أستعين باسم الله ليكون الله معينا ، وإنما الإتيان بالاسم ، دون «بالله» لإفادة سمو المسمى حتى كأنه أرفع من أن يستعان به ، كما في الدعاء «لاذ الفقراء بجنابك» والجناب هو العتبة ، لإيهام أن الله سبحانه أسمى من أن يلوذ بذاته الفقراء ، وهو الرحمن الرحيم الذي يترحم على عباده بالفضل عليهم ، فهو يعين بفضله من استعان به.

٥٢٥

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ

____________________________________

[٢] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) الاقتراب : افتعال من القرب ، يعني قرب وقت حساب الناس ، والمراد به إما القبر ، وإما الموت فإن كليهما قريب وإن ظن الإنسان بعدهما ، ولذا قال الرسول : بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بإصبعيه ـ (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عن الساعة لا يستعدون لها ولأهوالها بالأعمال الصالحة (مُعْرِضُونَ) عن التذكر والاستعداد.

[٣] (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي جديد ، كالآيات التي تنزل ، والأحكام التي توحى ، لأجل تذكيرهم وإرشادهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) مجرد سماع بآذانهم (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) مشغولون باللعب ، لا يبالون بالذكر ، فإن الدنيا لعب ولهو.

[٤] في حال كونهم (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي أن قلوبهم في لهو ، وهو مقابل الجد ، فآذانهم تسمع ، وقلوبهم لا تطيع (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ، أخذ يناجي بعضهم بعضا في شأن القرآن والرسول يقولون (هَلْ هذا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؟ استفهام إنكاري ، أي ليس الرسول إلا أحد أفراد البشر فكيف يدعي النبوة؟ وكيف يؤمن به الناس ، والحال أنه ليس من الملائكة حتى يليق بهذا المنصب الذي يدعيه ، ثم أرادوا زيادة تنفير الناس عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول بعضهم لبعض (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) أي

٥٢٦

وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ

____________________________________

كيف تقبلون السحر الذي أتى به محمد ، وتأتون بمعنى تذهبون إلى السحر (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) والحال أنتم ترون أنه سحر.

[٥] (قالَ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب هؤلاء ، وكان الإتيان بالفعل الماضي لإشعارهم بعدم أهمية إشكالهم ، فإذا أشكل عليك إنسان تقول : قلت لك سابقا ، تريد أن هذا الإشكال ليس بالجديد ، وإنما قد أكل الدهر عليه وشرب (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) أي يعلم كل ما يقال حول القرآن والرسول ، في جملة سائر الأقوال التي يعلمها (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فأين ما كان القول يعلمه ولا يغيب عنه ، وهذا كالتهديد ، بأن أقوالهم محفوظة سيجازون عليها (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم التي يتناجون بها (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وضمائرهم.

[٦] إنهم ما آمنوا بالرسول والقرآن (بَلْ قالُوا) حول القرآن إنه (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أضغاث جمع ضغث ، وهو : الخلط من الشيء ، والأحلام جمع حلم ، وهو : المنام ، يعني : إن الرسول يرى في المنام أحلاما مضطربة فيلفقها ويصنعها قرآنا (بَلْ) قال بعضهم (افْتَراهُ) فليس الله نزل شيئا وإنما هو يكذب على الله سبحانه في نسبة القرآن إليه (بَلْ) قال جماعة (هُوَ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاعِرٌ) وأن القرآن شعر ، فقد كان القرآن بهرهم لا يدرون ماذا يقولون حوله ، فمرة يقولون حلم ، وأخرى كذب عن عمد ، وثالثة شعر ورابعة سحر وهكذا (فَلْيَأْتِنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان صادقا (بِآيَةٍ) خارقة تدل على صدقه ، كما زود

٥٢٧

كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)

____________________________________

موسى بالعصا ، وصالح بالناقة وهكذا (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) من الأنبياء عليهم‌السلام بمثل هذه الآيات.

[٧] وقد أجابهم الله سبحانه في طلبهم هذا بأنه (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (أَهْلَكْناها) لتكذيبها الأنبياء عليهم‌السلام ، بعد ما أعطيناهم الآيات المقترحة ، كما أرادوها (أَفَهُمْ) أي فهل بعد أولئك هؤلاء المقترحون (يُؤْمِنُونَ)؟ كلا إنهم كالأمم السابقة ، لا يؤمنون وإن أرسلنا إليهم مثل تلك الآيات ، فإن الإنسان نوع واحد ، وما كان عليه السابقون هو الذي يكون عليه اللاحقون ، فإن أرادوا الحجة فقد تمت عليهم ، وإن أرادوا العناد ، فالمعاند لا يؤمن مهما كان.

[٨] أما ما ذكروا من أنك بشر وكيف يكون البشر رسولا؟ فإن الأنبياء عليهم‌السلام السابقين أيضا كانوا بشرا (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا رسول الله (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) فهم بشر يمتازون عن سائر الناس بما أوحى إليهم (فَسْئَلُوا) أيها الكفار المجادلون (أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل الكتاب ، ويسمون بأهل الذكر ، لأن الكتاب يسمى ذكرا ، حيث إنه يذكر الناس بما أودع في فطرتهم من المبدأ والمعاد والمعارف (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإنهم يجيبون بأن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا بشرا ، وما روي من تفسير الآية بالأئمة عليهم‌السلام فإنه من باب المصداق الظاهر بالنسبة إلى هذه

٥٢٨

وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)

____________________________________

الأمة ، فإن الأئمة عليهم‌السلام هم أهل الكتاب الذين يعلمونه ويعرفون حدوده وأحكامه ، كما أن العلماء ومن إليهم أيضا من أهل الذكر.

[٩] وقد كان الكفار يقولون (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) (١) ظانين أن الرسول يجب أن لا يأكل ولا يمشي ، فردهم الله سبحانه بأن الأنبياء عليهم‌السلام السابقين كانوا كذلك (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) أي أجسادا ، وإنما جيء بالمفرد باعتبار كل واحد (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) والجسد يطلق على الميت ، أو ما يشبهه ، كأنه أخذ فيه معنى الفراغ من الروح أو الطعام (وَما كانُوا) أولئك الأنبياء (خالِدِينَ) لا يموتون ، بل كانوا يعيشون حياة البشر ، ويموتون مماتهم ، وأنت يا رسول الله أحدهم فلا مجال لقولهم كيف يكون الرسول بشرا؟

[١٠] ولا يهمك يا رسول الله تكذيب هؤلاء فإن العاقبة المنتظرة لك ، كما إن الأنبياء السابقين كانت لهم العاقبة الحميدة (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) بأن وفينا بوعدنا لهم ، حيث وعدناهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (٢) ونصرناهم في خاتمة المطاف (فَأَنْجَيْناهُمْ) من كيد الأعداء (وَ) أنجينا (مَنْ نَشاءُ) من المؤمنين بهم ، كما حدث في قصة نوح وموسى وإبراهيم ولوط وعيسى وغيرهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا في الكفر

__________________

(١) الفرقان : ٨.

(٢) غافر : ٥٢.

٥٢٩

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)

____________________________________

والمعاصي ، وهذا بشارة للنبي والمؤمنين ، وتهديد للكفار ، ونحن إذ نقرأ هذه الآية نرى أن الله سبحانه صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوعد فقد أنجاه والمؤمنين ونصره على الكفار ، وأهلك المسرفين ، كما وعده هنا ، وقد مرّ على القصة أربعة عشر قرنا ، إذ السورة مكية ـ كما سبق ـ

[١١] وما لهؤلاء الكفار لا يعقلون ،؟ إنهم إن عقلوا علموا أن هذا الكتاب الذي يحاربونه أشد محاربة كتاب فيه شرف لهم إن آمنوا به (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) أيها العرب (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي شرفكم إن تمسكتم به فإنه يخلد ذكركم ومزاياكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذا الأمر الواضح؟ فتتبعون الكتاب وتتمسكون به.

[١٢] وإن أعرضتم ولم يعظكم التبشير والتخويف فانتظروا عاقبة المكذبين (وَكَمْ قَصَمْنا) أي أهلكنا ، وأصل القصم كسر الظهر الذي يكون مع الصوت (مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي ما أكثر ما أهلكنا وعذبنا أهل القرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي (وَأَنْشَأْنا) أوجدنا (بَعْدَها) أي بعد تلك القرية ، بمعنى بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) فنحن لسنا بحاجة إلى أحد ، ولا يصعب علينا تبديل أناس بأناس.

[١٣] وحيث أردنا إهلاك القرية فجاءهم آثار العذاب أخذوا يفرقون من العذاب (فَلَمَّا أَحَسُّوا) أي أدركوا بحواسهم (بَأْسَنا) عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها) أي من العقوبة ، أو من القرية (يَرْكُضُونَ) هاربين من العذاب ،

٥٣٠

لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)

____________________________________

كما جرت العادة بأن الإنسان إذا رأى العذاب قد جاء من ناحية يركض هاربا منه لئلا يشمله.

[١٤] لكن هل كان فرارهم وركضهم نافعا؟ كلا! فقد كان لسان الحال يقول لهم ـ حين ذاك ـ (لا تَرْكُضُوا) فإن الفرار لا ينفع (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أي : أسباب ترفكم من زخارف الدنيا (وَمَساكِنِكُمْ) ارجعوا إلى بيوتكم ، فأين تفرون وتتركون هذه الأشياء النفيسة؟ وقد كان هذا القول لهم من باب التقريع والاستهزاء (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) فإن الإنسان المترف الذي في منزله يسأله الناس الحوائج ، فارجعوا إلى محلكم وجاهكم الذي كان يقف الناس لأجله على أبوابكم يسألون الحوائج.

[١٥] ولم يعد عند فرارهم جواب منهم على هذا الاستهزاء ، بل (قالُوا : يا وَيْلَنا) أي يا سوء حالنا ، أو يا قوم ويلنا ، والويل كلمة يقولها من يطلب الهلاك تضجرا من الحالة التي هو فيها ، فالمعنى يا ويل احضر فهذا وقتك أو يا قوم إن ويلنا حضر (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث لم نؤمن وكذبنا الأنبياء.

[١٦] (فَما زالَتْ تِلْكَ) الكلمة ، أي يا ويلنا (دَعْواهُمْ) أي دعاءهم وذكرهم (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي محصودا قد شملهم العذاب الذي فروا منه ، حتى كأنهم السنبل المحصود الذي يقطع فلا حياة فيه (خامِدِينَ) ساكني الحركات ، من خمد ضد اشتعل ، فكأنهم لم يكونوا.

٥٣١

وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ

____________________________________

[١٧] إن الكفار بلهوهم ولعبهم يزعمون أنهم خلقوا للهو واللعب بينما إن الكون كله خلق للجد ولغايات وحكم عالية ، فكيف يصرف هؤلاء عمرهم لهوا ، ويزعمون أن القرآن والرسالة لعب ، ما يأتيهم ذكر إلا وهم يلعبون لاهية قلوبهم ، كما قال قائلهم :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات والموجودات (لاعِبِينَ) في حال كوننا لاعبين في خلقتها ، بل إنما خلقت للجد وللغرض الصحيح ، بأن تكون نعمة ودلالة ومقدمة للثواب الدائم.

[١٨] (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) بأن أردنا أن نلعب ونلهو ـ على فرض المحال ـ (لَاتَّخَذْناهُ) أي جعلنا اللهو (مِنْ لَدُنَّا) فإن كل لاعب يكون لعبه ملائما لذات اللاعب ، فالرجل الكبير يلعب بالكرة ، لا بالدمية ، عكس الطفل الذي يلعب بالدمية ، والملك يلهو بالصيد ، لا بأخذ الذباب ، كما يلهو به الشحاذ ، وهكذا لو أراد الله سبحانه أن يتخذ اللهو لكان لهوه من جنس الروحانيات المرتبطة بعالم الله ، لا من الماديات الخارجة عن مقامه الرفيع (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) لاتخاذ اللهو ، تأكيد لعدم أخذه اللهو ، وبعضهم جعل «إن» نافية ، أي ما كنا فاعلين.

[١٩] (بَلْ) إنا نبطل اللهو والباطل ، فإن الإنسان لم يخلق لأجلها ،

٥٣٢

نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ

____________________________________

ولا خلقنا سائر المخلوقات للهو حتى نترك اللهو بحاله ف (نَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي نرمي الحق ـ كالرامي الذي يرمي الهدف من بعيد ، وفيه دلالة على شدة الضرب ـ (عَلَى الْباطِلِ) أيّا ما كان لهوا أو غير لهو (فَيَدْمَغُهُ) يبطله ويفنيه ويمحقه (فَإِذا هُوَ) أي الباطل (زاهِقٌ) زائل مضمحل (وَلَكُمُ) أيها الكفار (الْوَيْلُ) والعذاب (مِمَّا تَصِفُونَ) الله به من أن يتخذ اللهو والباطل ، أو مما تصفون به القرآن من أنه سحر أو شعر أو أحلام أو ما أشبه.

[٢٠] وكيف يستكبر هؤلاء عن الخضوع لله سبحانه ، والحال أنه الملك المطلق ، وأن الذين هم أشرف منهم لا يستكبرون عن عبادته؟ (وَلَهُ) سبحانه (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء ، فكيف بغيرهم؟ أو غلب العقلاء على غيرهم ، فإن الإنسان في الأرض ، والملائكة في السماء له تعالى ، وكذلك سائر الأشياء (وَمَنْ عِنْدَهُ) أي الملائكة والمراد ب (عِنْدَهُ) القرب المعنوي تشبيها له بالقرب الحسي (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يأنفون ولا يترفعون أن يعبدوه ويطيعوا أوامره (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) الاستحسار الانقطاع من الإعياء ، يقال : استحسر فلان عن عمله ، يعني انقطع عنه إعياء ، أي إن الملائكة لا يعيون عن العبادة بل إنهم دائمو التعبد.

[٢١] ولذا قال (يُسَبِّحُونَ) الله تعالى ، أي ينزهونه عما لا يليق بشأنه

٥٣٣

اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا

____________________________________

(اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي فيهما ، والإسناد مجازي ، نحو «يا سارق الليلة أهل الدار» (لا يَفْتُرُونَ) أي لا يأخذهم الفتور والضعف عن العبادة ، هذا حال الملائكة الذين هم أشرف من هؤلاء ، فكيف يستكبر هؤلاء؟

[٢٢] وحيث فرغ السياق من تقريع الكفار ، حول قولهم عن القرآن والرسول ، واستكبارهم عن عبادة الله سبحانه ، أخذ في تقريعهم حول فعلتهم الأخرى ، وهي جعل الشركاء لله سبحانه (أَمِ اتَّخَذُوا) هذا استفهام توبيخي ، أي كيف اتخذ هؤلاء الكفار (آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) وهي : الأصنام المنحوتة منها ، فإن كل صنم من أصل أرضي ، وهل الإله يكون من جنس الأرض؟ فهل (هُمْ يُنْشِرُونَ)؟ أي يقدرون على نشر الأموات ، وإحيائهم ، كلا! إذن فليسوا هم آلهة ، لأن من أول صفات الإله أن يقدر على إحياء الميت ، وهذا من التهكم ، كما تقول : إن فلانا يقتدي بالعالم العامل زيد ، تريد التهكم بالمقتدي والمقتدى فتأتي بصفة العالم العامل لزيد ـ وهو خالي عنهما ـ تهكما.

[٢٣] ثم استدل سبحانه على استحالة تعدد الآلهة (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) المراد إلهان ، فأكثر (إِلَّا اللهُ) أي متصفة بكونها غير الله ، والمراد انه لو كان من هذا الجنس أحد غير الله (لَفَسَدَتا) أي فسدت السماوات والأرض وما استقامتا ، والمراد بالظرف أعم من المظروف ـ كما تقدم ـ وحيث نرى أنهما باقيتان مستقيمتان نستدل بذلك ـ استدلالا آنيا ، أي استدلالا من المعلول إلى العلة ـ على أنه ليس في الوجود أكثر من إله واحد هو الله سبحانه ، وإنما يلازم تعدد الآلهة الفساد ، ثم إن

٥٣٤

____________________________________

الاستدلال على عدم التعدد من وجهين : الأول من ناحية الذات ، والثاني من ناحية اللوازم.

أما الأول : وهو من ناحية الذات ، تقريره أنه لو كان إلهان لكان بينهما جامع ولكل منهما مائز ، والجامع غير المائز ، فيلزم تركب الإله ، وكل تركيب مستلزم لعدم الألوهية ، إذ المركب يحتاج إلى الأجزاء وإلى المركّب ، والمحتاج مسبوق بالغير ، والمسبوق بالغير ممكن لا واجب فليس بإله.

وأما الثاني وهو من ناحية اللوازم ، تقريره أنه لو كان إلهان هل يعقل تخالفهما في الإرادة ـ كأن يريد هذا إحياء زيد والآخر عدم حياته ـ أم لا يعقل؟ وكل من المعقولية وعدمها مستلزم لعدم التعدد ، أما لو كان تخالفهما في الإرادة معقولا فلا يخرج الحال عن ثلاثة أمور : إما أن يقع مرادها وهو محال لاستلزامه اجتماع النقيضين. وإما أن لا يقع مرادهما وهو محال لاستلزامه ارتفاع النقيضين. وإما أن يقع مراد أحدهما ، وذلك مستلزم لعدم كون الآخر إلها لأنه محدود القدرة مغلوب على أمره ، وأما لو كان تخالفهما في الإرادة غير معقول فليس ذلك لاستحالة ذاتية في مراد أحد الإلهين ـ كإحياء زيد ـ وإنما الاستحالة ناشئة من مخالفة الإله الآخر ، وذلك يستلزم العجز الملازم للإمكان ، فهذا الإله الذي لا يعقل أن يريد إحياء زيد عاجز ، والعاجز لا يكون إلها ، لما تقرر في علم الكلام من أن العاجز لا يعقل أن يكون إلها إذ بساطة الوجود في الإله ، وإمكان المهية في المقابل ، ووحدة نسبة الإله إلى جميع الممكنات ، مستلزم للقدرة المطلقة ، وبهذا التقرير تبين : أن الدليل لا يتوقف على تخالف الإرادة خارجا ، حتى يقال إنهما

٥٣٥

فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ

____________________________________

حكيمان فلا يتخالفان في الإرادة.

فلو فرضنا ـ مستحيلا ـ أن هناك إلهين ، كان اللازم أن يستقل كل في مراده ، وذلك مستلزم للفساد إذ يريد هذا المطر ، وذاك عدمه مثلا ، فيتنازعان مما يؤدي إلى فساد العالم (فَسُبْحانَ) أي أنزه (اللهُ) تنزيها عما لا يليق به (رَبِّ الْعَرْشِ) أي مالك الكون ، فإن العرش كناية عن الملك ، وهناك عرش عظيم جدا ، هو الله مالكه ، وقد جعله موضع تشريفه للملائكة ، كما جعل البيت الحرام موضع تشريفه للبشر (عَمَّا يَصِفُونَ) الله به ـ هؤلاء الكفار ـ من الشريك ، فيقولون إن الله متصف بأن له شريك.

[٢٤] إنه تعالى لكون جميع أفعاله عن حكمة وصواب وصلاح (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي ليس له شأنية أن يسأل ، إذ الحكيم لا يسأل عنه : لم تفعل؟ فهو من قبيل «لا ريب فيه» الذي كان معناه ليس بموضع ريب وإن ارتاب فيه المبطلون (وَهُمْ) أي البشر أو الكفار (يُسْئَلُونَ) عما فعلوا لأنهم عبيد مملوكون يخطئون كما يصيبون ، والمخطئ يسأل ويحاسب.

[٢٥] وبعد أن استدل القرآن على بطلان التعدد ، يأتي السياق ليسأل القائلين بذلك : ما دليلهم؟ فمن ادعى شيئا لا بد وأن يقيم له الدليل ، وهؤلاء المشركون لا دليل لهم على ذلك ، حتى الدليل الواهي (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي بل اتخذوا لله شركاء (قُلْ) يا رسول الله لهم (هاتُوا) أي ائتوا (بُرْهانَكُمْ) ودليلكم على تعدد الآلهة ، لكنهم لا يأتون

٥٣٦

هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)

____________________________________

بالدليل ، إلا قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١) وهل فعل الآباء يكون دليلا وحجة؟

(هذا) القرآن (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) من المؤمنين وليس فيه دلالة على الشرك (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الأنبياء والمؤمنين وليس في ذلك ما يدل على الشرك ، فمن أين جئتم أيها المشركون بالشرك؟ إن الذكر الذي أنزله الله على أنبيائه ، الذي هو مجموع في القرآن ، لا يشير إلى الشركاء ، فالمدعي له يدعي الباطل ، فلا دليل عقلي له ـ قل هاتوا برهانكم ـ ولا دليل شرعي له ـ فهذا ذكر من معي وذكر من قبلي وليس فيه إلا التوحيد ـ فليس اتخاذهم للشركاء عن علم ودليل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر البشر (لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) الذي هو التوحيد (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق مقبلون على الباطل.

[٢٦] ثم بين سبحانه كيف أنزل الله الكتب حول التوحيد ـ بيانا لقوله هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْ رَسُولٍ) «من» تفيد العموم في النفي ، وتسمى زائدة ، لصحة أن يقال «رسولا» (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) نحن ب (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وحدي لا شريك لي (فَاعْبُدُونِ) لي فقط دون غيري.

[٢٧] وحيث بين القرآن الحكيم بعض عقائدهم الفاسدة حول التوحيد ،

__________________

(١) الزخرف : ٢٣.

٥٣٧

وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ

____________________________________

وزيف عقيدتهم تعرض إلى عقيدة أخرى زائفة كانوا يعتقدونها ، وهي أن لله سبحانه أولاداً(وَقالُوا) أي بعض الكفار (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) أي جنس الولد ومرادهم الملائكة (سُبْحانَهُ) أنزهه تنزيها عن ذلك ، فإن الولادة غير معقولة في حقه ، والتبني غير صادق بالنسبة إليه (بَلْ) الملائكة الذين جعلوهم أولاد الله (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أكرمهم الله سبحانه وفضلهم على كثير من خلقه.

[٢٨] (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يتكلمون إلا بما يأمرهم الله سبحانه ، فقولهم إثر قوله ، واتباع أمره (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) فأقوالهم وأفعالهم كلها بأمر الله وإذنه ، ومن هذا شأنه لا يكون ولدا.

[٢٩] وهو سبحانه محيط بهم إحاطة علم وقدرة ف (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي أمامهم ، وما عملوه وقدموه (وَما خَلْفَهُمْ) أي ورائهم وما سيعملونه ـ وذلك كناية عن الإحاطة بهم ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) لا يتوسط الملائكة لإنجاء المجرم من عذاب الله ، إلا لمن أراد الله أن يشفعوا له ، فحتى شفاعتهم ليست ابتدائية ، وإنما تابعة لرضى الله سبحانه (وَهُمْ) أولئك الملائكة (مِنْ خَشْيَتِهِ) من خوف الله سبحانه (مُشْفِقُونَ) ووجلون ، من أشفق بمعنى وجل وخاف.

[٣٠] (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من أولئك الملائكة الأطهار (إِنِّي إِلهٌ مِنْ

٥٣٨

دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)

____________________________________

دُونِهِ) من دون الله (فَذلِكَ) القائل (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) فهم على طهارتهم وقربهم لا فرق بينهم وبين سائر العبيد في أن المدعي منهم للألوهية نصيبه جهنم ، ولعل قسما من المشركين كانوا يعبدون الملائكة ، كما يظهر من قوله سبحانه (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ولذا يأتي هذا الكلام الجازم بأنهم لا يدّعون الألوهية فكيف أنتم تقولون عنهم ذلك ، ولو ادعاها أحدهم لجوزي بالنار (كَذلِكَ) الذي نجزي مدعي الألوهية (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر والعصيان.

[٣١] ثم يرجع السياق إلى بيان الآيات الكونية الدالة على قدرة الله وعمله وسائر صفاته فيقول سبحانه (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) استفهام تقريع وتوبيخ (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي كانت كل واحدة منهما متصلة لا تمطر السماء ولا تنبت الأرض النبات ، فحمل الرتق على السماوات والأرض من باب زيد عدل (فَفَتَقْناهُما) أي شققناهما بإنزال المطر من السماء ، فإن السماء ـ وهي جهة العلو ـ تشق بالمطر ، وإنبات النبات من الأرض (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) فإن أصل الحياة وبقائها بالماء ، وقد ناسبت هذه الجملة الجملة السابقة الدالة على فتق السماء بالمطر (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بعد ما يرون من هذه الآيات

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

٥٣٩

وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً

____________________________________

العظيمة ، بالله سبحانه ، فمن فتق السماء بالمطر؟ ومن فتق الأرض بالنبات؟ ومن أوجد الأشياء الحية من النبات؟

[٣٢] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبال الثوابت التي تمنع الأرض عن الحركة والاضطراب ، كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تتحرك ، من ماد بمعنى تحرك ، وضمير بهم عائد إلى الناس (وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض أو في الجبال (فِجاجاً سُبُلاً) الفجاج جمع فج ، وهو الطريق الواسع بين جبلين ، وسبلا بدل منه ، وكان تخصيص الفجاج بالذكر لأن الجبل الذي هو صلب لا يمكن قطعه إذا لم يكن فيها فجاج ، كان سببا لقطع الاتصال بين طرفيه ، فنعمته جعل الطريق فيها عظيمة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدي الناس إلى بلادهم ومصالحهم بسبب تلك الفجاج ، أو لكي يهتدوا إلى خالق السماء بالتذكر والاعتبار من هذه النعم والآيات.

[٣٣] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) فإن طبقة الهواء التي تعلونا محفوظة عن الخلل ، وإنما جعلت بمقياس دقيق في جميع شؤونها ، وقال بعض علماء الفلك : أن الطبقة «النتروجينية» تحفظ الأرض من القذائف الجوية ، فتجعلها رمادا منثورا لئلا تصل إلى الأرض فتؤذي أهلها ، والسقف هو ما يعلو الإنسان أو المراد المحفوظ من الشياطين ، فإنهم لا يقدرون من الوصول إليها. واستراق السمع ، وقد حفظت بالشهب ، كما قال سبحانه (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ

٥٤٠