تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)

____________________________________

(هُوَ الْباطِلُ) فلا تقدر الآلهة الباطلة على تصريف للكون ، كما لا تقدر على نصرة عبادها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) فهو أعلى من كل شيء يسمع ويرى كل شيء ويقدر على كل شيء (الْكَبِيرُ) الذي لا شيء أكبر منه ، حتى يتمكن من الوقوف أمامه ، ونقض إرادته.

[٦٤] ويشهد لكون التصرفات الكونية لله سبحانه ، وأنه العلي الكبير ، القادر على نصرة المظلومين ، ما يراه الإنسان من الأحالات الطارئة الحكيمة التي تنتاب الكون ، مما لا يمكن أن تنسب إلى صنم أو إنسان ، أو صدفة مجردة (أَلَمْ تَرَ) أيها الرائي (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي من جهة العلو ، المطر (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)؟ مزينة بالخضرة والنبات ، وفي لفظ «تصبح» نكتة بديعة ، حتى أنه أجلى أوقات الاخضرار (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بعباده ، ومن لطفه بهم ، زين أرضهم ، بما ينتفعون به من الخضر (خَبِيرٌ) بأحوالهم وحوائجهم فما فعله حكمة وصلاح لهم.

[٦٥] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكل تصرف في الكون إنما هو منه وحده لا شريك له فيه ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) المطلق الذي لا يحتاج إلى مشاور ومشارك فهو وحده يدير الشؤون الكونية (الْحَمِيدُ) المطلق ، الذي له كل الحمد إذ منه كل نعمة وفضل.

٦٢١

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ

____________________________________

[٦٦] (أَلَمْ تَرَ) أيها الرائي ، استفهام إلفاتي للتنبيه (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) فمن هو الذي جعل المخلوقات الأرضية ، مسخرة لكم تسيطرون عليها بإرادتكم ، فسخر لكم الأنهار ، لتجري نحو حوائجكم ، وسخر المعادن لتنقاد لأموركم ، وسخر الأنعام لمنافعكم ، وهكذا (وَالْفُلْكَ) على وزن أسد جمع أسد (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) سبحانه ، لمنافعكم ومآربكم؟ فمن جعل الماء بحيث يحمل الفلك في قاعدة مطردة كشف عنها «أرخميدس» والمعنى سخر الفلك ، في حال جريها في الماء ، بإذن الله سبحانه ، وإنما قال «بأمره» دون «إذنه» لأن التكوين يحتاج إلى الأمر بأن يقال للشيء «كن» (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) يحفظها (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فلا يبطل النظام الكوني ، الذي جعله الله سبحانه حتى لا تقع الكواكب على الأرض ، وإنما تسير الكواكب في أفلاكها المقررة لها ، المعبرة عنها بالسماء ، لسموها وعلوها وارتفاعها (إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإذا أذن للسماء أن تقع ، ويبطل النظام كما في يوم القيامة ، حيث قال (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (١) لم يمنع منها شيء (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ولذلك سخر لهم ما في الكون وأمسك السماء من الوقوع عليهم.

[٦٧] (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم ترابا ميتا ، بأن أعطاكم الحياة

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

٦٢٢

ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)

____________________________________

والروح (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فهو سبحانه المميت ، أما من ظن أنه المميت بقتله إنسانا أو غيره ، فقد أخطأ ، فإنه إنما يوجد السبب الذي جعله الله وصلة لذلك المسبب ، فهو كمن يزعم أنه يحيي بإيجاده الماء العفن المولد للبعوض (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت للحشر والنشور (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) كثير الكفر ، حيث أنه يكفر بالإله ، ويكفر بالبعث ، ويكفر بالأدلة مع وضوحها وجلائها.

[٦٨] وإذ قد وضح الدليل ، وتمت الحجة ، فلا داعي للرسول لأن يشغل نفسه بمنازعة الكفار المنكرين للمبدأ والمعاد (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) مصدر ميمي أي منهجا (هُمْ ناسِكُوهُ) أي ينتهجونه ويتبعونه في حياتهم (فَلا يُنازِعُنَّكَ) يا رسول الله ، أي لا وجه لنزاع الكفار معك (فِي الْأَمْرِ) أي أمر الشريعة وأنها لم صارت هكذا؟ وهذا وإن كان في الصورة نهيا للكفار عن المنازعة ، لكنه في الحقيقة إرشاد للرسول ، بأن لا يشغل نفسه بكلامهم وخصامهم فإن المعاند لا يفيد معه الخصام والجدال (وَادْعُ) يا رسول الله (إِلى رَبِّكَ) غير مبال بهم ، ولا ملتفت إليهم (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) قد شبه الهدى بالطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى مقصده ، والرسول على ذلك الطريق ، فليس عليه أن يعارض وينازع أصحاب الطرق المنحرفة ، وإنما عليه الدعوة ، حتى إذا رآه الناس ، ورأوا طريقه اتبعوه تلقائيا.

٦٢٣

وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ

____________________________________

[٦٩] (وَإِنْ جادَلُوكَ) الكفار في منهجك الاعتقادي والعملي ، فلا تشغل نفسك بالجدال معهم ، بل أجبهم بما يقطع كلامهم (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وهذا كلام الإنسان الذي يريد إظهار خنجره وبرمه بما يأتي خصمه من الأعمال ، وإن أعماله باطلة ، وهو يعلم ذلك.

[٧٠] (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يفصل بينكم ليجازيكم على أعمالكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي تختلفون معي في العقيدة والعمل وكفى بالله عالما حاكما مجازيا ، وبهذا ينهي الرسول جدالهم ، ويقطع كلامهم ، إذ لا فائدة في محاجة المعاند ، الذي يرى الحق فينكره.

[٧١] (أَلَمْ تَعْلَمْ) أيها الإنسان المجادل أو أنه قطع للكلام السابق وتوجيه للخطاب نحو الرسول ، ليلفت الناس بذلك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء كي يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفار (إِنَّ ذلِكَ) الذي في السماوات والأرض (فِي كِتابٍ) أي مثبت في اللوح المحفوظ فلا خافية إلا والله سبحانه قد أثبتها في كتاب لديه (إِنَّ ذلِكَ) الثبت في الكتاب ، لكل ما في السماوات والأرض (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يأتي بمجرد الإرادة ، بلا حاجة إلى تعب كتابة كما يحتاج الإنسان إلى ذلك.

[٧٢] (وَ) بعد وضوح الأدلة ، وتمام الحجة (يَعْبُدُونَ) أي هؤلاء الكفار

٦٢٤

مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا

____________________________________

(مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله ، ولعل في التعبير ب «من دون» نكتة هي أن ما يعبدونها دون الله في المرتبة ، فليست لها رتبة الألوهية ، ومقام الله سبحانه ، مع إهانة في التعبير للأصنام ، حيث عبر عنهم ب «دون» (ما لَمْ يُنَزِّلْ) الله (بِهِ) أي بذلك الشيء الذي يعبدوه (سُلْطاناً) أي حجة ودليلا (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) فلا دليل شرعي على تلك الآلهة أنزله الله ، ولا دليل عقلي لهم يعلمونه ، وإنما عبادتهم لمجرد تقليد وظن (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) فإن الأصنام التي يعبدونها ، ويقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) لا تنصرهم ، يوم يأخذهم وبال عبادتهم لها.

[٧٣] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الكفار (آياتُنا) الدالة على وجودنا ، وسائر شؤوننا ، في حال كون تلك الآيات (بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات (تَعْرِفُ) يا رسول الله (فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار ، فإن «المنكر» هنا «مصدر ميمي» والمعنى أنه تظهر في وجوههم علامة الإنكار ، بتقطيب الوجه والإعراض ، ومن شدة حنقهم وغيظهم (يَكادُونَ يَسْطُونَ) من السطو ، وهو البطش ، للإخافة والإيذاء ، يقال : سطا يسطو ، إذا بطش (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) فيفتكون بهم ويضربونهم ، ويقولون فيهم الأقوال البذيئة ، من

__________________

(١) يونس : ١٩.

٦٢٥

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ

____________________________________

شدة غضبهم (قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار ، الذين يكرهون سماع الآيات بهذا النحو من الكراهة الشديدة (أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي هل تريدون أن أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) بما يسيئكم أكثر من القرآن ، والآيات التي تسمعونها؟ إنما هو (النَّارُ) التي تذوقونها جزاء أعمالكم ، فإن كراهتكم لها أكثر (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنها يلاقونها ويلقون فيها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمأوى الذي تصيرون إليه و «المصير» فاعل ، والمخصوص محذوف.

[٧٤] ثم ضرب سبحانه مثلا لبطلان ألوهية الأصنام التي يعبدها الكفار (يا أَيُّهَا النَّاسُ) والمراد بهم الكفار (ضُرِبَ مَثَلٌ) والضارب للمثل هو الله سبحانه ، لكن حيث كان المقصود الفعل دون الفاعل ، أتى الفعل مجهولا ، كما قرر في البلاغة وقد سبق أن «الضرب» إنما هو باعتبار أن المثل يصطدم بأدمغة الناس فيحدث فيها نقشا وانفعالا (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) وهذا لتأكيد الإلفات نحو المثل ليتركز في الذهن أكثر (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي إن الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله ، والإتيان «بالذين» الذي هو للعاقل ، باعتبار توهم عبادها عقلها (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) على صغر الذباب ، وقلة فائدته ، والمراد لا يتمكنون من خلقه (وَلَوِ اجْتَمَعُوا) هذه الأصنام المعبودة كلها (لَهُ) أي لخلق ذلك

٦٢٦

وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)

____________________________________

الذباب (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) بأن يأكل الذباب بعض الأطعمة (لا يَسْتَنْقِذُوهُ) أي لا تقدر هذه الأصنام على إنقاذ الشيء المسلوب (مِنْهُ) أي من الذباب ، فإن هذا مثل لعدم قدرة الآلهة المعبودة ، إذ المثل هو بيان مصداق لكلي ، فإذا قال الفاعل مرفوع ، ثم طلب منه المثل ، قال : كزيد ، في «قام زيد» وهنا كذلك ، فإن القاعدة هي أن هذه الآلهة ، لا تقدر على شيء ومثله : أنها لا تقدر على خلق ذباب ، ولا على إنقاذ شيء سلبه الذباب ، قال ابن عباس : كان المشركون يطلون أصنامهم بالزعفران ، فيجف فيأتي الذباب فيختلسه ، وهناك رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفصيل القصة ، وإذا كانت الأصنام بهذه المكانة ، من الضعف ، وعدم القدرة فكيف تتخذونها آلهة؟ (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو المشرك الذي يعبد الصنم ، ويطلبه (وَالْمَطْلُوبُ) الذي هو الصنم ، وهنا أقوال أخرى.

[٧٥] (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظمه سبحانه هؤلاء المشركون حق عظمته ، حيث جعلوا الأصنام المنحوتة التي لا تقدر ، ولا تشعر شركاء له (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) ليقوى على كل شيء ، فكيف يجعل الصنم الضعيف شريكا له؟ (عَزِيزٌ) غالب على ما يريد ، فكيف يجعل الصنم المغلوب الذي لا يملك من أمره شيئا شريكا له؟

[٧٦] وإذ تبين ، أن الأصنام ليسوا شركاء لله ، لأنها بهذا العجز والضعف ، فليعلم الذين يعبدون الملائكة والأنبياء ، إنما يعبدون هؤلاء عبادا لله

٦٢٧

اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ

____________________________________

اصطفاهم الله وكيف يكون العبد المصطفى شريكا مع الإله المصطفي (اللهُ يَصْطَفِي) ويختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى الأنبياء عليهم‌السلام كجبرائيل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكالملائكة الثلاثة الذين جاءوا إلى إبراهيم ولوط ، وهكذا (وَ) يصطفي (مِنَ النَّاسِ) رسلا ، كالأنبياء عليهم‌السلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، فلا يختار أحدا ، يدعي الألوهية وهم تحت سمع الله وبصره ، لا يقدرون على مخالفة أمره ، ودعوة الناس إلى الاعتقاد بألوهيتهم.

[٧٧] (يَعْلَمُ) سبحانه (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما يقدمه الأنبياء والملائكة إلى الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) مما يدعون عند الناس من الشريعة ، والأخلاق وغيرها ، فهو محيط بهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أن الأمور كلها ، مرجعها إلى الله ليحكم فيها ، ويجازي العاملين عليها ، فهو القوي العزيز ، المختار ، السميع ، البصير ، العالم ، الحكم والمرجع ، فهل مثل هذا الإله يقاس بما سواه من الأصنام والملائكة والنبيين؟

[٧٨] وإذ ظهر أن الله هو الإله الوحيد ، فتوجهوا أيها الناس بالعبادة إليه وحده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا) خضوعا لله سبحانه (وَاسْجُدُوا) لعظمته ، والمراد بهما الإتيان بالصلاة وكني عنها بهما ، وأما الركوع والسجود لاستحبابهما في أنفسهما (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بسائر أنواع

٦٢٨

وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا

____________________________________

العبادة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وهو جميع أنواع البر ، فإن كل فعل يأتي من الإنسان ، إما خير وإما شر ، وإما لغو ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة.

[٧٩] (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي في سبيله سبحانه ، ومن أجله (حَقَّ جِهادِهِ) أي بالكيفية التي يستحق الجهاد في الله إياها ، وهي بأن يكون الجهاد خالصا بكل ما أوتي الإنسان من قوة مادية أو معنوية ، والمراد بالجهاد إما القتال وإما مجاهدة الإنسان في تطبيق ما أمر الله سبحانه ، الذي يكون القتال مصداقا من مصاديقه (هُوَ) سبحانه (اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لدينه ، فمن اللازم أن تؤدوا الأمانة التي حملها عليكم ورآكم أهلا لها ، وفضلكم ـ دون غيركم ـ بها (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وضيق فإن الجهاد الذي أمركم به هو دون قدرتكم وطاقتكم رأفة بكم ورحمة عليكم ، ولذا نرى أن جميع التكاليف ، أقل من طاقة الإنسان وقدرته ، الزموا (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي طريقته ، وعليكم بها (هُوَ) أي أن إبراهيم عليه‌السلام أو المراد به «الله» سبحانه (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) من قبل أن تكونوا (وَفِي هذا) القرآن ، أو في هذا الوقت أيضا سميتم «مسلمين» فأسلموا وسلموا حسب اسمكم ، وإنما اجتباكم ، وجعل الرسول فيكم ، وسماكم المسلمين ، وجعلكم ورثة إبراهيم

٦٢٩

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)

____________________________________

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) يشهد على هذه الأمة بما عملت حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائم على أموركم والمبين لمنهجكم ، والعالم الموجه القائم ، يكون الشاهد لمن استقام وعلى من انحرف (وَتَكُونُوا) أنتم أيها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) إذ المسلمون يوجهون الناس ، ويحددون سلوكهم ويكونون الناظرين لأعمالهم من استقام ومن انحرف ، وما ورد من أن المراد بذلك الأئمة عليهم‌السلام فهو من باب المصداق الظاهر الجلي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى وفي هذه الآية الكريمة أنواع من التأكيد والتشجيع لقيام المسلمين على حفظ الإسلام ونشره ، والجهاد في سبيله ، فالدين دين جدهم والتسمية تسمية إلههم ، وهم المختارون لهذه المهمة ، وليس فيه ضيق ولا حرج ، والرسول شاهد عليهم ، وهم مفوضون في البلاغ ، قوامون على الناس قد جعلهم الإله شهداء على البشر ، فما يمنعهم بعد هذه المرتبة الرفيعة ، أن يقوموا بواجب الجهاد؟ وبعد هذا كله (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذا كما تقول : أحسنت إليك ، فأدّ حقي (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أعطوها (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسكوا به سبحانه ، في كل أفعالكم ، فلا تحيدوا عن أوامره قيد شعرة (هُوَ مَوْلاكُمْ) سيدكم ، وهل يعرض الإنسان عن مولى مثل الله سبحانه ، ليتخذ سيدا غيره؟ (فَنِعْمَ الْمَوْلى) للبشر أجمع (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فإنه ينصر أولياءه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهل هناك مولى مثله يعطي حتى من عصاه ، أو نصير يشبهه بيده أزمة الكون والحياة؟

٦٣٠

تقريب القرآن إلى الأذهان

الجزء الثّامن عشر

من آية (١) سورة المؤمنون

إلى آية (٢١) سورة الفرقان

٦٣١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٦٣٢

(٢٣)

سورة المؤمنون

مكية / آياتها (١١٩)

سميت هذه السورة ب «المؤمنون» لافتتاحها بهذا اللفظ ، وذكر أوصاف المؤمنين فيها ، «المؤمنون» علم للسورة ، ولذا يغير إعرابها إضافة «السورة» إليها ، وهي كسائر السور المكية ، تعالج العقيدة وشؤون التوحيد وما إليه ، ولما أن ختم الله سبحانه سورة «الحج» بأمر المؤمنين بأفعال الخير افتتح هذه السورة بصفات المؤمنين الكاملين في الإيمان ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) استعانة باسم الله ، وابتداء بذكره الكريم ، ليكون فاتحة خير وتعليما للمسلمين ، كيف يبتدئون في أعمالهم ، وقد وصف بالرحم مكررا ، لأن الإنسان مجموعة عجز وضعف وانهيار ، وكل نقص ، وضعف فيه يحتاج إلى الرحم ، ليسده ويلمه ويرأبه.

٦٣٣

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥)

____________________________________

[٢] (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فازوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة ، فقد شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، ولم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم ، والمؤمن هو المصدق ، وإطلاقه في الشريعة منصرف إلى المصدق بوحدانية الله ، وبالرسالة ، وبالمعاد ، وبلوازم الكل.

[٣] ثم وصف سبحانه المؤمنين الكاملين بهذه الصفات التالية (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي إذا صلوا خشعوا وخضعوا ، فإن الصلاة حيث كانت ذكرا وتسبيحا وتقديسا ، ومكالمة مع الله سبحانه ، تقتضي أن يكون الإنسان في حالة خضوع ، فإنه يتكلم مع مالك الكون ، كيف لا ، والإنسان يخضع لملك عاجز ، ليس له من السطوة إلا ضئيلا!

[٤] (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو ، كل فعل أو قول ، أو تفكير ، لا فائدة فيها ، ومن سمات المؤمن الكامل الإيمان ، أن يعرض عن ذلك كله ، وما ورد في الأحاديث من تفسير اللغو ، بالغناء ، أو ما أشبه ، فإنه تفسير لبعض المصاديق (١).

[٥] (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي مؤدون معطون ، والمراد بالزكاة ، إما الصدقة الواجبة ، وإما مطلق الصلة والصدقة ، وهذا أنسب بكون السورة مكية ، لأن الزكاة المفروضة شرعت في المدينة.

[٦] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) فلا يزنون ، ولا يلوطون ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٦ ص ٤٣.

٦٣٤

إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

____________________________________

ولا يستمنون ، ولا يمكنون أحدا من أنفسهم ، فإن الفرج اسم للعورتين.

[٧] (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) أي نسائهم دائمة كانت ، أو محللة ، أو منقطعة (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء ، ونسب الملك إلى الأيمان ، لأن اليمين هي العضو الفعالة في الاكتساب فكأنها هي المالكة ، من باب علاقة السبب والمسبب أو الكل والجزء ، والغرض بيان جنس المحللة ، فلا ينافي ذلك وجوب اجتنابهن في حال الحيض والصيام والإحرام وما أشبه ، كما أن العكس يستفاد من الآية ، فيجوز للزوجة والأمة ، بالنسبة إلى الرجال ما يجوز لهم بالنسبة إليها ، وبقي ملك المرأة للعبد خارجا عن المنطوق ، وعن اللازم (فَإِنَّهُمْ) أي الرجال بعدم حفظ فروجهم بالنسبة إلى الزوجة ، وملك اليمين (غَيْرُ مَلُومِينَ) أي لا يلامون ، وكان الإتيان بهذه العبارة للمقابلة ، فإن الذي لا يحفظ بالنسبة إلى غيرهما يلام ، ومن لا يحفظ بالنسبة إليهما لا يلام.

[٨] (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب ، وقد أطلق «الابتغاء» وأريد به «العمل» وقد تقدم ، أن كلا من «الإرادة» و «الفعل» يستعمل بمعنى الآخر (وَراءَ ذلِكَ) الذي ذكر من حلية الأزواج والمملوكات (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتعدون لحدودهم المتجاوزون الشريعة.

[٩] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) أضيفت الأمانة إليهم ، لأنهم محل إيداعها ،

٦٣٥

وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)

____________________________________

ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة (وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون موفون ، فإذا عاهدوا عهدا بالنسبة إلى الأمور الدينية ، كالمعاهدة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عاهدوا بالنسبة إلى سائر المعاملات ، كالعقود ، وفوا بها.

[١٠] (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيقيمونها في أوقاتها بدون تضييع لها ، مع آدابها وشرائطها ، وقد كرر ذكر الصلاة لما لها من الأهمية ، ولبيان أمرين ، الأول الخشوع فيها ، والثاني المحافظة عليها.

[١١] (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) والوارث هو الذي ينتقل إليه شيء من آخر ، والمراد به هنا إما إطلاقا ، ويكون قوله «الذين يرثون» بيانا لمصداق من مصاديق إرثهم ، والمراد حينئذ ، إن الخيرات كلها لهم سواء في الدنيا ، أو في الآخرة ، وأما خصوص ما بيّن في قوله «الذين» فكأن المراد أن هؤلاء كانت لهم الدنيا غير قابلة ، حتى أنها لا تكون عوضا لأتعابهم وأعمالهم ، وإنما الجزاء الوافي هو الفردوس ، فهم.

[١٢] (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) يصيرون إليها ، بعد الأحوال المتقدمة في الحياة ، كما يصير الوارث إلى ما تركه أقرباؤه ـ بلطف في عكس التشبيه ـ والفردوس ، هي البستان الجميل ، والمراد بها هنا درجة من درجات الجنة (هُمْ) أي هؤلاء الذين وصفوا بتلك الأوصاف (فِيها) أي في الفردوس ، وهي مؤنث مجازي (خالِدُونَ) دائمون باقون أبد الآبدين.

٦٣٦

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ

____________________________________

[١٣] ثم يأتي السياق ليعد منن الله على البشر ، ولطفه بهم ، مما ينبغي أن يطيعوا أوامره ، ويكونوا كما وصفهم في الآيات المتقدمة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي كل فرد من أفراده (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) السلالة ، اسم لما يسل من الشيء ، فإن الإنسان في ابتداء خلقه يسل ويخرج من التراب النظيف ، إذ هو الذي يتبدل نباتا ، ولذا سمي طينا ، لأن التراب ما لم يخلط بالماء لا يكوّن نباتا.

[١٤] (ثُمَ) بعد جعل التراب نباتا ، صار حيوانا مأكولا ، أو أكله إنسان فصار دما في جسمه ، وبعد ذلك (جَعَلْناهُ) أي ذلك الإنسان ، الذي نريد تكوينه (نُطْفَةً) وهي المني إذا استقر في الرحم (فِي قَرارٍ) أي مستقر (مَكِينٍ) ذي تمكن على حفظها وتربيتها.

[١٥] (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) شبيه بالدم المنجمد (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) كقطعة لحم قد مضغت بالأسنان (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وحيث إن العظام هي العنصر الأشد في الحياة ، خصصت بالذكر ، وإلا فالعلقة تكوّن الأعضاء الأصلية للإنسان ، لا العظام فقط (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) كاللباس الذي يلبس على الجلد (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فقد نفخ فيه الروح الإنساني ، الذي هو من قسم آخر من الخلق ، ليس كالخلق المادي الحيواني ، والنباتي والجمادي (فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعالى

٦٣٧

أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)

____________________________________

ودام خيره (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) والخلق يطلق على الصنع ، فالنجار خالق الباب ، والبناء خالق القصر والله سبحانه أحسن الخالقين ، إذ لا يمكن لأحد من هذا النحو من الخلقة.

[١٦] (ثُمَّ إِنَّكُمْ) أيها البشر من (بَعْدَ ذلِكَ) الخلق التام (لَمَيِّتُونَ) تخرج أرواحكم ، لتبقى أجساد بلا أرواح حينما تنتهي آجالكم في الدنيا.

[١٧] (ثُمَّ إِنَّكُمْ) أيها البشر (يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أي تقومون من قبوركم للحساب والجزاء.

[١٨] وبعد بيان المبدأ للإنسان ومعاده ، يأتي السياق ليبين مننه سبحانه عليه في هذه الحياة (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) أيها البشر (سَبْعَ طَرائِقَ) المراد بها السماوات السبع ـ ظاهرا ـ وقد تقدم إن علماء الفلك المسلمين يقولون : إن المراد بالسماوات ، مدارات الأفلاك ، مؤيدين نظريتهم بالرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، وبعض الشواهد الأخرى ، وكونها فوقنا ، باعتبار ما نحس ، وإن كانت الأرض في الحقيقة ، نجمة كسائر النجوم ، وطرائق جمع طريقة ، وإنما سمى السماء بها لتطارقها ، أي كون بعضها فوق بعض (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ولعل الإتيان بهذه الجملة هنا ، لما يتبادر إلى الذهن البدائي ، من أن المربي الخالق لهذا الكون العظيم لا مجال له ـ عند ذلك ـ لمراقبة الناس وأعمالهم ، فهو يغفل عنهم كما يغفل الملك الكبير ملكه عن خصوصيات الناس وأعمالهم ، لكنه سبحانه ليس كذلك ، فيتساوى عنده كل معلوم صغيرا

٦٣٨

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ

____________________________________

كان أم كبيرا ، ولا يشغله شأن عن شأن.

[١٩] (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) جهة العلو ، وهذا مرتبط بخلق سبع طرائق (ماءً) وهو المطر (بِقَدَرٍ) ولا يخفى ما في هذا اللفظ من اللفظ ، فإن الإنسان البدائي الذهن ، حيث يرى كثرة المطر ـ يظن أنه ليس تحت حساب وتحديد ، ولذا جاء هذا اللفظ هنا لينبه على ذلك ، وإن المطر مهما كثر فهو بقدر وحد محدود معلوم لديه سبحانه (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا له مسكنا ، فإن ماء المطر هو الذي يتسرب إلى باطن الأرض ، ليجري من الثقوب الأرضية والجبلية عيونا وأنهارا (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي أن نذهب هذا الماء المسكون في الأرض (لَقادِرُونَ) بأن نسربه في الأغوار العميقة ، حتى لا ينتفع به الإنسان ، أو نبخره في الجو ، أو نعدمه إعداما مطلقا ، فإن من يقدر على إيجاد المعدوم ، قادر على إعدام الموجود.

[٢٠] لكنا لم نفعل ذلك حتى تهلكوا ، ويهلك الحيوان والنبات ، بل تفضلنا عليكم فوق ذلك (فَأَنْشَأْنا) أو جدنا واخترعنا (لَكُمْ) أيها البشر (بِهِ) أي بسبب هذا الماء (جَنَّاتٍ) بساتين ، وسمي البستان جنة ، لأن أشجارها تجن وتستر أرضها (مِنْ نَخِيلٍ) جمع نخل ، وهو شجر التمر (وَأَعْنابٍ) جمع عنب ، والمراد به الكروم بعلاقة الحال والمحل (لَكُمْ) أيها البشر (فِيها) أي في تلك الجنات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) جمع فاكهة ، وهي الثمرة ، سميت بها لأن الإنسان يتفكه بها ، والمراد أنواع

٦٣٩

وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ

____________________________________

الفواكه المختلفة ، وكان تخصيص النخل والعنب ، لكثرتهما في هذه البلاد وعموم الانتفاع بهما (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي من البساتين تأكلون مختلف أنواع الرزق مباشرة ، أو بواسطة بيع وإيجار وصرف الثمن والأجرة في سائر الأرزاق.

[٢١] وأنشأنا لكم بذلك المطر (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) والمراد بها شجرة الزيتون و «سيناء» اسم الموضع الذي به «جبل طور» قرب الشام ، ولعله إنما حضر هذا المحل مع عموم الزيتون في كثير من الأماكن لجودة زيتونها ، واشتهارها لدى المخاطبين بالقرآن الحكيم ، كما أن تخصيص الزيتون من بين الثمار بالذكر لنفعه العام في كثير من الحوائج (تَنْبُتُ) هذه الشجرة (بِالدُّهْنِ) أي مصاحبة للدهن ، فإن الزيتون قطعة من الدهن المنجمد ، ولذا يعصر منه الزيت (وَصِبْغٍ) عطف على «الدهن» (لِلْآكِلِينَ) والمعنى أن هذه الشجرة تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه أداما يصبغ فيه الخبز ، أي يغمس فيه للائتدام ، وسمي الإدام صبغا ، لأنه يصبغ الخبز بلونه.

[٢٢] (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها البشر (فِي الْأَنْعامِ) جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي اعتبارا ودلالة دالة على وجود الله سبحانه وعلمه وقدرته (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أي أجوافها من اللبن الطيب المذاق (وَلَكُمْ فِيها) أي في الأنعام (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) فتركبون على الإبل ،

٦٤٠