تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)

____________________________________

الرسالة ، مع الإلماع إلى خلاصة ما يقوله الكفار في الرسول الذي سبق أنهم أنكروا رسالته ، لأنه لا يأتي بآية ، ولأن له أزواجا وذرية ، وما أشبه ذلك (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ) يا رسول الله (مُرْسَلاً) من قبل الله (قُلْ) لهم (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أنه يشهد برسالتي وشهادته إعطاء هذه المعجزة الخالدة ـ القرآن ـ لي ، فإنه إمضاء عملي (وَ) كفى شهيدا (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى الذين وجدوا في كتبهم وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهره المنصفون منهم وما ورد من أن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مراد بهذا فإنه مصداق ظاهر ممن عنده علم الكتاب ، يعلم الكتب السابقة ، والقرآن الحكيم جميعا ، وأنه عليه‌السلام ليشهد للرسول ، ويأتي بالدلالة لرسالته التي منها إخراج وصفهم من كتب الأنبياء السابقين (١) ، وقد أخرج حفيده الإمام الرضا عليه‌السلام ـ في مجلس المأمون ـ ما أبان ذلك ، وإنهم أهل بيت عندهم علم لكل الكتب (٢).

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ٤٣٢.

(٢) راجع وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ٧٢.

١٠١

(١٤)

سورة إبراهيم

مكية / آياتها (٥٣)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على اسم «إبراهيم عليه‌السلام» وقصته ، والسياق العام في هذه السورة ، كالسور المكية ـ غالبا ـ حول أصول العقيدة من توحيد ورسالة ومعاد ، فقد كانت مكة تلائم مثل هذه الأمور ، لعدم تأسيس دولة تحتاج إلى النظم والتشريعات ـ بعد ـ قال بعض المفسرين أن مصب جو السورة إلى أمرين مهمين ، أولا وحدة دعوة الرسل ، والثاني نعمة الله على البشر ، ومقابلة أكثرهم لها بالكفر.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله في حوائجنا ، ونجعله في ابتداء أمورنا وهل هناك أرفع شأنا منه حتى يبتدأ باسمه ، فإنه الله الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل الأشياء ، أليس هو الرحمن المطلق فقد وسعت رحمته كل شيء.

١٠٢

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ

____________________________________

[٢] ولما ختم الله سبحانه سورة الرعد بإثبات الرسالة وإنزال الكتاب افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة والكتاب فقال (الر) الف ، ولام ، وراء ، أي من هذا الجنس (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) وهو القرآن الكريم ، والإنزال إن كان من السماء ـ كما هو الظاهر من الآيات والروايات ـ كان اللفظ حقيقة ، وإن كان بالإلقاء في القلب وما أشبه كان الإنزال مجازا ، تشبيها بالعلو الحقيقي للمنزل ، بالعلو الخارجي ، يقال : تلقيت الأمر من الأعلى ، ويراد أعلى درجة ورتبة لا أعلى مكانا ، (لِتُخْرِجَ) يا رسول الله (النَّاسَ) جميع الخلق ، وعدم خروج بعضهم لعدم بلوغه الدعوة أو عناده لا ينافي كون الغرض من الإنزال ذلك (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فإن الإنسان المنحرف العقيدة والمنهج في ظلمة ، فكما أن من في الظلمة الخارجية لا يبصر مكان قدمه ولا يبصر ما حوله من الحقائق الخارجية ، كذلك من في الظلمة العقيدية والمنهجية ، لا يرى الحق بالنسبة إلى العقائد ، فأي فرق بين من لا يبصر بعينه الكتاب الموضوع في الرف ، وبين من لا يرى بقلبه للكون خالقا ، أو لا يرى كيف يعامل بربا أو بدون ربا ، بل الظلمة الظاهرية أهون ، فإن الأعمى أكثر ما يخشى عليه التردي ، والذي في ظلمة الكفر ، في تعاسة الحياة كلها ، وسوء المنقلب ـ قطعا ـ (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) فإن الله سبحانه أذن إخراج الناس من الظلمة إلى النور ، لمّا أوحى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ ، والتعبير ب «الإذن» دون «الأمر» لعله للمقابلة مع ما كان ينسبه الكفار إلى الله من الخرافات في العقيدة

١٠٣

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢)

____________________________________

والعمل ، فتلك لم يأذن بها الله ، كما قال : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١)؟ وهذا أذن به الله ، ويحتمل أن يكون المراد أن الرسول لا يقدر إلا على البلاغ ، أما إخراج الناس إخراجا خارجيا ، بأن يطاوعه الناس في الخروج من الظلمات ، إلى النور فإن ذلك ليس في مقدور الرسول وإنما هو بإذن الله ، وفق سنته التي سنها في الكون ، التي هي أن من أعطى القلب وهو شهيد مريد للحق ، دخل في قلبه هذا النور ، ومن ألقى السمع ، وليس بشهيد لا يدخل في قلبه هذا النور (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) هذا بدل من قوله «إلى النور» فالنور هو صراط الله سبحانه «العزيز» مالك العزة والقوة والقدرة والإرادة «الحميدة» الذي يحمل العارفون لما له من الإنعام والإفضال ، فهم إنما يخرجون من صراط الذلة والجدب إلى صراط العزة والحمد ، فمن كفر فليعلم أن الله عزيز قاهر ، ومن شكر فليعلم أن الله متفضل حميد.

[٣] ثم فسر سبحانه «العزيز الحميد» بقوله (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو خالقها ومبدعها ومسيّر أمرها ، والمراد بالمظروف أعم من الظرف ، كما سبق في مثل هذه الآية الكريمة ، أن مصير المؤمنين بهذا الإله واضح لا مرية فيه ، فهو خير الدنيا وسعادة الآخرة ، وأما الكافرون به ، (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) والويل

__________________

(١) يونس : ٦٠.

١٠٤

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

كلمة تقال لسوء الحال ـ غالبا ـ والعذاب الشديد في الدنيا بالشقاء ، وفي الآخرة بالنار.

[٤] ثم وصف سبحانه الكافرين بصفة تحمل العلة في كفر الكافرين ، فالكافرون هم (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ولعل الإتيان بباب الاستفعال «يستحبون» دون «يحبون» لإفادة أن من طبيعتهم لم يكن الحب الزائد لها ، وإنما طلبوا حبها ، حتى صار ملكة لهم ، فإن الاستفعال فيه معنى الطلب (عَلَى الْآخِرَةِ) أي استحباب الآخرة ، وكأنه عدّي بعلى لإشراب الفعل معنى الترجيح ، أي يستحبون الحياة مرجحين لها على الآخرة ، فإن حب الدنيا كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأس كل خطيئة ، فتصطدم دنياهم بآخرتهم ، فيقدمون الدنيا على الآخرة ، حيث نشب بقلبهم حبها ، فمثلا الآخرة تنهي عن الربا ، والدنيا تطلبه ، وعن الزنى وعن القمار ، وعن النظر إلى أموال الناس ، وأعراضهم ، والتطلب للجاه ، ولو بألف حرام ، وهكذا ، (وَيَصُدُّونَ) أي يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقته في العقيدة ، والنظام ، فمن أراد الإيمان أو الإطاعة منعوه عن ذلك (وَيَبْغُونَها) أي يطلبون السبيل ـ ولفظة السبيل يجوز فيها التذكير والتأنيث ـ (عِوَجاً) أي منحرفا ، فلا يسيرون على الطريق المستقيم صراط الله سبحانه ، وإنما يسيرون على الطريق المعوج ، وإنما كان طريقهم معوجا ، لأنه لا يصل إلى المطلوب ، فمثلا المطلوب في الدنيا الصحة ، والزنى يوجب الأمراض الزهرية ، وهكذا ، ويحتمل أن يراد ب «يبغونها عوجا» أنهم يريدون

١٠٥

أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ

____________________________________

جعل طريق الله أعوج في نظر الناس ، حتى لا يتبعوه ، فيزينون لهم أشياء ملصقة بطريقه سبحانه ، ليبعدوا الناس عنه (أُولئِكَ) الكفار الذين هذه صفاتهم (فِي ضَلالٍ) وانحراف من الحق (بَعِيدٍ) كأنهم ابتعدوا عن المنهج السوي كثيرا ، في قبال الكافر الذي لا يصد عن سبيل الله ، فإنه أقرب من الأول ، والفاسق الذي يعتقد صحيحا ، ويعمل فاسدا ، فإنه في ضلال أقرب إلى الطريق من الفئتين السابقتين.

[٥] إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل إلى قومه بلغة العرب ، كما أن سائر المرسلين أرسلوا بلغة أقوامهم ، وإن كانت رسالة بعضهم عامة كموسى وعيسى عليه‌السلام ، (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) امتنانا من الله سبحانه عليهم حتى لا يصعب عليهم الفهم ، وإن كانت الحجة تتم بدون ذلك ، ثم أنه ليس المراد من القوم عشيرته ، بل القوم يطلق على من جمعهم لسان واحد ، كما أنه يطلق على من جمعتهم عشيرة واحدة ، أو ما أشبه ذلك (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) علة إرسال الرسول بلسان القوم فجاء الرسول ، وبيّن وفهّم ، ثم يأتي دور اللطف الخفي والخذلان ، فمن آمن لطف به سبحانه لطفه الخفي ، ومن أعرض خذله تعالى وتركه ، وهذا معنى قوله (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) أي يتركهم في ضلالهم ، وليست مشيئة اعتباطية ، وإنما يشاء بالنسبة إلى من أعرض ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فيلطف به الألطاف الخفية ، بعد أن أذعن واعترف ، وجاء في حظيرة المؤمنين ، فإن الهداية والضلال لهما مراتب

١٠٦

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ (٥)

____________________________________

ثلاث ، البيان والترك ، واللطف الخفي والخذلان ، والإيصال إلى المطلوب وهي الجنة وعدم الإيصال ـ كما بين ذلك في علم الكلام ـ (وَهُوَ) سبحانه (الْعَزِيزُ) الغالب القاهر ذو العزة والعفة ، فهو قادر على الهداية والإضلال (الْحَكِيمُ) يفعل كل ذلك حسب الحكمة والصلاح ، فمن أبى الهداية تركه في ظلمات الضلال ، ومن رغب فيها أخذ بيده درجة فدرجة ، كالمعلم الذي يترك تلميذه الذي لا يحفظ ، ويأخذ بيد تلميذه الذي يحفظ حتى يرتقي ـ بعد أن يلقي الدرس عليهما على حد سواء ـ.

[٦] ثم ذكر سبحانه مثالا لإرسال الرسل بلسان قومهم بقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع المعجزات والدلالات المصدقة له (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) هذه كانت رسالة موسى عليه‌السلام ، أي أرسلنا موسى قائلين له أن أخرج ، وجملة «بآياتنا» معترضة ، وقد كانت صيغة رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كصيغة رسالة موسى «أن أخرج» وقد تقدم معنى كون الناس في ظلمة ، وأن الرسول يخرجهم منها إلى النور (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وهي الأيام التي وقعت فيها أمور خارقة من النعم أو النقم ، والتذكير بها يفيد العاقل لزوم إطاعة الله حتى ينال من تلك النعم ، ولزوم ترك المعصية ، حتى لا يقع في مثل تلك النقم ، كالتذكير بما فضل الله به نوحا والمؤمنين من النجاة في السفينة ، وبما نقم الله سبحانه على الكافرين

١٠٧

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ

____________________________________

بالغرق والهلاك (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصبر على بلاء الله سبحانه (شَكُورٍ) كثير الشكر على نعمائه ، ويعني أن من له نفس واعية تصبر في البلاء وتشكر في الرخاء ، لا بد وأن يعتبر بأيام الله السابقة التي مضت على الأمم ، ولا بد أن يعلم وجوب الصبر في البلاء ، ووجوب الشكر على الرخاء.

[٧] (وَ) أخذ موسى عليه‌السلام حسب أمر الله سبحانه يؤدي رسالته ، ويذكر بني إسرائيل بأيام الله (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) «إذ» متعلق بمحذوف ، أي اذكر يا رسول الله وقت قول موسى لقومه (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وكان النعمة تغمر الإنسان ، ولذا تعدى ب «على» (إِذْ أَنْجاكُمْ) أي في الوقت الذي أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي فرعون وذويه ، فإنه كثيرا ما يغلب أن يقال «آل فلان» ويراد هو وآله (يَسُومُونَكُمْ) من سامه إذا أذاقه الهوان (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيء ، باتخاذهم عمّالا في الأبنية مع إذلالهم وإهانتهم وسجنهم ، وبقر بطون نسائهم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) خوفا من ظهور موسى عليه‌السلام ، فقد أمر فرعون أن يذبح كل ولد يولد لبني إسرائيل ، والإتيان بباب التفعيل «يذبحّون» لأنه يدل على التكثير ، كما قالوا في «غلقت الأبواب» «وقطع الجبال» (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يبقون البنات أحياء للخدمة والاستمتاع ، والإتيان بباب الاستفعال ، لافادته معنى

١٠٨

وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧)

____________________________________

الطلب ، فليس الأمر تركهن أحياء وإنما طلب حياتهن ، لفوائدهم ، وهل ذلة أكثر من هذا؟ (وَفِي ذلِكُمْ) «ذا» إشارة إلى ما كان يعمله آل فرعون و «كم» خطاب (بَلاءٌ) أي امتحان (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) حتى يميز الباقي من بني إسرائيل على مبدأ آبائه وأجداده ، من التارك منهم واتخاذه طريقة فرعون ، فقد كان في مصر نسل يعقوب عليه‌السلام ، وهم بنو إسرائيل ، عبادا لله سبحانه ، متخذين طريقة إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب أجدادهم كما كان فيه القبط الذين يعتقدون بألوهية فرعون ـ ملكهم المجرم ـ وكان الملك وقبيلته يطاردون بني إسرائيل ، بأنواع العذاب ليتركوا طريقتهم ، ويدخلوا في طبقة القبط ، ثم أنه كان من أيام الله ، تلك النعمة بالإنجاء ، كما أنه كان من أيّام الله تلك البلية بفرعون وزمرته.

[٨] ثم قال لهم موسى عليه‌السلام (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أي اعلم ، هو باب التفعّل من الأذان ، بمعنى الاعلام ، ولعل الإتيان من هذا الباب ، لإفادته التكثير ، أي اعلم مرات ومرات (رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) النعم بصرفها في ما أمر الله سبحانه بصرف العقل في التفكر في آيات الله تعالى ، وصرف الجوارح في إطاعته سبحانه ، فإن شكر النعمة ، صرفها في المصرف اللائق بها (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة على نعمة ، ولطفا على لطف ، وسببه واضح ، فإن استقامة النفس ، توجب الأعمال الصالحة ، التي تؤدي إلى الخير والرفاه والزيادة ، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) بأن صرفتم النعم في غير وجهها (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) يعني أعذبكم عذابا شديدا ،

١٠٩

وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ

____________________________________

فإن النفس غير المستقيمة ، لا بد وأن تسبب هدما لمناهج الحياة ، وذلك يسبب الشقاء والتعاسة في الدنيا والآخرة ، ثم أن الشكر باللسان ، أضعف أقسام الشكر وإن كان مطلوبا أيضا ، فإنه شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بالجوارح ، كما قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (١) أي ائتوا بالشكر العملي ، روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال في تفسير هذه الآية ، أيما عبد أنعمت عليه نعمة ، فأقر بها بقلبه ، وحمد الله عليها بلسانه ، لم ينفذ كلامه حتى يأمر الله له بالزيادة (٢).

[٩] (وَقالَ مُوسى) لبني إسرائيل ـ بمناسبة قوله السابق : ولئن كفرتم ـ (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بلا استثناء (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن الجميع لا يضره كفركم شيئا (حَمِيدٌ) بذاته لا يحتاج إلى حمد الناس وشكرهم ، وإنما الشكر والإيمان تعود فائدتهما إلى نفس الناس ، باستقامة حياتهم ، وطهارة نفوسهم.

[١٠] وقال لهم موسى عليه‌السلام (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا قوم (نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي ألم يصل إليكم أخبار الأمم الماضية الذين عصوا الله سبحانه ، فأخذهم بعذابه الشديد ، أخذ عزيز مقتدر؟ (قَوْمِ نُوحٍ) بدل من (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حيث أهلكوا بالغرق (وَعادٍ) قوم هود عليه‌السلام (وَثَمُودَ)

__________________

(١) سبأ : ١٤.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٢٢.

١١٠

وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)

____________________________________

قوم صالح عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من قوم الأنبياء الذين جاءوا إليهم بالصدق والحق ، فلجئوا إلى الباطل ، ولم يسمعوا كلام الأنبياء (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فإن تلك الأقوام ، حيث كانوا قريبين من محل موسى عليه‌السلام بين مصر وسوريا ، كانت أخبارهم وصلت إلى بني إسرائيل ، أما سائر الأقوام الكثيرة ، التي قال الله سبحانه عنها (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) فلم يكن يعلمهم إلا الله ، ولا داعي إلى ذكرهم ، فالأنموذج كاف للتذكير والإرشاد ، (جاءَتْهُمْ) أي جاءت تلك الأقوام (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحة ، والبراهين الصريحة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي رد القوم أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم‌السلام ، بأن منعوهم من التكلم ، فقد جرت العادة أن من يريد إسكات متكلم أن يضع يده على فم ذلك المتكلم ، وذلك تشبيه ، كما لا يخفى ، ويحتمل أن يعود الضميران إلى القوم ، يعني أن القوم وضعوا أيديهم ، في أفواه أنفسهم مشيرين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا (وَقالُوا) أي قالت الأقوام (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي برسالاتكم حول العقيدة والنظام (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من وحدة الله والمعاد ، وسائر الأفعال (مُرِيبٍ) أي موجب للريب والتردد ، فإن الشاك قد يكون له اطمئنان نفسي لا يريبه شكه ، بل يمضي حسب اطمئنانه ، وقد يقوى شكه ، حتى يوجب ريبه وتردده.

__________________

(١) فاطر : ٢٥.

١١١

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا

____________________________________

[١١] (قالَتْ رُسُلُهُمْ) في جواب قولهم (إِنَّا لَفِي شَكٍّ) (أَفِي اللهِ شَكٌ) أي هل يمكن الشك في الله بعد الآيات الكونية الكثيرة ، التي تنطق كلها ، في وضوح وجلاء ، بأن لها خالقا عليها قديرا ، (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومبدعهما ، وقد كان هذا الوصف بمنزلة البرهان والدليل (يَدْعُوكُمْ) الله أيتها الأقوام (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم ، وإنما أتى ب «من» التبعيضية ، لأنه سبحانه لا يغفر كل الذنوب كالشرك ، قال سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) كذا قال بعض المفسرين وإلا وفق القواعد ، أن تكون «من» للجنس ، فإنهم إن لبوا الدعوة ، كانوا محلا لغفران جميع الذنوب ، إذ لا يبقى شرك حينئذ ، وإن لم يلبّوها لم يكن غفران ، فالمراد ليغفر لكم من هذا الجنس الذي هو الذنب ، (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فلا يعجل عليكم بالعذاب ، بل إنما يؤخر آجالكم إلى المدة المقررة لكم ، فإن من سلك منهاج الله لم يعذب عاجلا ، لا بعذاب الاستئصال ، ولا بعذاب من خالف المنهاج ، فوقع في مشاكل الحياة (قالُوا) أي قال القوم في جواب الرسل (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها الرسل (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) على خلقتنا ، ومن آياتنا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) أي تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)

__________________

(١) النساء : ٤٩.

١١٢

فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ

____________________________________

من الأصنام والأوثان (فَأْتُونا) أي جيئوا إلينا على صحة دعواكم (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة ، فإن السلطان من سلط بمعنى غلب وقهر ، كأن الحجة تغلب وتقهر ، وقد كانت الأقوام ـ غالبا ـ تتقيد بتقاليدها ، وترى المعجزات بأنها سحر ، وتستغرب أن يكون النبي بالمزايا البشرية ، من أكل ومشي ، ونكاح وأولاد ، ولذا نرى هذه الاحتجاجات كثيرة في كلام الأقوام ضد الرسول.

[١٢] (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) صحيح ما تقولون إننا بشر مثلكم في مزايا البشرية ، فإنه (إِنْ نَحْنُ) أي ما نحن (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصورة ، وسائر الخصوصيات (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ويتفضل عليه بالنبوة والوحي ، وقد تفضل علينا سبحانه بهذه الفضيلة ، والدليل على ذلك الخوارق التي تشاهدونها ، مما أجراها سبحانه على أيدينا ، فإنه (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) أي حجة وبرهان (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته ، فما أتيناكم به من المعجزات كان بإذنه ، مما يدل على صحة دعوانا وصدقنا ، ومن المحتمل أن هذا الكلام من الأنبياء ، رد لما طلبته الأقوام من خوارق مقترحة ، وجواب الرسل ، أن الخوارق إنما هي بيد الله سبحانه ، إن شاء أتى بها ، وإن شاء لم يأت ، وأما المقدار الكافي لصحة دعوانا ، فقد زودنا به ، وجئناكم به (وَعَلَى اللهِ

١١٣

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)

____________________________________

فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وهذه كتسلية للرسل يسلون بها أنفسهم ، يريدون إنا نتوكل عليه سبحانه في تكذيبكم ونصبكم العداء لنا ـ كما يقول موظف الدولة ، بعد أن رأى عدم فائدة الحجاج مع من يريد تطبيق القانون عليه «اعتمادي على الدولة» يريد التهديد والاستغناء ، بهذه الجملة.

[١٣] ثم نرسم للرسل منهاجهم في الحياة بصورة سؤال واستفهام عن الأقوام تلطيفا للجو ، فإن في السؤال إظهارا لقوة الخصم ، مما يسبب له اللين والعطف ، حيث اتبع حس كبريائه (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) ، أي أيّ شيء لنا ، إذا لم نتوكل على الله ، ولم نفوض أمورنا إليه ، بمعنى أنه لو تركنا التوكل عليه ، لم يبق لنا شيء ، إذ لا اعتماد لنا ، لا من البشر ، حيث نصبوا لنا العداء ، ولا من الله حيث لم نلجأ إليه (وَقَدْ هَدانا) الله سبحانه (سُبُلَنا) طرقنا في الحياة السعيدة ، والآخرة المرفهة ، والمعنى إنا إذا كنا مهتدين ، فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على الله ف «الواو» في «وقد هدانا» للحال ، ثم أخذت الأنبياء في اجتلاب عطف الأقوام ، بقولهم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) نصبر ـ على إيذائكم ، ولا نقابلكم بالمثل ، وهذا بالإضافة إلى كونه حقيقة ، فقد كانت الأنبياء تصبر في مقابل أذى الأقوام ، ليعطفوا قلوب الناس إليهم ، لأن الناس مع المظلومين (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) من أراد التوكل والتفويض إلى أحد في أموره ، فاللازم أن يتوكل على الله ، لأنه ينصره ، ويسعفه بحاجته ، وقد تقرر في علم البلاغة ، أن «الفعل»

١١٤

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ

____________________________________

و «الإرادة» يستعمل كل منهما في معنى الآخر ، فمثلا «إذا أقمتم الصلاة» معناه ، إذا أردتم القيام إليها ، و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) معناه ، أنه يسر عليكم ، وعليه فالمراد ب «المتوكلون» من أراد التوكل.

[١٤] وإذ تمت الحجة على الأقوام ، وأظهروا القوة ، كما هو شأن كل جاهل حين تتم الحجة عليه ، ولا يريد الإذعان (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) أي ننفيكم من بلادنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي إلا أن ترجعون إلى أدياننا وطريقنا ، وتسمية ذلك رجوعا باعتبار أن الكفار كانوا يظنون أن الرسل ـ قبل ادعائهم الرسالة ـ كانوا على طريقتهم ، ذاهلين أنهم كانوا على مبدأ التوحيد ، ولكنهم لم يكونوا مأمورين بإظهاره ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي إلى الرسل (رَبُّهُمْ) بعد إتمام الحجة ، ووصول الأمر إلى هذا الحد (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) بكل تأكيد ، ولا يحضرني الآن تاريخ يدل على أن رسولا نفي بعد مثل هذا الاحتجاج ، وإنما خرج بعض الرسل بأنفسهم هربا ـ كموسى عليه‌السلام بالإضافة إلى أنه لم يكن بعد مثل هذا الاحتجاج ،

[١٥] (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ) أيها الرسل (الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي نجعل لكم فيها مسكنا ومستقرا ، وإنما نخرج المكذبين بالهلاك والفناء ، وقد ورد في الحديث «من أذى جاره حرم جواره» (١) وليس إخراج الكفار من

__________________

(١) راجع روضة الواعظين : ج ٢ ص ٣٨٧.

١١٥

ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥)

____________________________________

الأرض وإسكان الأنبياء فيها ، وكذلك إسكان التابعين لهم ، جزافا واعتباطا ، وإنما (ذلِكَ) الإسكان ، وإخراج الأعداء بالهلاك (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي خافني ، وإنما أضيف الخوف إلى المقام مجازا ، بعلاقة الحال والمحل ، أو المراد الخوف من نفس المقام والمنزلة ، فإن الشخص إنما يخاف من منزلة الحاكم ـ مثلا ـ لا من نفس الحاكم ، ولذا نرى أنه لو جرد عن تلك المنزلة ، لم يكن محل خوف ، والمراد بالخوف هنا عدم ارتكاب المعاصي (وَخافَ وَعِيدِ) أي خاف وعيدي بالهلاك في الدنيا والنكال في الآخرة ، فلم يعصني.

[١٦] (وَاسْتَفْتَحُوا) أي طلب الرسل الفتح والنصرة على أعدائهم ، وإنما سمي النصر بالفتح ، لأنه يفتح الطريق أمام المنتصر لقضاء حوائجه ، بعد ما كان العدو صدا يمنع عن ذلك (وَخابَ) أي خسر (كُلُّ جَبَّارٍ) يجبر الناس على ما يريد (عَنِيدٍ) معاند للحق ، والجبار يطلق عليه سبحانه ، لكنه هناك بحق ، لأنه يجبر ما هو ملكه وخلقه ، وليس كسائر الجبارين ، والذين يجبرون ما ليس لهم ، فإن الإنسان مسلط على ماله ونفسه ، وقد يقال الجبار له سبحانه ، باعتبار أنه يجبر الكسر من كل شيء ، كما في الدعاء يا جابر العظم الكسير.

[١٧] وخيبة الجبابرة ، كما هي في الدنيا كذلك في الآخرة ، أما في الدنيا فإنهم لا يهنؤون بالعيش ، حيث يرون الناس كلهم أعداء لهم ، وإذا كان للإنسان عدوا واحدا لا يهنأ له عيش ، فكيف إذا كان له أعداء؟ والغالب أن الجبابرة يذلون أخيرا ويقتلون ، ويبقى التاريخ ليلعنهم مدى

١١٦

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ

____________________________________

الأجيال ، هذا مع الغض عن أن لطف الله بعباده يحفر للجبار ألف حفيرة ، كما قال :

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم

وأما في الآخرة ف (مِنْ وَرائِهِ) أي من خلفه ، كأن الزمان الماضي مقابل الإنسان والزمان المستقبل خلف الإنسان ، يأتيه فيلحقه (جَهَنَّمُ) فإنه إذا مات ، كان قبره حفرة من حفر النيران (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) الصديد القيح يسيل من الجرح ، وإنما سمي صديدا لأنه يصد حتى لا يسيل ، إن المكان الحار يتطلب الماء البارد ، لكن الجبار إذا طلب ذلك أتي بالقيح ، روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : يسقى مما يسيل من الدم والقيح من فروج الزواني ، في النار (١).

[١٨] (يَتَجَرَّعُهُ) أي يتكلف جرعه وشربه جرعة جرعة (وَلا يَكادُ) أي لا يقارب ـ بطبعه أن (يُسِيغُهُ) والإساغة إجراء الشراب في الحلق بسهولة ، أي لا يتمكن أن يشرب هذا الصديد ، لكن العطش المفرط يضطره إلى الشرب ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقرب إليه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله عزوجل : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٢) ، ويقول : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٤٣.

(٢) محمد : ١٦.

١١٧

وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ

____________________________________

يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (١) (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) حتى أنه لو كان ، بالإمكان أن يموت بمكان واحد منه ، إذ كيف حال من جوانبه الستة ، ممتلئة بالنار والعذاب وداخله هكذا صديد؟ (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) إذ لا موت حتى يستريح هناك ، فإنهم في جهنم خالدون (وَمِنْ وَرائِهِ) وراء هذا العذاب (عَذابٌ غَلِيظٌ) أشد منه وأغلظ.

[١٩] أما أعمالهم التي عملوها في الدنيا ـ ولو كانت حسنات في نفسها ـ فإنها لا تنفعهم يوم القيامة ، فليأخذوا الأجر ممن عملوا له ، فإن كل عمل لا يبنى على أساس الإيمان بالله وأمره ، لا يستحق العامل جزائه على الله (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) في الآخرة (أَعْمالُهُمْ) التي أتوا بها في الدنيا (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) أي توجهت ريح شديدة إليه ، فذرته في الهواء ، مما لا يبقي منه أثر (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) شديد الريح ، فكما أن أحدا لا يقدر على جمع ذلك الرماد في مثل هذا اليوم ، كذلك أعمال الكفار تنتشر وتذهب هباء لا يقدر أحد على جمعها حتى ينتفع بها (لا يَقْدِرُونَ) أي أولئك الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) أي من أعمالهم التي كسبوها (عَلى شَيْءٍ) لا قليل ، ولا كثير ، كما قال سبحانه في آية أخرى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ

__________________

(١) الكهف : ٣٠.

١١٨

ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩)

____________________________________

هَباءً مَنْثُوراً) (١) (ذلِكَ) العمل الذي عملوه (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي الذهاب أبعد عن النفع ، فكأن العمل نفس الضلال ـ مجازا ـ بعلاقة الصفة والموصوف ، كقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٢) أو المراد ، أن ضلال هؤلاء الكفار ـ المستفاد من المثل ـ هو الضلال البعيد ، مقابل الضلال القريب ، وهو ضلال العصاة ، من أهل التوحيد ، فإن الكافر أبعد عن الجادة المستقيمة ، من المؤمن العاصي.

[٢٠] إن عمل هؤلاء الكفار ، كالرماد المتطاير ، أما هم بأنفسهم ، فإنهم تحت سيطرة إله قدير ، يتمكن أن يذهبهم جميعا ، كما أذهب أعمالهم كالرماد ، فكفرهم وطغيانهم لا يخرجهم عن قدرته سبحانه وكيف يخرجون عن قدرة إله خلق السماوات والأرض ، إنها قدرة مدهشة ، لا يتمكن أحد أن يتحداها (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو أيها الرائي ، والمراد بالرؤية العلم ، والاستفهام تنبيهي ، أي تفكر لكي تعلم (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) فلم يكن خلقها عبثا واعتباطا ، وإنما لغاية وحكمة ومصلحة ، كالذي يبني المدرسة ، لمصلحة الناجحين من التلاميذ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم ويميتكم أيها البشر ، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا لتأكيد القدرة ، حتى أن إفناء البشر كلهم ، والإتيان بمثلهم شيء هينّ معلق بإرادة واحدة.

__________________

(١) الفرقان : ٢٤.

(٢) هود : ٤٧.

١١٩

وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ

____________________________________

[٢١] (وَما ذلِكَ) الإفناء والتجديد (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع أو متعسر ، فذلك له سهل يسير ، أليس خلق السماوات والأرض شاهدا على يسر ذلك عليه سبحانه؟

[٢٢] ثم ينتقل السياق ، بعد أعمال الكفار المتطايرة ، إلى مشهد آخر من مشاهد الآخرة ، يقع فيه النزاع والتخاصم بين الرؤساء ، والمرؤوسين والشيطان ، فقد أعزى بعضهم بعضا ، وهناك تنازع وتخاصم هذه الفئة تلك : لماذا أوصلتها إلى هذا المصير المرّ الأليم؟ (وَبَرَزُوا) أي ظهر الكفار يوم القيامة (لِلَّهِ) في ساحة عدله ـ تشبيها بظهور الخصماء أمام الحاكم في ساحات المحكمة في الدنيا ـ (جَمِيعاً) فليس أحد منهم غائبا ، حتى لا يتم الخصام ويؤجل إلى غد وبعد غد ، وحيث أن ذلك مستقبل متحقق الوقوع ، جاء بلفظ الماضي «برزوا» (فَقالَ الضُّعَفاءُ) التابعون لرؤساء الكفار (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق ، وهم الرؤساء الذين رأوا في قبول الإيمان ذهابا لكيانهم ، وتنقيصا لرئاستهم فبقوا على الكفر ، وجروا إليهم الضعفاء ، (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) أيها المستكبرون (تَبَعاً) أتباعا في الدنيا ، وتبع جمع تابع ، كغيب جمع غائب ، (فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها الرؤساء (مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قد نزل بنا ، فإن لم تقدروا على دفع الكل فادفعوا البعض ، جزاء لنا حيث اتبعناكم في الدنيا ، فإن التابع إنما يتبع ، لأن يدفع المتبوع عنه ضرا ، أو يجلب

١٢٠