تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠)

____________________________________

ويصعدوه ، يقال ظهر السطح أي علاه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) أن ينقبوا السد من أسفله ، ويحدثوا فيه فجوة ، وسربا ونفقا ، ليأتوا إلى أولئك ، وبذلك استراح القوم من شرهم.

[٩٩] ولما أتم ذ والقرنين السد لم يأخذه البطر والكبر ، كما هو عادة الملوك بل (قالَ) متواضعا مذكرا أنه من فضل الله سبحانه عليه وعليهم (هذا) السد (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) حيث أمكنني من ذلك ، وأراحكم من شر المفسدين (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) بقيام القيامة (جَعَلَهُ) سبحانه (دَكَّاءَ) أي مدكوكا متساويا مع الأرض (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي) بإتيان القيامة (حَقًّا) لا خلف فيه.

[١٠٠] وحيث ينتهي السياق من قصة الملك العادل ذي القرنين ، وكيف سار وكيف عمر وعدل ، وبمناسبة «وعد ربي» يأتي السياق ليبين أحوال القيامة (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) مختلطين كحال المياه المائجة باضطراب ، والضمير ، إما يعود إلى يأجوج ومأجوج ، وإما يعود إلى الناس ، المفهوم من الكلام (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) لأجل إحياء البشر بعد موتهم (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي جمعنا الخلائق كلهم في صعيد واحد مجتمعين للحساب.

[١٠١] (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (لِلْكافِرِينَ عَرْضاً)

٤٢١

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ

____________________________________

فأظهرناها لهم حتى شاهدوها ، ورأوا ألوان عذابها.

[١٠٢] ومن هم الكافرون؟ (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) لا ينظرون إلى ما أذكرهم به من الآيات الكونية ، كالذي عينه لا ترى شيئا ، إن أولئك يرون اليوم العذاب المهيأ لهم ، جزاء أن أغمضوا أعينهم عن الحق (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي لا يتمكنون ـ من كفرهم وعنادهم ـ أن يسمعوا إنذاري ومواعظي ، وهكذا كما يقال فلان لا يستطيع النظر إليك ، أي يثقل عليه ذلك ، ومن المعلوم ، أن سمع الكفار يشترك مع بصرهم في سماع أصوات العذاب ، كما كان يشترك في الإعراض عن ذكر الله.

[١٠٣] (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هل زعموا وظنوا (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) ينصرونهم لدى الحاجة ، كما هو شأن الولي؟ إن هذا الزعم باطل ، فإن الأصنام ، والملائكة والمسيح وغيرهم ، ممن اتخذهم الكفار آلهة وأولياء لا ينصرونهم ، ولا يدفعون العذاب عنهم ، فليس الزعم في اتخاذ الآلهة ، وإنما الزعم في اتخاذ الآلهة أولياء للنصرة والدفاع (إِنَّا أَعْتَدْنا) وهيئنا (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي منزلا مهيأ لهم ، يردونها بمجرد ورودهم ، بلا حاجة إلى تعب منا فإن الأمر مهيأ للنزلاء.

[١٠٤] (قُلْ) يا رسول الله ، لهؤلاء الكفار ، أو لكل من يسمع مؤمنا كان أم

٤٢٢

هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥)

____________________________________

كافرا (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ) أي بأخسر الناس (أَعْمالاً) الذين تكون خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟

[١٠٥] (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما سعوا وعملوا في هذه الحياة ضل وضاع عنهم (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) يظنون أنهم يعملون حسنا ، والذين ضل ، من تتمة الاستفهام ، بدل من «الأخسرين».

[١٠٦] (أُولئِكَ) وهذا جواب عن الاستفهام ، هم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) أي جحدوا آيات الله ، فلم يستدلوا بها على الله سبحانه وصفاته ، وسائر شؤونه ، وجحدوا المعاد الذي فيه لقاء الله سبحانه ، بمعنى لقاء جزائه وحسابه (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) بطلت وضاعت أعمالهم الحسنة ، إنهم كانوا مؤمنين ، كانت أعمالهم مصونة محفوظة ، أما وقد كفروا ، فقد حبطت أعمالهم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا مرتبة لهم ، ولا نعير لهم أهمية ، ولا قيمة لهم عندنا ، فإن الشيء الخفيف الذي لا يوزن ، لا قيمة له ، ولذا جعل عدم الوزن كفاية عن عدم القيمة ، وإنما كان هؤلاء أخسرين أعمالا ، لأن هناك أعمالا للدنيا يرى العامل جزاؤها في الدنيا ، وأعمالا للآخرة يرى العامل جزاؤها في الآخرة ، أما أعمال هؤلاء فهي بزعمهم للآخرة ، ولا يرون لها جزاء

٤٢٣

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)

____________________________________

أصلا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، والتفصيل غير مراد هنا ـ كغالب هذه المواضع من أشباهه ـ

[١٠٧] (ذلِكَ) كما ذكرنا (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ولماذا؟ (بِما كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم (وَاتَّخَذُوا آياتِي) الكونية والشرعية (وَرُسُلِي هُزُواً) أي مهزوا به ، فقد كانوا يستهزئون بالآيات الكونية ، والقرآن والرسول ، فقد حبطت أعمالهم الصالحة ، وجوزوا النار بكفرهم واستهزائهم.

[١٠٨] لقد كان ذلك حال الكافر ، فما هو حال المؤمن؟ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صحيحا بالأصول (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي تصلح للسعادة (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) الفردوس هي الجنة التي يجتمع فيها الملاذ ، من أشجار وأنهار وأزهار وأطيار (نُزُلاً) منزلا مهيئا لهم.

[١٠٩] في حال كونهم (خالِدِينَ) دائمين (فِيها) أبدا (لا يَبْغُونَ) لا يطلبون (عَنْها) عن تلك الجنات (حِوَلاً) تحولا إلى موضع آخر لطيبها وملاذها.

[١١٠] ثم يأتي السياق ليندد بالكفار الذين ينكرون كل شيء استنادا إلى علمهم المحدود ، وكأنهم يعلمون كل شيء ، ألا فليعلم البشر أن علمه لا شيء ، في مقابل مخلوقات الله التي لا حد لها ، ويصور هذا الخلق الذي لا يتناهى في مثال «إن البحر لو كان مدادا ، وكتب به كلمات الله بقيت الكلمات ، ونفد البحر» فكيف يمكن للإنسان أن ينكر الجنة

٤٢٤

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)

____________________________________

أو النار ، أو سائر ما يخبر به الأنبياء مما وراء الغيب ، (قُلْ) يا رسول الله (لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أي جنس البحر ليشمل جميع البحار (مِداداً) لكتابة (كَلِماتُ رَبِّي) ما أظهره وألقاه من الموجودات ، فإنها كلمات الله سبحانه ، تشبيها بالكلام الذي يلقيه الإنسان ويظهره في الخارج (لَنَفِدَ) ماء (الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) في الكتابة ، فإنها تبقى غير مكتوبة كلها ، وقد خلص وتم ماء البحر (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) أي بمثل البحر (مَدَداً) له وعونا ، فإن كلمات الله أكثر من أن تنفدها بحار العالم ، وبحار أخر تمدها.

[١١١] وأخيرا يوجز القول حول التوحيد والرسالة والمعاد ، مما كان مرمى السورة من أولها إلى آخرها (قُلْ) يا رسول الله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الأكل والشرب والملامسة وغيرها من الشؤون البشرية ، فلست ملكا أو غيره ، وإنما الفرق بيني وبينكم أنه (يُوحى إِلَيَ) فلوجهة ربط بالله سبحانه جعلني مستعدا لتلقي الوحي وخصني الله بذلك من بينكم ، وأهم ما يوحى إلي هو (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ولا شبيه (فَمَنْ كانَ) منكم (يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يطمع في ثوابه وحسن جزائه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) يسعد به في الآخرة (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) فلا يجعل له شريكا في العبادة ، كما لا يجعل له

٤٢٥

____________________________________

شريكا في الألوهية ، والإسلام كله يتلخص في هذه الأمور الأربعة ، التوحيد وشؤونه التي منها العدل والرسالة ، وشؤونها التي منها الإمامة ، والمعاد .. ، وثم العمل الصالح ، بلا شرك عبادي ، فالعبادة له وحده ، كما أن الألوهية له وحده ، وقد ورد ، أن من الشرك الرياء (١).

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ٢٥٥.

٤٢٦

(١٩)

سورة مريم

مكية / آياتها (٩٩)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على اسم مريم أم عيسى وقصتها ، وهي مكية ، ولذا تراها تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ، وحيث ختمت سورة الكهف بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) افتتحت هذه السورة ، بذكر بعض الأنبياء السابقين.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين في بدء أمورنا باسم الإله الرحمن الرحيم ، ليتفضل علينا بالرحمة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن ذكر صفة من صفات الكريم تدل ـ تلميحا ـ إلى تطلب الذاكر من تلك الصفة ، إذ الإنسان لا يخصص صفة بالذكر ، إلا وهو مريد للنيل منها ، فإذا قال المجرم أيها الغافر ، أراد الغفران ، وإذا قال الفقير أيها الغني ، أراد الثروة ، وهكذا.

٤٢٧

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي

____________________________________

[٢] (كهيعص) أي أن «كاف» «هاء» «ياء» «عين» «صاد» هي التي يركب منها هذا القرآن ، فإن القرآن مركب من هذه الحروف وأمثالها ، وهنا حذف الخبر ، بخلاف مثل (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ) وقد عرفت أن في فواتح السور أقوالا وما ذكرناه أحدها ، وهناك قول آخر أنها رموز ولا تنافي بين القولين ولا بين سائر الأقوال ، وقد ورد أن «كاف» اسم كربلاء و «هاء» هلاك العترة و «ياء» يزيد و «عين» عطش الآل عليهم‌السلام و «صاد» صبرهم (١) ، فهي كالرموز اللاسلكية التي تختار لمعرفة الطرفين دون سواهم لحكمة.

[٣] هذا الذي نريد بيانه (ذِكْرُ) وخبر (رَحْمَتِ رَبِّكَ) ل (عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) النبي عليه‌السلام والمراد برحمة الله له استجابته دعاء زكريا حين سأله الولد ، فقد تفضل عليه سبحانه بيحيى عليه‌السلام.

[٤] وقد كانت الرحمة (إِذْ نادى) حين دعا زكريا (رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) دعاء في خفية لم يجهر به ، ولعل سر الإخفاء ، أن الناس لو علموا بأنه يطلب الولد سخروا منه؟ ، كيف يسأل الولد وهو شيخ فان؟ ، أم كيف بقي في نفسه بقايا من طلب الملذات ..؟

[٥] (قالَ) زكريا في دعائه يا (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف عظمي ، وإسناد الضعف إلى العظم ، أبلغ في الدلالة على الضعف ، إذ العظم الذي هو أصلب شيء في الجسم ، إذا ضعف ضعفت سائر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٨ ص ٩.

٤٢٨

وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ

____________________________________

الأشياء (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فإن الشيب والبياض ، إذا ظهر في الرأس وغمرها ، كانت الرأس كالمشتعل في التلألؤ والبريق ، وهذا أبلغ ، من «اشتعل الشيب في الرأس» (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ) بدعوتي إياك فيما مضى ، يا (رَبِّ شَقِيًّا) مخيبا محروما ، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى ، يا (رَبِّ شَقِيًّا) مخيبا محروما ، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى ، وأنا في سن الشباب والقوة ، فلا بد أنك لا تحرمني هذا الدعاء وأنا في حال المشيب والضعف.

[٦] وإذ ذكر عليه‌السلام حاله المستحق للترحم ورجائه الذي عوده باريه باستجابة دعائه بين ما يخشاه وما يطلبه (وَإِنِّي) يا رب (خِفْتُ الْمَوالِيَ) جمع مولى ، وهو الأولى بالتصرف في الأموال بعد الإنسان بالإرث ، (مِنْ وَرائِي) أي من خلفي الذين يرثونني ، أخشاهم أن لا يعملوا ، بما يبقى لهم مني على وجه الصلاح (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد ، فليس لي منها أولاد حتى يقوموا بواجب تراثي من بعدي من الصلاح والإصلاح (فَهَبْ لِي) يا رب (مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (وَلِيًّا) ولدا يلي أموري من بعدي ، ويكون هو الأولى بميراثي.

[٧] (يَرِثُنِي) ذلك الولي (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) لعل ذلك باعتبار أم الولد ، أي زوجة زكريا ، فقد كانت خالة «مريم» من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم‌السلام. ولذا كان عيسى عليه‌السلام ، من نسل

٤٢٩

وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨)

____________________________________

إبراهيم ، وقال «آل يعقوب» لاحترامهم بكون الأنبياء فيهم (وَاجْعَلْهُ) أي اجعل ذلك الولد يا (رَبِّ رَضِيًّا) مرضيا عندك ، ممثلا لأمرك ، فلا يكن فاسدا ، لا يصلح لإرثي ، والرضى صفة لنفس الولد ، لكنها تلازم كونه مرضيا.

[٨] وقد استجاب الله دعاءه فناداه (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد (اسْمُهُ يَحْيى) ولعله سماه سبحانه بهذا الاسم ، كناية عن أنه يحيى حياة صالحة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) فلم يسمي أحد ولده بهذا الاسم ، وإنما ابتكر هذا الاسم لولدك تكريما لك ، فإن لكل جديد لذة ولكل تخصيص كرامة.

[٩] ولقد فوجئ زكريا بهذه الاستجابة المسرة ، كيف يكون له ولد ، وهو شيخ ، وامرأته عاقر لم تلد في شبابها ، فكيف وأنها شاخت وهرمت؟ ولذا أراد السؤال عن الكيفية (قالَ) زكريا يا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون لي غلام ، ولعل سؤاله كان حول رجوعه شابا ، أو عن امرأة جديدة ، أو بهذه الحالة عن هذه المرأة العاقر؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) لا تلد (وَقَدْ بَلَغْتُ) أنا (مِنَ الْكِبَرِ) في العمر (عِتِيًّا) العتي هو الذي بلغ به طول العمر إلى حالة اليبس والجفاف ، كأنه ليس فيه مادة صالحة لنشأة الولد؟

٤٣٠

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)

____________________________________

[١٠] (قالَ) سبحانه في جوابه (كَذلِكَ) أي بهذه الحالة نعطيكما الولد (قالَ رَبُّكَ هُوَ) أي إعطاء الولد في هذه الحال ـ حال كبرك ، وكون زوجك عاقرا ـ (عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي سهل يسير ، والقائل هو الله سبحانه ، وقد جرت العادة أن يذكر الشخص اسمه ، فيقول محمد لأولاده مثلا : يقول لكم محمد ، أن لا تجالسوا الأشرار ، يريد نفسه (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) يا زكريا (مِنْ قَبْلُ) أي سابقا (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أصلا فإعطاء الولد من كبيرين أهون من خلق الإنسان من العدم ، فإن من قدر على ذلك الأصعب ـ في نظرك ـ يقدر على هذا الأسهل.

[١١] (قالَ) زكريا عليه‌السلام يا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة دالة على وقت صيرورة الولد الذي بشرتني به (قالَ) الله تعالى (آيَتُكَ) علامتك التي تدلك على وقت صيرورة الولد (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي لا تتمكن من الكلام مع الناس (ثَلاثَ لَيالٍ) وفي سورة آل عمران ثلاثة أيام ، ومن ذلك يظهر أن عدم تمكنه عليه‌السلام من التكلم مع الناس ، كان ثلاثة أيام بلياليها (سَوِيًّا) في حال كونك سوي الخلق ليس بك خرس أو آفة ، فإذا أردت التسبيح والذكر تمكنت من ذلك ، وإذا أردت التكلم مع الناس ، لم تتمكن ، وقد كان هذا يناسب حال زكريا المقتضي للانقطاع إلى الله سبحانه يذكره ، ويشكره ، على أن أنعم عليه بهذه النعمة.

[١٢] وكأن زكريا عليه‌السلام كانت له غرفة خاصة في بيت المقدس ، وكان قد

٤٣١

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً

____________________________________

بشر العباد بما بشر به ، وذكر لهم العلامة ، فلما اعتقل لسانه ، أراد أن يفهمهم الأمر ليشاركوا معه في الذكر والتسبيح ، فإن الإنسان يذكر الله عند ما يرى من العجائب (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ) غرفته المسماة ب (الْمِحْرابِ) ، ويسمى محل الصلاة محرابا ، لأنه محل محاربة الإنسان مع الشيطان ، يريد الشيطان أن يصده عن الصلاة ، وهو يحاربه حتى يصلي (فَأَوْحى) أي أشار زكريا عليه‌السلام (إِلَيْهِمْ) بدون أن يتكلم ، لأنه لم يكن يقدر على الكلام مع الناس (أَنْ سَبِّحُوا) الله سبحانه (بُكْرَةً) أي صباحا (وَعَشِيًّا) أي مساء.

[١٣] فولد يحيى وكبر حتى صار صبيا ، وإذا به يسمع النداء من قبل الله سبحانه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ) بأن تعمل بها بكل استقامة ، والمراد بالقوة ، القوة النفسية ، التي لا يقف دونها شيء لمن عزم وصمم (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) النبوة ، لأنها توجب أن يحكم الشخص بين الناس ، فيأمرهم ، وينهاهم ، ويفصل قضاياهم (صَبِيًّا) في حال كونه صبيا ، فإن الله كما قدر على أن يمنحه لوالديه بعد الهرم ، قدر على أن يتفضل عليه بمؤهلات النبوة.

[١٤] (وَ) آتيناه (حَناناً) وعطفا وشفقة على الناس ، كما هو من لوازم النبوة ، حتى يتمكن من إرشاد الناس ، فإن أول مؤهلات المرشد ، أن يكون ذا حنان وعطف (مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا ، والإضافة إليه سبحانه ـ وإن كان كل حنان من عنده ـ للتشريف (وَ) آتيناه (زَكاةً)

٤٣٢

وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ

____________________________________

أي طهارة وعفة ونموا (وَكانَ تَقِيًّا) يتقي المحارم والآثام.

[١٥] (وَ) آتيناه (بَرًّا) وإحسانا (بِوالِدَيْهِ) فكان بارا بهما محسنا إليهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي متكبرا متطاولا على الناس يجبرهم على حسب شهواته ، وهذه الصفة «الجبار» ليست حسنة ، إلا من الله سبحانه ، ومعناها فيه ، إنه يأمر الخلق وينهاهم حسب المصلحة ، وهو القاهر فوقهم يميتهم ويحييهم حسب الحكمة ، كما تطلق عليه سبحانه بمعنى جبر الكسر ، ومن هذا قال العباس بن علي عليه‌السلام ، لما قطعوا يساره :

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار (١)

جبر الكسر ، مع قطع اليد وكسرها (عَصِيًّا) أي عاصيا لربه ، فإن فعيل قد يأتي للفاعل ، وقد يأتي للمفعول نحو جريح بمعنى المجروح.

[١٦] (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي على يحيى ، والمراد بالسلام السلامة ، في هذه الأيام الثلاثة ، التي نقرر كل يوم منها مصيرا طويلا (يَوْمَ وُلِدَ) فإن يوم الولادة يقرر مصير الحياة ، فإذا ولد الإنسان سالما من العيوب ، كان سالما ما دام العمر ، ـ إلا أن يحدث حدث عليه ـ وإن ولد معيوبا كأن كان أعمى أو أعرج أو ما أشبه ، تكبد طول حياته ذلك (وَيَوْمَ يَمُوتُ) فإن الإنسان إذا سلم هذا اليوم من عذاب الله سبحانه ، كان سالما في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٥ ص ٤٠.

٤٣٣

وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧)

____________________________________

البرزخ الطويل الأمد (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي يحيى للحساب والجزاء ، فإذا سلم في ذلك اليوم ، كان سالما من العذاب والشقاء أبد الدهر ، وهذا هو معنى السلام على الميت ، يعني لتكن سالما من العذاب هناك في قبرك وآخرتك.

[١٧] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (مَرْيَمَ) أي قصة مريم الطاهرة ، وولادتها لعيسى عليه‌السلام من غير أب (إِذِ) حين (انْتَبَذَتْ) النبذ أصله الطرح ، والانتباذ منه ، إلا أنه يستعمل بمعنى التنحي يقال : انتبذ فلان ناحية أي تنحى ناحية ، كأنه طرح فيها ، والمراد أن مريم انفردت وتنحت (مِنْ أَهْلِها) أبويها ، وسائر قراباتها (مَكاناً شَرْقِيًّا) طرف مشرق الأهل ، بحيث كان أهلها في طرف الغرب ، وهي في وجهة شرقهم ، ولعلها أرادت الاغتسال ، ولذا اختارت هذا الطرف ، حتى لا تتأذى بالبرد ، بل تشرق الشمس عليها ـ وهذا هو المستفاد من كلام بعض المفسرين ـ.

[١٨] (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ) دون الأهل (حِجاباً) سترا ضربته ليحجبها عن أهلها ، وهذا يؤيد الاحتمال السابق (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أي روحا من طرفنا ـ والإضافة للتشرف ـ وكان ذلك الروح جبرائيل عليه‌السلام ، وقد كان استحاش مريم شديدا حين رأت الروح (فَتَمَثَّلَ) الروح (لَها) لمريم عليه‌السلام (بَشَراً سَوِيًّا) أي شابا مكتملا غير ناقص الخلق.

[١٩] واضطربت مريم عليها‌السلام لهذا الحادث المدهش ، فاستعاذت بالله من شر

٤٣٤

قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

____________________________________

الرجل ، لأنها لم تعرفه ، وقد جرت العادة ، أن مثل هذا الرجل يقصد السوء (قالَتْ) مريم عليها‌السلام (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) أيها الرجل (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) فإن التقي إذا خوف خاف بخلاف الشقي الذي لا يرعوي ، ولو بألف تخويف وإنذار ، كما تقول إن كنت مؤمنا لا تفعل كذا.

[٢٠] (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام في جوابها يعرفها بنفسه ، لست أنا إنسانا تخافين منه (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) مرسل من طرفه إليك يا مريم (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ولدا طاهرا طيبا.

[٢١] فازداد تحير مريم عليها‌السلام ، فسألت (قالَتْ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولد (وَ) الحال أنه (لَمْ يَمْسَسْنِي) على وجه الزوجية (بَشَرٌ) وهل الغلام ، إلا من الزوجين بعد الملامسة (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي زانية ، فإن الولد في العادة يكون بأحد هذين الطريقين ، ولم يك أحدهما.

[٢٢] (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام في جواب سؤال مريم عليها‌السلام (كَذلِكِ) أي كذا الذي ذكرت لك ف «الكاف» حرف جر للتشبيه و «ذا» للإشارة و «لك» للخطاب (قالَ رَبُّكِ هُوَ) أي إعطاء الولد من غير أب (عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل لا يحتاج إلى الكلفة (وَلِنَجْعَلَهُ) نجعل هذا الولد (آيَةً لِلنَّاسِ) حجة من عندنا على الناس ، فإن عيسى عليه‌السلام كان حجة الله على البشر

٤٣٥

وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣)

____________________________________

(وَرَحْمَةً مِنَّا) على البشر نرحمهم به ونهديهم إلى الطريق بسببه (وَكانَ) إعطاؤك الولد (أَمْراً مَقْضِيًّا) أي كائنا مفروغا منه محتوما ، فلا ينفع التكلّم لدفع هذا القضاء.

[٢٣] فنفخ جبرائيل في جيب مريم عليها‌السلام ، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة بقدرة الله تعالى (فَحَمَلَتْهُ) أي حملت مريم بعيسى عليه‌السلام (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) تنحت مريم بالولد ـ أي معه ـ (مَكاناً قَصِيًّا) أي محلا بعيدا عن أهلها ، لئلّا يروها على حالة الحمل ، ولقد كانت مدة حملها تسع ساعات ، وفي بعض الروايات ، أنها جاءت إلى كربلاء من بيت المقدس ، بقدرة الله تعالى ، وهو المراد بالمكان القصي (١).

[٢٤] (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي ألجأها الطلق ، وهو وجع الولادة (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستند إليها ، والجذع ساق النخلة ، وحيث فكرت في حالتها أخذت الدهشة منها كل مأخذ ، ولذا (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الحادث قالت ذلك حياء وخجلا وتحيرا ، و «مت» بكسر الميم من «مات يميت» على وزن «تعب» ومن أخذه من «مات يموت» احتاج إلى التكلف (وَكُنْتُ نَسْياً) أي ما من شأنه أن ينسى (مَنْسِيًّا) ذكري عند الناس لا يذكرني أحد ، وهناك جاءت بعيسى عليه‌السلام وليدا كاملا جميلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٤ ص ٥١٧.

٤٣٦

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي

____________________________________

[٢٥] (فَناداها) عيسى عليه‌السلام ، أو جبرائيل ، (مِنْ تَحْتِها) أي أسفل منها ، فإنها كانت على أكمة ، ولعل هذا يرجح كون المراد بالمنادي عيسى عليه‌السلام ـ كما اختاره سعيد بن جبير ـ (أَلَّا تَحْزَنِي) من هذه الحادثة ، والحزن هو الغم الكامن في النفس (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ) يا مريم (تَحْتَكِ) أي الأسفل منك (سَرِيًّا) أي جدولا ساريا ، وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام إن عيسى عليه‌السلام ضرب برجله الأرض ، فسار الماء (١).

[٢٦] (وَهُزِّي) يا مريم (إِلَيْكِ) أي اجذبي نحو نفسك (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ليقع فيها الهز (تُساقِطْ) النخلة (عَلَيْكِ رُطَباً) جديدا (جَنِيًّا) طريا ، قد جني الساعة ، والحلو خصوصا الرطب من أفضل ما تتغذى به المرأة التي ولدت.

[٢٧] (فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من ماء الجدول (وَقَرِّي عَيْناً) طيبي نفسا بهذا الولد ، وذلك ، لأن الإنسان المذهول تطير عينه هنا وهناك ، أما مطمئن النفس فإنه تقر وتستقر عينه ، حسب الموازين العقلانية (فَإِمَّا) أصلها «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتجميل ، ثم أدغمت النون في الميم (تَرَيِنَ) مضارع ، من رأى مؤكد بالنون الثقيلة (مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن الولد ، من أين أتيت به ، وأنت غير متزوجة؟ (فَقُولِي) الظاهر ، أن المراد الإشارة بهذا المعنى ، لا لفظ القول ، فإن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢٦.

٤٣٧

إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ

____________________________________

القول يستعمل للعمل والإشارة ، كما يستعمل اللفظ (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) وقد كان الصوم بمعنى الكف عن الكلام ، كما كان كفا عن الطعام ، وأمره سبحانه ب «قولي» يفيد لزوم أن تنذر هذا الصوم ، ولذا نذرت ذلك (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) منسوب إلى الإنس ، لإفادة الوحدة ، ولعل ذلك ، لأجل أن لا تقع في المجادلة مع الناس ، والاكتفاء بكلام عيسى الرضيع.

[٢٨] وهنا وقد رأت مريم عليها‌السلام ، المعجزات الباهرات ، وها هو وليدها الذي يتكلم على خلاف العادة ، معها حجة قاطعة على براءتها (فَأَتَتْ) مريم عليها‌السلام (بِهِ) أي بعيسى عليه‌السلام (قَوْمَها) أي إلى قومها (تَحْمِلُهُ) على يديها ، ولما رآها القوم ، استنكروا طفلها ف (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما عجيبا ، من فرى بمعنى قطع ، كأن من يأتي بشيء عجيب ، قد قطع مدهشا ، لا يلائم سائر الأشياء ، ومنه الافتراء.

[٢٩] (يا أُخْتَ هارُونَ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن هارون كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح (١) ، وعلى هذا كان المعنى يا شبيهة هارون في الصلاح ، كيف أتيت بهذا الولد ، من غير زواج ولا نكاح (ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ) يعمل القبيح

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٢٢٦.

٤٣٨

وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)

____________________________________

(وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي زانية ، فأنت من أبوين صالحين ، فكيف جئت بهذا الولد من غير أب؟

[٣٠] فلم تجب مريم عليها‌السلام لكلامهم وإنما (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي إلى عيسى عليه‌السلام ، وأومأت بأن كلموه ، واسألوا منه ما شئتم ، فتعجبوا من إشارتها ، و (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وقولهم في المهد ، يراد الشأنية ، لا الفعلية ، وهل طفل شأنه أن يوضع في المهد يتكلم؟

[٣١] وهنا أنطق الله عيسى ليدافع عن أمه ، ويبرئ ساحتها ، ويقطع الجدال ف (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وقد كان أول ما تكلم هذا ، ليفند مزاعم الذين يأتون ويقولون إنه الله (آتانِيَ الْكِتابَ) أي أعطاني الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ظاهر اللفظ أنه قد أوتي الكتاب والنبوة ، وهو في ذلك السن ، وهذا غير غريب ، فقد وردت أحاديث ، إن الأنبياء ، كانوا أنوارا ، قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا.

[٣٢] (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) ذا بركة وخير (أَيْنَ ما كُنْتُ) فليس كالثري ، أو ذي الجاه الذي لا خير له ، إذا لم يكن عند ثروته ، وفي محل منصبه ، بل يعلم الخير ويشفي المرضى ، أينما كان (وَأَوْصانِي) الله سبحانه (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) بأن أصلي وأنفق (ما دُمْتُ حَيًّا) ما بقيت مكلفا.

٤٣٩

وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)

____________________________________

[٣٣] (وَ) جعلني (بَرًّا) أي بارا (بِوالِدَتِي) مريم الطاهرة (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) متجبرا طاغيا (شَقِيًّا) من الأشقياء ، فإني بلطفه وكرمه كنت هكذا ، وليس معنى ذلك أن الله يجعل الجبابرة الأشقياء كذلك ، بل إن الله سبحانه يتركهم ، إذا رأى منهم الانحراف ، حتى يضلهم الشيطان ، وترديهم النفس الأمارة بالسوء.

[٣٤] (وَالسَّلامُ) أي السلامة من العاهات الجسمية والروحية (عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ، وَيَوْمَ أَمُوتُ) بعد ما ما أنزل من السماء (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) في القيامة ، وقد مر وجه ذلك في قصة يحيى عليه‌السلام.

[٣٥] وإذ أتم السياق قصة عيسى عليه‌السلام ، فيما هو محل الحاجة ، عطف على النصارى الذين يقولون إنه الله ، أو ابن الله أو شريك الله ، واليهود الذين يقولون فيه السوء ، فقال سبحانه (ذلِكَ) الذي تقدم أحواله (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الذي جاء إلى الدنيا ، وكان صاحب شريعة ، ثم رفع إلى السماء (قَوْلَ الْحَقِ) أي أقول قول الحق ، أو خذه قول الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكّون ، فزعمت اليهود أنه لغير رشده ، وكان ساحرا كذابا ، وزعمت النصارى أنه ابن الله ، وأمه ثالث الأقانيم ، فإن كلا القولين باطل ، لا يدل عليهما دليل ، بل العقل دل على خلاف هذين القولين الزائفين ، وقوله «يمترون» من المرية ، وهو الشك وإنما سمي شكا مع أنهم بحسب الظاهر يوقنون بذلك ، لأن ما خالف الواقع كان بالشك أشبه.

٤٤٠