تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا

____________________________________

أو المراد ناكسي رؤوسهم ـ قيل وهو لغة قريش ـ كما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (١) ولا تنافي فإن مواقف القيامة كثيرة ، ففي موقع يكونون هكذا ، وفي موقع هكذا (لا يَرْتَدُّ) أي لا يرجع (إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي عينهم فإنهم لا يطبقونها ولا يغمضونها ، إذ هي مفتوحة مذهولة مبهوتة (وَأَفْئِدَتُهُمْ) أي قلوبهم (هَواءٌ) أي مجوّفة لا تعي شيئا للخوف والفزع ، شبهت بهواء الجو ، وذلك لأن الإنسان الخائف لا تحضر نفسه لفهم شيء حيث توجهت جميع حواسه إلى ذلك الخوف الهائل.

[٤٥] (وَأَنْذِرِ) يا رسول الله (النَّاسَ) عن (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) هو يوم القيامة ، أو يوم الموت ، فإن العذاب يشرع من هناك ، أو المراد عذاب الدنيا حين الاحتضار ونحوه (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر أو العصيان (رَبَّنا أَخِّرْنا) أي أرجعنا إلى الدنيا ، أو مدّ في أعمارنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي مدة قصيرة (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) «نجب» مجزوم بكونه جواب الأمر ، أي إن تؤخرنا نجب دعوتك وأوامرك (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيما قالوا وأمروا ولكن هيهات أن يردّوا أو يؤخروا ، لأنهم استوفوا مدتهم ، ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وهنا يتوجه الخطاب إليهم بالتقريع (أَوَلَمْ تَكُونُوا) أيها الظالمون

__________________

(١) السجدة : ١٣.

١٤١

أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ

____________________________________

(أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) وانتقال عن دار الدنيا إلى دار الآخرة ، ومن نعيم الدنيا إلى جحيم العذاب؟ فهل كان ذلك صحيحا؟

[٤٦] (وَسَكَنْتُمْ) أيها الظالمون (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قبلكم فلم تعتبروا بأحوالهم ، فكيف تطلبون الآن أن نؤخركم إلى أجل قريب حتى تتوبوا؟ فإن كانت نفوسكم مستعدة للتوبة ، لتبتم قبل هذا اليوم حيت رأيتم مساكن الظالمين ، وسكنتم فيها (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من الإهلاك والاستئصال (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) على لسان الأنبياء والصالحين ، فقد بينوا لكم أخبار الماضين من قبلكم كيف عتوا عن أوامر الله سبحانه ، وكيف أن الله سبحانه عاقبهم وأخذهم ، فلم ينفع فيكم ذلك ، أو المراد ضرب المثل عملا بإهلاك الطغاة وإبادتهم عن الوجود.

[٤٧] ثم يأتي السياق لبيان ما يفعله الكفار فعلا من المؤامرات ضد الإسلام والرسول والمؤمنين (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي اتخذوا تدابيرهم الخفية ، ما أمكنهم ذلك ، فلم يدعوا بابا من أبواب المكر إلا طرقوه ، والعموم يستفاد من قوله «مكرهم» الظاهر في أنهم أتوا بغاية ما تمكنوا من المكر ، ويحتمل أن يكون المراد : أن الكفار مكروا بالأنبياء عليهم‌السلام

١٤٢

وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)

____________________________________

قبلك يا رسول الله ، كما مكروا بك ، فعصمهم الله من مكر الكفار ، فيكون تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما يفعله هؤلاء به.

(وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أنه محفوظ لديه سبحانه ، غير خاف عليه ، فلا يمكن أولئك أن ينفذوا مكرا دون أن يعلمه الله سبحانه ، وهذا كقولك لمن خاصمك : عندي ما تفعله ، تعني إنك مطلع عليه ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان مطلعا على طرق مكر الخصم ، لا يتمكن الخصم من إغفاله ، وإنفاذ مكره به (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) في غاية العظم والدقة بحيث لو أنفذوها على اقتلاع الجبال الراسيات (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) لكنه لا ينفذ بالنسبة إلى أنبياء الله عليهم‌السلام ومن في زمرتهم لأن الله مطلع يحبطه فلا يتمكنون من إضرار الأنبياء بذلك المكر ، ولا يقال : إذا كان كذلك فكيف تمكن بعض الأمم من إنفاذ مكرهم على الأنبياء حتى قتلوهم أو شردوهم؟ فالجواب : إن الذي أراده الأنبياء إنما هو تنفيذ منهاج السماء في الناس وقد تمكنوا من ذلك ، أما أشخاصهم فلم يكن للأنبياء همّ في بقاء حياتهم ، بل بالعكس من ذلك إن غاية آمال الأنبياء والأئمة لقاء الله سبحانه قتلا ونحوه ، كما قال الإمام عليه‌السلام :

وإن كانت الأبدان للموت أنشأت

فقتل امرء بالسيف في الله أفضل (١)

__________________

(١) ديوان الإمام علي عليه‌السلام : ص ٣١٥.

١٤٣

فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧)

____________________________________

وقال علي عليه‌السلام : «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه» (١) وقال عليه‌السلام : «لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ» (٢) وفي القرآن الحكيم : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٣) وقال سبحانه : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (٤) إلى غير ذلك.

[٤٨] أنه ليس لمكر هؤلاء أثر فإن الله سبحانه يحبطه وينصر رسله (فَلا تَحْسَبَنَ) أي لا تظنن يا رسول الله أو أيها المتدبر في الأمور ، من كل من يمكن أن يتأتى منه هذا الظن ، وإن كان الخطاب للرسول فليس النهي لأن الرسول كان يظن ذلك بل للتنبيه على أن هذا المكر لا ينفذ ، على طريق المجاز ، أو طريق الكفاية ، نحو إياك أعني (اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) الوعد الذي وعده إياهم بقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٥) ، وأيّ نصر أعظم من أنهم باقون في القلوب مورد احترام البشرية ، يذكرونهم بكل تجلّة ، ويزورونهم ومن يمتّ إليهم ، بينما ذهبت الفراعنة والجبابرة حتى لم يبق لهم اسم ، ومن بقي فهو للعن والبراءة وليكون مثلا للظلم والطغيان ، ليجتنب سبيله الناس.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب قاهر ، (ذُو انتِقامٍ) ينتقم من كل ظالم جبار في الدنيا قبل الآخرة كما نرى التاريخ الغابر والحاضر مليء بالشواهد والأمثلة ، فإنه سبحانه لا يدع الظالم بلا جزاء ، ولا يذر

__________________

(١) الاحتجاج : ج ١ ص ٩٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٢ ص ٢٣٣.

(٣) التوبة : ١١١.

(٤) الجمعة : ٧.

(٥) غافر : ٥٢.

١٤٤

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩)

____________________________________

الماكر بلا عقاب.

[٤٩] إن عدم الخلف ، أو الانتقام ، إنما هو (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) أو أن العامل فيه محذوف تقديره ، اذكر يا رسول الله ، ولعل هذا أقرب إلى المعنى ، وإن كان الأول أقرب إلى اللفظ (غَيْرَ الْأَرْضِ) وتبدل (وَالسَّماواتُ) غير السماوات ، بمعنى أنهما يصبحان في غير شكلهما المألوف الحالي ، فإن الجبال تدك ، والأرض تسوى حتى لا ترى عوجا ولا أمتا ، والبحار تسجر ، والشمس تنكسف ، والقمر ينخسف ، والنجوم تكدر ، إلى غيرها من آيات القيامة.

(وَبَرَزُوا) أي ظهر الجميع ، أو الظالمون ـ حيث أن الكلام في الآيات السابقة حولهم ـ (لِلَّهِ) أي أمام حكمه وعدله كما يظهر المتخاصمان أمام الحاكم ، عند المحاكمة (الْواحِدِ) فلا شريك مزعوم هناك ، ولا أحد يحكم إلا هو (الْقَهَّارِ) الذي يقهر الظالمين ، فلا مجال للتملص والتخلص.

[٥٠] (وَتَرَى) يا رسول الله أو أيها الرائي (الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا وعملوا السّيئات (يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي مجمعين في الأغلال قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم ، أو مصفدين بعضهم مع بعض ، من التقرين وهو جمع الشيء إلى نظيره ، والأصفاد جمع صفد وهو الغلّ الذي يقرن به اليد مع

١٤٥

سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ

____________________________________

العنق ، أو مطلق السلسلة.

[٥١] (سَرابِيلُهُمْ) جمع سربال وهو القميص ، أي ألبستهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو شيء أسود لزج منتن يقبل الاحتراق سريعا ، يطلى به الجمل الأجرب ، أي أن ألبستهم من هذا الجنس حتى تكون النار فيهم أسرع لكونها أسرع في الاشتعال وأبلغ في شدة العذاب (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تحيط النار بوجوههم حتى تكون على الوجه كالغشاء ، وبيان ذلك بالخصوص لما يعلمه كل إنسان من أن الوجه يتأذّى بأقل شيء من الألم فكيف بالنار المحيطة بها كالغشاء.

[٥٢] وإنما يفعل سبحانه بالمجرمين هذا العذاب المدهش (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فقد كسبت أنفس الظالمين في الدنيا الظلم والمكر فليذوقوا جزاء أعمالهم ، ولا يظن ظان أن عذاب الآخرة بعيد ف (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فقد قال الإمام عليه‌السلام : كل آت قريب والموت أقرب ، وها نحن ننظر أين أولئك الذين عارضوا الرسول؟ أو عارضوا الوصي والصديقة والزكي والشهيد وغيرهم ممن تقدم من الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين أو تأخر من الأئمة عليهم‌السلام والمتقين؟ أليس الكل قد ماتوا ونالوا نصيبهم من العذاب ـ ومن مات قامت قيامته ـ.

[٥٣] (هذا) القرآن (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي تبليغ لهم ، حتى يأخذوا حذرهم ، وإلا فعن قريب يلاقون هذا المصير المهول (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) فهو بلاغ

١٤٦

وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)

____________________________________

لكل وعد ووعيد وحكم وعظة ، بصورة عامة ، كما أنه جيء به لينذر الناس ، فيأخذوا حذرهم ـ وإنما أتى بهذا الخاص بعد ذلك العام لأنه مورد الكلام في الآية السابقة ـ (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له ، مما قد كان مصب كلام السورة ، وإنما يعلموا بالقرآن لأنه يبين لهم الحجج والأدلة فلا يقال أن الإذعان بالقرآن متوقف على الإذعان بالإله فكيف يمكن أن يكون الإذعان بالإله متوقفا على الإذعان بالقرآن؟ (وَلِيَذَّكَّرَ) من تذكّر «باب التفعّل» ثم أدغمت التاء في الذال ، وجيء بهمزة الوصل لاستحالة الابتداء بالساكن (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي يتعظ أصحاب العقول ، فإن ألباب جمع لب ، وهو العقل ، وإنما خصص بهم تنبيها على أن غير المتعظ إنما هو مجنون ، حيث ترك الآخرة العظيمة لشهوات زائلة ، والله العالم وهو العاصم.

١٤٧
١٤٨

تقريب القران إلى الأذهان

الجزء الرّابع عشر

من آية (١) سورة الحجر

إلى آية (١٢٩) سورة النحل

١٤٩

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

١٥٠

(١٥)

سورة الحجر

مكيّة / آياتها (١٠٠)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجر» وهو اسم البلد الذي كانت فيه قبيلة «ثمود» قوم صالح عليه‌السلام وهذه السورة تدور حول العقيدة ، وعاقبة المكذبين بما أرسل به المرسلون ، كغالب السور المكية. ولما ختم سبحانه سورة «إبراهيم» بكون القرآن بلاغا ، ابتدأت هذه السورة بذكر «القرآن» مع التناسب الكلي بين السورتين في استعراض العقيدة وعاقبة الكاذبين بها.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا ونجعله بدء أعمالنا ، ليكون عونا لنا ، في ختم العمل ، وأن يطبع بطابعه ، فإن ما لمسته رحمة الله العظيم ، لا يكون إلا صالحا باقيا ، موجبا للسعادة ولنستمطر شآبيب رحمته ، فيرحمنا بلطفه وإحسانه.

١٥١

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)

____________________________________

[٢] (الر) ألف ، ولام ، وراء (تِلْكَ) ومن هذا الجنس من الحروف تتركب (آياتُ الْكِتابِ وَ) آيات (قُرْآنٍ مُبِينٍ) واضح لا لبس فيه ولا غموض ولا التواء ، وقد ذكرنا غير مرة أن «فواتح السور المقطعة» فيها احتمالات : أحدهما ما ذكرنا ، والآخر أنها رموز بين الله سبحانه والرسول ، وهناك احتمالات أخر ، يمكن الجمع بين كثير منها ، وعلى الاحتمال الأول ف «الر» مبتدأ و «تلك» خبره ، وتأنيث الإشارة باعتبار أن المقصود «حروف ، الر».

وقد تكرر «الر» في فواتح السور ، بينما كان بالإمكان أن «ج م د» مثلا ، أو غيره ، ولعل لسرّ أن الرمز الحاوي له «الر» كان مهما يحتاج إلى التأكيد ، كتكرار بعض الآيات : نحو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١) ، أو لعله كان ذلك تعبيرا عن حروف الهجاء ، كما أن «الضاد» تعبير عن لغة العرب ، فيقال لغة الضاد ...... وإنما قال : «آيات الكتاب وقرآن» بعطف القرآن على الكتاب مع أنهما واحد ، لإفادة أنه يكتب ويؤلف ، فإن القرآن من قرأ وهو بمعنى الجمع والتأليف ، وكأنه أكثر تأكيدا في مقام التعجيز ، أو من جنس «أ ، ل ، ر» كتبت وألفت هذه السور والآيات فكيف لا تقدرون على الإتيان بمثله ، إذا لم يكن من جانب الله؟ وهكذا كما يقول المهندس متحديا سائر زملائه : إني من «الآجر ، والحديد ، والجص» صنعت هذا البناء وألفت هذا القصر فاصنعوا مثله؟ ـ والله أعلم بمراده ـ.

[٣] وإذ كذب بهذا الكتاب والقرآن المبين بعض الناس ، بعد أن عجزوا عن

__________________

(١) الرحمن : ١٤.

١٥٢

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ

____________________________________

الإتيان بمثله فسيأتي يوم يندمون على كفرهم وتكذيبهم ، ويتمنون أن كانوا مسلمين في الدنيا غير مكذبين ، حتى لا ينالهم العذاب الشديد (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) «ربّ» مشدّدة ، وتخفف كثيرا إذا دخلت على «ما» الكافّة ، وهي لفظة تأتي عقب رب ليصلح دخولهما على الفعل والا فإن «رب» تدخل على الاسم ، فإنها من حروف الجر ، أي ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة حيث رأوا عذاب الكافرين ونعيم المسلمين.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : ينادي المنادي يوم القيامة يسمع الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فثم يودّ سائر الخلائق أنهم كانوا مسلمين (١) ، ثم أن الظاهر كون رب للتكثير أي كثيرا ما يودون ذلك ، فإن الإنسان المعذب يتمنى كثيرا إن كان عمل عملا لا يؤديه إلى هذا العذاب الذي هو فيه ، ولكن لا ينفع التمني والندم هناك.

[٤] إن ذلك تهديد للكفار ، بأن ورائهم هذا اليوم ، ويأتي تهديد آخر ، في صورة الأمر استهزاء (ذَرْهُمْ) أي دع يا رسول الله هؤلاء الكفار ، واتركهم وشأنهم (يَأْكُلُوا) ما شاءوا من الحرام والحلال (وَيَتَمَتَّعُوا) باللذائذ والشهوات ، كما يشتهون من غير ارتقاب العاقبة وعدم النظر إلى متعتهم هل هي جائزة أو محظورة (وَ) ذرهم (يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) من «ألهاه» بمعنى أشغله ، و «الأمل» توقع سعادة الدنيا في المستقبل ، أي تشغلهم آمالهم الدنيوية الزائلة عن التفكر في مصيرهم في الآخرة ،

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٣٩.

١٥٣

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)

____________________________________

والتجهّز له بالأعمال الصالحة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال ذلك في ما بعد ، حين ما عاينوا جزاء أعمالهم ، إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلما دعاهم ولم يقبلوا ، فليدعهم حتى يلاقوا مصيرهم السيئ.

[٥] فلا يغرنّ هؤلاء الكفار تأخير العذاب عنهم ، وأنهم عاجلا لا يرون جزاء تكذيبهم ، فقد جرت سنة الله سبحانه ، أن لا يهلك أمة إلا في الوقت المقدّر المحدّد (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي من بلد ، والمراد بها أهلها ، بعلاقة الحال والمحل (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أي وقت وسمي الوقت كتابا لأنه يكتب أجلهم هناك ، فهو مجاز بعلاقة الظرف والمظروف ، إذ المدة مكتوبة في الكتاب (مَعْلُومٌ) لدى الله سبحانه ، فلا يأخذ القرية قبل انتهاء مدتهم ، ومن المحتمل أن يراد أن هذا قبل قرب وقت تعذيبهم ، لأنه جاءهم الكتاب السماوي ، وبين لهم الأحكام ، وقد جرت سنه الله أن يأخذ الظالمين بعد البيان ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

[٦] (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي لم تكن أمة تسبق (أَجَلَها) فتهلك قبل الوقت المحدّد لموتها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي لا تتأخر أمة عن أجلها المقدر لها ، بأن تهلك بعد الأجل ، فلو كان أجل أمة في يوم الجمعة لا تسبقه بأن تموت الخميس ولا تتأخر عنه بأن تموت يوم السبت ، وكأنه جاء بلفظ «الاستفعال» لإفادة أن الأمة لا تطلب التأخير ، لأنها تعلم بأن الأجل لا يتأخر ، وهذا لبيان حتمية الأجل حتى أنه لا موقع لطلب التأخير.

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

١٥٤

وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)

____________________________________

وما ورد من أن الأدعية والصدقات وما أشبههما تؤخر الأجل (١) ، فالمراد أنها تؤخر الأجل المعلق ، لا الأجل المحتوم ، ومعنى الأجل المعلق ، أنه لو لا هذه الصدقة لكان يموت في الخميس ، لكن الله يعلم أنه يصّدّق فيموت يوم الجمعة.

[٧] لقد جاء لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب والقرآن المبين وبصّرهم وأقام عليهم الحجة ، لكن الكفار لم يذعنوا لذلك كله بل أخذوا في الفساد واللجاج راكبين رؤوسهم مستهزئين بالرسول (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) قالوا ذلك استهزاء وإلا فقد كانوا ينكرون نزول الذكر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) حيث تزعم مزاعم المجانين ، بأنك أوحي إليك ، وإننا سوف نكون لك تبعا ، وهكذا يلجأ المبطلون إلى رمي المصلحين بالجنون وما أشبه ، إذ لم يتمكنوا من رد حججهم الصحيحة ، ولم يحروا جوابا لما يرشدون إليه من الإصلاح.

[٨] (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي لماذا لا تأتينا بملائكة يشهدون بصدق دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك إنك نبي مأمور من عند الله سبحانه ، فإن النبي يقدر على كل شيء.

لكن حجتهم هذه كانت تافهة إلى أبعد الحدود ، فإن النبي إنما يثبت نبوته بالخارقة وقد أثبت النبي بإتيان القرآن ، اما أن يأتي بكل خارقة تتخيلها أدمغة المعاندين ، فإن ذلك عبث لا طائل تحته ، إن

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٢٢.

١٥٥

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)

____________________________________

المطالبين بإنزال الملائكة وما أشبه إن كانوا منصفين كفاهم الدليل ، وإن كانوا معاندين لم يكفهم ألف دليل ، فلما ذا يأتي النبي بالملائكة ، وها نراهم يقولون للنبي في آية أخرى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (١).

[٩] لكن القرآن يردهم بأسلوب آخر ، هو أن الملائكة لا ينزلون إلا للعذاب والهلاك ، فهكذا اقتضت مشيئة الله سبحانه ، حتى في بدر نزلت الملائكة لعذاب الكفار ، فإذا أنزلنا الملائكة عذبوهم وأهلكوهم فلا يستفيدون من إنزال الملائكة شيئا ، وقد جرت سنة الله كذلك في القرون الماضية والأمم الخالية (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) لا للعبث واللغو ، كما يطلبه هؤلاء فإن إجابة المعاند بعد إثبات الحجة عليه لغو وعبث (وَما كانُوا إِذاً) حين نزول الملائكة (مُنْظَرِينَ) أي مؤخرين ممهلين ، بل الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل للعذاب والهلاك فهل يريدون هلاك أنفسهم بهذا الطلب؟ ثم ألم نر الكفار يوم بدر رأوا الملائكة بعيونهم ، ولكنهم لم يؤمنوا وقالوا أنه سحر؟

[١٠] إنهم إن كانوا صادقين في طلبهم الحجة ، فأية حجة أقوى من القرآن الحكيم ، الذي مع كبره وسعته وإنه بلغتهم عاجزون عن إتيان سورة من مثله ف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) وسمي القرآن ذكرا لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة والنظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التغيير والتحريف والزيادة والنقصان ، والذي أعتقده

__________________

(١) الأعراف : ١٣٣.

١٥٦

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ

____________________________________

وفاقا لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما أنزل بلا أيّ تغيير أو تبديل وإن السور والآيات إنما رتبت كما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان النزول مختلفا ، والرسول لم يفعل هذا الترتيب إلا بأمر الله سبحانه ، كما قال سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) وهكذا كان اعتقاد والدي قدس‌سره ، كما ذكره في نشرة «أجوبة المسائل الدينية» الكربلائية ، وذكرت طرفا من الكلام في أوائل نشرة «الأخلاق والآداب» الكربلائية ، في تفسيري لسورة الحمد وبعض سورة البقرة.

وربما يتعجب الإنسان من هذه التأكيدات الواردة في هذه الآية ، وهي اثنتي عشرة أو أكثر «إن» و «نا» بضمير الجمع و «نحن» تكريرا وجمعا و «نزل» بالتفعيل و «نا» جمعا و «إن» و «نا» و «له» باللام و «لام» لحافظون و «إتيانه جمعا» وكون الجملتين اسميتين.

[١١] ثم يسلي سبحانه الرسول أن لا يضيق باستهزاء المستهزئين ، فقد كانت عادة الأمم أن يستهزءوا بالرسل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله رسلا (فِي شِيَعِ) جمع شيعة وهم الطائفة من الناس الذين يتبعون طريقة معينة ، من المشايعة بمعنى المتابعة ، فكان كل جماعة يتبعون مسلكا ورئيسا لذلك المسلك ومخترعه (الْأَوَّلِينَ) أي الأمم السابقة ، فقد أرسل في كل فرقة من السابقين رسول.

[١٢] (وَ) قد كان دأبهم أنه (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) «من» زائدة تدخل في

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

١٥٧

إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)

____________________________________

المنفي لإفادة التعميم ، حتى لا يظن أن عموم النفي مجاز (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والاستهزاء دائما حيلة العاجز عن الحجة حيث يريد تحطيم خصمه ، وهذا كالتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لا يهتم باستهزائهم فإن ذلك عادة الأمم كافة بالنسبة إلى رسل الله سبحانه.

[١٣] ولكن إنما لا نأبه باستهزاء هؤلاء الكفار بالقرآن ، فاللازم في الحكمة أن نتم عليهم الحجة ، وإن استهزءوا به وعلمنا أنهم لا يؤمنون (كَذلِكَ) الذي ذكر (نَسْلُكُهُ) أي القرآن (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) يقال سلكه وأسلكه إذا أدخله ، يعني إنا في هذه الحالة الاستهزائية ، ومع هذا الواقع السيء لدى المكذبين ، ندخل القرآن في قلوبهم ، حتى تتم الحجة عليهم.

كما إذا قيل لك أنك كيف تفعل كذا والحال أن جماعة ينتقدون عليك؟ تقول : هكذا نعمل ، تريد أنك تعمل وإن جلب العمل الانتقاد.

[١٤] إنهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) هذا كالبدل لقوله «كذلك» أي إنهم مع عدم إيمانهم بالقرآن واستهزائهم لك نلقي عليهم الحجة (وَقَدْ خَلَتْ) أي مضت (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) طريقة الأمم السابقة ، في أنهم لم يكونوا يؤمنون بالأنبياء عليهم‌السلام ويستهزئون بهم ومع ذلك كنا نلقي عليهم الحجة ، فالطغاة المكذبون من عنصر واحد ، وهم أشباه في كل زمان ومكان ، وليس تكذيبهم واستهزائهم سببا لكفّنا عن الإرشاد والبلاغ ، سواء في ذلك السابقون أو من في زمانك يا رسول الله.

١٥٨

وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً

____________________________________

[١٥] إن هؤلاء الكفار لا يريدون الإيمان ، ولو أقيم لهم ألف دليل ، أما ما طلبوا من إنزال الملائكة ، فإنه حجة للعناد لا للتفهم فإنهم معاندون لا يؤمنون (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المشركين (باباً مِنَ السَّماءِ) بأن رأوا أن موضعا من السماء كالباب يمكن المرور منه.

(فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي أخذوا طوال نهارهم يصعدون إلى السماء من ذلك الباب ، لم يفدهم هذا الإعجاز الذي لمسوه في أن يؤمنوا.

[١٦] بل (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي سدت وغطيت كالإنسان المسحور الذي يرى غير الواقع واقعا لما عمل فيه من السحر والشعوذة (بَلْ) ليس لهذا الشيء من واقع وإنما (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرتنا فظننا أن للسماء بابا وإننا أخذنا نصعد فيه ، إذن فهل يكفي إنزال الملائكة لإيمان هؤلاء؟.

[١٧] أخذ سبحانه يعدّد الأدلة على وجوده سبحانه ، وذلك بتعدد الآيات الكونية ، التي تشهد كل واحدة منها ، على وجود إله قدير حكيم عالم (وَلَقَدْ جَعَلْنا) أي خلقنا وأبدعنا (فِي السَّماءِ بُرُوجاً) جمع برج ، وأصله الظهور ، ومنه يسمى شرفة الحصن برجا ، لأنه ظاهر منه من بعيد ، وسمى بروج السماء بروجا ، لظهورها قال الصادق عليه‌السلام : اثنى عشر برجا (١).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ١١٥.

١٥٩

وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧)

____________________________________

أقول : لقد قسموا السماء إلى اثني عشر قسما يسمى كل قسم برجا ويميز بين البرج والبرج بالكواكب الموجودة في كل واحد منها.

والبروج هي : «حمل» و «ثور» و «جوزاء» و «سرطان» و «أسد» و «سنبلة» و «ميزان» و «عقرب» و «قوس» و «جدي» و «دلو» و «حوت» ففي كل برج عدة كواكب لو ربطت بينها بخيوط لصارت بصورة هذه الأشياء (وَزَيَّنَّاها) أي السماء (لِلنَّاظِرِينَ) الذين ينظرون إليها ، ولو لم تكن فيها الكواكب لم تكن ذات زينة وجمال.

[١٨] (وَحَفِظْناها) أي حفظنا السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي مرجوم مرمي ، ويوصف الشيطان بهذا الوصف لأنه يرمى باللعن ، أو لأنه إذا حاول دخول السماء رجم بالشهب كما يرمى المجرم بالحجارة ، فالسماء مع جمالها الظاهري بالكواكب جميلة معنى بطهارتها عن دنس الشيطان ولوثه ، فلا منفذ للأبالسة في السماء ، وإنما محلها الأرض ، ومن أين تبدأ هذه السماء التي ليست محلا للأبالسة لم نعرفها بعد.

نعم دلّ العلم الحديث ـ كما يظهر من الأحاديث أيضا ـ أن محل الشياطين إنما هو الطبقة فوق الأرض بعد بضعة أذرع ، ولذا كره تعلية البنيان (١).

ثم أن الظاهر أن في السماوات ملائكة مطهرون ، لا يقترب منهم الشيطان بالوسوسة ، فعدم دخول الشيطان في السماء ، لأجل عدم

__________________

(١) أنظر كتاب على حافة الأثيري.

١٦٠