تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ

____________________________________

وبالعكس في القيمي.

[٨٠] (فَفَهَّمْناها) أي علمنا (سُلَيْمانَ) كيفية الحكومة بين الراعي والزارع (وَكُلًّا) من داود وسليمان (آتَيْنا) أي أعطيناه (حُكْماً) في الخصومات ، أو حكما على الناس (وَعِلْماً) وكان تخصيص سليمان بقوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) لأن المقصود كان إظهار فضل سليمان ليعرف بنو إسرائيل من وصي داود ، كما في الأحاديث (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) ومعنى التسخير السير معه في التسبيح ، فإنك إذا عودت طيرا أن يتكلم بما تكلمت به أنت ، يقال أنك سخرت ذلك الطير ، فكأنه صار طوع إرادتك يتكلم إذا تكلمت ويسكت إذا سكت (يُسَبِّحْنَ) الجبال معه ، والإتيان بضمير العاقل لأن التسبيح فعل العاقل (وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال ، أي وسخرنا معه الطير ، فإنها كانت تسبح بتسبيحه. قال الصادق عليه‌السلام : إن داود خرج يقرأ الزبور وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلا جاوبه (وَكُنَّا فاعِلِينَ) لذلك ، وكان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيبا من قدرتنا ، وإن كان مستغربا عندكم.

[٨١] (وَعَلَّمْناهُ) أي علمنا داود (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) اللبوس هو السلاح الذي يلبس كالدرع ، فإنه عليه‌السلام أول من صنع الدرع ، وقد كان الحديد لينا في يده كالعجين ، يسرد منه الدروع (لِتُحْصِنَكُمْ) أي تحفظكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) من وقع السلاح فيكم ـ كالسيف والرمح ـ في الحرب

٥٦١

فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ

____________________________________

(فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها الناس (شاكِرُونَ) لهذه النعمة التي تقيكم من الأعداء ، فإن الدرع أحسن وقاية للبدن مقابل الآلات الحربية.

[٨٢] (وَ) سخرنا (لِسُلَيْمانَ) بن داود (الرِّيحَ عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب ، فإذا أراد أن تعصف الريح عصفت ، وإذا أراد أن ترخي أرخيت (تَجْرِي) الريح (بِأَمْرِهِ) أي أمر سليمان (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الشام ، التي بارك الله فيها بكثرة الأنبياء عليهم‌السلام ، وكثرة الثمار ، وطيب الهواء ، وقد سبق أن المراد بالشام ما يشمل سورية وفلسطين ولبنان والأردن ، فقد كان لسليمان عليه‌السلام بساط يجلس عليه هو وحاشيته فتحمله الريح ويسير بهم من القدس إلى الشام ـ وقد كان السير بينهما يستغرق شهرا على الماشية ـ في نصف يوم ، وكذلك ترجع بهم هذه المسافة في نصف يوم ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١) وحيث أن هذا كان مورد استغراب عقبه سبحانه بهذه الجملة فقال (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فإنما أعطيناه ما أعطينا لعلمنا بالمصالح وطرف الأمور.

[٨٣] (وَ) سخرنا لسليمان (مِنَ الشَّياطِينِ) والمراد بالشيطان هنا الجن ، فإنهما مخلوقان أحدهما يضل البشر من نسل إبليس ، والآخر كالإنسان إلا أنه مختف ، والظاهر أنهما في الأصل كانا من جنس واحد ، ولذا

__________________

(١) سبأ : ١٣.

٥٦٢

مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ

____________________________________

قال سبحانه في حق إبليس «كان من الجن» ويسمى كل واحد منهما باسم الآخر «الجن» لكونهما مستترين ، «والشيطان» لكونهما ذوي تدبير وحيلة ، والظرف في موضوع حال من سخرنا (مَنْ يَغُوصُونَ) في البحر ، والغوص هو أن ينزل في البحر لأجل إخراج اللؤلؤ وما أشبه (لَهُ) أي لسليمان (وَيَعْمَلُونَ) له (عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي سوى ذلك ، أو أدون من الغوص ـ من حيث الصعوبة ـ كبناء المحاريب والتماثيل وأشباههما (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي نحفظ الشياطين عن الإفساد والهروب ، وسائر ما ينبغي الحفظ منه.

[٨٤] (وَ) اذكر يا رسول الله (أَيُّوبَ) حين دعا ربه لما امتدت به المحنة والبلاء (إِذْ نادى رَبَّهُ) مستجيرا ليشفيه قائلا في دعائه رب (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي نالني الضر والمرض (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي أكثر رحما من رحم كل راحم ، وهذا تأدب في طلب إزالة البلاء ، فقد ابتلاه الله سبحانه بهلاك أولاده وذهاب أمواله والمرض في بدنه ، كما يأتي قصته في سورة «ص» إن شاء الله تعالى.

[٨٥] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه ونداءه ، وكان الإتيان من باب الاستفعال الظاهر في الطلب ، لأجل أمره سبحانه بأن يجاب دعاءه ، بما جعل من العلل الكونية والأسباب التي تترتب عليها مسبباتها ، فكأنه تعالى طلب أن يجاب أيوب (فَكَشَفْنا ما بِهِ) أي رفعنا وأزلنا الشيء

٥٦٣

مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)

____________________________________

الذي كان بأيوب (مِنْ ضُرٍّ) في بدنه وماله وولده ، وكأن الضر ستر يشتمل على الإنسان ، فإذا أزيل ، انكشف ما تحته (وَآتَيْناهُ) أي أعطيناه ورددنا إليه (أَهْلَهُ) أولاده الذين ماتوا ابتلاء واختبارا (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله سبحانه رد على أيوب أهله الذين هلكوا وأعطاه مثلهم معهم وكذلك رد الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها وأعطاه مثلها معها ، والله سبحانه قادر على إحياء الأموات ، كما هو قادر على أن يعطي الإنسان أولادا وأموالا (١).

(رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي إن كشف ضره وإعطاء ما فقده ، ومثله معه ، كان فضلا ولطفا من لدنا لأيوب ، وكل رحمة منه سبحانه ، إلا أن التخصيص هنا للتشريف (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي لأجل أن يكون ذلك موعظة وتذكيرا لمن عبدنا وأنه إذا أخذنا منه شيئا فإنا نرده إليه مع الزائد ، وإن الأخذ لمصلحة وحكمة.

[٨٦] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم عليه‌السلام وحيث لم يذكر هناك ، ذكره هنا مستقلا (وَإِدْرِيسَ) وهو أول من خاط اللباس بوحي الله سبحانه (وَذَا الْكِفْلِ) وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه يوشع بن نون (كُلٌ) أي كل هؤلاء الأنبياء (مِنَ الصَّابِرِينَ) أي من الأنبياء الذين صبروا على مشاق التكليف ، ولم

__________________

(١) الخرائج : ج ٢ ص ٩٣٣.

٥٦٤

وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ

____________________________________

يزيغوا عن أوامره سبحانه.

[٨٧] (وَأَدْخَلْناهُمْ) أدخلنا هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام (فِي رَحْمَتِنا) بأن غمرناهم في الرحمة بعد أن كانوا في مشقة وأذى من قومهم ، ومن التكاليف المتوجهة إليهم (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فقد كانوا صالحين في حياتهم ، ولذا جوزوا بتلك الرحمة التي غمرتهم ، وحيث أن المقصود في سرد صبر الأنبياء أولا ثم فضل الله عليهم جزاء صبرهم ثانيا ، ألمح السياق إلى هاتين الخصوصيتين ، بالنسبة إلى هؤلاء الأنبياء بدون ذكر قصصهم ، كما أن سائر القصص قد أتيت بإيجاز وإشارة.

[٨٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (ذَا النُّونِ) «النون» هو الحوت ، أي صاحب الحوت ، وهو يونس عليه‌السلام ، الذي التقمه الحوت (إِذْ ذَهَبَ) أي حين فارق قومه ، وذهب عنهم (مُغاضِباً) من غاضب ، بمعنى غضب ، وكأنه أتى من باب المفاعلة للدلالة على كون الغضب من الطرفين أو المراد المغاضب المراغم ، يعني أنه خرج رغما على أنف قومه ، حيث أراد إهلاكهم (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نضيق عليه ، فقد ضاق هو بالدعوة وتكذيب القوم ، فخرج من بين القوم ظانا أن ذلك ليس بترك أولى حتى يجزيه سبحانه بضيق صدره ضيقا في مكانه ، يهون عند ضيق مكانه ضيق صدره بالمكذبين من قومه.

وقد يقال : أن خروجه هل كان طاعة لله ، أم عصيانا؟ فإن كان طاعة فلم ضيق الله عليه؟ وإن كان عصيانا كان ذلك خلاف ما هو مسلم من عصمة الأنبياء عليهم‌السلام؟ والجواب : أنه كان ترك أولى ، فقد كان

٥٦٥

فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)

____________________________________

من الأولى أن لا يخرج ، ولم يكن عصيانا ، كأكل آدم من الشجرة الذي كان ترك أولى ، وعلى أي حال فقد أرسل الله سبحانه يونس إلى قوم كان عددهم مائة ألف أو يزيدون ولبث فيهم أكثر من ثلاثين سنة ـ كما ورد ـ فلم يؤمن من القوم إلا نفران «روبيل» و «تنوخا» فخرج من القوم داعيا عليهم بالعذاب ، وكان ذلك جائزا في نفسه ، وإن كان الأولى بمقام النبوة أن يستأذن الله سبحانه لذلك ، فوصل إلى شاطئ البحر وركب سفينة كانت تريد الأبحار ـ وفي بعض التفاسير أنه عليه‌السلام أراد أن يذهب إلى قوم آخرين يدعوهم ـ ولما توسطت السفينة البحر ، جاء حوت فاتحا فاه ، بحيث لم تتمكن السفينة من المضي إلا بإطعامه ، فأقرعوا فيما بينهم من يطرحوه للحوت وخرج السهم باسم يونس ، فألقوه في فم الحوت فابتلعه ، لكن الله سبحانه حفظه عن أن يموت وهو قادر على كل شيء (١) (فَنادى) يونس (فِي الظُّلُماتِ) ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها عن القبيح ، وكأن الإتيان بالتسبيح في هذه المقامات دفعا لتوهم متوهم يظن أن العمل الصادر منه سبحانه ليس كما ينبغي (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) في خروجي من المدينة ودعائي على أهلها ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، وذلك يلائم التحريم ، وترك الأولى ، كما قال موسى عليه‌السلام (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١٢٦.

(٢) النمل : ٤٥.

٥٦٦

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا

____________________________________

وقوله سبحانه لآدم وحواء : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١).

[٨٩] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه ، فقد كان ذكره تعريضا بطلب خلاصه ، في أدب ولطف (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) الذي أخذ به ، بأن ألقاه الحوت إلى الشاطئ ، بعد أربعين يوما كان في بطنه (وَكَذلِكَ) أي كما أنجينا يونس (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الذين يدعوننا ويستغفرون لسالف ذنوبهم

[٩٠] (وَ) اذكر يا رسول الله (زَكَرِيَّا) النبي عليه‌السلام (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي حين دعا الله سبحانه أن يعطيه الولد ، حيث لم يكن له ولد يخلفه ، فقال يا (رَبِّ لا تَذَرْنِي) أي لا تدعني (فَرْداً) وحيدا بلا أولاد ، وبدون عقب (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وقد كان هذا تأدبا من زكريا عليه‌السلام فهو لا يطلب الولد لأنه غير معترف بأن وارثة الله خير وراثة ، كما يظن بعض الناس أنهم إذا ماتوا بلا عقب لا أحد في الكون يرعى شؤونهم الدنيوية أو الدينية وإنما يطلب بعد الاعتراف لما يعرف من جريان العادة الكونية على أن الولد والعقب هو السبب العادي الذي جعله الله سبحانه للخلافة والقيام مقام الآباء في إدارة شؤونهم.

[٩١] (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ليخلفه من بعده (وَأَصْلَحْنا

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

٥٦٧

لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)

____________________________________

لَهُ زَوْجَهُ) إذ كانت عقيمة لا تلد وكان الإتيان ب «وهبنا» قبل «أصلحنا» مع أنه بعده خارجا ، لبيان المبادرة في استجابة دعائه عليه‌السلام ، كأنه لا فصل بين الدعاء والهبة (إِنَّهُمْ) أي زكريا وزوجه ويحيى ـ كما هو ظاهر السياق ـ (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في الأعمال الخيرية ، مقابل الذين يتلكئون ويتباطئون في عمل الخير ، وهكذا دائما أهل الآخرة إنهم يبادرون في الطاعة ، بخلاف أهل الدنيا (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) راغبين في ثوابنا وخائفين من عقابنا ، وهكذا الإنسان الكامل ، إنه بين الخوف والرجاء (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) خاضعين متواضعين لا كأهل الدنيا الذين يطغون ويستعلون عن الأوامر والزواجر.

[٩٢] وبمناسبة ذكر «زكريا» ذكر السياق «مريم» الطاهرة القريبة له (وَ) اذكر يا رسول الله المرأة (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي حفظت نفسها عن الفساد ، وهذا لرد اليهود الذين قالوا فيهما شرا (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) النافخ كان جبرائيل لكنه حيث كان بأمر الله تعالى ، نسب النفخ إليه تعالى ، والروح أضيف إليه سبحانه تشريفا ، كإضافة البيت إليه ، وقد كان النفخ في جيب ثوبها ، وتكوّن من ذلك النفخ المسيح عليه‌السلام (وَجَعَلْناها) أي جعلنا مريم (وَابْنَها) المسيح (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي : دلالة على وجود الله وقدرته ، والمراد ب «آية» الجنس ،

٥٦٨

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا

____________________________________

فلا يقال : أنهما آيتان؟

[٩٣] وبعد استعراض أحوال بعض الأنبياء عليهم‌السلام مع أممهم ـ إجمالا ـ يأتي السياق ليدل على وحدة العقيدة ، ووحدة الأمة ، ووحدة الإله ، ووحدة رسالة الأنبياء عليهم‌السلام (إِنَّ هذِهِ) البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان (أُمَّتُكُمْ) أيها الأنبياء (أُمَّةً واحِدَةً) فلا أمم تحت لواء الأنبياء وإنما أمة واحدة ، ومن خالف وآمن ببعض وكفر ببعض أو قبل حكما وأعرض عن حكم فليس من الأمة ، وليس خاضعا حتى لتنبيه الذي يزعم أنه متبع له (وَأَنَا رَبُّكُمْ) رب واحد (فَاعْبُدُونِ) أي أطيعوني واتخذوني إلها دون غيري.

[٩٤] لكن المنحرفون لم يكونوا من أنفسهم أمة واحدة ، بل خالفوا وتفرقوا (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي فرقوا دينهم فيما بينهم ، فإن قطّع وتقطع بمعنى واحد ، وهل انتهى الأمر عند ذلك فلا حساب ولا جزاء لما اقترفوه من تقطيع الأمة الواحدة إلى ألوان وأشكال وأمم؟ كلا! (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) فنجازيهم بما فعلوا من التقطيع والتفرقة ، ومعنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى حسابه وجزائه ، تشبيه بمن يرجع إلى المحكمة بعد الذهاب عنها.

[٩٥] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) أي من هذه الجنس ، دون جنس السيئات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) صحيح العقيدة (فَلا

٥٦٩

كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)

____________________________________

كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) فلا يستر ما عمله ولا يبطل ، بل يشكر ويثاب عليه (وَإِنَّا لَهُ) أي لسعيه (كاتِبُونَ) والمعنى نأمر الملائكة أن يثبت سعيه لنجازيه عليه في الآخرة.

[٩٦] أما من كفر وعصى ، فأهلكناه في الدنيا بعذاب الاستئصال فلا يظن أحد أنه قد انتهى أمرهم ، وأنهم أهلكوا فلا حساب بعد ذلك (وَحَرامٌ) أي ممتنع ، في الحكمة (عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بذنوبها (أَنَّهُمْ) إلينا (لا يَرْجِعُونَ) فإن عذابهم في الدنيا لم يكن نهاية أمرهم ، بل يرجعون إلينا في الآخرة لنحاسبهم هناك على أعمالهم ونجزيهم بالنار ، ف «حرام» مبتدأ ، خبره «أنهم» أي ممتنع عدم رجوعهم ، وقد عرفت أن تخصيصهم بالذكر دون سائر العاصين ، لدفع التوهم المذكور.

[٩٧] إن الأمر يبقى على هذا المنوال ، مؤمن وكافر ، وموت وهلاك (حَتَّى) يوم القيامة فينقطع التكليف وتقوم الساعة للحساب والجزاء ، وقد ذكر الله سبحانه علامة لذلك بقوله : (إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي القبيلتان ، وفتحت باعتبار كسر سدهما الذي بناه ذو القرنين ، كما تقدم (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) أي مرتفع من الأرض كالجبال والآكام (يَنْسِلُونَ) يسرعون في السير نحو الصحاري والبلاد للفساد والدمار.

٥٧٠

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ

____________________________________

[٩٨] (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) أي الموعود الذي هو حق ، لا خلف ولا كذب فيه ، وهو يوم القيامة (فَإِذا هِيَ) الضمير للشأن والقصة ، يؤتى بها للتهيؤ ، وليستعد السامع لاستماع ما يأتي بعده (شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الشاخصة العين التي لا تطرف من شدة الهول ، ولا تسكن ، كالإنسان الشاخص الذي يسير بدون سكون وهدوء ، فإن الكفار في يوم القيامة تشخص أبصارهم من شدة الهول ، ينظرون هنا وهناك ليجدوا ملجأ أو شفيعا ينجيهم من الأهوال والكربات ، وقوله «فإذا» يتعلق ب «حتى» ومعنى «فإذا هي» أن القصة شخوص أبصار الكفار ، قائلين (يا وَيْلَنا) يا قوم ويلنا ، أي يا ويلنا أحضر فهذا وقتك ، والويل هو الهلاك والعذاب (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اليوم ، فقد كنا في الدنيا لا نأبه ولا نعتني بهذا اليوم وبما ينجي الإنسان من أهواله (بَلْ) لم تكن غفلة ، وإنما (كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث نعرض عن الإيمان والعمل الصالح.

[٩٩] وما مصيرهم هناك؟ (إِنَّكُمْ) أيها الكفار (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام التي تجعلونها آلهة تعبدونها (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي حطبها ووقودها ، والحصب كل حجر يرمى به ، ولذا قيل للأحجار الصغيرة حصباء ، و «ما» لما لا يعقل ، فلا يشمل من عبده الناس من الأنبياء

٥٧١

أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا

____________________________________

والأئمة والملائكة ، وإنما تكون الآلهة حصب جهنم مع أنها لا ذنب لها ، إهانة لعبادها وإذلالهم (أَنْتُمْ) أيها الكفار (لَها) أي لجهنم (وارِدُونَ) داخلون ، وذلك جزاؤكم.

[١٠٠] (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) الأصنام (آلِهَةً) كما تزعمون (ما وَرَدُوها) ما دخلوا النار ولامتنعوا منها (وَكُلٌ) من العابد والمعبود (فِيها) أي في جهنم (خالِدُونَ) باقون أبد الآبدين.

[١٠١] (لَهُمْ) أي للناس الذين خلدوا (فِيها) لكفرهم وعصيانهم (زَفِيرٌ) أي صوت كصوت الحمار وهو التنفس العالي المصاحب للألم والحزن (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) فهم صمّ ، مقابل ما كانوا في الدنيا يصمون عن الحق ، ويقولون للمرسلين : في آذاننا وقر.

[١٠٢] رأينا حال الكفار في النار ، فلننظر إلى المؤمنين في الجنة (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا) الكلمة (الْحُسْنى) بأن قلنا إن المؤمن لا يعاقب ، بل يثاب ، نفي لهم بما وعدناه (أُولئِكَ عَنْها) أي عن جهنم (مُبْعَدُونَ) يبعدهم الله سبحانه عنها ، حتى لا يرون منظر العذاب ، ولا يستمعون لزفيرها ، ولا يحسون بحرارتها.

[١٠٣] (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي صوتها الذي يحس به (وَهُمْ فِي مَا

٥٧٢

اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ

____________________________________

اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من الملذات والنعيم (خالِدُونَ) دائمون فلا زوال لهم عن الجنة ونعيمها ، في مقابل أهل النار الذين لا زوال لهم عن الجحيم والعذاب.

[١٠٤] (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي الخوف الأعظم ، وهو فزع يوم القيامة المتصل بالدخول في النار ، الباقي إلى الأبد (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تستقبلهم بالتهنئة والبشر ، قائلين لهم (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا ، فأبشروا بالأمن والفوز وما أحوج الإنسان هناك أن يتلقاه شخص يهديه السبيل ويرشده الطريق ، في يوم الأهوال والأحزان ، في ساحة يجتمع فيها الخلق كلهم ، في مدة تطول خمسين ألف سنة ، ووراءها إما عذاب دائم أو نعيم مقيم!.

[١٠٥] (يَوْمَ) منصوب على الظرفية ، أي أن ذلك النعيم ، وتلك الأهوال ، إنما هي في يوم (نَطْوِي السَّماءَ) فيه ، ومعنى طي السماء ، محوها ، وتبديلها دخانا (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل ما يسجل فيه ، وهو قد يكون سجلا للكتاب وقد يكون سجلا في قصاص ورق ، والسجل الذي يطوى هو سجل الكتاب ، وفي بعض الروايات ، أن السجل اسم ملك يطوي صحف أعمال بني آدم ، فالتشبيه إنما هو به ، وفي ذلك اليوم (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما تمكنا على الابتداء نتمكن

٥٧٣

وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)

____________________________________

على الإعادة أو في الشكل الذي خلقنا من كون الإنسان حاف عاري غير مختون كذلك تكون الإعادة ، فالمراد بأول خلق «الخلق أولا» على التقديرين ، لا أول الخلق ـ وهو آدم عليه‌السلام ـ كما هو ظاهر ، نعدكم ذلك (وَعْداً) مصدر تأكيدي (عَلَيْنا) إنجازه وإنفاذه (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) إنا فاعلون لهذا الوعد ، وكان لمجرد الربط ، لا بمعنى الماضي.

[١٠٦] وحيث رأينا إن العاقبة الحسنى في الآخرة لعباد الله الصالحين ، فلنرجع إلى الأرض لنرى إن الأرض لمن؟ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) إما المراد «زبور» داود والمراد بالذكر حينئذ «التوراة» لأنها كانت قبل الزبور ، وإما المراد بالزبور الصحف المنزلة على الأنبياء ، فإنها من زبر بمعنى كتب ، والمراد بالذكر ، التذكير بالمبدأ والمعاد والمعارف ، وعلى أي حال فالآية في صدد بيان أن سنة الله جرت على ذلك ، وقد كتبها في الكتب السابقة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فإن الأرض في آخر المطاف للصالحين ، وإن سبق تملكها الفاسدون ، وقد وردت أحاديث متواترة في تفسير الآية بالإمام الحجة المهدي عليه‌السلام ، وذلك من باب أظهر المصاديق فإنه عليه‌السلام يرث الأرض كلها وإن كان الأنبياء والأئمة والصالحون ورثوا الأرض قبل ، إلى هذا الحين ، فكلما قام باطل ، قام حقه في عقبه ليرث الأرض منه والسر واضح فإن غير الصالح لا يملك إلا شقا واحدا ، والحياة لا تسير بشق واحد ، أما الصالح الذي يجمع بين المادة والمعنى ، والإيمان والنشاط

٥٧٤

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)

____________________________________

فإنه أصلح من الفاسد ، ولذا تزحزح الحياة الفاسد ـ وإن طال أمده ـ لتخلف الصالح مكانه ، ليكون السير عدلا متوازنا.

[١٠٧] (إِنَّ فِي هذا) الذي أخبرتكم به من أن العاقبة في الدنيا والآخرة لعباد الله الصالحين (لَبَلاغاً) أي كفاية في البلوغ إلى القصد وهو الحق (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) لله مخلصين في عبادتهم ، وإنما خص هؤلاء ، لأنهم الذين ينتفعون بالبلاغ.

[١٠٨] وإنا لم نكن خصصنا أمة بالبلاغ وإنما البلاغ عام ، أما المنتفع به فهو من ألقى السمع وهو شهيد (وَما أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) نعمة عليهم جميعا ، أما المؤمن فواضح كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة بالنسبة إليه ، وأما الكافر ، فلأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظم سبل الحياة وأرشد إليها فاقتبس منه الكفار وما نرى اليوم من الحضارة والتمدن في العالم فليس إلا من هدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما نرى فيه من الانحراف والزيغ فذلك من تحريف مناهج الرسول ، فإن حضارة الشرق الروسي مأخوذة من حضارة الغرب ، وحضارة الغرب وليدة الحضارة الإسلامية ، حيث دخل العلم بلاد الغرب من بلاد الإسلام.

[١٠٩] وقد بين سبحانه علة كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة ، أنه يبشر بوحدة الإله ، فإن الإذعان بذلك رأس الفضائل ، وسبب أنواع الرحمة (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء القوم (إِنَّما يُوحى إِلَيَ) من عالم الغيب (أَنَّما إِلهُكُمْ) أيها البشر (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؟

٥٧٥

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)

____________________________________

استفهام تقريري ، أي مستسلمون منقادون لذلك ، فتتركوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له.

[١١٠] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) بأن أعرضوا ولم يقبلوا الإسلام (فَقُلْ) يا رسول الله (آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم بالتوحيد ـ وليس وظيفتي إلا الاعلام وقد فعلت ـ (عَلى سَواءٍ) بدون ترجيح ، فإن الإعلان عام للجميع ، وقد أديت ما علي ، وبقي ما عليكم ، فإن لم تؤمنوا كان مصيركم الهلاك ، أما وقت هلاككم ، فعلمه عند الله سبحانه (وَإِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب والنكال؟ فإن علم ذلك خاص به سبحانه.

[١١١] ولا يظنن أحد أن الله لا يعلم ما يعمل حتى يفكر الكفار ، بأنهم ينكرون ـ غدا ـ ما صدر منهم (إِنَّهُ) تعالى (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) أي الكلام الظاهر (وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي يعلم سركم ، كما يعلم جهركم ، وسوف يجازيكم على الجميع.

[١١٢] أما تأخير العذاب فلحكمة اقتضته (وَإِنْ أَدْرِي) ما أدري (لَعَلَّهُ) لعل تأخير العذاب (فِتْنَةٌ) وامتحان (لَكُمْ) حتى تظهر نوايا كل أحد جلية ، فإن الإنسان كلما بقي ظهرت نواياه أكثر فأكثر (وَمَتاعٌ) لأجل تمتعكم بمتاع الحياة (إِلى حِينٍ) أجلكم المقرر ، فليس الإنعام إكراما ،

٥٧٦

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)

____________________________________

بل استدراجا.

[١١٣] وأخيرا ، بعد إبلاغ الرسول ، وبقاء بعض الكفار في غيهم (قالَ) رسول الله ، يا (رَبِّ احْكُمْ) بيني وبين الكفار (بِالْحَقِ) وهذا لإظهار إن حكم الله حق فالقيد للتوضيح والتنبيه ، لا للاحتراز (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) الذي يرحمنا ويتفضل علينا جزاء ما تعبنا وأبلغنا ، فلم يذهب البلاغ والأتعاب سدى (الْمُسْتَعانُ) نستعين به على كيدكم وتكذيبكم (عَلى ما تَصِفُونَ) الرسول به من أنه كاذب ومفتر وساحر وشاعر ومجنون وما إلى ذلك ، فإنه تعالى لا يترك الرسول ، ليكيدوا له ما شاءوا ، بل يأخذ بيده ويعينه على أمره.

٥٧٧

(٢٢)

سورة الحج

مدنية / آياتها (٧٩)

سميت السورة بهذا الاسم ، لأن فيها أحكام «الحج» ولفظه وهذه السورة مدنية ، إلا آيات منها ، ولذا ذكر فيها التشريع الحكومي ، كما هو شأن غالب السور المدنية ، حيث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظم دنيا المسلمين ، إلى جنب دينهم ، ويبين لهم الدساتير والمناهج وحيث اختتمت سورة الأنبياء بالتوحيد والرسالة ، ابتدأت هذه السورة بذكر المعاد ، الذي هو ثالث الأصول الثلاثة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله في جميع الشؤون ، فالله مصدر كل خير ، فالاستعانة به في كل أمر من أمور الدين والدنيا ، والمال والجاه ، والسعادة والرفاه ، والأمن والسلام ، وغيرها ، وكأنه لذلك اختير لفظ «الله» لإضافة «الاسم» إليه ، وحيث إن النعم كلها تفضل خصص «الرحمن الرحيم» بإتيانهما وصفا له سبحانه ، دون سائر الصفات والنعوت.

٥٧٨

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢)

____________________________________

[٢] (يا أَيُّهَا النَّاسُ) المراد العقلاء منهم القابلون للخطاب (اتَّقُوا) خافوا (رَبَّكُمْ) فلا تخالفوا أوامره وزواجره (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي زلزلة الأرض حين قيام الساعة وهي يوم القيامة (شَيْءٌ عَظِيمٌ) هائل ، فإن من أشراط الساعة زلزلة مهولة تعم الأرض.

[٣] (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي ترون تلك الزلزلة ، أو تلك الساعة ، والعامل في يوم «تذهل» أي إن الذهول في يوم رؤيتكم للساعة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي تغفل الأمهات عن أولادها الرضع ، مع شدة العلاقة للأم بالنسبة إلى ولدها الرضيع (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) فإن الحبلى إذا اشتد عليها الفزع طرحت جنينها ، وهذا إما حقيقة ، فإن الساعة تقوم على الناس ، وفيهم الأمهات والحبالى ، أو كناية عن شدة الهول ، نحو «فلان كثير الرماد» أو «مهزول الفصيل» مما يراد معناه الكنائي لا اللفظي (وَتَرَى) أيها الرائي (النَّاسَ سُكارى) أي كالسكارى في الدهشة والذهول من كثرة الخوف ، فكما أن السكران لا يشعر كشعور الصاحي كذلك الناس في ذلك اليوم (وَما هُمْ بِسُكارى) من الشراب لم يشربوا الخمر ، وإنما شربوا الفزع والخوف (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ) وأهوال القيامة التي يرونها (شَدِيدٌ) ومن شدتها يصيبهم ما يصيبهم.

٥٧٩

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ

____________________________________

[٤] يا أيها الناس اتقوا ولا تجادلوا ، فإن وراءكم هذا اليوم الشديد (وَ) لكن مع ذلك (مِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يُجادِلُ) يخاصم ويناقش (فِي اللهِ) من وجوده ، في آياته ، في صفاته ، في سائر شؤونه (بِغَيْرِ) بدون (عِلْمٍ) ومعرفة (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي أنه مستعد للضلال ، فأي شيطان غاو مارد أخذ قياده بسلسلة له واتبعه ، ويا للسخف أن يترك الإنسان الإله ، ليتبع كل شيطان مريد؟.

[٥] (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي على الشيطان ، والمراد أن الشيطان هكذا (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي من اتبع الشيطان (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أن الشيطان يضل ذلك المتبع (وَيَهْدِيهِ) يوصله ذلك الشيطان (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) السعير اسم جهنم سميت به لأنها تسعر نارها ، والمعنى أنه كيف يتبع هذا المجادل الشيطان الذي يضله في الدنيا ، عن الطريق وبالآخرة يورده النار في الآخرة؟

[٦] ثم استدل سبحانه على من ينكر البعث (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك (مِنَ الْبَعْثِ) يوم القيامة ، الذي يبعث ويحيى فيه الأموات ، لاستغرابك أن يعود الإنسان حيا بعد ما مات وفنى؟ فاعتبروا بحالكم عند ابتداء الخلقة ، إذ إنا (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلقنا كل فرد منكم من الأرض ، إذ الإنسان تراب ثم نبات يأكله

٥٨٠