تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦)

____________________________________

محذوف ، أي لصدقتموني.

[٩٦] لكنهم لم ينفع معهم كلام يعقوب ، ورجائه أن لا يفندوا لرأيه ، بل (قالُوا) أي من حضر ممن كان في طرف خطابه عليه‌السلام (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ) أي اشتباهك وانحرافك عن الصواب في أمر يوسف (الْقَدِيمِ) فقد كنت من السابق تظن أنه لم يمت ، والحال أنه قد مات ، وذهب وأكله الذئب ، فلم يقل يعقوب شيئا حتى جاء يهودا ، ولده الأكبر الذي كان معه القميص.

[٩٧] (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) المبشر بيوسف (أَلْقاهُ) أي ألقى قميص يوسف عليه‌السلام (عَلى وَجْهِهِ) وجه يعقوب (فَارْتَدَّ) أي رجع كما كان (بَصِيراً) تقدم أنه من المحتمل إرادة ارتداد قوة نور البصر إليه ، بعد أن ضعف لكثرة البكاء ، فإن الإنسان إذا بكى كثيرا غشاه غبار يحول بينه وبين حدة الإبصار ف (قالَ) يعقوب عليه‌السلام لمن فند قوله ((إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أيها المفندون (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ) أي من طرفه سبحانه وبإلهامه إليّ (ما لا تَعْلَمُونَ) إذ قد وعدني بإرجاع يوسف إليّ.

[٩٨] وجاءوا إلى أبيهم يعقوب ليغفر لهم ذنبهم الذي اقترفوه وسببوا له تلك الأحزان واللواعج ، لكنهم لا يريدون أن يغفر لهم هو وحده ، بل يطلبون فوق ذلك أن يطلب من الله غفران ذنبهم ، فإن ذنبهم كان مزدوجا أمام الله ، وأمام أبيهم ـ بعد ما كان ذنبا بالنسبة إلى أخيهم

٤١

قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ

____________________________________

يوسف بالذات ـ (قالُوا) قالت الأخوة (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي كلفوه بالاستغفار لهم ، لأنهم كانوا يعلمون باستجابة دعائه فإن دعاء الوالدين في حق الولد مستجاب ، خصوصا مثل يعقوب النبي الجريح الفؤاد (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) في ما ارتكبناه من العمل.

[٩٩] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام في جوابهم (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) طلب غفرانه لكم ، ورد في الأحاديث أنه إنما أخر الاستغفار بغية أن يستغفر لهم وقت السحر ، لأنه أقرب إلى الإجابة ، (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْغَفُورُ) الذي يغفر الذنب ويمحيه (الرَّحِيمُ) الذي يرحم عباده ويتفصل عليهم ، روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن أولاد يعقوب قال : ما كان أولاد يعقوب أنبياء ، ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا وتذكروا ما صنعوا (١).

[١٠٠] ولما أن بشّر يعقوب وأهله بأن ولدهم يوسف أصبح ملك مصر ، بيده الأمر والنهي ، وإنه أرسل إليهم ، تجهزوا للرحيل بكل سرعة ، وجاءت القافلة وملؤها الفرح يحدوها السرور والرغبة حتى وصلت أرض مصر (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى) أي ضمّ ، من الإيواء بمعنى إعطاء المحل والمكان (إِلَيْهِ) أي إلى نفسه (أَبَوَيْهِ) يعقوب وراحيل ، وقد كان لقائهم خارج المدينة ، فقد استقبلهم يوسف عليه‌السلام ،

__________________

(١) راجع القصص للراوندي : ص ١٢٩.

٤٢

وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً

____________________________________

وهناك تلاقى معهم ورحب بهم ، وضم الأبوين إلى نفسه ـ ولعله بالمعانقة والتقبيل وما أشبه ـ كما هو المعتاد عند لقاء الأحبة ، وبالأخص العائلة (وَقالَ) لهم يوسف (ادْخُلُوا) مدينة (مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ) بمشيئته وإرادته (آمِنِينَ) في حال كونكم في أمن وأمان.

[١٠١] (وَرَفَعَ) يوسف (أَبَوَيْهِ) يعقوب وراحيل (عَلَى الْعَرْشِ) أي سرير المملكة إعظاما لهما ، وقد كان لا يجلس على السرير إلا الملك (وَخَرُّوا) أهل يوسف (لَهُ) ليوسف (سُجَّداً) جمع ساجد ، كما أن ركّع ، جمع راكع ، احتمل بعض العلماء أن السجود لغير الله سبحانه ـ بإذنه تعالى ـ كان جائزا في الأمم السابقة ، كما سجدت الملائكة لآدم ، وسجد أهل يوسف ليوسف ، حسب ما يظهر من القرآن الكريم ، وكم من حكم كان في الأمم السابقة جائزا ولم يجز في هذه الأمة ـ وذلك ليس خلافا للعقل ، فإنه كما يجوّز العقل التعظيم دون الركوع والسجود ، يجوز التعظيم إلى حدهما ، أقول : لكن في المقام نص خاص دل على السجود لم يكن لآدم وليوسف ، وإنما لله سبحانه ، وكأنهما عليه‌السلام كانا محل التوجه كما نسجد نحو الكعبة لله سبحانه ، وفي ذلك تعظيم ضمني لمن يسجد نحوه ، فقد سئل يحيى ابن أكتم موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضهما على أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام ، فكان إحداها أن قال : أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه‌السلام : أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية ليوسف ، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه‌السلام ، كان منهم

٤٣

وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ

____________________________________

طاعة لله وتحية لآدم ، فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى (١) ، لاجتماع شملهم ، ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت : رب قد آتيتني من الملك (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام (يا أَبَتِ) التاء عوض ياء المتكلم ، قال ابن مالك :

وفي الندا أبت عرض

قبل النداء ومن اليا التا عوض

(هذا) الذي تراه من سجودكم لي (تَأْوِيلُ رُءْيايَ) التي رأيتها وأنا عندكم ، وإن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدوا لي (مِنْ قَبْلُ) في زمان صغري (قَدْ جَعَلَها) أي جعل الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) أي صدقا مطابقا للواقع ، وآلت رؤياي إلى هذه النتيجة حيث صرت ملكا ، وسجد لي أبواي وإخواني الأحد عشر ، (وَقَدْ أَحْسَنَ) ربي (بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الذي ابتليت به سبع سنوات (وَ) إذ (جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية «ليجمع شملنا» فقد كانوا يسكنون البادية ، ويرعون أغنامهم فيها ، وفي سنة القحط قد هلكت أغنامهم ، وأحوجهم العوز إلى السفر إلى مصر ، حتى تم هذا اللقاء ، ولعله لم يذكر نعمة الله عليه في إخراجه من الجب ، لئلا يذكّر الأب بصنيع الأخوة به ، كرما منه وإحسانا ، فإن من الأخلاق أن ينسى الإنسان إساءة الغير إليه ،

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٥٦.

٤٤

مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً

____________________________________

وإحسانه إلى الغير (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أي أفسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) ، وكان الإفساد بإلقاء الحسد على قلب الأخوة ، حتى صنعوا ما صنعوا (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ) في تدبير عباده (لِما يَشاءُ) من الأمور ومعنى اللطيف أنه يفعل الأشياء الدقيقة النافعة ، مما لا يتمكن الإنسان عليها (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ الْعَلِيمُ) بالمصالح (الْحَكِيمُ) فيما يفعل ، والحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

روي أن يعقوب سأل يوسف عن ماذا صنع الأخوة به؟ فقال يوسف : يا أبة لا تسألني عن صنيع إخوتي بي ، وسل عن صنع الله بي.

[١٠٢] ثم يتوجه يوسف إلى الله سبحانه ، يشكره ما أنعم عليه ، ويعدد لطفه به ، ويسأله حسن الخاتمة ، قائلا يا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي بعض ملك الدنيا وسلطانها (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) تفسير المنامات ، بما تؤول إليه ، أنت ربي (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقها ومبدعها ، فلك الخلق ومنك الأمر والفضل (أَنْتَ) دون سواك (وَلِيِّي) الذي يتولى كل شؤوني ، كما تولى خلق السماوات والأرض (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) تتولى في الدنيا إصلاح حالي ، وفي الآخرة سعادتي ونجاتي (تَوَفَّنِي) يا رب ، أي خذ روحي ـ وقت موتي ـ (مُسْلِماً) لك في جميع

٤٥

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)

____________________________________

الأمور (وَأَلْحِقْنِي) إذا توفيتني (بِالصَّالِحِينَ) الذين هم الأنبياء والأئمة والشهداء ، ومن في زمرتهم ، وهنا تنتهي قصة يوسف عليه‌السلام ، وقد كان فيها من العبر والعظات الشيء الكثير ، وهي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة ونظافة ، ففيها التنبيه على الطهارة وعاقبتها ، واللوث وعاقبته ، وفي الأحاديث ، أن يعقوب عليه‌السلام مات ـ بعد لقاء طويل ، وربما بلغت السنوات ـ ودفنه يوسف عليه‌السلام في بيت المقدس ، ثم مات بعد زمان يوسف عليه‌السلام ، ودفن في شاطئ النيل في صندوق مرمر ، حتى حمله موسى عليه‌السلام ، وجاء به إلى الشام (١).

[١٠٣] ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة ، ليذكر ما ابتدأ به ، حيث قال سبحانه في أول السورة (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ، وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(ذلِكَ) الذي قصصنا عليك من تفاصيل قصة يوسف (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي الأخبار الغائبة عن الحواس (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا رسول الله ، فإن نشأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن بحيث يتطلع على هذه القصة بهذه التفاصيل حسب البيئة والاجتماع ، لو لا إخبار الله سبحانه له (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (لَدَيْهِمْ) أي حاضرا عند أولئك الذين كانوا أطراف القصة من أولاد يعقوب وزليخا والنسوة (إِذْ أَجْمَعُوا) إخوة يوسف (أَمْرَهُمْ) أي عزموا على أن يكيدوا يوسف ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يمكر بعضهم لإلقائه في الجب ،

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٤٥٩.

٤٦

وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها

____________________________________

وبيعه في العير ، وبعضهم لسوقه نحو الخطيئة ، وإلقائه في السجن ، إن كل ذلك أنا أخبرته بالوحي ، وإلا فكيف يمكن التحصيل عليها بدون أن يكون المخبر حاضرا ، وبدون أن يكون مجتمعة هو الذي أخبره به؟ ولكن الكفار يمعنون في التكذيب ، فلا تنفع معهم هذه القصص الغيبية لإثبات الرسالة ، وصدقك يا رسول الله.

[١٠٤] فإنه (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على هدايتهم (بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين لك في دعائهم إلى الإيمان ، ولو أقمت لهم الأدلة والشواهد.

[١٠٥] (وَ) الحال إنك (ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي الإيمان والاهتداء بك (مِنْ أَجْرٍ) ولو قليل ، فلما ذا لا يؤمنون ، هل لأنه كذب؟ فقد دلّت الأدلّة والحجج عليه ، أم لأنهم يفرون من إعطاء الأجر ، فإنك لا تسألهم أجرا (إِنْ هُوَ) أي ما هذا القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) جاء لتذكير الناس بالله والمعاد ، وسائر المعارف ، ووعظهم.

[١٠٦] وليس هذا فقط ذكرا ، بل هناك من الآيات الكونية كثرة هائلة ، لكنهم ذاهلون عنها غافلون عن دلالتها على المبدأ والمعاد ـ (وَكَأَيِّنْ) أي كم ـ وهي للتكثير هنا ـ (مِنْ آيَةٍ) دالة على الصانع (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الشمس والقمر والنجوم والسحاب ، وما إليها ، والإنسان والحيوان والنبات ، وسائر الموجودات (يَمُرُّونَ عَلَيْها) يشاهدونها

٤٧

وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)

____________________________________

ويبصرونها (وَهُمْ عَنْها) أي عن تلك الآيات (مُعْرِضُونَ) لا يتفكرون فيها ، ولا يعيرونها الاهتمام ، حتى تدلهم على خالقها ومبدعها.

[١٠٧] حتى أن المؤمنين لا يتخلصون عن الشرك كثيرا ما (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر المؤمنين منهم ـ وذلك يعرف من السياق ـ (بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فإن كثيرا من المؤمنين يجعلون غير الله مؤثرا في الأشياء ، وهنا هو الشرك ، إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه ، وما سواه أسباب جعلها تعالى ، وقد وقع الناس ـ كثيرا ـ بين الإفراط والتفريط ، فمن مفرط ظن أن الاستعانة بالطبيب والمهندس والقاضي وما أشبه شرك ، حتى أنهم منعوا أن يقول الناس «يا محمد» «يا علي» ومن مفرّط ظن أن الطبيب هو الشافي الحقيقي والمعطي له ما ليس هو الرزاق الحقيقي ، وكلاهما باطل ، فإن الإنسان إذا قال «يا محمد» وعلم أن محمدا ، إنما يفعل بأمر الله سبحانه ، كان ذلك من محض الإيمان ، كما أنه إذا ظن أن مثل هذه الاستعانة غير جائزة فهو جبري فاسد العقيدة ، أو ظن أن محمدا هو المستقل بالأمر ، بدون أن يكون لله مدخل أصلا فهو مفوّض منحرف الإيمان ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية ـ كما روي عنه ـ : هل الرجل يقول لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكا في ملكه ، يرزقه ويدفع عنه؟ قيل ، فيقول : لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت؟ قال : نعم لا بأس بهذا (١) ، أقول : وإنما

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٠٠.

٤٨

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)

____________________________________

ذكر الإمام ذلك من باب المثال ، وإلا فهذا الاعتقاد كاف لمن يقول «لو لا فلان لهلكت» وقد روي أن بعض الأئمة عليهم‌السلام بعد ما تناول الطعام ، قال : اللهم هذا منك ومن رسولك فقال رجل منحرف ـ معترضا على الإمام ـ لقد أشركت ، فقرأ له الإمام هذه الآية (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وهذه الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) (٢) فقال الرجل : كأني لم أمرّ بهذه الآية.

[١٠٨] ثم هدّد سبحانه المشركين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ، (أَفَأَمِنُوا) أي هل أمن هؤلاء الكفار (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم وتحيط بهم (مِنْ عَذابِ اللهِ) كالفقر والمرض والفوضى أو الآفات السماوية كالصاعقة أو الأرضية كالهدّة والخسف والزلزلة (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة أو الموت ، لأنه إذا مات ابن آدم ، فقد قامت قيامته ، والقبر إما حفرة من حفر النيران ، أو روضة من رياض الجنة (بَغْتَةً) بدون سابق إنذار ليأخذوا حذرهم من التوبة والإنابة والإيمان الصادق الذي لا يشوبه شرك ولو الخفي منه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيء العذاب أو الساعة.

[١٠٩] وإذ انحرف أكثر الناس كفرا ، وكثرة من المؤمنين شركا خفيا ، فالرسول لا يهمه كل ذلك ، بل هو جاد في طريقه ، يسير نحو هدفه ،

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) التوبة : ٥٩.

٤٩

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى

____________________________________

بلا كلل ولا ملل (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (هذِهِ) الطريقة التي ترونها في أقوالي ، وأفعالي (سَبِيلِي) طريقي في الحياة لا أحيد عنها (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) من أمري فلست مقلدا ولا مغفلا ولا غافلا (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أدعوكم أنا ، ويدعوكم من آمن بي (وَسُبْحانَ اللهِ) أي تنزيها له عن النقائص ، فليس كالالهة الحجرية والخشبية والمعدنية جاهلة لا تملك شيئا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله شركا خفيا أو جليا ، فمن شاء فليتبع طريقي ومن لم يشأ ، فهو وما اختار ،

[١١٠] ثم يلفت الله الكفار إلى حقيقة الرسالة وأحوال الغابرين ، الذين تركوا اتباع الرسل ، ليهزهم نحو الاتباع ، ويعظهم بما قد علموه من أحوال الماضين ، لعلهم يرتدعون عن غيهم (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (إِلَّا رِجالاً) من المرسلين كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) نلقي إليهم أوامرنا وإرشاداتنا (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فلم يكونوا ملائكة ولا جنّة ولا نساء ، وإنما رجال من أهل البلاد ، لا من أهل البادية ، ليكونوا ألطف معاشرة ، وأكرم أخلاقا ، وأحسن عشرة لغلبة الجفاء والخشونة على أهل البادية ، أو لأنه لو بعث في البادية من أهلها ، كان أهل المدن أبعد من الإيمان ، أو لأن البدوي لقلة علومه يتمكن أن يدعي النبوة له كل من كان منه أدق فطنة ، بخلاف أهل المدن ، فإنهم مستوعبون للعلوم ، فلا يتمكن أن

٥٠

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

____________________________________

يغشّهم فطن خال عن الاتصال بالسماء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار (فِي الْأَرْضِ) ليطلعوا على أحوال الماضين ، كيف أهلكوا لما خالفوا الرسل ، فإن العلم بأحوال الأمم المختلفة ماضيهم ، وحاضرهم لا يحصل غالبا إلا بالسفر والسير (فَيَنْظُرُوا) أي يعلموا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبين لرسلهم ، فإنهم قد أهلكوا بأنواع العذاب في الدنيا ، وأما الآخرة فإن لهم جهنم لا يموتون فيها ، ولا يحيون (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) معاصي الله سبحانه ، فهم في الدنيا نعموا ، والاخرة خير لهم ، روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لشبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها (١) ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تعملون عقولكم ، لتعرفوا مصير كلّ من الكافر والمؤمن ، في دنياه وآخرته؟

[١١١] إن الكفار دائما يغترون بما يرون من ظواهر اتباع الأنبياء في بدء الدعوة ، أنهم قلة لا حول لهم ولا طول ، ولكن لا يغر ذلك كفار قريش ، مما يرون بالرسول من الضعف في الاتباع والقلة في الأشياع ، فقد جرت عادة الله سبحانه أن يبدأ الإيمان بمثل ذلك ، حتى يكون أقوى أساسا وأشد مراسا ، وإلا فالنصر آت لا محالة وهكذا تستمر الحالة ، فالرسل في ضعف من الأتباع ، والكفار في قوة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ) أي يئس (الرُّسُلُ) من تلبية الناس واستجابتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٤٨.

٥١

قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ

____________________________________

قَدْ كُذِبُوا) بصورة عامة ، فلا مصدق لهم ، فإن كذب ـ مخففا ـ يأتي بمعنى كذّب ـ مشددا ـ كما قال سبحانه (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) وإنما جيء ب «ظنوا» لأن الرسل رجحوا ذلك ، ولم يتيقنوا ، وإنما رجّحوا لأنهم رأوا عدم التلبية من الناس مع طول المدة ، وتمام الحجج البينات (جاءَهُمْ) أي جاء إلى الرسل (نَصْرُنا) بإرسال العذاب على الكفار ، وتقوية أمر الرسل (فَنُجِّيَ) أي نخلص من العذاب (مَنْ نَشاءُ) وهم المؤمنون الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بانحراف العقيدة وارتكاب الآثام ، وهكذا أنت يا رسول الله مع هؤلاء القوم ، وهكذا كل داع إلى الصلاح ، قائم بواجب الإرشاد ، أما قتل الأنبياء عليهم‌السلام ـ قبل ذلك ـ كما كان ، فإنه لا ينافي ذلك ، فإن المراد بالنصر نصر المبادئ التي دعوا إليها ، وهو النصر حقيقة ، لا العزة والشوكة في الدنيا ، وعلى هذا فقوله سبحانه «وظنوا» لا يراد به الظن الظاهري ، الذي هو صفة قائمة بالنفس ، بل ذلك حكاية عن ظاهر الحال ، يعني أن المورد يكون مورد ظنّ بأن الرسل قد كذبهم الناس ، فلا مؤمن ولا مصدق.

[١١٢] وتأتي الخاتمة ، كما ابتدأت به السورة ، فهناك (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وهنا (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي قصص

__________________

(١) التوبة : ٩٠.

٥٢

عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)

____________________________________

الأنبياء عليهم‌السلام مع الأمم ، وقصة يوسف ـ بصورة خاصة ـ (عِبْرَةٌ) أي اعتبار لمن اعتبر ، وبصيرة عن الجهل (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول ، فإن اللب هو العقل (ما كانَ) الذي جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قصصهم (حَدِيثاً يُفْتَرى) قصة مختلقة مكذوبة (وَلكِنْ) كان ما جاء به (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي تصديقا للكتب ، والوقائع التي سبقت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) كان (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) ما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم ، وليس المراد بالتفصيل بيان الجزئيات ، بل تفصيل الخطوط العامة حول العقيدة والأحكام والآداب (وَهُدىً) أي هداية وإرشادا للناس (وَرَحْمَةً) تسبب رحم الناس ونجاتهم من كوارث الدنيا وعذاب الآخرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما خصهم لأنهم هم الذين ينتفعون به ، وإلا فقد جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما جاء به للبشر عامة.

٥٣

(١٣)

سورة الرعد

مكيّة / آياتها (٤٤)

سميت السورة ب «الرعد» لاشتمالها على هذه الكلمة ، وهي كسائر السور المكية على ما قال بعض المفسرون ـ تعالج شؤون التوحيد والبعث وما إليهما.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء بذكر اسم الله عزوجل ، للدلالة على تمام السورة السابقة ، والشروع في سورة جديدة ، وأيّ شيء أفضل من اسم الله حتى يبتدأ به؟ وذكر «الاسم» لأن الله لا يبتدأ به ، وإنما يبدأ باسمه ، أنه الله الرحمن الرحيم ، الذي أظهر صفاته الرحم والتفضل ، لا الانتقام والعقاب ، والقوة والعذاب.

٥٤

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ

____________________________________

[٢] (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) من جنس «الف ، لام ، ميم ، راء» آيات القرآن الحكيم ، فإن الآيات مركبة من هذه الحروف التي يتلفظ بها كل الناس ، ولكنهم هيهات أن يتمكن أفراد البشر أن يأتوا بحيوان واحد يركبونه من الأجزاء المذكورة فيصير حيوانا ، وعلى هذا ف «المر» مبتدأ ، وتلك آيات الكتاب ، خبره ، واسم الإشارة «تلك» إشارة إلى هذه الحروف وما أشبهها ، أو أن «المر» رمز بين الله وبين الرسول ، أو غير ذلك من الأقوال البالغة أربعة عشر قولا ، في فواتح السور ، وعلى هذا ف «تلك» مبتدأ ، خبره «آيات الكتاب» أي أن هذه التي بين يديك ، أيها القارئ هي آيات الكتاب ، وإنما جيء بلفظ البعيد ، إشارة إلى بعد الآيات مقاما ، وعلوها شأنا ، عن قرب الناس ، كما تقول : ذلك الفقيه يقول ، وليس بينك وبينه فاصل ، وإنما تأتي «بذلك» إشارة إلى رفعة الفقيه منزلة ، حتى كأنه بعيد عنك ، لا تناله أنت ـ كما ذكروا في علم البلاغة ـ (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي القرآن الذي أنزل (مِنْ رَبِّكَ) هو إليك (الْحَقُ) «خبر» لقوله و «الذي» فإنه مطابق للواقع لا انحراف فيه ولا زيغ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون ، مع أنهم يرون أن القرآن حق.

[٣] ثم يبدأ سبحانه بإله الكون ، وأنه هو الذي جعل الكون بما فيها من الآيات المدهشة ، ثم يأتي دور التعجب من الذين ينكرون البعث (اللهُ) هو (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) أي جعلها رفيعة ، وأيّا كانت السماوات ، سواء هي المدارات ، أم أجسام ضخام ، أم المراد جهة

٥٥

بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي

____________________________________

العلو وطبقات الجو ، فهي شيء رفيع يعرفه كل أحد ، فمن رفعها وجعلها ، أليس الله سبحانه؟ (بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عماد ، وهي الدعائم ، وهذا أغرب ، فقد نرى أن كل شيء رفيع لا بد له من عماد يستند إليه ، فكيف رفعت السماوات بغير عماد ، (تَرَوْنَها) ظاهرة لكم ، فإن كل ناظر يرى السماوات ـ بأي معنى كان ـ ، ثم أن هناك قولين : الأول أن «ترونها» جملة منفصلة. وعلى هذا يكون المعنى لا عمد للسماوات ، الثاني أن «ترونها» صفة ل «عمد» أي لا عمد مرئية لها ، والمفهوم منه أن لها عمد غير مرئية ، وعلى هذا فالمعنى أن للسماوات عمد ، ولا تنافي بين القولين ، فإن السماوات لا عماد لها خارجا ، ولها عماد ـ من قدرة الله سبحانه ـ لا يرى ذلك العماد (ثُمَ) بعد رفع السماوات بغير عمد (اسْتَوى) الله سبحانه ، أي استولى وسيطر (عَلَى الْعَرْشِ) أي على كرسي الملك ، وذلك شيء مهول لا يرى ، كما أن السماوات شيء عظيم يرى ، يعني أنه سبحانه بعد ما خلق السماوات ، استولى على أزمة الأمور ، يقال : استوى الملك على عرش المملكة ، يراد أنه أخذ بيده أزمة الحكم وسيطر وتسلط عليه لا يزحزحه مزحزح لا أنه جلس على كرسي خارجي ـ فهو معنى كنائي ـ وعلى هذا فالإتيان ب «ثم» مع أنه سبحانه لم يزل كذلك ، من باب أنه سبحانه بعد إيجاد الكون سيطر عليه ، أما قبله ، فلا سيطرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع ـ وهذا الذي ذكرناه في تفسير (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أحد المعاني المحتملة في الآية ـ (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذلّلهما لمنافع خلقه ، وجعلهما يطيعانه ، كما يريد (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) ويسير في

٥٦

لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ

____________________________________

دؤوب واستمرار (لِأَجَلٍ) أي وقت (مُسَمًّى) سمي عنده سبحانه ، فوقت وقوفها عن الحركة ، وانتهاء أمر سيرهما ، معلوم عنده سبحانه مسمّى في لوحه المحفوظ ، وإنما أتى باللام ، ولم يقل «إلى أجل» لإفادة أن السير إنما هو لإدراك تلك الغاية ، فكأنهما يسيران ليأتيا بيوم القيامة ، حيث الشمس تكور ، والنجوم تنكدر والقمر ينخسف .. أنه سبحانه خلق هذه الأشياء وهو (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فيها وفي غيرها على وجه الصلاح والحكمة ، فمنه الخلق ومنه الأمر ، مقابل السلاطين الذين لهم الأمر فقط ـ في الجملة ـ فهو تعالى هو الخالق المطلق ، والآمر المطلق وهو سبحانه (يُفَصِّلُ الْآياتِ) بينهما تفصيلا آية فآية ، لأجل الإرشاد ، فهو الخالق الآمر المرشد ، وإنما يفصل الآيات (لَعَلَّكُمْ) أيها البشر (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ) عند الجزاء والحساب ، والمراد لقاء موعده ، لا لقاء ذاته فإنه منزه من أن يرى (تُوقِنُونَ) فلا تنكرون البعث والنشور والكتاب والحساب.

[٤] وإذ صورت الآية السابقة خلق السماوات ، فلننظر إلى خلق الأرض (وَهُوَ) سبحانه (الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي بسطها طولا وعرضا ، لتصلح مكانا للإنسان والحيوان ، ومحلا للنبات والأشجار ، ولفظة «مدّ» أكثر دلالة على القدرة من لفظ «خلق» لأن «مدّ» يشمل الخلق وأكثر (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جمع راسية ، وهي الجبل ، لأنها ترسو في الأرض ، كما ترسو السفينة في الماء ، وحكمة خلق الجبال أنها تمسك الأرض عن التفتت والاضطراب ، كما أن المسامير تمسك المصنوعات

٥٧

وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ

____________________________________

الخشبية عن التفتت والتفرق (وَ) شق فيها (أَنْهاراً) لتجري فيها المياه ، ولولاها لضاعت المياه ، ولم يمكن الاستفادة الصحيحة منها (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) أي في الأرض (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى ، فإن «زوج» يطلق على كل فرد من فردي «الزوجين» ولذا جيء له التأكيد ب «اثنين» حتى لا يتوهم أنه تثنية «زوج» الذي يراد به «اثنان» وقد ثبت في العلم ، أن كل صنف من أصناف النباتات يشتمل على ذكر وأنثى ـ وهذه إحدى معاجز القرآن الكثيرة ـ ، وفي الأرض (يُغْشِي) أي يستر (اللَّيْلَ النَّهارَ) بقدرته ، والليل والنهار مفعولان ل «يغشي» ، وفاعله الضمير العائد إليه تعالى ، أي يأتي سبحانه بالليل ليستر النهار ، فكأنه ساتر له عن الأبصار ، وهذا من باب التشبيه ، وإلا فالنهار يذهب إذا جاء الليل ، وإنما لم يعكس ، كأن يقول «يذهب الليل بالنهار» لأن الليل فيه الراحة والهدوء ، ولأنه الأصل ، إذ الظلمة سابقة على الضياء ـ فقد قالوا أن بينهما تقابل العدم والملكة ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والجبال والأنهار ، والزوج والزوج من النبات ، والليل والنهار ـ من الأمور البديعة المتقابلة ـ (لَآياتٍ) دلالات واضحات ، وحجج ظاهرة على وجود الله سبحانه وعلمه وقدرته ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذه الموجودات ، فيدركون ، أن لها صانعا قديرا عليما.

[٥] ثم ننظر إلى تفاصيل أدق من تلك الخطوط العريضة في الأرض ، لنرى آثار القدرة في الجزئيات ، كما رأيناها في الكليات (وَفِي الْأَرْضِ

٥٨

قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ

____________________________________

قِطَعٌ) جمع قطع (مُتَجاوِراتٌ) فهي مختلفة مع أنها متجاورة بعضها في جوار بعض ، فمن فصّلها مع جوار بعضها البعض؟ جبل ووهدة صلبة ورخوة ، طيبة وسبخة ، رفيعة ومنخفضة ، إلى غير ذلك (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين ، جمع جنة ، وإنما سمي البستان بها ، لأن الأشجار تجني الأرض وتسترها (مِنْ أَعْنابٍ) تتسلق على الجدران والأخشاب ، وما أشبههما (وَزَرْعٌ) من بقول وأزهار يرتفع قليلا (وَنَخِيلٌ) يرتفع في الجو ، بلا استناد على شيء ، ولا تخرج النباتات عن هذه الأمثال الثلاثة ، أما رفيعة ـ كالنخل ـ أو لا ـ كالزرع ـ وإما مستقلة ، أو غير مستقلة ـ كالعنب ـ (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) جمع صنو وهو المثل ، أي بعض هذه الأشياء متشابهة ، فنخل يشبه نخلا ، وزرع يشبه زرعا ، وعنب يماثل عنبا ، وبعضها غير متشابهة ، فنخل يعطي البربن ، وآخر يعطي الزهدي ، وعنب أبيض وعنب أسود ، وزهر عطر وآخر قليل الرائحة ، وهكذا ، والمدهش حقا أن كل ذلك (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) وينبت في أرض واحدة ، والضياء والتربية ، وكل ذلك غير مختلف ، ومع ذلك لكل لون ، ورائحة وطعم ، وخاصية ، وشكل ، وحجم ، ووزن ، إلى غيرها ، فشكل هذا مدور ، وذاك مربع ، وحجم هذا كبير وذاك صغير ـ ولو كان كلاهما مدورا مثلا ـ ووزن هذا أوقية ، وذاك أوقيتان ـ وإن كان كلاهما في شكل وحجم واحد ـ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي نفضل نحن ـ والمراد بالفاعل هو الله

٥٩

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ

____________________________________

سبحانه ـ بعض تلك الثمار على بعضها الآخر في الطعم ، فهذا حلو قليل الحلاوة ، وذلك حلو كثير الحلاوة ، كما أن الثالث مرّ ، والرابع مالح وإن لم تختلف الأشكال ، كما نرى في اللوز الحلو والمر ، وما أشبه و «الأكل» هو الثمر الذي يؤكل ، أي أنها مختلفة في الثمار ، مع أن الماء واحد .. إلى آخره ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي عرضناه من الأرضين المختلفة ، والثمار المتفاصلة (لَآياتٍ) حجج وبراهين دالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتبعون عقولهم ، بعد أن يعملوها لإدراك الحقائق والتوصل من الأثر إلى المؤثر.

[٦] إن كل ذلك لا يكفي هؤلاء للإذعان بالله سبحانه وبما أخبر به من الحساب والجزاء ـ وحيث كان ما تقدم تكلمنا حول المبدأ ، يأتي دور التكلم حول المعاد ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا رسول الله من شيء (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فالحقيق بالعجب قول المنكرين للبعث ، أو المراد ، وإن تعجب من إنكارهم البعث فحقيق عجبك ، إذ هو في محله ، وما هو قولهم الحقيق بالتعجب؟ (أَإِذا) متنا و (كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؟! نخلق من جديد بشرا سويا لنحاسب ونجازى ، إن ذلك لا يكون ، وهل هذا القول ، إلا من أغرب الأمور ، فإن الله الذي خلق السماوات والأرض ، وتلك الأشياء الهائلة ، التي سبق ذكرها ، بدون سابق كونها ، بل أخرجها من كتم العدم ، ليس قادرا على إعادة هؤلاء إلى الحياة ، (أُولئِكَ) المنكرون للبعث هم (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وإن

٦٠