تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)

____________________________________

مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (١).

[٧٨] وقد كان هذا دأب الكافرين ، وحالتهم المستمرة (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) بأن لا يكون بعده موضع رجوع وتوبة ، سواء كان بالموت أو بالإهلاك أو في الآخرة ، وفي رواية أنه في الرجعة ، وهو أيضا مصداق لذلك (إِذا هُمْ فِيهِ) أي في ذلك العذاب (مُبْلِسُونَ) من أبلس بمعنى تحير ويأس فإنهم سادرون في الكفر والغي ، حتى يصلوا إلى ذلك العذاب ، حيث لا مرجع ولا توبة ، بل يأس من الخلاص وإبلاس.

[٧٩] ثم أخذ السياق يوقظ وجدان هؤلاء بالنعم الكثيرة التي تدل على وجود منعهما وعلمه وقدرته وفضله (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي أَنْشَأَ) وخلق (لَكُمُ) أيها البشر (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد ، وهو القلب ، والاختلاف في السمع بالإفراد ، وفي الأبصار والأفئدة بالجمع ، لتفنن بلاغي (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) «قليلا» منصوب ب «تشكرون» أي تشكرون الله سبحانه قليلا ، و «ما» زائدة للتقليل.

[٨٠] (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم وأوجدكم (فِي الْأَرْضِ) فمن غيره خلقكم أيها البشر؟ (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الحشر ، هو الجمع ، أي تجمعون بعد الموت للحساب والجزاء ، وكما قدر على

__________________

(١) المعارج : ٢٠ ـ ٢٢.

٦٦١

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)

____________________________________

الابتداء بأن «ذرأكم» يقدر على الإعادة.

[٨١] (وَهُوَ) الله الواحد (الَّذِي يُحْيِي) الأموات كما أحيى التراب فجعله إنسانا وحيوانا (وَيُمِيتُ) الأحياء كما نرى كل يوم ، ومن زعم انه قادر على الإماتة فقد أخطأ ، فإنه قادر على إيجاد بعض الأسباب أما الإماتة فإنها من الله سبحانه ، كما أن من زعم أنه قادر على الإحياء ـ بإلقاء الماء العفن في مكان حتى يولد البعوض ـ فقد أخطأ (وَلَهُ) أي بخلقه وتقديره (اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي مجيء أحدهما خلفة للآخر ، يقال اختلفا ، إذا جاء أحدهما خلف الآخر ، كما قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (١) (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ أي تعملون عقولكم وتتفكرون في هذه النعم الباهرة ، إنها لا بد لها من إله قادر عالم متفضل حكيم.

[٨٢] إن الكفار أعرضوا عن كل هذه الآيات وجميع هذه النعم (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) المنكرون للمبدأ والمعاد.

[٨٣] وماذا قال الأولون واتبعهم هؤلاء في تلك المقالة؟ (قالُوا أَإِذا مِتْنا) بكسر الميم من «مات» «يميت» على وزن «باع يبيع» (وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي كانت أبداننا ترابا ، وبقيت عظامنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) نحيى للحساب؟

__________________

(١) الفرقان : ٦٣.

٦٦٢

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥)

____________________________________

[٨٤] (لَقَدْ وُعِدْنا) بهذا البعث ، وعدونا الأنبياء عليهم‌السلام (نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل وعدك لنا ، وعد الأنبياء عليهم‌السلام آباءنا (إِنْ هذا) أي ما هذا الوعد بالبعث (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأسطورة هي القصة التي لا حقيقة لها ، يعني إن هذه الإخبارات حول المعاد ، ليست إلا أكاذيب لفقها الأولون ، واتخذتها أنت يا محمد.

[٨٥] (قُلْ) يا رسول الله في جواب هؤلاء الذين يستبعدون الحشر والحساب ، ويجعلون لله شركاء ، فلقد كانوا مضطربي العقيدة ، فقسم منهم يعترف بالله ومع ذلك يتخذ الأصنام ، ولذا أراد القرآن أن يستدرجهم ليعترفوا بما هو مسلم فيردهم بذلك عن غيهم ، ولذا أخذ يسألهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها)؟ فمن خلقها ومن مالكها ، وكذلك من خلق ما في الأرض ومن مالكها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أجيبوني عن هذا السؤال.

[٨٦] (سَيَقُولُونَ) في الجواب ، إن الأرض ومن فيها (لِلَّهِ) وحده ، ولعل الإتيان ب «السين» إفادة لتفكرهم مقدارا قليلا حتى يقولوا هذا الجواب (قُلْ) يا رسول الله لهم حين اعترفوا بأنها لله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) بعد ذلك أن ليس للأصنام نصيب في الخلق ، فلما ذا تتخذونها آلهة ، وإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة ، فكيف لا تعترفون بالمعاد.

[٨٧] وإذ أجابوا حول الأرض القريبة منهم ، فليتوجه السؤال إلى السماء

٦٦٣

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)

____________________________________

(قُلْ) يا رسول الله لهم (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ)؟ وكأنهم كانوا يعترفون بأن السماوات سبعة (وَ) من (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)؟ فقد كانوا يقولون أيضا بوجود العرش ، لما ترسخ في أذهانهم من آثار علم الأنبياء السابقين.

[٨٨] (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) كل ذلك (قُلْ) يا رسول الله لهم حينما أجابوا (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون من هذا الإله الذي يملك كل شيء أن يعمكم بعذاب إن خالفتم أمره واتخذتم معه شركاء ، وأنكرتم البعث والحساب؟.

[٨٩] (قُلْ) يا رسول الله لهم (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) الملكوت مبالغة في الملك ، كالجبروت مبالغة في الجبر ، والمراد بملكوت كل شيء ملكه وجميع شؤونه ، فإن هذه الشؤون التي تتغير في هذا العالم لا بد وأن يكون لها مالك ومتصرف (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يغيث من يشاء ، ويحفظه من أن يصل إليه سوء ، يقال : أجاره ، إذا آمنه من المكروه المتوجه إليه (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي لا يحفظه أحد من السوء إذا أراد بشخص سوءا ، فلو أراد ـ مثلا ـ زيد بمحمد سوءا ، أجاره الله من زيد ، أما لو أراد الله برجل سوءا ، فلا شخص يحفظ ذلك الرجل من عقوبة الله سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك ، فأجيبوني؟

٦٦٤

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ

____________________________________

[٩٠] (سَيَقُولُونَ) في الجواب (لِلَّهِ) أي أن ملكوت كل شيء والإجارة والبطش الشديد الذي لا يجار منه ، كلها لله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهم حين أجابوا بذلك (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي كيف يخيل إليكم الحق باطلا ، والصحيح فاسدا ، إنكم بعد هذه الاعترافات كيف تجعلون لله شركاء وتنكرون قدرته على البعث والإحياء ، مخدوعين بالتقاليد ، كالإنسان المسحور الذي يخيل إليه الباطل ويعرض عن الحق.

[٩١] (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) أي جئنا إليهم ما هو حق وواقع من التوحيد والبعث ، ولم نأتهم بالكذب (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في مقالهم ، وهذا مقابل قولهم : إن الرسول كاذب ، أو «أنهم» عطف على «بالحق» أي أتيناهم وبينا لهم «أنهم لكاذبون» لكنهم يصرون على كذبهم.

[٩٢] (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) كما يزعم النصارى إن المسيح ابن الله ، ويزعم اليهود إن عزير ابن الله ، ويزعم المشركون إن الملائكة بنات الله ، و «من» لتقوية تعميم النفي ، فلو كان المراد «التبني» كان المعنى إنه خلاف الواقع ، ولو كان المراد «للولادة» كان المعنى إنه مستحيل (وَما كانَ مَعَهُ) أي مع الله سبحانه (مِنْ إِلهٍ) شريكا له (إِذاً) أي إذا كان معه إله آخر (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) أي ميز كل إله ما خلقه عما خلق الإله الآخر حتى يستقل بهم ، ويمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليهم ، وهذا كما يقال «ذهب كل رئيس مع أتباعه» وذلك

٦٦٥

وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ

____________________________________

تشبيه بالذهاب في الأرض الموجب لتمييز الفرق بعضها من بعض (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي طلب بعض الآلهة قهر بعض والغلبة عليه ، ليستقلّ هو بالملك ، كما يفعل الملوك في الدنيا ، لا يقال أن حكمتهم مانعة عن ذلك؟ لأنا نقول تعدد الإله موجب لإمكان الآلهة ، والإمكان يلازم صفات الممكن التي منها حب الاستعلاء والغلبة بتوابعه ، وقد سبقت الإشارة إلى دليل التمانع في بعض السور المتقدمة (سُبْحانَ اللهِ) أي أنزه الله تنزيها (عَمَّا يَصِفُونَ) الإله به ، من قولهم «له ولد» و «له شريك» فإن هذا توصيف لله تعالى بالولادة والتبني وبالشريك.

[٩٣] إنه سبحانه (عالِمِ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) أي ما حضر لدى الحواس ، بأن كان مرئيا أو مسموعا ، أو ما أشبه ، فهو وحده عالم كل غيب وشهادة ، ولو كان معه إله آخر لعلم ذاك ، كما يعلم هذا (فَتَعالى) أي ارتفع ـ وليس في الفعل معنى الزمان ، كما هو كذلك في كل فعل يجري عليه فيما كان من صفات الذات ، نحو «علم» و «قدر» وما أشبههما ـ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الشيء الذي يشركون الإله به ، أو تعالى عن شركهم ، فهو أعلى مما يزعم شريكا له.

[٩٤] وحيث لم ينفع في القوم الدليل ، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مرشدا له ، أن يدعو الله سبحانه أن لا يشمله العذاب الذي يأخذ القوم ـ إن قدر لهم عذاب ـ بسبب كفرهم وإصرارهم في العناد (قُلْ)

٦٦٦

رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ

____________________________________

يا رسول الله يا (رَبِّ إِمَّا) أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة التي جيء بها للتقليل (تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي إن أريتني ما يوعد هؤلاء الكفار من العذاب والنقمة.

[٩٥] يا (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بل أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم ، لئلا يصيبني ما يصيبهم ، وهذا الدعاء في مورده ، إذ من الممكن أن تعم الكارثة الصالحين ، ليكون زيادة لأجرهم ورفعة لدرجتهم ، وفي الآية تعريض بالكفار بأنهم حيث أصروا على العصيان والطغيان ، صاروا معرضا لعقوبة الله وعذابه.

[٩٦] (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ) يا رسول الله (ما نَعِدُهُمْ) أي ما نعد الكفار من العذاب والنكال (لَقادِرُونَ) وإنما نمهلهم استدراجا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

[٩٧] وإذا كان الكفار يصرون في العناد ، ويتصدون للنبي والمؤمنين بالإيذاء ، أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يداريهم ، فإن ذلك أكثر نجاحا للدعوة ، وخير لتخفيف الأذى ، فإن الظالم لا يجد عذرا في إدامة ظلمه لو رأى من الطرف اللين (ادْفَعْ) يا رسول الله بالطريقة التي (هِيَ أَحْسَنُ) الطرق (السَّيِّئَةَ) التي يواجهونك بها ، وذلك بالإغضاء والعفو ، وقد يقال : إن الأحسن هو أن يفعل ما يقتضي الحال من العفو

__________________

(١) الأنفال : ٣٤.

٦٦٧

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ

____________________________________

أو النكال ، فإن الأحسن بالنسبة إلى بعض العفو ، وبالنسبة إلى آخرين الأخذ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) الله والرسول والرسالة والقرآن والمعاد به فهم تحت علمنا وسنجازيهم على ما يصفون ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهديد لهم ، فإن معنى قول الملك «أنا أعلم ما يفعله المجرم» إنه سيجازيهم بفعله السيئ.

[٩٨] إنهم إنما يصفون ما يصفون من إلقاءات الشياطين ووساوسهم ، فمن الجدير بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإن كان معصوما في ذاته ـ أن يستعيذ بالله من الشيطان كي لا يهمزه ، بل لا يحضر عنده مجرد حضور ، فإن حضور الشيطان مكروه لذاته ، فإنه يهمز الكفار ، ويلقي عليهم الكفر مستمرا ، حتى أن يأتيهم الموت (وَ) هناك يقولون (رَبِّ ارْجِعُونِ) بلا جدوى ف (قُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) أي أعتصم وألوذ (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) حتى لا يتمكن الشيطان من همزي ، والهمز شدة الدفع ، فإن الشيطان يدفع الإنسان دفعا قويا نحو الكفر والمعاصي ، ولذا يجد العاصي من نفسه اندفاعا شديدا نحو العصيان.

[٩٩] (وَأَعُوذُ بِكَ) يا (رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يحضرون عندي ، فإن حضور الشيطان مكروه ، لما له من الشقوة والبعد من الرحمة وإن لم يهمز ولم يوسوس.

[١٠٠] لكن الشيطان يحضر الكفار والعصاة ، ويدفعهم (حَتَّى إِذا جاءَ

٦٦٨

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)

____________________________________

أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) «الموت» فاعل «جاء» (قالَ) ذلك الكافر والعاصي ـ الذي عبر عنه ب «أحدهم» ـ وقوله هذا إنما يكون إذا أشرف على الموت ورأى آثاره ، يا (رَبِّ ارْجِعُونِ) والإتيان بالجمع على العادة في التأدب عند مخاطبة الكبراء.

[١٠١] (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي في تركتي بأن أودي حق الله أو في ما تركت من الدنيا ، بأن أعمل حسب أوامر الله ، ولفظة «ارجعون» و «تركت» باعتبار إشرافه على الآخرة ، وإلا فهو بعد في الدنيا ، وإنما يرى الملائكة ، وهو أخذ في مقدمات العز ، أو أن ذلك القول بعد قبض روحه ، ومعنى «جاء» أنه مات ، والجواب لهذا الطلب (كَلَّا) لا رجوع إلى الدنيا (إِنَّها) أي مسألة الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لا فائدة فيها ، ولا أثر يترتب عليها ، أو المراد أنه وعد كاذب ، إذ (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) (وَمِنْ وَرائِهِمْ) وإنما جيء بهذا التعبير ، لأن وجهه إلى الدنيا ، فكأن ما يأتي خلفه ووراءه (بَرْزَخٌ) وهو العالم المتوسط بين هذا العالم وعالم الآخرة ، والبرزخ ـ لغة ـ بمعنى الحاجز بين شيئين (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فهم في العذاب والنكال هناك ، وكان الإتيان بهذا ، لئلا يظن ظان ، أنهم معدومون ، حتى يبعثوا ، فليس لهم تعب وعذاب في هذه القطعة ، فإن

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

٦٦٩

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)

____________________________________

قبر الكافر حفرة من حفر النيران.

[١٠٢] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) «الصور» هو البوق الذي ينفخ فيه ميكائيل معلنا قيام الساعة (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي يوم النفخ ، والأنساب جمع نسب ، وهو صلة الإنسان مع غيره بالأبوة والنبوة ، وما أشبههما ، والمراد أن الأنساب لا تنفع هناك للنجاة من العذاب ، فنفي الحقيقة باعتبار نفي الصفة نحو «يا أشباه الرجال ، ولا رجال» (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن شيء ، فقد ساد الموقف سكون الخوف ، وسكوت الخشية حتى لا يتجرأ أحد على الكلام ، وحيث إن مواقف القيامة كثيرة ، لم يكن تناف بين السكوت وعدم التساؤل في موقف ، وبين التكلم والتساؤل في موقف آخر.

[١٠٣] (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) «موازين» جمع «ميزان» والمراد ، ثقل الميزان بالطاعات ، ولعل الإتيان بالجمع ، لأن لكل عمل ميزانا ، فللصلاة ميزان ، وللزكاة ميزان ، وهكذا (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[١٠٤] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن ارتفعت كفة الصالحات ، وثقلت كفة السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فكأنهم باعوا نفوسهم بالمعاصي ، فذهبت نفوسهم من أيديهم ، فهم في تعب ، و (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)

٦٧٠

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا

____________________________________

باقون أبد الآبدين ، في مقابل المؤمنين الذين أعطوا الطاعة ، وأخذوا النفوس ، فربحوا نفوسهم ، فهم في نعيم مقيم.

[١٠٥] (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ) أي وجوه الخاسرين (النَّارُ) فاعل تلفح ، واللفح ضرب السموم للوجه ، أي يصيب وجوههم لفح النار ولهيبها (وَهُمْ فِيها) أي في النار (كالِحُونَ) من كلح ، والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان ، حتى تبدو كالرأس المشوية.

[١٠٦] وهناك يشتمون ليزداد عذابهم الروحي على عذابهم الجسمي ، فيقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي) وأدلتي (تُتْلى عَلَيْكُمْ) وتقرأ عندكم ، والاستفهام تقريري توبيخي (فَكُنْتُمْ بِها) أي بالآيات (تُكَذِّبُونَ) فذوقوا جزاء تكذيبكم.

[١٠٧] (قالُوا) في الجواب ، يا (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) فقادتنا أنفسنا الأمارة إلى هذا الشقاء (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) عن الطريق ، يقولون هذا حيث لا مجال هناك إلا للاعتراف ، يريدون بذلك الاسترحام.

[١٠٨] يا (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) من النار (فَإِنْ عُدْنا) إلى الكفر والتكذيب والعصيان (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا بعد ذلك ، ولا حجة لنا أبدا ، وهم يظنون بذلك أنهم يغرون الله سبحانه.

[١٠٩] (قالَ) الله سبحانه ، أو المالك للنار ، وهو الملك بها (اخْسَؤُا

٦٧١

فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا

____________________________________

فِيها) أي في النار ، أي ابعدوا بعد الكلب ، فإن هذه اللفظة لزجر الكلاب ، وإنما يقال لهم للإهانة والإذلال (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تكلمونني ، فأنتم لا تستحقون الخطاب والمكالمة ، ألم تكونوا تستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؟ فهذا جزاءكم في الآخرة.

[١١٠] ألا تذكرون (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ) أي جماعة (مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ) في الدنيا يا (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي كانوا يدعون بهذا الدعاء ، بعد أن آمنوا بالله سبحانه ، وعملوا الصالحات ، والفريق هم الأنبياء والأئمة والمؤمنون.

[١١١] (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي كنتم تسخرون وتستهزئون منهم ، منسوب إلى السخرة ، وهو من يسخر به ، وكأن النسبة لزيادة الاستهزاء ، فإن السخرة يهزأ به ، فكيف بمن ينتسب إليه؟ (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) أولئك الفريق (ذِكْرِي) فإن الإنسان إذا اشتغل بالسخرة نسي الذكر وأعرض عنه ، وإنما نسب النسيان إليهم لأنهم السبب في التمسخر الموجب لنسيان الذكر (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ) أي من أولئك الفريق (تَضْحَكُونَ) ومعنى «منهم» من أعمالهم وأقوالهم.

[١١٢] (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) أي أعطيت جزاء أولئك الفريق المؤمنين (الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم في الدنيا على التكاليف ، وعلى تحمل

٦٧٢

أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)

____________________________________

سخريتكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بما أرادوا ، فجزاؤكم النار ، وجزاؤهم الفوز والجنة.

[١١٣] ثم يتوجه إلى الكفار لزيادة تقريعهم وبيان أنهم إنما عصوا وألقوا أنفسهم في هذا العذاب ، لوقت قليل في عمر الدنيا (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) مكثتم وبقيتم أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) أي من جنس هذا العدد مقابل عدد الأيام وعدد الشهور.

[١١٤] (قالُوا) وقد نسوا مقدار بقاءهم في الدنيا فضؤل في أعينهم مدة البقاء (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا ذلك على وجه الحقيقة لنسيانهم المقدار ، أو قالوه مجازا ، تقليلا لمدة المكث ، فإن الزمان إذا مضى يراه الإنسان قليلا (فَسْئَلِ) يا رب عن مدة مكثنا (الْعادِّينَ) أي الحسّاب الذين قد عدوا ، فإنا لا ندري أيوما بقينا ، أو بعض يوم؟ وقد ورد أن المراد سؤال الملائكة الموكلين بهم ، فإنهم عدوا أعمارهم وساعاتها؟

[١١٥] (قالَ) الله سبحانه ، مظهرا ، أن ليس المقصود مقدار المكث بالسنين والشهور ، وإنما المقصود بالسؤال أن بقاءكم في الدنيا كان قليلا فقد أذهبتم الآخرة لأجل شهوات زائلة في تلك المدة القليلة (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي ما كنتم وبقيتم في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) ولو كان سنوات (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وتحسنون التقدير ، لعلمتم أن بقاءكم في الدنيا

٦٧٣

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ

____________________________________

قليل بالنسبة إلى الآخرة التي لا فناء لها ولا زوال.

[١١٦] (أَفَحَسِبْتُمْ) وظننتم أيها المنكرون للبعث (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) باطلا ولغوا ، فلا حساب ولا ثواب ولا عقاب (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) والمراد إلى حكمنا وجزاءنا ، إن ظنكم ذلك باطل كذب ، وهذا إما كلام مستأنف خطاب للكفار في الدنيا ، أو عطف على السابق ، وأنه في جملة الكلام الذي يقال للكفار في الآخرة.

[١١٧] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) تعالى أن يكون له شريك أو ولد ـ وهذا رجوع إلى الكلام السابق حول نفي الولد والشريك ـ أنه هو الملك الحق ، وما سواه من دون الآلهة ملوك باطلة موهومة ، لا حصة لها من الملك والخلق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده لا شريك له (رَبُّ الْعَرْشِ) أي الملك ، أو العرش الذي هو محل تشريفي له سبحانه خلقه ملاذا للملائكة ، كما خلق الكعبة ملاذا للناس (الْكَرِيمِ) فإن للعرش من الكرامة والعظمة قدرا كبيرا.

[١١٨] (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بأن يجعل لله شريكا (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي في حال كونه لا حجة ولا دليل للداعي بذلك الإله الثاني (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي أن مقدار جزاء سيعلقه في تلك الدعوة الباطلة عند الله ، وهذا تهديد للمشركين ، بأنه تعالى سوف يحاسبهم على ذلك

٦٧٤

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)

____________________________________

حسابا عسيرا (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لا يفوزون ، ولا يخلصون من العقاب.

[١١٩] (وَقُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ اغْفِرْ) الذنوب ، فأنت وحدك الغفار ، ولا شفعاء من دونك ، كما يزعم المشركون (وَارْحَمْ) أي تفضل بالرحم والخير ، فأنت وحدك الراحم المتفضل (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أفضل المنعمين وأكثرهم فضلا ، بل كل نعمة منك ، وإنما غيرك لا يملك إلا ما ملكته ، فأنت الإله الواحد ، وإن إليك المرجع ، وإنك الغافر الراحم.

٦٧٥

(٢٤)

سورة النور

مدنية / آياتها (٦٥)

سميت السورة بالنور ، لاشتمالها على هذه اللفظة ، وهي كسائر السور المدنية تتعرض إلى النظام ، وتشريع القوانين ، ولما اختتمت سورة المؤمنين ، بأن الله سبحانه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ، ابتدأت هذه السورة بذكر الشرائع وفرض النظام الاجتماعي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) استعانة باسم الإله ، الذي يعين الإنسان ، إذا استعان به ، وهو رحمن رحيم ، يرحم ويتفضل بما هو أهله.

٦٧٦

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ

____________________________________

[٢] هذه (سُورَةٌ) السورة مأخوذة من سور البناء ، وهو ارتفاعه ، ومنه يسمى سور البلد سورا ، وإنما سميت سور القرآن بها ، لأنها مرفوعة في النفوس ، أو لأنها محيطة بجملة من العقيدة والآداب (أَنْزَلْناها) أي أنزلنا هذه السورة ، والإنزال ، إما باعتبار مجيئها من فوق ، إذ الملك يهبط عن السماء ، أو باعتبار أنها جاءت من طرف العلي الأعلى (وَفَرَضْناها) أي أوجبنا العمل بها ، ولعل هذا التأكيد لاشتمالها على الحد وما أشبه ، مما يحتاج إلى التأكيد البليغ ، فإن الفرائض الشديدة تحتاج إلى قوة في البيان ، حتى تحفز تلك القوة على تطبيقها (وَأَنْزَلْنا فِيها) في هذه السورة (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات ، والظرف باعتبار المجموع ، المظروف باعتبار كل قطعة قطعة ، وآية آية (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا ، ما هو كامن في فطرتكم من الأمور المرتبطة بالعقائد والآداب والأنظمة ، فإن الله سبحانه جعل في النفس فطرة المعارف ، كما جعل فيها فطرة الآداب ، وإن كانت مجملة تحتاج إلى الشرح والبيان وذكر المزايا التي لا تصل الفطرة إليها بمجردها.

[٣] وبعد تلك المقدمة الشديدة ، يأتي النظام الصارم لمن ينحرف عن العفاف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ولعل تقديم «الزانية» لكون عملها أشنع ، ولأن العطف نحوها أكثر ، لرقة جنس المرأة (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وذلك بضربهما بالجلد ، الذي هو عود طويل على رأسه خيط طويل من الجلد ، يؤلم الجسم كثيرا ، يستعمله في هذا الزمان أهل الأفراس والعربيات ، ولا يخفى أن هذا الحكم إنما هو مقيد

٦٧٧

وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً

____________________________________

ببعض القيود المستفاد من الشرع ـ كما هو مذكور في كتاب الحدود ـ (وَلا تَأْخُذْكُمْ) أيها الحكام المجرون للحد (بِهِما) أي بأي من الزاني والزانية (رَأْفَةٌ) أي شفقة ورحمة (فِي دِينِ اللهِ) أي في هذا الحد المرتبط بالدين ، الذي أنزله الله من السماء (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي تعتقدون بالله ، وتقرون بالبعث والنشور (وَلْيَشْهَدْ) أي اللازم أن يحضر (عَذابَهُما) أي في حال جلد الزانية والزاني (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي جماعة منهم ، ليكون أردع للزناة ، حيث يرون العذاب والفضيحة ، وينشر الخبر بسبب أولئك مما شاهدوه عيانا ، ومن الغريب أن بعض الغربيين ـ الذين أباح قانونهم التنكيل بالبشر ، بما لا يتحمل الإنسان على مجرد سماعه ، كاستعمال الكلابيب للجسم ، والحقنة بالبيضة والقنينة والماء الحار ، والحمامات الحارة والباردة ، التي تنقط على رؤوس مجرميهم ، وكي البدن بالمكاوي الكهربائية ، وأشباهها مما يتقزز منه الجسم ، ويستبشعه ، حتى من له أقل شعور يعيبون على الإسلام مثل هذا القانون المطهر للمجتمع عن كثير من أنواع الفساد والرذيلة ، نعم إنهم أرادوا أن يزنوا فأباحوا ذلك ، وعابوا مثل هذا القانون ولو أرادوا الطهارة لرأوا أن هذا القانون هو القانون العادل الذي لا يجد الإنسان مطهرا للمجتمع مثله.

[٤] ثم أراد سبحانه تفظيع الأمر عليهما ، فقال (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) أي لا يزني ، والنكاح في اللغة هو الوطء (إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) فإن

٦٧٨

وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ

____________________________________

المؤمنة العفيفة لا تكون طرفا لزنى الرجل الزاني ، وهذا كقوله سبحانه (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (١) (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها) أي لا يطأها (إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) فإن المؤمن العفيف ، لا يكون طرفا لزنى المرأة الزانية ، وكأن هذا لدحض زعم بعض الناس الذين يتعاطون الزنى ، زاعمين أنهم أعفاء ، وإنما طرفهم فقط ، رجل سيئ ، أو امرأة سيئة ، وقد يرى الإنسان رجلا ، يدخل بيت الدعارة زاعما أنه يقضي حاجة ، وإنما المرأة هي الزانية ، أليس هو يقضي حاجة ، وهي شغلها الزنى؟ وكذا في صورة العكس ، وقد ذكروا في سبب نزول الآية ما روي عن الإمامين الباقر والصادق عليه‌السلام ، قالا هم رجال ونساء كانوا على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهورين بالزنى ، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء (٢) ، وفي الآية احتمال آخر وما ذكرناه هو الظاهر منها بملاحظة بعض القرائن الداخلية والخارجية (وَحُرِّمَ ذلِكَ) النكاح للزاني أو الزانية (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمن لا يكون طرف زانية ، والمؤمنة لا تكون طرف زان.

[٥] ثم انتقل السياق إلى حكم من يرمي المؤمنة بالزنى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي يقذفون النساء العفيفات بالزنى ، بنسبة الزنا إليهن ، و «المحصنة» هي المرأة العفيفة وتسمى محصنة ، لأنها أحصنت وحفظت نفسها بالعفاف ، ولا مفهوم للآية حتى يدل على أن رمي غير

__________________

(١) النور : ٢٧.

(٢) راجع مستدرك الوسائل : ج ١٤ ٣٩٠.

٦٧٩

ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ

____________________________________

المحصنة لا حكم له ، وإنما سمي بالنسبة رميا ، لأنها رمي للقول كما أن قذف الحجارة ونحوها رمي للشيء (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) عدول يشهدون على طبق كلام الرامي ، بأنهم رأوا زناها عيانا (فَاجْلِدُوهُمْ) أي اجلدوا الرامين (ثَمانِينَ جَلْدَةً) ولا يقبل كلامهم بالنسبة إلى المقذوفة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) لأولئك الرامين (شَهادَةً أَبَداً) إذا شهدوا على شيء ، ردت شهادتهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فلا يترتب عليهم ما يترتب على العدول ، من الائتمام به ، وتقليده ، وصحة الطلاق عنده ، إلى غير ذلك.

[٦] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) من هؤلاء القاذفين (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الرمي (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم ، لم يفسقوا من جهة أخرى (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ذنبهم (رَحِيمٌ) بهم يتفضل عليهم ، فإن هؤلاء تقبل شهادتهم ولا يحكم بفسقهم ، بل يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الأحكام.

[٧] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي ينسبون زوجاتهم إلى الزنى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون لهم على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) استثناء منقطع أي أنهم يدعون ذلك ، ولا شاهد لهم ، فاللازم أن يجلدهم الحاكم الشرعي حد القذف ، إلا إذا تدارك ذلك بأن حلف خمسة

٦٨٠