تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

تقريب القران إلى الأذهان

الجزء الخامس عشر

من آية (١) سورة الإسراء

إلى آية (٧٥) سورة الكهف

٢٨١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٢٨٢

(١٧)

سورة الإسراء

مكية ـ مدنية / آياتها (١١٢)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من «الإسراء» في قوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وتسمى أيضا سورة «بني إسرائيل» لاشتمالها على لفظة «بني إسرائيل» ، وهي مكية ، إلا آيات ، ولذا نرى الجو العام فيها ، كالجو في غالب السور المكية ، يعالج قضايا العقيدة ، وتشتمل هذه السورة على إحدى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثار ، وهي ذهابه ليلا من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، حينما عرج به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، ليرى آيات الله سبحانه في الملكوت عيانا. وحيث أن سورة النحل اختتمت بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تفتح هذه السورة بذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نستعين باسم الإله الرحمن الرحيم ، فهو إله كل شيء ، مستحق لجميع أنواع الإعظام والإكرام ، أليس هو الله ـ وإنه اسم للذات المستحق لجميع أصناف المحامد ـ؟ وأليس هو رحمانا رحيما ، متفضلا على العباد ـ حتى العاصين ـ بأنواع الإحسان والامتنان ، فمن أحق منه بذكر اسمه في أول الأشياء ، وابتداء الأعمال والأمور؟

٢٨٣

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ

____________________________________

[٢] (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) «سبحان» منصوب بفعل مقدر ، أي أسبح سبحان الإله الذي سار بالنبي ليلا ، فإن الإسراء هو السير ليلا ، والمراد بالعبد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه من أفضل صفاته أن يكون عبدا ـ كامل العبودية ـ لله ، قالوا : ولذا قدم على الرسالة في التشهد «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» (لَيْلاً) للتوضيح والتأكيد (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) في مكة ، والكثيرون على أن ذلك كان من دار «أم هاني» بنت «أبي طالب» وإنما أطلق المسجد الحرام عليه ، بعلاقة الكل والجزء ، فإن الجزء قد يطلق على الكل ، للملابسة بينهما ، فمكة يطلق عليها المسجد الحرام (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي الأبعد ، فقد كان أهل مكة يسمون بيت المقدس بالمسجد الأقصى ، لبعده عن محلهم ، مقابل المسجد الأدنى الذي هو المسجد الحرام ـ عندهم ـ ثم أن هذا السير من مكة إلى المسجد الأقصى ، يسمى في عرفنا ب «الإسراء» لأنه سير من هنا إلى هناك ، ثم صعود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الأقصى إلى السماء يسمى «معراجا» لعروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هناك إلى السماوات ، وقد كان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة ، في اليقظة ببدنه الشريف ، حسب ما انعقد عليه إجماع علمائنا ، ودلّ عليه ظاهر القرآن الحكيم ، والروايات المتواترة ، (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فإن حول المسجد الأقصى ، كان مبعث الأنبياء ، وخصوصا العظام منهم ، كموسى وعيسى وإبراهيم وصالح وشعيب ويعقوب وإسحاق وإسماعيل وغيرهم عليهم‌السلام ، ولعل هذا الإسراء كان لأجل التلميح إلى ربط الديانات الكبرى العالمية واليهودية والمسيحية والإسلام بعضها ببعض ، في

٢٨٤

لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)

____________________________________

أصل جوهرها قبل التحريف في الدينين السابقين ، وعلى أيّ فقد كان حول المسجد الأقصى مباركا ببعث الأنبياء ، ونشر تعاليم السماء ، وكأنه سبحانه اختار هذه المناطق ، لأنها الوسط بين الشرق والغرب ، فزحف الدين منها إلى العالم هين يسير بخلاف ما لو كان الدين من أقصى الشرق والغرب ، وإنما أسرينا بالرسول (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) أي لبعض الآيات الكونية في الأرض والسماء (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) لكل الأصوات فيسمع قول المكذب والمصدق (الْبَصِيرُ) بما يرى ، فيرى المؤمن والكافر والحركات والسكنات ، ثم أن قصة المعراج ليست عجيبة على الله سبحانه ، ومن يؤمن بأصل القرآن ، وإمكان الوحي والرسالة لا بد وأن يؤمن بهذه القصة ، والا فأي فرق بينه وبينها؟ نعم يستغرب هذه القصة الطبيعيون ، ومن إليهم ممن ضيقوا دائرة معارفهم في المحسوسات ، ولم يؤمنوا بما وراء الطبيعة (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) (١) ولا بأس بالإشارة إلى مجمل من القصة ، وتفصيلها في الكتب المفصلة : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبرئيل وأنا بمكة ، فقال : قم يا محمد ، فقمت معه ، وخرجت إلى الباب ، فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل وإسرافيل ، فأتى جبرئيل بالبراق ، وكان فوق الحمار دون البغل ، خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البقر ، وعرفه كعرف الفرس ، وقوائمه كقوائم الإبل ، عليه رحل من الجنة ، وله جناحان من فخذيه ، فقال لي جبرئيل : اركب ، فركبت ومضيت ، حتى انتهيت إلى بيت المقدس ، فلما انتهيت إلى بيت المقدس ، إذا بملائكة

__________________

(١) الجاثية : ٢٥.

٢٨٥

____________________________________

من السماء نزلت بالبشارة والكرامة من عند رب العزة ، وصليت في بيت المقدس ، وبشرني إبراهيم في رهط من الأنبياء ، ثم وصف موسى وعيسى ثم أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة ، فأقعدني عليها ، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا ، فصعدت إلى السماء الدنيا ، ورأيت عجائبها ، وملائكتها يسلمون عليّ ، ثم صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا ، ثم صعد بي إلى الثالثة ، فرأيت فيها يوسف ، ثم إلى الرابعة ، فرأيت فيها إدريس ، ثم إلى الخامسة ، فرأيت فيها هارون ، ثم صعد بي إلى السادسة ، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض ، وفيها الكروبين ، ثم إلى السماء السابعة ، فرأيت فيها إبراهيم ، قال ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين ووصف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إلى أن قال : ثم كلمني ربي وكلمته ، ورأيت الجنة والنار والعرش والسدرة ، ثم رجعت إلى مكة ، فلما أصبحت حدثت به الناس ، فكذبني أبو جهل والمشركون ، وقال مطعم بن عدى : أتزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب ، ثم قالت قريش : أخبرنا عما رأيت ، فقلت : مررت بعير بني فلان ، وقد ضلوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحلهم قعب مملوء من ماء ، فشربت الماء ، ثم غطيته كما كان ، فاسألوهم ، هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا هذه آية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مررت بعير بني فلان ، فنفر بكرة فلان ، فانكسرت يدها ، فاسألوهم عن ذلك؟ فقالوا هذه آية أخرى ، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية ، وهم يقولون : لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بيّنا ، وجلسوا ينتظرون حتى تطلع الشمس ، فيكذبوه ، فقال قائل : والله إن الشمس قد طلعت ، وقال آخر : والله هذه الإبل قد

٢٨٦

وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)

____________________________________

طلعت يقدمها أورق ، ولما جاءت العير وسألوهم عن ما ذكره الرسول؟ تبين صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنهم أبوا إلا الكفر والفساد ، ولم يؤمنوا (١).

[٣] وبمناسبة الحديث عن المسجد الأقصى ، يأتي السياق لبيان أحوال موسى عليه‌السلام ، وبني إسرائيل الذين كانوا هناك ، وما جرى عليهم حين أفسدوا وعملوا بالمعاصي (وَآتَيْنا) أعطينا (مُوسَى الْكِتابَ) هو التوراة ، كما أعطيناك يا رسول الله القران (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب الذي هو التوراة (هُدىً) هداية وإرشادا إلى الحق (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وهم اليهود ، سموا بذلك ، لأنهم من أبناء يعقوب ، وكان يسمى «إسرائيل» ومعناه «عبد الله» ، وكان أول الهدى الذي أنزل لأجله التوراة (أَلَّا تَتَّخِذُوا) أيها اليهود (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربّا تتوكلون عليه في أموركم ، بل هو الله الواحد الذي لا شريك له.

[٤] يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) فأنتم أيها اليهود من أولاد أولئك الآباء الطاهرين المؤمنين الذين أنعمنا عليهم بإنجائهم من الغرق ، حيث آمنوا بالله ورسله فلا تنحرفوا ، بعد ما رأيتم نعمتي عليكم وعلى آبائكم من قبل ، وفيه تلميح إلى ذكر نوح ، بعد ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموسى عليه‌السلام (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فهو عبد كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أسرى بعبده» شكور يقابل نعم الله سبحانه بالشكر لا بالكفر. وهو تعريض باليهود الذين كفروا.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٢١٦.

٢٨٧

وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)

____________________________________

[٥] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أعلمنا بني إسرائيل (فِي الْكِتابِ) الذي أنزلناه على موسى ، وهو التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي تفسدون في الأرض التي تسكنونها وهي بيت المقدس مرتين ، بالكفر وإظهار المعاصي ، قال ابن عباس : كان فسادهم الأول قتل زكريا ، والثاني قتل يحيى بن زكريا ، ثم سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا ، وسلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر ، وهو رجل من بابل ، أقول : من عجيب أمر اليهود ، أنهم يعملون ويعملون حتى يكون لهم سلطان وقوة ، ثم يتخذون ذلك وسيلة للفساد ، فيسلط الله عليهم من يبيدهم ويكثر القتل فيهم ، ـ كما هي السنة الجارية أن من تكبر وفسد يبتلى بمن ينتقم منه ـ وإذا ذهب سلطانهم أخذوا في العمل من جديد ، وهكذا دواليك ، وفي التاريخ القريب ، لما قويت شوكتهم ، أخذوا في الفساد ، حتى سلط عليهم «هتلر» فقتلهم وشردهم ، ثم نراهم من جديد ـ بعد تلك الاضطهادات ، وبعد أن صارت لهم قوة ـ أخذوا يعيثون في فلسطين الفساد ، فمن يا ترى يسلط عليهم هذه المرة؟ (وَلَتَعْلُنَ) أي ترتفعن بعد ذلك (عُلُوًّا كَبِيراً) إما المراد قوتهم وشوكتهم بعد المرتين أو المراد استكبارهم وظلمهم وتعديهم ، كما حدث في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث استكبروا وطغوا بالكفر بالرسول وأذى المؤمنين ، وما ورد في بعض الروايات من تطبيق الآية على هذه الأمة في ظلمهم الأئمة عليهم‌السلام ، فإن ذلك من باب القاعدة الكلية التي تنص على أن مثل القرآن مثل الشمس التي تطلع كل يوم على جميع الناس ، فالقرآن ينطبق في كل زمان على

٢٨٨

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)

____________________________________

الناس ، مدائحه على الأخيار وتنقيصاته على الأشرار.

[٦] (فَإِذا جاءَ) وقت (وَعْدُ) نا بالانتقام عن (أُولاهُما) والمراد بالوعد الموعود ، والمراد بأولاهما أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ) أيها اليهود (عِباداً لَنا) أي سلطنا عليكم بعض الملوك (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي أصحاب شوكة وقوة ونجدة ، ومعنى بعثه سبحانه أنه يخلي بينهم وبين اليهود حتى يفعلوا بهم ما يشاءون ، وهكذا كقوله سبحانه : (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) (١) فإن الملك إذا قوى طائفة وخلّى بينهم وبين سائر الناس حتى يفسدوا فيهم ، يقال أن الملك أرسلهم ، (فَجاسُوا) أي العباد المنتقمون (خِلالَ الدِّيارِ) أي طافوا وسط ديار اليهود ، وتفحصوا وتحسبوا هل بقي منهم أحد حتى يقتلوه ويأسروه (وَكانَ) ما وعدناهم من إرسال العباد للانتقام منهم (وَعْداً) منا (مَفْعُولاً) كائنا لا محالة لا خلف فيه ، قد كان ذلك كما ذكره التاريخ ، ومن لطيف المقارنة أن يرى الإنسان أن الله الرؤوف الرحيم بعباده حتى أن من لطفه يبعث الرسول على الكفار ليهديهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٢) يرسل على أهل الكتاب عبادا ليبطشوا بهم ويكثروا فيهم القتل والهتك والسبي ، حيث يخالفون الأوامر ، ويفسدون ويعملون بالمعاصي.

__________________

(١) مريم : ٨٤.

(٢) آل عمران : ١٦٥.

٢٨٩

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا

____________________________________

[٧] (ثُمَ) بعد التدمير والفناء جزاء لأعمالكم السيئة (رَدَدْنا لَكُمُ) أيها اليهود (الْكَرَّةَ) أي الرجوع إلى الملك والسلطان والقوة والشوكة (عَلَيْهِمْ) أي على أولئك الأعداء ـ وهم عباد لنا ـ ، فيرجع إليكم ما فقدتموه ـ بعد تمام العقاب ، لما ارتكبتموه ـ (وَأَمْدَدْناكُمْ) أي أعطيناكم مددا وكثرة (بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) فأكثرنا أموالكم ونفوسكم (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي عددا وأنصارا من عدوكم ، ونفير جمع «نفر» كعبد جمع عبيد ، والنفر هو الشخص من الإنسان ، وقبل أن يبين سبحانه قصة فسادهم الثاني ، والانتقام منهم ، يبين أن الأمر بأيديكم ، فإن شئتم أحسنتم حتى لا يصيبكم المكروه ، وإن شئتم أسأتم أن يصيبكم ، فإن ما يراه الإنسان ، إنما هو نتيجة عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

[٨] لكن بنى إسرائيل لا يعتبرون ، وإن رأوا ألف مرة جزاء أعمالهم السيئة ، وقال لهم سبحانه (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) عملتم بالأعمال الحسنة (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) فإنكم بأنفسكم ترون جزاء تلك الأعمال حسنا مرضيا (وَإِنْ أَسَأْتُمْ) عملتم الأعمال السيئة (فَلَها) أي فلأنفسكم عملتم ، وترون جزاءها سيئا وقبيحا ، وإنما لم يقل فعليها ـ بلفظة على ـ حتى يقابل «لأنفسكم» في اللفظ فيفسدون مرة ثانية (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) الانتقام لفساد المرة (الْآخِرَةِ) أي الفساد الثاني ليسلط عليكم الأعداء مرة ثانية حتى (لِيَسُوؤُا) بالقتل والنهب والهتك

٢٩٠

وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

____________________________________

والأسر (وُجُوهَكُمْ) فيظهر آثار المساءة على وجوهكم ، فإن الإنسان إذا مليء قلبه بالإساءة والإذلال ، ظهر أثارها على وجهه ، فهو كناية عن شدة المساءة (وَلِيَدْخُلُوا) أولئك الأعداء (الْمَسْجِدَ) الأقصى ، أقدس محلاتكم بالإذلال والاستخفاف (كَما دَخَلُوهُ) الأعداء (أَوَّلَ مَرَّةٍ) عند الانتقام الأول (وَلِيُتَبِّرُوا) أي الأعداء من تبّر بمعنى أهلك ودمّر (ما عَلَوْا) أي كل شيء تمكنوا من التسلط عليه ، وغلبوا عليه من بلادكم وأموالكم ونسائكم وغيرها (تَتْبِيراً) أي تدميرا كاملا شاملا ، بحيث لا يخلو منه مكان ، ولا فرد منكم.

[٩] (عَسى) أي لعل (رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد ذلك ، إن أطعتم ، بعد هذا الانتقام الثاني ، وتصفية الحساب (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الفساد والإفساد (عُدْنا) إلى الانتقام والعقاب ، وهل انقلعوا!؟ كلا إنهم لا يجدون فرصة إلا ويفسدون (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محل حصر وحبس ، فاليهود الذين أفسدوا لم يكن الانتقام منهم في الدنيا فقط ، بل من ورائهم جهنم فهم فيها في ذلّ وسجن ، لا خلاص لهم عنها.

[١٠] وبمناسبة ذكر كتاب موسى يأتي الحديث عن كتاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي) البشر للطريقة التي (هِيَ أَقْوَمُ) الطرق

٢٩١

وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)

____________________________________

وأحسنها وأشد استقامة من جميعها ، فإن الطرق السابقة ، وإن كانت مستقيمة ، لكنها مستقيمة في ظروف خاصة ، أما القرآن ، فإنه يرشد إلى الطريقة المستقيمة أبدا ، ولذا فهو لا ينسخ (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي إنهم مع إيمانهم يعملون الأعمال الصالحة ب (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) في الآخرة ، وثوابا عظيما.

[١١] (وَ) يبين هذا القرآن إلى جنب ذلك (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بأن فسدت عقيدتهم ، وذكر هذا للتلازم بينه وبين عدم الإيمان بالإله أو بالرسالة (أَعْتَدْنا) أي هيأنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما موجعا في الآخرة.

[١٢] إن القرآن يبشر المؤمن العامل بالصالحات ، الثواب ، وغير المؤمن بالعقاب ، فهل الإنسان يترك ما يضره ، ويفعل ما ينفعه؟ كلا ، إن الإنسان يطلب ما هو شر له في الدنيا ، فكيف يعمل الصالح ، لدفع ما هو شر في الآخرة؟ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) أي يطلب ما هو شر له ، فالربا والزنا والقمار والخمر وسائر الأشياء التي يعود شرها إلى الإنسان ، نراه يطلبه للذة عاجلة من غير نظر إلى عواقب الأمور ، ولو كانت قريبة في الدنيا (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي كما يطلب ما هو خير له من الطيبات والمباحات (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يتعجل باللذائذ ، وإن كان

٢٩٢

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ

____________________________________

لها عاقبة وخيمة ومستقبل سيئ.

[١٣] ثم ينتقل السياق من قضايا الرسل والأمم إلى الآيات الكونية ، وموقف الإنسان في هذه الحياة ، وما سيلاقي من ثواب أو عقاب جزاء أعماله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) من آيات الله سبحانه ، ففي خلقهما وتنظيم المعاش والاستراحة للبشر بها ، دلالة على وجود إله عليم قدير حكيم (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) إضافة الآية إلى الليل بيانية ، أي جعلنا الليل ـ الذي هو آية ـ ممحيا ، فكما أن الخط إذا محي يبقى بعض آثاره ، والبناء إذا أزيل يبقى بعض أطلاله ، كذلك الأشياء تظهر في الليل ، كالشيء الذي محي ، فيرى بعضها ولا يرى بعضها ، فنسبة المحو إلى الليل وهو للأجسام التي فيه ـ مجاز ـ بعلاقة الحال والمحل ، وهذا من بدائع البلاغة (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) أي النهار الذي هو آية (مُبْصِرَةً) فقد نسب الإبصار الذي هو للإنسان والحيوان إلى النهار ، مجازا بعلاقة الحال والمحل ، أو السبب والمسبب أو النهار سبب الإبصار ، وإنما جعلنا كذلك (لِتَبْتَغُوا) أي تطلبوا بسبب هاتين الآيتين (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في النهار المال والمعاش ، وفي الليل الراحة والأولاد ، فإن كل ذلك فضل منه سبحانه ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ) فإن السنة تتولد من الأيام ، كما يتولد منها الأسبوع والشهر (وَالْحِسابَ) آجال العقود والمفاوضات والديون والأسفار وغيرها مما يعدّ ، فيؤتي به أول موعده (وَكُلَّ شَيْءٍ) من كليات ما يحتاج إليه

٢٩٣

فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ

____________________________________

البشر في دنياه وآخرته (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) فأصول العقيدة والاجتماع وغيرهما كلها مفصلة في الكتاب ، أو المراد أن جميع الأمور الكونية ، قد روعيت فيها الدقة والتفصيل ـ أى التمييز فليس هناك شيء خلق صدفة أو جزافا ، أو بلا رعاية جهاتها وخصوصياتها ، ويشهد لذلك هذا النظام الواضح في الدورة الفلكية المولّدة لليل والنهار بكل دقّة وإتقان.

[١٤] وإذا كان للكون إله مدبّر ، وإذ كان كل ما في الكون تحت نظام ودقة ، فإن الإنسان لا يخرج عن هذا النظام والدقة ، إن كل عمل يعمله ، إنما هو تحت حساب إله قدير عالم ، وإذا قام الجزاء انكشف له وللناس كل ما عمله من خير أو شر ، صلاح أو فساد (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) اى عمله ، وسمي طائرا ، لأنه يسنح كالطائر الذي يطير عن يمين الإنسان أو شماله ، ومعنى الإلزام أنه معه لا يفارقه ، فلا يتمكن الإنسان الخلاص من تبعة عمله ، إلا إذا أعدم العمل بالتوبة (فِي عُنُقِهِ) فإن العنق موضع القلادة التي تزين ، أو الجامعة التي تشين (وَنُخْرِجُ لَهُ) أي للإنسان (يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) مكتوب فيه جميع أعماله ، وفي الأحاديث ، أنه مكتوب فيه حتى النفخ في النار (يَلْقاهُ) يلقى كتابه (مَنْشُوراً) مفتوحا ، ليطلع عليه هو وغيره.

[١٥] ويقال له عندئذ (اقْرَأْ كِتابَكَ) الذي أمليته وكتبه الحافظان ، وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : يذكر العبد جميع أعماله ، وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ، ما لهذا الكتاب

٢٩٤

كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)

____________________________________

لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (١) (كَفى بِنَفْسِكَ) أيها الإنسان في هذا (الْيَوْمَ) يوم القيامة (عَلَيْكَ) أي على نفسك (حَسِيباً) محاسبا ، لأنه يرى أعماله ، وجزاء كل عمل ، فلا يحتاج إلى غيره حتى يحاسبه ، وهذا غاية في الدقة والإنصاف ، حيث أن العامل هو المحاسب ، وإنما كانت الدقة ، لأنه لا يزيد على السيئات شيئا ، ولا ينقص من الحسنات شيئا.

[١٦] وإذ تبين أن هناك حساب على الأعمال ، وأن خيره وشره ، لا بد وأن يلاقيه الإنسان يوم الجزاء ف (مَنِ اهْتَدى) إلى الإيمان والإطاعة (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) فإن نفع هداه يعود إليه (وَمَنْ ضَلَ) عن الطريق بالكفر أو العصيان (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي يعود ضرر ضلاله على نفسه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) لا تحمل نفس حاملة للذنوب (وِزْرَ أُخْرى) أي ذنوب نفس أخرى ، فلكل إنسان ذنبه ، أما من ضل غيره ، فإنه يحمل ذنب نفسه وذنب إضلاله ، فهو أيضا حامل لذنب نفسه ، كما قال سبحانه (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٢) وعلى هذا ، فلا يظن إنسان ، أن من يأمره بالكفر أو العصيان يحمل تبعته يوم القيامة (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) أي إنما لا نعذب أحدا من الكفار والعصاة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبين أن على الكفر

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٢٨٤.

(٢) النحل : ٢٦.

٢٩٥

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ

____________________________________

والعصيان العقاب ، وللإيمان والإطاعة الثواب ، ثم إذا خالفوا عذبناهم ، بعد إتمام الحجة ، وقيام الأدلة والبراهين ، فالأوامر العقلية قبل إتمام الحجة الخارجية ، لا توجب عقابا لمن خالفها.

[١٧] إن الله لا يعذب حتى يبعث رسولا وحجة ليدل الناس على مواقع المحظور ـ كما سبق ـ فإذا عتت قرية عن الطريق المستقيم ، لا يعذبها الله سبحانه بمجرد ذلك ، وإنما يبعث الرسول بالأوامر والنواهي ، وهناك يخالف المترفون والسادة الأعلون ـ ويتبعهم الجمهور طبعا ـ فيستحقوا العقاب بعد تمام الحجة (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) لأنها أسرفت في الكفر والفساد ، لم نهلكها بدون إتمام الحجة ، بل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بأوامرنا ، وإنما خص المترفين ، مع أن الأمر عام لكل الناس ، لأنهم هم الذين إن أطاعوا أطاع الناس ، وإن عصوا عصى الناس ، ولذا كان الأنبياء ، يذهبون إلى الملوك ، ويعارضون السلطان بادئ ذي بدء ، فإن الناس على دين ملوكها وكبرائها (فَفَسَقُوا فِيها) أي خرجوا عن الطاعة في تلك القرية ، تقول : أمرته فعصاني ، أي أمرته بأوامري فعصاني ، ولم يمتثل ، وهناك حيث خالفوا أوامر الرسل ، وتمت عليهم الحجة (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي ثبت على تلك القرية ، قولنا بالهلاك والدمار (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا.

[١٨] وقد جرت هذه السنة في الأمم السابقة (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ) جمع قرن وهو الأمة يقال لها قرن ، لتقارن سن أفرادها تقريبا ، كما يقال للزمان قرن ، باعتبار تقارن أعمار من فيه (مِنْ بَعْدِ

٢٩٦

نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ

____________________________________

نُوحٍ) وإنما خص بما بعد نوح ، لأن المعروف عند المخاطبين كان هذا الزمان ، أما قبل نوح ، فالتاريخ لديهم مجهول ، ومن البلاغة ، أن يتكلم الإنسان مع الناس على قدر مداركهم ، فإنه أقل مؤونة ، وأقرب إلى القبول (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي يكفيه مطلعا ، فليخف الإنسان من الإله العالم بالذنوب ، فلا يفعل ما يوجب سخطه وعذابه (بَصِيراً) يبصر الذنوب ، فليخجل الإنسان أن يعصي أمامه.

[١٩] وإذ تبين عاقبة العاصي ، وعاقبة المطيع ، فليتقدم كل إنسان بما يختاره من الأمرين ، فإن الطريق أمامه مفتوح (مَنْ كانَ يُرِيدُ) الدنيا (الْعاجِلَةَ) فقط بدون تفكّر لما يأتي ، وإرادة للدار الآجلة (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) أي في العاجلة (ما نَشاءُ) من الثروة والفقر ، والصحة والمرض ، والأمن والخوف ، وغيرها (لِمَنْ نُرِيدُ) فليس كل من يريد العاجلة يعطاها ، كما أن من يعطى العاجلة لا يعطاها كما يشاء ، وإنما كما يشاء سبحانه حسب حكمته البالغة ، وتقديره الحكيم (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) في الآخرة (يَصْلاها) أي يصل بصلاها ، ويحترق بنارها في حال كونه (مَذْمُوماً) ملوما (مَدْحُوراً) مطرودا عن الخير والسعادة.

[٢٠] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) في ضمن إرادته للدنيا ، كما قال سبحانه في آية أخرى (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) فعمل للآخرة ،

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

٢٩٧

وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ

____________________________________

كما يعمل للدنيا ، ولم يأت بما ينافي الآخرة (وَسَعى لَها) أي للآخرة (سَعْيَها) السعي المناسب لها ، واللائق بشأنها ، بأن عمل الأعمال الصالحة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن العمل الصالح بدون الإيمان لا يفيد (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) يشكره الله سبحانه ، بأن يعطي جزاؤهم ، فإن الشكر لشيء إعطاء جزائه ، وإكرام العامل له.

[٢١] ثم ذكر سبحانه أنه في الدنيا لا يمنع لطفه عن الشخصين ، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق ، لكن الفرق في السعادة هنا ، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة ، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن (كُلًّا) من المؤمن والكافر (نُمِدُّ) أي نعطيهم من الدنيا (هؤُلاءِ) الذين يريدون الآخرة (وَهَؤُلاءِ) الذين يريدون العاجلة (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) يا رسول الله ، أي نعمته وفضله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي ممنوعا ، فإنه يشمل البرّ والفاجر.

[٢٢] وإذ يريد أهل الدنيا الدرجات الرفيعة هنا ، فليرد أهل الآخرة إياها هناك (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعض الناس على البعض الآخر في الدنيا ، فبعضهم أغنياء إلى منتهى الحد ، وبعضهم متوسطون ، وبعضهم فقراء ، وبعضهم أصحاب مناصب ، وبعضهم عاديون وهكذا (وَلَلْآخِرَةُ) اللام للتأكيد (أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أي

٢٩٨

وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

درجاتها أكبر من درجات الدنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فمدى المفاضلة هناك أوسع ، وفي بعض الأحاديث ، أن أقل المؤمنين ثوابا من يعطي من الجنان بقدر الدنيا سبع مرات (١).

[٢٣] وبمناسبة الحديث عن الآخرة ، وعطاء الله سبحانه ، ومن يريد العاجلة والآجلة ، يأتي الحديث حول طائفة من الأحكام التي توجب السعادة ، أو الشقاء ، مبتدئا بتصحيح العقيدة (لا تَجْعَلْ) أيها الإنسان (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فلا إله إلا هو (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) يعني إن فعلت ذلك ، بأن اعتقدت بأكثر من إله واحد ، تبقى بقية عمرك ـ فإن قعد يطلق على البقاء والاستمرار ـ مذموما ، يذمك العقلاء ، وأهل الدين ، مخذولا يخذلك الله سبحانه ، بمعنى أنه يقطع لطفه الخاص عنك ، حتى تبقى بغير عنايته ونصرته.

[٢٤] وكما نهى سبحانه عن الشرك في العقيدة نهى عن الشرك في العبادة (وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر أمر إلزام وفرض (أَلَّا تَعْبُدُوا) أيها البشر أصله «أن لا» أدغمت النون في اللام ، لقاعدة «يرملون» (إِلَّا إِيَّاهُ) فالعبادة خاصة ، وهي مشتقة من «عبد» أي الإتيان برسوم العبودية ، وكون الإنسان عبدا له سيّد (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين ، وهما الأب ـ يسمى والدا لأنه يلد بإخراج المني ـ

__________________

(١) قريبا منه في بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٠٠.

٢٩٩

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)

____________________________________

والأم ، والإحسان فوق العدل كما تقدم ، ثم بين سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما ، لأن الإنسان ، إذا كبر يسيء خلقه ، ويكثر طلبه ، ومن طرف ثان ، أن الولد ـ كما هو عادة كل إنسان ـ إذا كبر ورشد ، رأى نفسه في غنى عنهما ، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجودا عنده من جهتين ، ولذا يخص سبحانه هذا الحال بالذكر ، وقد قال بعض العارفين : إن أباك وأمك أحسنا إليك ، وهما يريدان بقاءك ، ويهفو قلبهما إليك ، وأنت تحسن إليهما ـ إن تحسن ـ وأنت ترى استغناك عنهما ، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما ـ مهما أحسنت ـ وليعلم الولد أن الدار دار مكافات ، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه ، ومن أساء إليهما أساءوا إليه ، (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ) أيها الولد و «إما» أصله «إن ما» دخلت ما الزائدة ، على إن الشرطية للتزيين (الْكِبَرَ) الشيخوخة ، والكثرة في السن (أَحَدُهُما) أي أحد الأبوين ، وهو فاعل «يبلغن» والكبر مفعوله ، أي إن عاش أحدهما (أَوْ كِلاهُما) عندك حتى كبرا ، وبلغا مبلغا كبيرا من العمر (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) وهي كلمة تستعمل عند الضجر ، في قول مثل هذه اللفظة البسيطة ، منهي عنه في الشريعة ، وقد قال الصادق عليه‌السلام : لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها (١) (وَلا تَنْهَرْهُما) النهر هو الزجر بإغلاظ وصياح ، أي لا تزجرهما ، وإن أرادا منك شيئا لا تطردهما ، كما قال سبحانه (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (٢) (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ ص ٤٢.

(٢) الضحى : ١١.

٣٠٠