تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ

____________________________________

صالحون من العبيد والإماء ، وهل المراد بالصالحين البالغون الذين يصلحون للنكاح ، أو الصالحون من حيث الدين بأن يكونوا مسلمين ، أو أن تكون أعمالهم صالحة؟ احتمالات (إِنْ يَكُونُوا) أولئك الأيامى والعبيد والإماء ، (فُقَراءَ) وتخشون زيادة فقرهم بالنكاح ، فاعلموا أنه ليس كذلك بل (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهذا كذلك حسب التجربة ، وحسب الموازين الاجتماعية ، فإن المتزوج الذي يعلم أن وراءه النفقة يجدّ أكثر من العزب ، كما أن الناس يعطفون عليه أكثر من عطفهم على غيره ، هذا مع الغض عن أن يدين عاملتين تأتي بأكثر من ضعف إنتاج يد واحدة ، وإن الله سبحانه يوسع بالطرق الغيبية (وَاللهُ واسِعٌ) لطفه ، وهو مجاز من باب نسبة الشيء إلى سببه في اللطف والرزق ، وإنما نسب إلى الله تعالى ، لأنه السبب (عَلِيمٌ) بأحوال الناس ، فيعلم حال الفقير ويتفضل عليه.

[٣٤] (وَلْيَسْتَعْفِفِ) الاستعفاف هو التعفف بمنع النفس عن الشيء المرغوب فيه ، ولعل الإتيان بالفعل من باب الاستفعال للتنبيه على طلب العفة ، وإن كانت النفس تائقة شائقة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي ما يتوصل به إلى النكاح من المهر والنفقة والزوجة المناسبة ، (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يوسع عليهم ما به يتمكنون من الزواج ، ولا يدخلون في الفاحشة فإن الصبر وإن كان مرا لكن عاقبته حميدة ، وهناك من العبيد من يتمكن من الزواج إن كان حرا لأنه يعمل ويكتسب ما يكفيه وعائلته ،

٧٠١

وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا

____________________________________

ولا يتمكن من الزواج وهو تحت رق المولى لأن مولاه فقير لا يملك إعالته وإعالة زوجته ، ولذا يحاول أن بفك نفسه بالمكاتبة حتى يتحرر فيتزوج ، والمكاتبة هي أن يكتب المولى والعبد كتابا على أن العبد إن دفع إلى مولاه المقدار الكذائي من المال صار حرا ، وله أقسام وأحكام ، وإذا طلب العبد ذلك ندب قبول طلبه ومكاتبته.

(وَ) العبيد (الَّذِينَ يَبْتَغُونَ) ويطلبون (الْكِتابَ) أي المكاتبة لتحريرهم (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) «مما» بيان ل «الذين» أي من العبيد والإماء (فَكاتِبُوهُمْ) وجيء من باب المفاعلة ، لأن كل واحد من المولى والعبد يمضي ورقة الكتابة والاشتراط (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي صلاحا ورشدا يقدرون بذلك على الوفاء بمال الكتابة (وَآتُوهُمْ) أي اعطوا أولئك العبيد المكاتبون (مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) بأن يخفف المولى شيئا من المال المقرر ، فإن قرر ستة آلاف أخذ منه خمسة وعفى عن ألف ، أو إن الخطاب عام بأن يعين الناس المكاتبين ليخلصوا من الرق ، وقد قرر الله سبحانه إعطاء المكاتبين من الزكاة كما قال سبحانه : (وَفِي الرِّقابِ) (١).

(وَ) إذ كان الكلام حول العفاف والطهر والنكاح وتوابعه ، جاء النهي الأكيد بالنسبة إلى الذين يكرهون فتياتهم على الزنى ليأخذوا أجره و (لا تُكْرِهُوا) أيها الرجال

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

٧٠٢

فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ

____________________________________

(فَتَياتِكُمْ) أي الفتيات المرتبطة بكم ، وهي عامة لفظا تشمل كل فتاة مرتبطة بالإنسان سواء كانت أمة أم قريبة أم بعيدة ، ومن الجاهلية التي أعيدت في هذا العصر أجبر بعض الرجال الأسافل بعض نسائهم على البغاء لتحصيل منصب أو مال أو ما أشبه (عَلَى الْبِغاءِ) أي على الزنى ، في المجمع قيل : أن عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى ، فلما نزل تحريم الزنى أتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكون إليه فنزلت هذه الآية ، وروى القمي ـ كما في الصافي ـ عموم ذلك (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي تعففا وحصانة عن الزنى ، ولا مفهوم للآية ، بل المقصود أن الفتاة مع نقص عقلها وكثرة شهوتها إذا لم ترد البغاء فالمولى أحق بعدم الإرادة والامتناع ، فكيف يكره الرجل الفتاة وهي تكره ولا تريد؟ (لِتَبْتَغُوا) أي تحصلوا بذلك (عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي المال الذي هو عرض زائل (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) لعل المعنى من كان يكرههن في زمان الجاهلية فلا ييأس من روح الله ، فإنه إذا آمن وتاب (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ) على الزنى ـ مما قد سلف ـ (غَفُورٌ) يغفر سيئاته (رَحِيمٌ) يتفضل عليه ، أو المراد إن كرهت امرأة وزنت عن إكراه فإن الله غفور لها ، فقد رفع الإكراه في هذه الأمة ، كما ورد في حديث الرفع وغيره.

[٣٥] (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (آياتٍ) أي أدلة وبراهين للأحكام (مُبَيِّناتٍ) قد أوضحت إيضاحا لا لبس فيها ولا غموض

٧٠٣

وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ

____________________________________

(وَ) أنزلنا إليكم (مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) حيث ظهر من ذلك المثل ـ والمراد به الجنس ـ أن الأمم السابقة لما تعدت وعصت أخذت بأنواع العذاب ، لتعتبروا بذلك المثل (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وإنما خص الموعظة بهم ، لأنهم الذين ينتفعون بالعظة.

[٣٦] وإذا ذكرت الآيات السابقة الأحكام الأخلاقية الاجتماعية المرتبطة بالطهارة والنزاهة للعين والفرج واللسان ، وسمت بالإنسان من الآفاق المظلمة إلى الآفاق المنيرة ، ناسب ذلك التحدث عن عالم النور ، عالم الإله الذي أنار كل شيء بنور وجهه فقال تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، وهكذا الله سبحانه ظاهر في نفسه مظهر لغيره ، بل أن النور الخارجي رشحة من نوره سبحانه الذي غمر الكون ، وأظهر كل شيء وأوجد كل موجود (مَثَلُ نُورِهِ) من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليدركه الإنسان بقدر حسه (كَمِشْكاةٍ) لقد كان الناس في الماضي يخرجون كوة في الحائط ثم يجعلون على تلك الكوة لوحا من الزجاج ثم يجعلون المصباح ـ وهو محل الزيت والفتيلة ـ في زجاجة ـ تسمى بالفانوس ـ ثم يجعلون تلك الزجاجة في الكوة ، وإنما يجعلونها في الكوة ليشع من المصباح الضياء في الداخل والخارج ، ومن المعلوم أن نور المصباح إذا أشرق على الزجاج ، وكان منحصرا في كوة لا ينتشر كان ضياؤه قويا جدا ، وبالأخص إذا كان الزيت نقيا جيدا ، إن مثل هذا النور هو مثل نور الله سبحانه.

٧٠٤

فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ

____________________________________

واختلف في لفظ المشكاة هل أنها عربية أو غير عربية؟ (فِيها) أي في تلك المشكاة (مِصْباحٌ) وهو السراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) وهي «الفانوس» المصنوع من ألواح الزجاج (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي الكوكب المضيء الذي يشبه الدر في ضيائه وصفائه (يُوقَدُ) ذلك المصباح (مِنْ) زيت (شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي كثيرة البركة وهي (زَيْتُونَةٍ) التاء للإفراد ، نحو شجر وشجرة ، وتمر وتمرة ، وخص ذلك لأن دهن الزيت أصفى من سائر الأدهان فيكون نور المصباح الذي أوقد به أحسن وأكثر إضاءة (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي أن منبتها في محل وسط فهي ضاحية للشمس تشرق عليها طول النهار ، فليست في طرف الشرق حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا في طرف الغرب حتى لا تصيبها الشمس إذا شرقت ، فإن الغالب أن الشيء إذا كان في طرف كان هناك مانع عن إشراق الشمس عليه إذا كانت في طرف مقابل له (يَكادُ زَيْتُها) أي زيت هذه الشجرة (يُضِيءُ) وينير (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) أي أن الحاصل من مثل هذا المصباح نور مضاعف ، بسبب تلك الأمور المذكورة (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أي نور هذا المصباح (مَنْ يَشاءُ) من السائرين فإنهم إذا رأوا المصباح بهذه الكيفية المضيئة يهتدون إلى الطريق ، ولا يبقون حائرين

٧٠٥

وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ

____________________________________

في الصحراء ، لا يعرفون طريقا ، ولا يهتدون سبيلا ، ومن المحتمل أن يكون ضميره «لنوره» عائدا إلى الله ، بأن يكون التمثيل إلى قوله «على نور» أي إن الله يهدي إلى نوره الذي ضرب له المثل من يشاء ممن اتبع الحق ولم يعاند (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) كما ضرب هذا المثل ، لبيان نور ذاته ، تشبيها للمعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان ، وإلا فلا مثل ينطبق تمام الانطباق عليه سبحانه ، ولذا قال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) (١) (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم الأمثال المناسبة ، التي توجب علما وفقها للناس ، تقربهم إلى الحق وتبعدهم عن الباطل ، وقد ورد روايات لتطبيق الآية على أهل البيت عليهم‌السلام وهي من قبيل التأويل أو ذكر المصاديق والتطبيقات (٢).

[٣٧] إن ذلك المصباح المتصف بتلك الصفات إنما هو (فِي بُيُوتٍ) عامرة بالتقوى ليضاف النور المعنوي إلى النور الظاهري ، فإن مثل نور الله نور المصباح الموضوع في المسجد ، كيف أن الإنسان يبهره ذلك النور المتلألئ الساطع من أقدس الأماكن وأطهرها ، كذلك نور الله سبحانه (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) رفعا ظاهريا ببناء جدرانها رفيعة شامخة ، ورفعا معنويا بأن تحترم وتقدر وتطهر من الأرجاس ، وقد ورد في بعض الأحاديث أن بيوت الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام من تلك البيوت (٣) (وَيُذْكَرَ فِيهَا) أي في تلك البيوت (اسْمُهُ) الله تعالى في مقابل بيوت الكفار

__________________

(١) النحل : ٧٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٨.

(٣) راجع بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٣٢٧.

٧٠٦

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)

____________________________________

التي لم يأذن الله أن ترفع إذ من المكروه بناء دار الكافر أعلى من دار المسلم ـ كما قالوا ـ وبيوت النيران والمراحيض التي كره ذكر الله فيها بالصلاة ونحوها ، وحيث إن الأرض لله ، والذكر مرتبط به سبحانه ، كان ترفيع البيت وذكر اسمه تعالى بحاجة إلى الإذن ، وتلك البيوت تتصف بأنها (يُسَبِّحُ لَهُ) أي لله (فِيهَا) أي في تلك البيوت (بِالْغُدُوِّ) أي الصباح (وَالْآصالِ) جمع أصيل ، وهو طرف العصر ، وإتيان «الغدو» مفردا جنسا ، والآصال جمعا من التفننات البلاغية.

[٣٨] (رِجالٌ) هم المؤمنون (لا تُلْهِيهِمْ) أي لا تشغلهم ، من التلهي ، بمعنى : الاشتغال ، ومنه يسمى اللهو لهوا (تِجارَةٌ) هو مطلق الاكتساب ولو بالرهن والمزارعة ونحوهما (وَلا بَيْعٌ) وكان تخصيصه لشيوعه بين أنواع التجارات (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) سبحانه (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي عن إقامة الصلاة ، أصله «إقامة» والهاء عوض عن «الواو» في «أقوام» لأنه مصدر باب الأفعال ، فلما أضيف إلى الصلاة قام المضاف إليه مقام العوض ، ولذا حذف وإن جاز «إقامة الصلاة» أيضا (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) إعطائها أي إن أولئك الرجال بهذه الأوصاف حتى إن ذكر الله والعمل بمرضاته لديهم أهم من الاشتغال بمال الدنيا وأعراضها الزائلة ، خلافا لكثير من الناس الذين يشتغلون بالدنيا عن الآخرة (يَخافُونَ يَوْماً) هو يوم القيامة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ) أي في ذلك (الْقُلُوبُ) أي يتوجه القلب تارة إلى هنا وأخرى إلى هناك (وَالْأَبْصارُ) فتنظر

٧٠٧

لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ

____________________________________

العين هنا وهناك ، وهكذا عادة الخائف الوجل يفكر في مخلص ونجاة ويتوجه إلى هنا وهناك كي يرى ملاذا وشفيعا ومستندا.

[٣٩] وإنما يفعل أولئك الرجال تلك الأفعال (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهي الطاعات ، إنهم يترقبون جزاء طاعاتهم ، والطاعة هي أحسن ما عمله الإنسان من الطاعات والمباحات والمكروهات ، أو المراد يجزيهم بأحسن مما عملوا ، فقد عملوا ـ مثلا ـ ما يستحقون به دينارا ، فيترقبون إعطاءهم عشرة حسب وعده بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك الجزاء (مِنْ فَضْلِهِ) وزيادته كما قال (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) (وَاللهُ يَرْزُقُ) أي يمنح ويعطي (مَنْ يَشاءُ) من أحسن (بِغَيْرِ حِسابٍ) كثيرا زائدا ، لا يدخل تحت حساب الإنسان ، أو المراد يتفضل على الإنسان ، فلا يكون فضله مجازاة على عمل وإنما مجانا وتفضلا.

[٤٠] وبمناسبة ذكر أحوال الرجال الصالحين وما يجزون من الثواب في الآخرة يأتي ذكر الكفار وما يلاقون من العذاب على كفرهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (أَعْمالُهُمْ) التي يعملونها ويعتقدون أنها حسنات (كَسَرابٍ) هو الحادث في الصحاري وقت الظهر من انعكاس أشعة الشمس على الهواء حتى يظن الإنسان ـ من بعد ـ أنه ماء (بِقِيعَةٍ)

__________________

(١) الأنعام : ١٦١.

(٢) البقرة : ٢٦٢.

٧٠٨

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)

____________________________________

الباء حرف جر ، وقيعة جمع قاع وهو الواسع من الأرض المنبسطة ، ولعل الإتيان بالجمع ، لتعدد الصعد التي يعمل الإنسان الكافر أعماله فيها ، في صعيد العبادة للأصنام وفي صعيد الإنفاق ، وفي صعيد الإحسان إلى الأرحام ، وهكذا (يَحْسَبُهُ) أي يحسب ذلك السراب (الظَّمْآنُ) الذي عطش كثيرا (ماءً) وتخصيص الظمآن بالذكر ، مع أن السراب يتراءى لكل أحد ، من جهة أن الظمآن هو الذي يرجوه ، فإذا جاءه لم يجده ، ويخيب رجاءه في أحرج حالاته (حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي ذهب إلى ذلك السراب ليشرب منه ـ بظن أنه ماء ـ فيطفئ عطشه (لَمْ يَجِدْهُ) أي لم يجد ما زعمه ماء (شَيْئاً) إذ هو خيال الماء ، لا الماء ذاته ، وهكذا الكافر يحسب أن له أعمالا خيرة في الآخرة ينتفع بها في أحرج ساعاته ، فإذا ذهب إلى الآخرة لم يجد أثرا من أعماله (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي عند عمله المزعوم أنه باق له ، والمعنى أنه حيث كان يرجو الخير ، يرى الحساب والنكال (فَوَفَّاهُ) أي أعطاه الله وافيا (حِسابَهُ) الموجب لجزائه على أعماله السيئة في الدنيا (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، فلا تعطيل هناك في حساب الخلائق على كثرتهم ، وإنما يحاسب سبحانه الجميع في مقدار نصف ساعة ـ كما ورد ـ أو المراد سرعة زوال الدنيا ووصول الناس إلى جزاء أعمالهم.

[٤١] لقد كان المثال الأول للكافر بالنسبة إلى الشخص حال ظمأه يريد الارتواء ، ويأتي السياق بمثال ثان لحال الكافر بالنسبة إلى وقت ضلاله يريد الاهتداء والنور فلا يجد ، كالإنسان الذي ركب السفينة ، فجاء

٧٠٩

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها

____________________________________

سحاب وأظلم الآفاق ، وارتفعت الأمواج التي تغمر السفينة ، فلا يهتدي سبيلا لينقذه من هذه الهلكة (أَوْ كَظُلُماتٍ) أي أن أعمالهم كظلمات ، بينما أعمال المؤمنين كأنوار تهديهم الطريق ، كما قال سبحانه (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) فالوقت ليل مظلم ، والمكان بحر عظيم اللجة لا يرى ساحله ، من «لجة» البحر وهي معظمه (يَغْشاهُ) أي يعلو ذلك البحر اللجي (مَوْجٌ) وذلك حين تهب العواصف فتحمل الماء على متنها كالجبال وهو خليط من ماء وهواء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي فوق ذلك الموج الأول موج آخر ، إذ العاصفة إذا هبت كونت موجا ويمشي هذا الموج بسرعة سير العاصفة ، فإذا جاءت عاصفة ثانية كونت موجا ثانيا ، وربما يركب الموج الثاني على الموج الأول إذا كانت العاصفة الثانية أشد وحملت موجا كبيرا ، أكبر من الموج الأول.

(مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) حتى لا يرى بصيص من ضياء القمر والنجوم ، حتى يكون الإنسان في وسط ذلك تغشاه (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة البحر المنعكسة في الهواء ، وظلمة الموج الأول ، وظلمة الموج الثاني ، وظلمة السحاب وظلمة الليل ، حتى أن الإنسان في تلك الظلمة (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ) من تحت ثيابه (لَمْ يَكَدْ يَراها) أي

__________________

(١) الحديد : ١٣.

٧١٠

وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ

____________________________________

لا يقرب رؤيتها لشدة الظلمات ، إن لهذا الإنسان كيف حاله في عدم اهتداء الطريق للخلاص والنجاة ، كذلك حال الكافر الذي وقع في وسط أعماله المظلمة المتراكمة عليه ، فإنه لا يهتدي إلى طريق الهدى ، ويكون مصيره الهلاك (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) يهتدي به إلى السعادة ، وإنما لم يجعل له نورا لأنه أعرض عن الهدى ، فحرم الضياء (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) لأن الله هو نور السماوات والأرض ، فإذا حرم إنسانا من نوره ، لم يكن هناك نور آخر يستنير به الكافر.

[٤٢] ومن عجيب أمر الكفار أنهم يغمضون عيونهم في هذا الجو الذي حواهم يأسا بآيات الله سبحانه (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، أو : أيها الرائي ، والمراد بالرؤية العلم ، أي ألم يصل علمك إلى (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) تسبيحا تكوينيا (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإنا لنرى من في الأرض ينزه خلقهم الله سبحانه عن التعطيل والعجز والجهل وسائر الصفات السيئة.

ولا بد أن يكون من في السماوات كذلك بالفطرة والوجدان ، فهو مثل أن يقال : ألم تعلم أن النار في «الصين» تحرق ، فإن الإنسان يعلم ذلك بالقياس الفطري ، أو المراد وصول العلم إليهم بواسطة الأنبياء عليهم‌السلام الذين بينوا أن الملائكة يسبحون الله سبحانه ، ولعل المراد ب «من» الأعم من العقلاء ، وإنما جيء ب «من» تغليبا للعقلاء على من سواهم (وَ) يسبح (الطَّيْرُ) في حال كونها (صَافَّاتٍ) أي واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء ، وتسبيحها تنزيهها ودلالتها

٧١١

كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ

____________________________________

على وجود خالق قادر عليم حكيم ، وكان تخصيص الطير بالذكر إلفاتا إلى هذا المشهد المكرر المدهش إذا فكر الإنسان فيه ، فكيف أن الطير الثقيل لا يقع على الأرض ، وهو واقف في الجو ، بدون رفيف وحركة ، وحيث أن المراد بالطير الجنس جيء بضميرها مؤنثا (كُلٌ) من في السماوات والأرض والطير (قَدْ عَلِمَ) الله سبحانه (صَلاتَهُ) أي خضوعه لله (وَتَسْبِيحَهُ) تنزيهه له ، تكوينيا ، أو بألسنتها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من الأعمال ، فعلمه تعالى واسع شامل لكل شيء.

[٤٣] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك المطلق ، كما أنه العالم المطلق (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي إلى حسابه وجزائه مآل الكل ومرجع الجميع فهو المبدئ المعيد العالم المالك! وبعد هذا كيف يكفر الإنسان بهذا الإله العظيم؟ إنه لمدهش حقا.

[٤٤] (أَلَمْ تَرَ) أي رؤية بالبصر ، أو بالعلم ، والمخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كل من يأتي منه الرؤية (أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الإزجاء الدفع والسوق ، أي يسوق من هنا وهناك (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بين أجزاء ذلك السحاب المتفرق الآتي من هنا وهناك (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه على بعض ، حتى يتكون منه سحاب كثيف ذو ارتفاع وكثافة (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وثناياه.

٧١٢

وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ

____________________________________

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها) أي جبال السحاب التي في السماء ، والإنسان إذا ركب الطائرة يرى السحاب مثل الجبال في جميع مزاياها ، حتى لو لم يعلم الإنسان لظنها جبالا حقيقية ، كما شاهدنا ذلك حينما رجعنا من مكة المكرمة إلى دمشق (مِنْ بَرَدٍ) أي الثلج بأنواعه المختلفة و «من» بيانية للمنزل المفهوم من الكلام ، أي ينزل منزلا من جنس البرد (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بذلك الودق أو البرد (مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فلا ينزل المطر عليهم ولا يأتي إليهم البرد (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي يقرب برق السحاب من أن (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) فيعمي العين ويخطفها لشدة لمعانه ، فمن يا ترى جعل كل ذلك مما لا يقدر على جزء صغير منه البشر بكل قواه ووسائله؟.

[٤٥] (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يأتي بهذا وبذاك ، كالإنسان الذي يقلب الدرهم في كفه فتارة يظهر وجهه وأخرى يظهر ظهره (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقليب (لَعِبْرَةً) أي اعتبار ودلالة على وجود الله سبحانه وسائر صفاته (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي أصحاب بصر القلب ، أما من لا يعتبر فهو أعمى لا بصر له.

[٤٦] (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي كل حيوان يدب على وجه الأرض ، والمراد

٧١٣

مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)

____________________________________

الأعم لأن ما لا تدب أيضا كذلك ، وقد جرت العادة بإتيان جملة دلالة على الكل (مِنْ ماءٍ) الظاهر أن المراد الماء مطلقا لا خصوص المني ـ ليشمل مثل الحيوانات التي تتولد من مجرد الماء ، كالعقرب التي تتولد من الأرض الندية ـ إذ صح أن الولادة من مجرد الماء ، بدون أن تكون هناك بذور ـ (فَمِنْهُمْ) أي من الدواب (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالدود والحية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطيور (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش ، وكان هذا من باب المثال ، وإلا فمنهما من لا تمشي أو تمشي على أكثر من أربع ، ولعل الإتيان بما للعاقل من ضمير «منهم» ولفظة «من» تغليبا للإنسان على غيره ، مع اقتضاء وحدة السياق لسوق الجميع بهيئة واحدة (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من أنواع الحيوانات (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهل هناك على عموم قدرته سبحانه من هذه المخلوقات المختلفة ، التي يعجز جميع البشر من خلق واحدذة منها؟.

[٤٧] (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ) أي أدلة دالة على وجودنا (مُبَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ممن قبل الهداية ابتداء (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فإنّ الإرشاد إذا جاء ، فقبل بعض الأفراد ، أوصلهم الله سبحانه الطريق المستقيم أما من لم يقبل الإرشاد فيتركه سبحانه في ضلاله.

٧١٤

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨)

____________________________________

[٤٨] وحيث تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين يأتي السياق لبيان ما ينبغي أن يتصف به المؤمنون من الإذعان لكل أوامر الله والرسول (وَيَقُولُونَ) أي بعض الناس (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) واعتقدنا بهما (وَأَطَعْنا) في أعمالنا لهما (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض بعض هؤلاء المدعين للإيمان ، عن الأوامر (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الإظهار للإيمان والإطاعة (وَما أُولئِكَ) الذين يتولون ويعرضون عن الطاعة (بِالْمُؤْمِنِينَ) إذ كيف يكون مؤمنا صحيح الإيمان من يعرض عن أحكام الإله؟ وقد ورد (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١).

[٤٩] (وَإِذا دُعُوا) أي دعاهم طرف النزاع معهم في قضايا المرافعات (إِلَى اللهِ) لينظروا ماذا في كتابه من الأحكام ليجعلوه حكما بينهم (وَرَسُولِهِ) ليفصل القضية حسب الشريعة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الرسول (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء القائلين بأنهم مؤمنون (مُعْرِضُونَ) عن الخضوع للكتاب وللرسول ، وكأن الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المفاجآت ، كأن هذا كان مفاجأة أن يعرض عن الله والرسول من يدعي الإيمان والإطاعة.

__________________

(١) النساء : ٦٦.

٧١٥

وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)

____________________________________

[٥٠] (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي علموا بأن الرسول يعطي الحق لهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) إلى الرسول (مُذْعِنِينَ) منقادين لقضائه وحكمه ، إما حيث علموا أن الحق ليس لهم أعرضوا عن إتيان الرسول ، يريدون أن يذهبوا إلى من يعطي لهم الحق ـ وإن كان باطلا في نظر الواقع ـ.

[٥١] (أَفِي قُلُوبِهِمْ) استفهام توبيخي ، أي هل في قلوب هؤلاء المعرضين عن حكمك يا رسول الله (مَرَضٌ) أي نفاق وريب في نبوتك (أَمِ ارْتابُوا) بعد أن آمنوا ، بأن شكوا في عدلك وقولك بالحق (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ) أي يجور الله (عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكم ، بأن لم يشكوا في نبوتك ولم ينافقوا ، وإنما يخافون من جور الحكم ، كما هو شأن ضعاف الإيمان (بَلْ) لم يخافوا جور الحكم ، وإنما (أُولئِكَ) المعرضون (هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم حيث تولوا عن حكم الله والرسول ، وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في منازعة وقعت بين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وعثمان بن عفان ، وذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : نرضى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان : لا تحاكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه يحكم له عليك ولكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه‌السلام : لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال ابن شيبة لعثمان : تأتمنون رسول الله على وحي السماء وتتهمونه في الأحكام؟ فأنزل الله عزوجل على رسوله

٧١٦

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ

____________________________________

«وإذا دعوا» الآيات (١).

[٥٢] (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) الصحيحي العقيدة والإيمان (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى كتاب الله ، ورسوله ـ فيما كان في الحياة ـ أو سيرته بعد وفاته (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي يقضي بينهم في الخصومات (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) قول الله والرسول (وَأَطَعْنا) أوامرهما (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدنيا وسعادة الآخرة.

[٥٣] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي (وَيَخْشَ اللهَ) أي يخاف من عقابه إذا خالف (وَيَتَّقْهِ) أي يتقي الله ، والفرق بينهما أن الخشية أمر قلبي ، والاتقاء عمل خارجي ، والخشية تنجر إلى التقوى (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بسعادة النشأتين.

[٥٤] وبمناسبة الحديث عن المخالفين لأوامر الرسول يأتي الحديث عن بيان كذبهم في القول حتى فيما يحلفون على طبعه (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) أي حلفوا به (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أغلظ أيمانهم ، الذي كان على قدر جهدهم ومنتهى طاقتهم ، و «جهد» منصوب على المصدر أي يجهدون جهدا في إيمانهم (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج للقتال (لَيَخْرُجُنَ) ولكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٢٢٧.

٧١٧

قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى

____________________________________

هل ذلك صحيح؟ كلا! إنهم لم يرضوا بالمحاكمة فكيف يرضون بإزهاق أنفسهم في القتال؟

(قُلْ) يا رسول الله لهم (لا تُقْسِمُوا) على إطاعتكم (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) إما أن يكون هذا تهكما ، أي أن طاعتكم معروفة ، كما تقول للذي يحلف كاذبا إنه عمل كذا من الخير : لا تحلف ، أعمالك الخيرية معروفة ، أو المراد لا تأت بالحلف ، وإنما أطع ، فإطاعتكم طاعة معروفة حسنة خير من حلفكم وقولكم ، كما تقول لمن يحلف أنه ينصرك : لا تحلف ، انصر ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعلم أنكم لا تطيعون وإنما تحلفون حلفا مجردة عن العمل.

[٥٥] (قُلْ) يا رسول الله لهم (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم في القرآن الحكيم (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما يأمركم وينهاكم ، وهذا شامل لسنته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الطاعة ، أصله «تتولوا» وهو خطاب لهم ، حذفت إحدى تاءيه على ما هو القاعدة في ما إذا اجتمع تاءان في فعل المضارع (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على الرسول (ما حُمِّلَ) وكلف من البلاغ وأداء الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الطاعة والاتباع ، أي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مسئول عن إعراضكم فقد أدى ما عليه من الهداية والإرشاد ، وإنما الوزر عليكم حيث خالفتم (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) أيها المسلمون (تَهْتَدُوا) إلى الرشد والصلاح (وَما عَلَى

٧١٨

الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ

____________________________________

الرَّسُولِ) أي ليس الواجب عليه (إِلَّا الْبَلاغُ) أي تبليغكم الأحكام (الْمُبِينُ) أي بلاغا واضحا ظاهرا لا لبس فيه ولا غموض.

[٥٦] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أيها المسلمون (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن صحّت عقيدتهم وعملهم ولعل الإتيان بلفظ «منكم» للتشريف بأن الوعد لهم ، وإلا فالوعد عام يشمل كل مؤمن عامل بالصالحات (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلهم خلفاء لمن سبقهم ، فيكونون سادة وملوكا عقب الكفار الذين ملكوا الأرض وسادوا البلاد (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كما جعل الله المؤمنين من الأمم السابقة خلفاء الكفار في سيادة البلاد ، كما استخلف بني إسرائيل مكان الملوك الكافرة ، وكما استخلف النصارى مكان اليهود ، فصاروا سادة ، وكذلك المسلمون إذا آمنوا إيمانا صحيحا وعملوا الصالحات يستخلفهم الله سبحانه في مكان الكفار ليكونوا هم ملوك الأرض وسادتها عوض الكفار ، وقد أنجز الله هذا الوعد ـ كما يدل على ذلك التاريخ الإسلامي ـ بل لقد رأينا أن من بركة أولئك المؤمنين العاملين للصالحات ، وصل ملك الأرض إلى من كان في زي الإسلام ، وإن كان الإسلام منه بمعزل. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي يمكنهم من إقامة دينهم الذي هو الإسلام ، أو المراد يمكن دينهم بأن يجعل له مكنة وقوة ليظهر على جميع الأديان ، ويغلب عليها ، فتذهب الأديان وتضمحل ويأخذ هذا الدين مكانها ، وارتضى لهم أي اختاره

٧١٩

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا

____________________________________

لهم دينا (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) فقد كانوا يخافون الكفار من إظهار دينهم وإعلام شعائره ، لكن الله سبحانه ـ إذا آمنوا صدقا ، وعملوا الصالحات ـ يجعلهم سادة حتى لا يخافون أحدا ، فيتبدل خوفهم بالأمن ، وهؤلاء (يَعْبُدُونَنِي) عبادة صادقة (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فالخضوع له سبحانه ، لا للمال والمنصب والشهوات وما أشبهها ، إن من يمكنه الله في الأرض هو المتصف بهذا الوصف (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) الذي مكنه الله سبحانه في الأرض ، بل خرج عن طاعة الله سبحانه بعد أن هيأ له الجو ومهد له البلاد (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن الحدود ، فإن الفسق بمعنى الخروج ، لأنهم خرجوا عن الشرط ، وكأنه تهديد بالزوال ، إذ من خرج عن الشرط هدد ملكه بالزوال ، وقد رأينا ذلك في تاريخ الإسلام حين كفر الملوك بنعمة الله ، وخرجوا عن أمره وشرطه ، حيث انساقوا وراء الشهوات ، وإذا بهم يخرجون عن الأرض ، وتطوى سيادتهم وملكهم ، وقد وردت أحاديث كثيرة في أن الآية إنما هي في شأن الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه ، وفي شأن شيعة أهل البيت ، ومن المعلوم أن ذلك من أظهر مصاديق هذه الكلية المذكورة في الآية.

[٥٧] وإذ كان الشرط العمل الصالح يذكر السياق بعض أقسامه المهمة بقوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بحدودها وآدابها (وَآتُوا) أي أعطوا (الزَّكاةَ) إما المراد الزكاة المفروضة أو مطلق الصدقة (وَأَطِيعُوا

٧٢٠