تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً

____________________________________

الدليل ، والحكم ، كما يذكر العام ، ليشمل الخاص ، فلا غرابة في أن يراد بالشعائر العموم ، ويراد ب «(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ ..) إلى آخره ـ» خصوص الهدي ، كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (١) ف «إنا لا نضيع» عام ، ودليل ، في وقت واحد ، وهكذا من أمثاله ، وهو كثير.

[٣٥] وليس موضع عجب ، أن يكون ذبح الأنعام من الشعائر في هذه الأمة ، فقد كان ذبحها في كل الأمم من الشعائر ، والذين يثنون على ذبح الحيوان ، لم يدركوا طبيعة البشر ، التي لا تقوم ، إلا باللحوم ، ولم يدركوا أن لا فرق بين ذبح الحيوان وموته ، فإن الألم الذي يصل إليه من الموت أكثر من الألم الذي يصل إليه من الذبح ، والنقض بذبح الإنسان في غير مورده ، إذ الإنسان خلق لنفسه ، وله خلق الكون ـ كما يشهد بذلك نفس الكون ـ فهو غاية لا وسيلة ، بخلاف الحيوان الذي هو وسيلة ، ثم ماذا يقولون في ركوب الحيوان ، والحمل عليه؟ فهل يرون ذلك خلافا ، وأنه مثل ركوب الإنسان والحمل عليه؟ وماذا يقولون ، في استخدام الإنسان لجنسه في حوائجه الضرورية؟ وكون الألم هنا أقل فلا يبرر ، إذ لو كان الإيلام ظلما ، لم يكن فرق في أصل القبح بين الظلم القليل والظلم الكثير ، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) المنسك موضع العبادة ، من نسك بمعنى عبد ، والنسيكة الذبيحة ، لأنها تذبح قربة إلى الله تعالى ، والمراد بالمنسك إما البيت ، وإما الذبيحة ، لأنها موضع العبادة ، إذ يقرب بها إلى الله ، والأول أقرب

__________________

(١) الكهف : ٣١.

٦٠١

لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا

____________________________________

إلى ظاهر اللفظ ، والثاني أقرب إلى السياق (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي إن جعل العبادة ، أو الذبيحة ، إنما هو لذكر الله على ما رزقهم من اللحوم ، ولو كان المراد بالمنسك ، محل العبادة ، كان التعليل بمناسبة تلازم محل العبادة وذبح الحيوان قربانا ، كما نرى في الحج ، وقد كان في الأمم السابقة ، تشريع ذبح الحيوان لله ، في محل العبادة ، وإنما حرفها المشركون ، حيث كانوا يذبحونها للشركاء (فَإِلهُكُمْ) أيها البشر (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فلا تذبحوا الذبائح لغيره كما كانت عادة أهل الجاهلية و «الفاء» تفريع على العلة في «ليذكروا» بمعنى أن تشريع الذبح ، لما كان لذكر اسم الله ، فلا تذكروا سواه (فَلَهُ) وحده (أَسْلِمُوا) أي انقادوا وأطيعوا (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُخْبِتِينَ) الذين يتواضعون لله تعالى ، من أخبت خضع.

[٣٦] ثم فسر المخبتين بقوله (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت واضطربت ، فإن الإنسان ، إذا ذكر باسم عظيم يكون مآله إليه ، ولا يدري هل أنه ناجح أم ساقط ، يخشى ويخاف خوف الرسوب ، وهذا يدل على كمال الإيمان (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من المكاره والأتعاب والبلايا ، يصبرون لأجله سبحانه ، وإطاعة لأمره (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) أصله مقيمين ، حذف النون ، للإضافة (وَ) الذين (مِمَّا

٦٠٢

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ

____________________________________

رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يبذلون ، كما أمر الله سبحانه و «الصابرين» و «المقيمي» عطف على «الذين» و «مما رزقناهم» عطف على «إذا ذكر» أو بتقدير الذين ، حتى ينساق العطف في الجميع.

[٣٧] (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة ، وهي الإبل (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) التي تنحر في الحج تعظيما لأمر الله سبحانه ، وخص البدن بالذكر ، مع أن البقر والغنم كذلك ، لأن البدن أعظمها مثوبة ، وأنفعها للناس ، ولعل تخصيص الهدي بالذكر من بين سائر الشعائر ، لأن فيها الدين والدنيا ، بخلاف سائر الشعائر ، كالطواف والسعي والرمي ، وما أشبه (لَكُمْ) أيها المسلمون (فِيها) أي في البدن (خَيْرٌ) تنتفعون بلحومها في دنياكم ، وبثوابها في آخرتكم فإذا أردتم نحرها للهدي اذكروا (اسْمَ اللهِ عَلَيْها) في حال كونها (صَوافَ) أي قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجلهن ، جمع صافة ، وذلك حين إرادة نحرها (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) بأن سقطت على الأرض ، لموتها في أثر النحر ، وهي إذا وقعت تقع على جنبها وذلك كناية عن موتها (فَكُلُوا مِنْها) الأمر ، إما للإباحة ، لأن الأكل مباح ، أو للوجوب على ما ذهب إليه جماعة من العلماء ، من وجوب الأكل من الهدي (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الذي يقنع بما أعطيته ، وهو يسألك الطعام (وَالْمُعْتَرَّ) من اعتر ، بمعنى اعترى ، وهو الفقير الذي يعتري رحلك من غير أن يسأل ، وكان الإتيان بهذين الوصفين ، لبيان العلة في الإعطاء ، والإلفات إلى خصوصيتها الموجبة

٦٠٣

كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ

____________________________________

للعطف والرحمة (كَذلِكَ) الذي ذكرنا (سَخَّرْناها لَكُمْ) فإنها مع قوتها مسخرة لكم حتى تتمكنوا من أخذها ، وإيقافها صواف ونحوها ، بخلاف السباع الممتنعة التي هي لو كانت دونها لا تنقاد ولا تخضع (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا لطف الله وفضله.

[٣٨] إن الأمر بذبح الهدي ، ليس لانتفاع الله سبحانه ، فإنه تعالى لا ينتفع بشيء (لَنْ يَنالَ اللهَ) أي لن يصل إلى الله (لُحُومُها) ليأكل ، أو ينتفع (وَلا دِماؤُها) كما تنال الأصنام دماء قرابينها ، فإنهم كانوا يلطخون الصنم بدم القربان ، ليدل على أنهم عظموه بالقربان من أجله (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) فإن توجه القلوب إليه سبحانه ، هو المطلوب المهم الذي أمر به سبحانه ، وهو الشيء الذي يريده ، ولذا شبه بما ينال الإنسان ويصل إليه ، وإلا فالتقوى أيضا لا يناله سبحانه ، والمعنى أن المقصود بالهدي التقوى ، لا الهدي في صورته المجردة ، إذ لا انتفاع لله سبحانه بصورة الهدي ، وإنما الصورة تفيد من يريد الأكل أو الاستعلاء بلطخ الدم (كَذلِكَ) أي كالذي ذكر من كون لحومها ودمائها باختياركم ، (سَخَّرَها) أي سخر البدن (لَكُمْ) أيها البشر (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي تعظموه على هدايته إياكم ، فإن الإنعام ، يوجب الشكر على كل نعمة ، فالهداية والتسخير وإن كانا نعمتان ، لكن أحدهما توجب الشكر على الأخرى ، فلا يقال مقتضى القاعدة أن يقال : «على ما سخر» لا «على ما هدى» (وَبَشِّرِ) يا رسول

٦٠٤

الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)

____________________________________

الله (الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في أعمالهم ، فلا يأتون بالسيئات.

[٣٩] وإذ بين سبحانه الشعائر والمشاعر بين جواز الدفاع عنها ، فإن العقيدة والشريعة ، تحتاجان إلى دفاع أصحابها عنهما من الاعتداء ، وبين سبحانه ، أولا أنه هو المدافع ، ثم أذن للمسلمين أن يدافعوا (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه يمنع الكفار عنهم ، وينصرهم على أعدائهم والإتيان من باب المفاعلة ، للالفات إلى المدافعة التي تقع بين الكفار ، وبين الأمور التي جعلها الله سبحانه وسيلة للدفاع عن المؤمنين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) قد خان عهد الله المودع في فطرته ، بالتوحيد والإيمان ، وإنما كان خوانا ، لأنه يخون في كل خطوة خطوة (كَفُورٍ) كثير الكفر ، فإن الإنسان في كل حركة وسكون ، إما يلابس الإيمان أو الكفر.

[٤٠] وإذ تمادى الكفار في غيهم ، وأخذوا في تضييق النطاق حول العقيدة والإيمان ، بصد الناس عن الإيمان ، وتعذيب المؤمنين بالقتل والإيذاء والتشريد (أُذِنَ) والآذن هو الله سبحانه ، ولم يذكر اسمه تعظيما (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) أي يقاتلهم الكفار ، وقد حذف متعلق الإذن ، والتقدير أذن لهم ، أن يقاتلوا ، وهذه أول آية نزلت في باب القتال بسبب (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي أن سبب الإذن ، كون الكفار ظلموهم (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فلم يكن النصر إلقاء لهم ، في التهلكة ، بل بسبب أن الله يريد نصرتهم ، والجملة كناية عن إرادة النصرة ،

٦٠٥

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ

____________________________________

لا بيان قدرة الله على النصر ، فإن ذلك مثل أن يقال لك : اذهب إلى الحرب ، فإني قادر على دفع أعدائك.

[٤١] ثم بين سبحانه كيفية مظلوميتهم توضيحا لقوله «بأنهم ظلموا» (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) وهم المهاجرون الذين أخرجهم الكفار لكثرة أذاهم ، حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم في مكة ، بدون أن يكونوا قد اقترفوا إثما أو ذنبا (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) فقد كان تمسكهم بالله سبحانه ، هو سبب إخراج الكفار لهم عن بلادهم ، والاستثناء منقطع ، وقد مر أن مثل هذا الاستثناء ، لكون الكلام في المستثنى منه مأخوذا على التجرد ، فالجملة تنحل إلى ثلاثة أشياء ، هكذا «لم يخرجوا من ديارهم» «إلا لقولهم ربنا الله» «وكان إخراجا بغير حق» لكن الاقتصاد في الكلام ، يوجب توصيف المستثنى منه بالجملة الثالثة ، ثم بين سبحانه ، أن الله يدفع غير المؤمنين بالمؤمنين ، حتى تبقى معالم الدين (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي أن الله سبحانه يدفع الكفار بسبب الأخيار وذلك الدفع بإيجابه سبحانه الجهاد والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والإرشاد ـ في الظاهر ـ ونصره سبحانه لهم ـ في الباطن ـ (لَهُدِّمَتْ) جميع آثار الأديان (صَوامِعُ) جمع صومعة ، وأصلها من الانضمام ، ومنه الأصمع للألصق الأذنين ، وكل منضم فهو متصمع ، والصوامع هي محلات العبادة للنصارى ، ولعل وجه تسميتها بهذا الاسم ، لأنها تضم العباد والرهبان (وَبِيَعٌ) جمع بيعة ، وهي الكنائس لليهود ، ومحلات

٦٠٦

وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

____________________________________

عبادتهم ، ولعل وجه التسمية ، أن الإنسان الذي يراودها قد باع نفسه من الله سبحانه (وَصَلَواتٌ) أي محلات الصلاة ، بعلاقة الحال والمحل ، ولعله أريد به مواضع عبادة المجوس ، وفيها احتمالات أخر (وَمَساجِدُ) للمسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الضمير إما عائد إلى المساجد ، أو إلى جميع ما تقدم ، والمراد أنها كانت تهدم كل في زمان النبي النافذ شرعه ، فكانت تهدم البيع في زمان موسى ، والكنائس في زمان عيسى عليه‌السلام ، وهكذا ، وأما أنها كانت تهدم في الوقت الحاضر ، فإن هذه المواضع للعبادة خير من عدمها بتسلط أهل الطبيعة ، والدهرية ، فإنها علائم من الدين ، وآثار من السماء ، وإن حرفها أهلها عن الأصل ، وكانت باطلة في زمان الإسلام ، غير المساجد ، فإنه سبحانه له علاقة بها ، في مقابل المعطلة والدهرية ، ومنه اغتنم المسلمون حين انتصر الفرس على الروم ، وكانوا يترقبون غلبة الروم ، لأنهم نصارى ، على الفرس عباد النار ، قال سبحانه (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) (١) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) فإن من نصر شريعة الله ، كان الله ناصره ، وهذا من باب التشبيه ، وإلا فالله غني عن النصرة ، ثم إن الله ناصر لمن نصره طبيعي ـ كما هو غيبي مربوط بما وراء المادة ـ إذ المؤمن الذي يكمل قواه المادية ، ويبرز في الميدان ، يكون ضروريا بالقوتين المادية والروحية ، وللقوتين غلبة على القوة

__________________

(١) الروم : ٢ ـ ٥.

٦٠٧

إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ

____________________________________

الواحدة في الطرف المقابل ، وهي القوة المادية المجردة ، أما من لا يكمل قواه المادية ، اعتمادا على قواه الروحية فقط ، فقد خرج عن أوامر الله سبحانه ، الذي قال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١) و (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٢) و (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (٣) و (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٤) و (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٥) وغيرها (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) يقوى على نصرة المؤمنين (عَزِيزٌ) قاهر لا يغلبه أحد.

[٤٢] ثم وصف سبحانه الذين أذن لهم في القتال ، وأخرجوا من ديارهم بقوله أنهم هم (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بأن كانت لهم المكنة والسلطة (أَقامُوا الصَّلاةَ) أي أدوها بحقوقها وآدابها ، وشرائطها (وَآتَوُا الزَّكاةَ) أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل شيء أمر به الشرع ، أو العقل إيجابا أو ندبا (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو كل شيء نهى عنه الشرع أو العقل تحريما ، أو تنزيها ، وليس معنى هذا ـ المفهوم ـ بأنهم إن لم يمكّنوا لم يقيموا الصلاة ـ إلى آخره ـ بل هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ غير المتمكن في الأرض لا يتمكن من أداء هذه الأشياء على وجهها ، أو

__________________

(١) الأنفال : ٦١.

(٢) الصف : ٥.

(٣) المائدة : ٥٢.

(٤) آل عمران : ١٠٤.

(٥) الفتح : ٣٠.

٦٠٨

وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

____________________________________

من قبيل إن رزقت ولدا فاختنه ، حيث لا محل للختان بدون رزق الولد (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي إن الله يرث الأشياء ، فالعاقبة ، والخاتمة له ، وهذا وعد للمؤمنين ، وإيجاد أمل فيهم ، بأن يكافحوا ويقاتلوا ، لأن الله هو الذي ينصرهم ، وتكون العواقب مطابقة لمناهج المسلمين.

[٤٣] ثم سلا سبحانه رسوله ، فيما يلاقيه من تكذيب القوم ، بأن له أسوة بالأنبياء السابقين (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا رسول الله (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا (وَعادٌ) كذبت هودا (وَثَمُودُ) كذبت صالحا.

[٤٤] (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ) نمرود وأتباعه ، كذبوا إبراهيم عليه‌السلام (وَقَوْمُ لُوطٍ) كذبت لوطا.

[٤٥] (وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) كذبت شعيبا (وَكُذِّبَ مُوسى) كذبه فرعون وقومه ، ولم يقل «وموسى» لأنه كان يوهم ، أن قوم موسى ـ وهم بنو إسرائيل ـ كذبوه (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي كتبت أعمالهم ، وأمهلتهم حتى استوفوا أعمارهم المقدرة لهم (ثُمَ) لما انقضى أمرهم (أَخَذْتُهُمْ) بأصناف العذاب (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) استفهام تقريري ، أي كيف كان إنكارهم عليهم ، ألم يكن في موقعه ، فإنهم لما كفروا ، أخذوا بجزاء أعمالهم.

[٤٦] (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كم من قرى ، والمراد بها المدن ، و «كم»

٦٠٩

أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها

____________________________________

خبرية للتكثير (أَهْلَكْناها) والمراد إهلاك أهلها ، بعلاقة الحال والمحل ، وذلك لأن الهلاك يعم نفس القرية ، كما يشمل أهلها ، فتخرب منازلها ودورها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلها بالكفر والعصيان (فَهِيَ) تلك القرية المأخوذة (خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي سقوفها ، فإن السقف إذا وقع ، وقعت عليه الحيطان والجدران ، وهذا من أبشع أنواع الإهلاك ، إذ أهل الغرفة والمحل إذا سقط عليهم السقف وسقطت الحيطان على السقف تحطمت عظامهم وكثيرا ما لا يظفر لهم على بدن (وَ) كأين من (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) تعطلت عن الرواد وذكر البئر ، لأن الماء كان من الآبار ، في أكثر المدن والقرى ، وتعطيلها كان علامة فناء أهلها ، حتى أن هذا العصب الحي للحياة ، قد تعطل عن العمل (وَ) كأين من (قَصْرٍ مَشِيدٍ) أي قد شيد وبني بالجص ، وزين بالزخرفة ، قد تعطل ، فلا ساكن له ، وإذ لا ساكن للقصر المشيد ، فكيف بالدور والدكاكين ، ونحوها ، مما لا قيمة لها في جنب القصر.

[٤٧] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك (فِي الْأَرْضِ) اليمن والشام ، وسائر البلاد التي أهلك أهلها ، لما كذبوا الرسل ، حتى يعتبروا ، ويقلعوا عن غيهم؟ (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما يرون من العبر ، وآثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة ، الذين كذبوا أنبياءهم (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم السابقة ، فإن

٦١٠

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)

____________________________________

الإنسان ، إذا سافر ، سمع من أهل بلد أخبار الماضين منهم ، وأنهم كيف كانوا ، وكيف ماتوا ، حتى يحكوا لهم ، أن أسلافهم أهلكوا حيث كذبوا الأنبياء وعملوا بالكفر والمعاصي ، (فَإِنَّها) الضمير للشأن والقصة ، ويأتي هذا الضمير للإلفات والتنبيه ، إلى أن ما بعده أمر مهم ، فإذا كان مذكر ، سمي ضمير الشأن ، وإن كان مؤنثا سمي ضمير القصة ، والجملة ما بعد الضمير مفسرة له (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) الناظرة إذ البصر ينظر ويرى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ) وتنفلق عن الهدى (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) والإتيان بهذا الوصف للتعميم ، كقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١).

[٤٨] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا رسول الله ، أي هؤلاء الكفار ، فقد كانوا يطلبون من الرسول ، أن يأتي به (بِالْعَذابِ) الذي وعدهم ، استهزاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الله سبحانه لا يأتي بالعذاب ، إلا في الوقت المحدد له حسب حكمته ومصلحته (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) فقد وعد بالعذاب ، فيأتيه ، كما وعد لهم مدة معينة ، فلا يأخذهم قبل انقضائها (وَإِنَّ يَوْماً) وهو يوم القيامة (عِنْدَ رَبِّكَ) في حسابه (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهذا تهديد ، أي أن وراءهم يوما يعادل ألف سنة ، بحساب الإنسان ، وإن كان عند الله سبحانه ، يعد يوما واحدا ، وهذا كما تقول للمجرم ،

__________________

(١) الأنعام : ٣٩.

٦١١

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

____________________________________

سيأتي وقتك ، وفي حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك ، تريد أن عليه الحبس تلك المدة.

[٤٩] إنهم كيف يستعجلون بالعذاب؟ ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟ (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أي أمهلتها لتبلغ أجلها المقدر لها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) بالكفر والعصيان مستحقة ، لتعجيل العقاب (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب لما انقضى أجلها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي أن الكل يصيرون إلى عقابي وثوابي وجزائي في القبر ، وفي القيامة ، فلا يغرنهم الأجل المضروب لهم «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» وسيأتي وقت هؤلاء القوم ، وإنا إذ ننظر إلى هذه الآيات ، نرى أن وقت القوم المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد انقضى ، وأن الله قد أهلكهم ولم يبق اسمهم إلا للعنة ، كما أنهم هناك معذبون في أشد العذاب.

[٥٠] (قُلْ) يا رسول الله للناس (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ) أنذركم بالعذاب في الدنيا والآخرة (مُبِينٌ) واضح ظاهر ، أنذركم بكل صراحة ووضوح.

[٥١] (فَالَّذِينَ) قبلوا الإنذار ، بأن (آمَنُوا) إيمانا صحيحا بالأصول والمعارف (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ولازم ذلك ترك السيئات ـ كما مر ـ (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي غفران ، إذ هو مصدر ميمي

٦١٢

وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ

____________________________________

(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فيغفر الله ذنوبهم ، ويتفضل عليهم بالجنة ، التي فيها رزق كريم ، مع الكرامة والحفاوة.

[٥٢] (وَالَّذِينَ) لم يقبلوا الإنذار بل (سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا وأدلتنا الدالة على التوحيد ، والرسالة ، والمعاد ، في حال كونهم مريدين أن يعجزونا ، ويسلبوا قدرتنا عن الهدى والإرشاد والإتيان من باب المفاعلة لأنهم يريدون تعجيز الأنبياء حتى لا يهدوا الناس والأنبياء يريدون تعجيزهم حتى لا يصدوا السبيل (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وهذا من باب كون أولئك مورد الكلام ، وإلا فمن كفر كان محله النار ، وإن لم يسع معاجزا.

[٥٣] وبمناسبة الكلام حول من يسعون في آيات الله معاجزين ، ذكر سبحانه بعض كيفيات سعيهم في إبطال الآيات وذلك بأنهم يزيدون وينقصون في الآيات ، حتى يبطلوها ويحرفونها حسب أهوائهم ، وهكذا يفعل المغرضون دائما بالمصلحين إنهم ينقلون عنهم الكلام بزيادة ونقيصة ، يفسحون بذلك مجالا لافتراءاتهم وتخريباتهم ، لكن الكفار لا يتمكنون إبطال الآيات بهذه الكيفية الشائنة لأن الله سبحانه من وراءهم يبطل ما حرفوه ويقوي آياته في القلوب ، حتى تبقى كالفضة الخالصة لا غش فيها ولا دين (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (مِنْ رَسُولٍ) يرسله الله سبحانه (وَلا نَبِيٍ) ينبئه الله تعالى ، ولعل الاختلاف بينهما ـ هنا ـ حسب العموم والخصوص ، فالرسول أخص من النبي ،

٦١٣

إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ

____________________________________

وإن كان كلاهما مرسلا (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) التمني هو القراءة ، يقال تمنى الكتاب إذا قرأه ، قال الشاعر :

تمنى كتاب الله أول ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في قراءته ومعنى الإلقاء التحريف بالزيادة والنقصان ، وإنما نسب الإلقاء إليه ، لأنه من وسوسته ، وإغرائه لعملائه الكفار أن يزيدوا ، وبهذا الإلقاء يريد الشيطان وأتباعه أن يعجزوا الرسول عن إتمام رسالته ـ كما سبق قوله : «والذين سعوا في آياتنا معاجزين» إذ إلقاء التشويش والاضطراب ، يوقف سيرة الدعوة ويكدر صفوها ، لكن الله سبحانه يحفظ دينه وقرآنه عن الاختلال (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) بأن يبطله ويزيله بسبب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرسول ، إذ يبين الرسول للناس أن هذا زائد وهذا ناقص ، وهذا أصيل وهذا دخيل (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بأن يجعلها محكمة لا يتسرب إليها الدخيل فإن المؤمنين إذا علموا أن الكفار بصدد الزيادة والنقصان ، التزموا بالكتاب أشد الالتزام مما يوجب إحكامه ، فلا يتطرق إليه التغيير والتحريف وقد حاول الكفار ذلك بالنسبة إلى القرآن منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنهم لم ينجحوا وفي زماننا حاول «أتاتورك» أن يلخص القرآن ، وصنع منه مهزلة لم يدم إلا يسيرا ، حتى نسخه الله ، وأحكم آياته ، وثم حاول اليهود من «فلسطين» أن يغيروا القرآن ، وطبعوا منه نسخا محرفة ، ووزعوها في البلاد ، لكنها لم تنجح أيضا ، بل قيض

٦١٤

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)

____________________________________

الله المسلمين ، لينبهوا على تحريفهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يفعله الكفار بوسوسة من الشياطين (حَكِيمٌ) يعمل كل عمل عن حكمة وصلاح ، فلا يدع الكتاب الموحي إلى النبي عرضة التلاعب والزيادة والنقصان.

[٥٤] وإنما لا يعجز الله الشيطان عن هذا العمل ، بأن يسلب قدرته منه حتى لا يتمكن من هذه الزيادة والنقصان (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) في الكتاب (فِتْنَةً) وامتحانا (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فإن من مرض قلبه بالشك والريب ، إذا رأى الزيادة والنقصان والاضطراب رفع اليد عن الإيمان ، ودخل في صف الكفار أو المنافقين (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار الذين قست قلوبهم عن قبول الحق ، فإن التحريف في الكتاب ، على ما ألقاه الشيطان فتنة لهم ، لأنه يزيدهم كفرا وضلالا فإنه يعطيهم الدلالة ، حتى يتمكنوا من الهدم أكثر من ذي قبل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والنفاق (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) كأنهم في شقة منحرفة عن الجادة المستقيمة والشقة التي فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيدة جدا عن الجادة ، فليسوا كالعصاة الذين هم في شقة قريبة ، إذ انحراف العاصي يسير بالنسبة إلى انحراف الكافر والمنافق ، والمعنى أن الكفار ، والذين في قلوبهم مرض ، الذين يتخذون التحريف ، وسيلة للريب والهدم إنهم بعيدون عن الجادة المستقيمة ، وإلا فما يمنعهم عن تصحيح القراءة بسبب الرسول والمؤمنين؟ إنهم يريدون الكفر والنفاق والشك والتهريج ، لا الحق ، ولا الواقع ، حتى

٦١٥

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)

____________________________________

يبحثوا الشيء عن أصله ومورده.

[٥٥] وكما أن التحريف يسبب ضلالا وكفرا للذين في قلوبهم مرض ، والقاسية قلوبهم ، كذلك يسبب هداية وإيمانا بالنسبة إلى المؤمنين إذ الإنسان الطالب للحقيقة ، إنما يقوي إيمانه ، إذا رأى الاستقامة في وسط الاضطراب ، ورأى الحق في جنب الباطل ، فإن الأشياء تعرف بأضدادها فإذا رأى الذين أوتوا العلم القرآن ، لم يتغير ولم يتبدل ، وقاسوه بما ألقي فيه من التحريف ليروا الفرق الظاهر بين كلام الله وكلام الشيطان ، ازدادوا إيمانا ويقينا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أعطوا العلم فهم عالمون فاهمون (أَنَّهُ) أي القرآن الذي أريد فيه الزيادة أو النقصان (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ولذا بقي ناصعا مشرقا ، لم يؤثر فيه التشويش والتحريف (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بالنسبة إلى غير من آمن إلى هذا الوقت ويثبتوا على الإيمان بالنسبة إلى المؤمن ، فإن للإنسان في كل آن إيمان ، وفي كل لحظة هداية. فإن الإيمان فعل القلب الذي يصدر منه آنا فآنا (فَتُخْبِتَ) أي تخضع (لَهُ) أي للقرآن ، المستفاد من قوله : إذا تمنى (قُلُوبُهُمْ) وتكون أكثر إيمانا به والتزاما له (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يهديهم في كل خطوة من خطوات الحياة المظلمة ، فمن أسلس قيادة الله بالإيمان ، هداه حينا بعد حين (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا عوج فيه ولا انحراف.

[٥٦] أما الكفار ، فإنهم يبقون في غيهم إلى أن يموتوا ، وذلك ، لأنهم لم

٦١٦

وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا

____________________________________

يسلسوا القياد ، وأخذوا في الضلال والغواية (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن هل هو منزل أم لا؟ (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي الموت ، أو القيامة (بَغْتَةً) فجأة ، فلا مجال لهم للإيمان ، حتى ينجوا من العذاب (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) بأن يأخذهم عذاب الاستئصال والحاصل أنهم في شك حتى يموتوا ، أو يعذبوا بإرسال الله العذاب عليهم ، كما كان يعذب الأمم السابقة ، وسمي اليوم عقيما ، لأنه لا مثل له ، فهو فرد كالإنسان العقيم الذي لا يلد ، فهو فرد لا شريك ولا شبيه له.

[٥٧] (الْمُلْكُ) والسيطرة المطلقة (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إتيان الساعة أو العذاب (لِلَّهِ) لا شريك له في الملك ، حتى ظاهرا بخلاف الدنيا ، فإن هناك ملوكا ظاهرين ، قد جعلوا الملك لهم (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين المؤمن والكافر فلا أحد هناك له سيطرة ، لنقض حكم الله ، وإبطال قضائه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) التي لا فساد فيها (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ينعمون فيها ، والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي في نعيم الجنات.

[٥٨] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله والمعاد (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي الأدلة

٦١٧

فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)

____________________________________

التي نصبناها للإرشاد والهداية (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم ، جزاء لكبريائهم في الدنيا ، عن الحق والإذعان.

[٥٩] وحيث كان الكلام في الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ، خصصوا بالذكر ، بعد أن شملهم عموم (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) أوطانهم وأهليهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجله ، وبقصد امتثال أوامره ، فكأنهم أخذوا يسيرون في الطريق الموصل إليه تعالى (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد ، حيث أذن لهم بالمقاتلة (أَوْ ماتُوا) في الغربة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) وهو الرزق الذي لا يشوبه كدر ومنقصة ، أي في الجنة ، في قبال تركهم طيبات الدنيا وأرزاقها ، والرزق أعم من المأكل والمسكن والزوجة ونحوها (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فقد أطلق الرازق على كل من يتولى إعطاء الرزق لغيره ، من أب ، وزوج ، وسيد وغيرهم ، فالله سبحانه خيرهم ، إذ رزقه أهنأ وأطيب وبدون من.

[٦٠] (لَيُدْخِلَنَّهُمْ) الله سبحانه (مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) «مدخل» وزن المفعول ، وهو اسم مكان ، والمراد به الجنة ، فإنهم يرضون بها مقاما ومنزلا ، لما فيها من النعيم المقيم مما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوالهم ، وما عملوا من الصالحات (حَلِيمٌ) وهذا تسلية

٦١٨

ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ

____________________________________

لهم ، بأن الله سبحانه إذا أمهل الكفار ، حتى فعلوا ما فعلوا فلم يكن ذلك إحباطا لأعمال المسلمين وعدم الاعتناء بهم ، وإنما هو بمقتضى حلمه ، وسيعاقبهم على ما اقترفوا ويجزي المسلمين ، بما أوذوا في سبيله.

[٦١] (ذلِكَ) أي أن الأمر ، كما قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي جازى الظالم ، بمثل ما صنع به من الظلم والتعدي ، بأن قاتل المشركين ، كما قاتلوه ، وأخرجهم كما أخرجوه ، وسمى العقاب عقابا ، لأنه يلحق الإنسان ويأتي بعقبه ، وكان الإتيان من باب المفاعلة ، لأجل أن كلّا من الشخصين ليعاقب الآخر ، فهذا يظلم ذاك وذاك يرد عليه ما عمل به ، وسمي كل من الأمرين معاقبة للتشابه المسمى ب «الازدواج» كقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي ظلمه الظالم مرة أخرى ، وإنما ذكر ذلك ، لأن المظلوم غالبا يبغى عليه مرة أخرى ، إن اقتص من الظالم لظلمه أولا ، فإن من يبتدئ بالعدوان ، لا يترك المظلوم أن يجازيه إلا ويعاقبه مرة أخرى (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) فلا ييأس المظلوم من هذا الحيث ، وليعلم أن الله بالمرصاد ، فليقدم على وضع حد للظالم برباطة جأش ، وقوة قلب ، ولعل هذا ليتعلم المسلمين أن لا يحجموا عن الفتك بمن ظلمهم خوف أن يعود الظالمون عليهم بالظلم والأذى (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) أما البشر فلا يلزمهم الله بالعفو ، لأنهم لا يقدرون

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

٦١٩

غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

____________________________________

على ذلك (غَفُورٌ) يغفر الذنب ، وليس كذلك البشر ، وإذا أذن لهم في رد الاعتداء وقتال من آذاهم وأضربهم.

[٦٢] (ذلِكَ) النصر للمؤمنين المظلومين على الكافرين الظالمين ، إنما يكون بدليل أن (اللهَ) سبحانه قادر على كل شيء ، كما يقدر على التصرفات الكونية ، فمن يقدر على تحريك الكون العظيم ، يقدر على نصرة المظلوم ، أو المراد أن سنة الله الكونية قد جرت على التغيير والتبديل ، فكما لا يبقى ليل ولا نهار أبدا ، كذلك لا يكون الغلب للظالمين أبدا ، فهو ينصر المظلوم عليهم كما (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخله فيه ، في أيام الصيف والخريف ، فتنقص من ساعات النهار ، لتضاف على ساعات الليل ، وذلك من أول الانقلاب الصيفي إلى أول ليلة من الانقلاب الشتوي (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخله فيه في أيام الشتاء والربيع ، فتنتقص من ساعات الليل ، لتضاف على ساعات النهار ، وذلك من أول الانقلاب الشتوي إلى أول يوم من الانقلاب الصيفي (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يدعو المؤمنين ، فيجيب لهم (بَصِيرٌ) بأحوالهم ، فينتقم لهم من الظالمين.

[٦٣] (ذلِكَ) الذي ذكر من انتقام الله من الظالمين ، ونصرة المؤمنين ، وأنه هو المصرف للكون بسبب أن (اللهَ هُوَ الْحَقُ) فهو المصرف ، وهو المدافع عن المظلوم (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام

٦٢٠