تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)

____________________________________

شِهابٌ ثاقِبٌ) (١) (وَهُمْ) أي البشر (عَنْ آياتِها) الكائنة فيها (مُعْرِضُونَ) فلا يستدلون بها على المؤثر العالم القدير.

[٣٤] (وَهُوَ) الله (الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) فإن الظلمة شيء مخلوقة بنفسها أو بخلق ضدها ، وهي الضياء (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وخصصا بالذكر مع أن الشمس هي المولدة للنهار ، لعدم التلازم كما إذا سكنت الكرات فإن الشمس موجودة ولا نهار ولا ليل بهذه الكيفية الحالية (كُلٌ) من الشمس والقمر (فِي فَلَكٍ) أي مدار خاص به (يَسْبَحُونَ) تشبيه بالإنسان السابح في الماء ، وإنما جيء بلفظ العاقل حيث قال : يسبحون. لأنه نسب إليهم فعل العقلاء وهو السباحة ولعل لهما عقلا ، ولذا ورد في الدعاء خطابا للقمر «أيها الخلق المطيع» ـ إلى آخره ـ.

[٣٥] إن الذي خلق الكون هو الذي خلق الحياة والموت ، ولا منجي لبشر من الموت ، فليحسن البشر في حال الحياة ، حتى لا يأتيه الموت ، وقد أسرف مما يسبب له سوء العاقبة (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله (الْخُلْدَ) أي الخلود والدوام في الدنيا ، والخضر وعيسى أيضا ليسا من الخالدين ، وإن امتدت بهما الحياة إلى مدة بعيدة (أَفَإِنْ مِتَ) يا رسول الله أنت (فَهُمُ الْخالِدُونَ)؟ استفهام إنكار ، يعني إن انتظار هؤلاء لموتك غير صحيح إذ أنهم يموتون فما فائدة موتك لهم ، حينما

__________________

(١) الصافات : ١١.

٥٤١

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ

____________________________________

قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (١).

[٣٦] (كُلُّ نَفْسٍ) أي حي (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي تذوق الموت ، وتخرج عن الحياة (وَنَبْلُوكُمْ) نمتحنكم أيها البشر ونختبر ـ وإن كان اختبار الله ليس لأن يعلم هو ، فإنه تعالى عالم بكل شيء ، وإنما لأن يعرف نفس الشخص من هو وما أعماله ليتم على الأشقياء الحجة ، وتتم للسعداء السعادة ـ (بِالشَّرِّ) كالمرض والفقر وموت الأقرباء وما أشبه (وَالْخَيْرِ) كالصحة والغنى والجاه وما أشبه (فِتْنَةً) أي لأجل الامتحان ، والمعنى نختبركم بالشدة والرخاء لأجل الامتحان لنرى من يصبر عند البلاء ومن يجزع ، ومن يشكر عند النعماء ومن يبطر (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) إلى ثوابنا وعقابنا ، وذلك حين الموت ، لأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ، أو حين البعث ، وهناك نجزي المحسن بالثواب ونعاقب المسيء بالعذاب.

[٣٧] وبعد الكلام حول الإله يأتي الكلام حول الرسالة والمعاد وبيان أنهم كيف يستقبلون هذين الأصلين من أصول الإيمان (وَإِذا رَآكَ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد سبق منك أن عبت آلهتهم وسفهت أحلامهم ودعوتهم إلى التوحيد (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) سخرية واستهزاء ، يقول بعضهم لبعض (أَهذَا) محمد (الَّذِي يَذْكُرُ

__________________

(١) الطور : ٣١.

٥٤٢

آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ

____________________________________

آلِهَتَكُمْ)؟ على طريق الاستفهام الاستهزائي ، أي هل هو الشخص الذي يقول عن الآلهة إنها لا تنفع ولا تضر (وَهُمْ) بينما يعتقدون بالآلهة الصنمية (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) الذي خلق وتفضل بالرحم (هُمْ كافِرُونَ) جاحدون ، فأمرهم أدعى إلى العجب والاستهزاء حيث يؤمنون بالجماد ويكفرون بإله الكون ..؟!

[٣٨] وقد كان الكفار يقولون للرسول لو كنت صادقا في أن مصير الكفر والتكذيب العذاب والنكال ، فائتنا بذلك العذاب (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١)؟ ويريدون بذلك الاستهزاء كما تقول لمن يهددك ولا يقدر على شيء : افعل بما تهدد ، فأجابهم الله سبحانه عن استعجالهم العذاب بقوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) يعني أنه من فرط استعجاله وقلة صبره كأنه خلق من جنس هو العجل ، كما قال الشاعر في عكسه : «ولله مفطور من الصبر قلبه». وهذا من باب المبالغة وحمل المصدر على الذات ، لإفادة تلبس الذات بالمصدر دائما وتلازمه معه غالبا (سَأُرِيكُمْ آياتِي) والأدلة الدالة على صدق النبي في أن من لم يؤمن يؤخذ بالعذاب ، فإن العذاب آية من آيات الله (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) في طلب العذاب ، فإنه إذا نزل بكم لا مناص لكم عنه ولا خلاص.

[٣٩] (وَيَقُولُونَ) الكفار (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الوعد بالعذاب الذي يعدنا

__________________

(١) يونس : ٤٩.

٥٤٣

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)

____________________________________

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقينا على كفرنا (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (صادِقِينَ) في ادعائكم أن العذاب يأخذنا؟.

[٤٠] (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ) أي وقت العذاب ، لعلموا صدق الرسول والمؤمنين وأنهم كانوا في غفلة وغرور ، وقد حذف جواب «لو» تهويلا أن العذاب ليأخذهم من جميع جوانبهم ، في صورة فجائية ، فإذا بهم يخفون لدفع العذاب ، بلمس اليد على وجوههم وظهورهم ، كالإنسان الذي يحترق فيكرر إمرار يده على وجهه وجسمه ، ليحول دون الاحتراق ، ولكن هناك لا تفيد هذه الحركات ، فإنهم (لا يَكُفُّونَ) ولا يمنعون ، بإمرار اليد (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) المشتعلة فيها (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) كما ينصر المحترق في الدنيا حيث يجتمع الناس عليه ويطفئون النار المشتعلة فيه.

[٤١] (بَلْ تَأْتِيهِمْ) النار (بَغْتَةً) أي فجأة ، كما كانوا يطلبون استعجال العذاب ، إنهم بمجرد الموت تحيط بهم النار (فَتَبْهَتُهُمْ) وتحيرهم كيف يصنعون (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي لا يقدرون على دفع النار التي أتتهم بغتة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لا يؤخرون لوقت آخر ليحدثوا توبة ، أو يفكروا في خلاص.

[٤٢] وقد سبق أخذ العذاب أمما استهزءوا بأنبيائهم ، بغتة ، فليخف هؤلاء عن

٥٤٤

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)

____________________________________

مثل ذلك المصير (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) يا رسول الله ، والمستهزئ هم الأمم (بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما يستهزئ هؤلاء بك ، قائلين (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (١) (فَحاقَ) أي حل (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي من تلك الأمم ـ والضمير عائد إلى مقدر معلوم من السياق ، نحو «لأبويه» ـ (ما كانُوا) أي وبال ما كانوا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) والمراد أنه حل بهم جزاء سخريتهم.

[٤٣] إنهم قد اتخذوا الأصنام آلهة ، فهل الأصنام تحفظهم من عقاب الله إذا جاءهم؟ (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) من كلأ بمعنى حفظ ، أي من هو الذي يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي من عذاب الله ، إذا أراد أن يعذبكم ويأخذكم في ليل أو نهار ، وهذا استفهام إنكاري ، يعني لا حافظ من بأس الله ، وكأن الإتيان بلفظ «الرحمن» لإفادة أنهم قد أغرقوا في العتو حتى استحقوا العقاب من الرحمن الذي شأنه التفضل والترحم (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يذكرون الله سبحانه حتى يخافوا عقابه ويفكروا في أنه لا عاصم منه إن أراد بهم عذابا ونكالا.

[٤٤] إن هؤلاء يعتمدون في أمورهم على آلهتهم ، فهل الآلهة تتمكن من

__________________

(١) الأنبياء : ٣٧.

٥٤٥

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ

____________________________________

الوقوف أمام العذاب لتصده عن هؤلاء؟ (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أي أفهل لهم آلهة لها شأنية الوقوف ضدا أمامهم لتمنع عذابنا عنهم؟ كلا! إن الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فإنها إذا أراد بها أحد شرا لا تتمكن من الدفاع عن نفسها ، فكيف تدافع عن هؤلاء الذين يعبدونها ، وجيء بوصف العاقل للآلهة تمشيا مع اصطلاح القوم ، وإلا فالآلهة لا تعقل ولا تدرك (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي أن هذه الآلهة لا قوة لها من ذاتها ، ولا أنها تستمد القوة منا حتى تتمكن من صنع العذاب بتلك القوة ، فإنها ليست بصحبتنا حتى تستمد القوى منا ، فإن الصاحب يستمد القوة من صاحبه ، وهذا جدل تهكمي مع عباد الأصنام كما كانوا يستهزئون بالرسل ـ في عين أنه تقرير للحقيقة ـ.

[٤٥] إن سبب كفران هؤلاء ليس لأجل اعتمادهم على الآلهة (بَلْ) لأجل إنا أنعمنا عليهم فطغوا ، و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (١) فقد (مَتَّعْنا هؤُلاءِ) الكفار بأنواع النعم (وَ) كذلك متعنا (آباءَهُمْ) من قبلهم ، وذلك أدعى للطغيان ، فإن الفقير البائس واعي القلب متفتح النفس ، أما من ربّي في النعيم من زمان أبيه إلى آخر عمره فإنه يطغى وينسى (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فغرهم طول العمر وأسباب الرفاه ، وقلبوا الشكر كفرا ، لكن هؤلاء يلزم أن يعتبروا بمن هو أقوى وأشد ، فهذه الدول من أطرافهم ، كل يوم تقلص بخراب أطراف بلادها ، وغزو

__________________

(١) العلق : ٧ ـ ٨.

٥٤٦

أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

____________________________________

الأعداء لها حتى تكون خرائب بعد العمران ، ومغلوبة بعد الغلبة والنصر ، أفهل من يقدر على ذلك لا يقدر على أن يسلب النعمة والحياة من هؤلاء؟ (أَفَلا يَرَوْنَ) أي ألا يرى هؤلاء الكفار الذين أفسدهم العمر الطويل في النعمة الموروثة (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي نتوجه إلى أرض الحكومات وبلادهم (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) فمن طرف خراب للعمران ، ومن طرف ذهاب بعدوان ، وهذا كما يقال إن الدولة الإسلامية تقلصت ، أو أن المسلمين نقصوا من أرض الكفار (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) استفهام إنكاري ، أي فهل بعد عدم قدرة الدول على أن تمنع مشيئتنا حول أراضيها ، هم يتمكنون من الامتناع عن قدرتنا ، فيغلبون علينا في إرادتنا.

[٤٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي بما يوحي إلي ، بأنكم إذا لم تؤمنوا يأخذكم العذاب ، ثم أضرب سبحانه بقوله (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) الصم جمع أصم ، فإن الأصم لا يسمع نداء المنادي له ، وهؤلاء كالأصم ، فإنهم لا يسمعون الإنذار ، ولا يعيرون له الاهتمام (إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي في حال إنذارهم وتخويفهم.

[٤٧] إن هؤلاء الكفار ـ اليوم ـ لا يعيرون الإنذار اهتماما ، أما إذا جاءهم شيء ضئيل من العذاب اعترفوا بأنهم كانوا في ضلالة (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ) مجرد مس ، وهو المرور على ظاهر الجسم (نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ)

٥٤٧

لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)

____________________________________

النفحة الوقعة اليسيرة كنفح الطيب الذي هو شيء يسير من ريحه (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) أي يا قوم ويلنا ، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك ـ كما سبق ـ (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حين لم نسمع دعوة الرسول.

[٤٨] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) فكأن الميزان قطعة من العدل ، من شدة أنها تعدل في الوزن و «القسط» صفة الموازين ، فإن المصدر يأتي وضعا للمفرد والتثنية والجمع ، بلفظ واحد ، والمراد من الوضع إحضار تلك الموازين ذوات القسط لوزن الأعمال ، وهل الموازين كموازين الدنيا ، أم المراد بالموازين هم الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ومن إليهم ، أم هو كناية عن جزاء الأعمال حسب المقاييس المقررة ـ كما نقول فلان لا ميزان لكلامه ـ احتمالات؟ هذه الموازين هي (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فحينئذ (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) بأن ينقص من ثوابه ، أو يزداد في عقابه (وَإِنْ كانَ) عمله ـ المفهوم من السياق ـ (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي بقدر ثقل حبة من الخردل ، وهو تشبيه في الصغر والخفة (أَتَيْنا بِها) أي أحضرنا تلك الحبة ، والمراد إدراجها في الحساب ، حسنة كانت أم سيئة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) «بنا» فاعل «كفى» دخل فيه الباء ، لأنه في معنى متعلق الأمر ، تقول «اكتف بزيد» و «حاسبين» حال من الضمير ، أي إننا يكتفى بنا في الحساب لأعمال هؤلاء من جهة

٥٤٨

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ

____________________________________

عدم نسيان أي جزء من جزئيات أعمالهم ، فلا حاجة إلى محاسب آخر ، وإنما نحسب لنجازي كل أحد قدر عمله.

[٤٩] وحيث بين السياق قصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع القوم ، ذكر بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإتماما للحجة على الكفار ، وتقريرا للأصول التي دعا إليها كل الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) أي الكتاب والبرهان الذي يفرق بين الحق والباطل (وَضِياءً) أي أعطيناهما ما يضيء درب الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة ، لئلا يقع الناس في الضلال من جراء الظلمة (وَذِكْراً) يذكر البشر بما أودع في فطرته من العقيدة والمعارف (لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك كله ، أما غير المتقي عن عذاب الله ، فإنه لا ينتفع.

[٥٠] ثم بين المتقين بأنهم هم (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي يخافون عذابه (بِالْغَيْبِ) فإن الإنسان لا يحس الله سبحانه بإحدى حواسه الخمسة ، ومع ذلك يخشاه ، فهو غائب عن الحواس ، ولكنه مرهوب للمتقين (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي القيامة (مُشْفِقُونَ) خائفون ووجلون ، لأنهم لا يدرون ماذا يصنع بهم.

[٥١] وكما آتينا موسى وهارون الكتاب ، كذلك آتينا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهذا) القرآن (ذِكْرٌ) مذكر للناس ما أودع في فطرتهم من الأصول والمعارف

٥٤٩

مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ

____________________________________

(مُبارَكٌ) يوجب البركة والنمو ، لمن أخذ به (أَنْزَلْناهُ) على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليذكر الناس ويباركهم (أَفَأَنْتُمْ) أيها الكفار (لَهُ مُنْكِرُونَ)؟ تنكرون كونه من عند الله ، وهذا استفهام توبيخ وتقريع.

[٥٢] (وَلَقَدْ آتَيْنا) أعطينا (إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي الحجج والأدلة التي توجب إرشاده إلى الحق (مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون ، وقبل القرآن (وَكُنَّا بِهِ) بإبراهيم (عالِمِينَ) نعلم أنه صالح للنبوة والرسالة.

[٥٣] (إِذْ قالَ) إبراهيم عليه‌السلام ، والظرف متعلق ب «آتينا» (لِأَبِيهِ) أي عمه آزر ، فقد جرت العادة بتسمية العم أبا (وَقَوْمِهِ) حين رآهم يعبدون الأصنام (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) جمع تمثال ، وهو الشيء المصنوع الشبيه بشيء من خلق الله سبحانه ، سواء كان المشبه به إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو غيرها ، وقد يعم فيطلق على الشبيه بخلق الإنسان ، فصنع قصر صغير للعب الأطفال أو سيارة صغيرة كذلك يسمى تمثالا (الَّتِي أَنْتُمْ) أيها القوم (لَها عاكِفُونَ)؟ أي مستمرون دائمون على عبادتها والخضوع لها؟

[٥٤] (قالُوا) في جواب إبراهيم (وَجَدْنا آباءَنا لَها) أي لهذه التماثيل ـ والمراد جنسها ـ (عابِدِينَ) فإنا قد قلدناهم في عبادتهم لها.

[٥٥] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام لهم (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ) أيها القوم (وَآباؤُكُمْ)

٥٥٠

فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ

____________________________________

الذين عبدوها قبلكم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) واضح إذ كيف تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنكم شيئا؟.

[٥٦] (قالُوا) أي القوم ، لما رأوا من إبراهيم الإصرار على نبذ عبادة الأصنام (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي هل أنت جاد في كلامك هذا محق عند نفسك تريد بيان الحق بزعمك (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) تمزح وتلعب في كلامك؟ فقد كانوا يستبعدون أن ينكر عليهم أحد عبادة الأصنام التي ألفوها منذ دهور.

[٥٧] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جوابهم ، ما يفيد أنه جاد محق ، ولكن غير مجرى الكلام ليكون جوابه مع الدليل والبرهان فلا يبقى محل للمناقشة (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليست هذه أربابا لكم ، وإنما هو الله (الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي خلق السماوات والأرض ، والإتيان بضمير العاقل ، إما باعتبار تغليب العقلاء الموجودين فيهما وإما باعتبار أن لهما مرتبة من الإدراك والشعور (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) «ذا» اشارة إلى المطلب المتقدم ، وهو أن الرب هو اله السماء والأرض و «كم» خطاب للقوم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي أشهد بذلك ، وهذا لتأكيد الأمر ، وإلا فكل مخبر شاهد لما يخبر عنه ، وكأن المراد أن إخباري ليس تقليدا وإنما عن حضور وشهادة.

[٥٨] (وَتَاللهِ) حلف بالله لتأكيد ما يقول ، والتاء للتعجب ، وإنما جيء بها لصعوبة الأمر الذي نواه حتى أن الآتي به يستحق التعجب منه (لَأَكِيدَنَّ

٥٥١

أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)

____________________________________

أَصْنامَكُمْ) أي أدبّرن تدبيرا خفيا في باب الأصنام ، يسوؤكم ذلك ، يقال : كاده إذا دبّر تدبيرا خفيا يوجب مساءته (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي تعرضوا عن المدينة جاعلين ظهوركم عليها تريدون الاجتماع في يوم عيدكم ، فقد كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إلى خارج المدينة لأجله فيجتمعون هناك ، ثم إذا رجعوا دخلوا بيت الأصنام يسجدون لها ، ولما أرادوا الخروج دعوا إبراهيم للخروج معهم فلم يخرج ، فلما خرجوا جاء إلى بيت الأصنام وقد خلا من الناس.

[٥٩] وأخذ فأسا بيده (فَجَعَلَهُمْ) أي الأصنام ـ وقد مر وجه الإتيان بضمير العاقل ـ (جُذاذاً) أي قطعة قطعة فهو فعال بمعنى مفعول كالحطام ، وأصله من الجذ بمعنى القطع (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي كبير الأصنام ، فإنه عليه‌السلام لم يكسره ، وإنما أبقاه على حاله ، والمراد أكبرهم جسما ، أو أكبرهم عظمة عند القوم ، وقد علق الفأس في عنق ذلك الكبير ، وإنما فعل ذلك (لَعَلَّهُمْ) أي القوم (إِلَيْهِ) أي إلى إبراهيم (يَرْجِعُونَ) فيسألون عن الفاعل للتحطيم ، فينبئهم على خطئهم في العبادة.

[٦٠] ولما رجعوا ورأوا أن الأصنام قد حطمت وكسرت (قالُوا) قال بعضهم لبعض (مَنْ فَعَلَ هذا) الكسر والتحطيم (بِآلِهَتِنا)؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري ، أو أن من مبتدأ خبره (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الذي ظلم نفسه وقومه.

٥٥٢

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا

____________________________________

[٦١] (قالُوا) أي قال بعضهم في جواب السائلين (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي أن في المدينة شابا يذكر الأصنام بسوء لعله هو الذي صنع هذا الصنيع (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) لا شأن له ولا أهمية ، ومن هذا يظهر أن إبراهيم عليه‌السلام كان شابا حينما فعل ذلك.

[٦٢] (قالُوا) قال بعض القوم لآخرين (فَأْتُوا بِهِ) فجيئوا بإبراهيم عليه‌السلام (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) بحيث يراه الناس ويكون بمشهدهم والإتيان بلفظ «على» لعله لكون العين تستوعب الشخص فكأنه عليها (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بما قاله إبراهيم في شأن الأصنام ، فتكون شهادتهم حجة عليه لا يتمكن من الإنكار ، عند إرادة عقابه جزاء لما فعل.

[٦٣] فذهب بعض القوم ، وجاءوا بإبراهيم عند الجماهير الحاضرة ف (قالُوا) لإبراهيم عليه‌السلام (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) الفعل الشنيع : الكسر والتحطيم (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ)؟ على نحو الاستفهام التقريري.

[٦٤] لكن إبراهيم تهكم منهم ، وصاغ الجواب في قالب يلفتهم إلى خطأ اتخاذهم لها أربابا (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الذي بقي سالما وعلى عنقه الفأس ، والكلام صدق إذ المقصود من الكلام هو الذي يجعله صادقا أو كاذبا ، لا القالب المصنوع ، ألا ترى أنك لو قلت للبخيل «إنه كريم» لم يكن كذبا ، حيث تريد بذلك التهكم ، وكذا لو قلت لرجل

٥٥٣

فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)

____________________________________

شجاع «أنه أسد» لو أردت المجاز ، ثم ألفت إبراهيم ، إلى موضع العبرة والحجة بقوله (فَسْئَلُوهُمْ) أيها القوم ، عمن فعل بهم هذا العمل (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فإنهم يخبرونكم عمن فعل بهم هذا ، وقد أراد عليه‌السلام بذلك إلفاتهم إلى أنهم كيف يتخذون الأصنام آلهة ، وهي لا تنطق ولا تعلم من فعل بهم الكسر والتحطيم ، وإلى ما ذكرنا في معنى الآية تشير الرواية الواردة في الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنما قال بل فعله كبيرهم ، إرادة الإصلاح ، ودلالة على أنهم لا يفعلون (١).

[٦٥] وهنا أخذت الموعظة مأخذها ، وعمل التنبيه مفعوله (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي إلى أن القوم قال بعضهم لبعض ، أو تفكروا في نفوسهم (فَقالُوا إِنَّكُمْ) أيها القوم (أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسكم حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على دفع العدو عن نفسها ، وحتى على النطق وإظهار من فعل الكسر بها.

[٦٦] (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) كما هو عادة الذي قد تمت عليه الحجة فلا جواب له ، والمراد نكسوا رؤوسهم ، لكن فاعل النكس لم يظهر ، والإتيان ب «على» لإفادة أن هناك دافعا دفع الرؤوس من فوقها حتى نكست ، وأخذوا يجمجمون ـ مخاطبين إبراهيم ، أو أنفسهم ـ (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا إبراهيم (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف نسأل منهم ، كما قلت «فاسألوهم»؟

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٣٤١.

٥٥٤

قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)

____________________________________

[٦٧] ولما رأى إبراهيم عليه‌السلام أنهم وصلوا إلى واقع الأمر ، وأن عظته قد أثرت ، أخذ يبث فيهم دعوته بنبذ الأصنام واتخاذ الإله معبودا دونها (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام لهم (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي كيف تعبدون الأصنام التي هي لا تنفع ولا تضر ، ولو كانت قدرت على النفع والضرر لدفعت المكروه عن نفسها؟ والاستفهام توبيخي تقريعي.

[٦٨] (أُفٍّ لَكُمْ) «أف» كلمة تضجر ، أي تبا لأعمالكم وأفعالكم ، (وَ) أف (لِما تَعْبُدُونَ) أي للأصنام التي تعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) أي التي هي غير الله سبحانه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تتفكرون بعقولكم إنها ليست آلهة تستحق العبادة والتعظيم.

[٦٩] وقد التجأ القوم ـ بعد تمام الحجة عليهم ـ إلى ما يلتجئ إليه كل جاهل معاند ، من التخلص عن الحق بالقوة والعقاب ف (قالُوا) بعضهم لبعض (حَرِّقُوهُ) حرقوا إبراهيم بالنار جزاء لما فعل بالأصنام (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بالتخلص من أعدائها ، وإنزال العقاب الصارم بمن أهانها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) للنصرة لها ، فأحرقوا إبراهيم عدوها.

[٧٠] فأمر نمرود الملك الطاغي بجمع الحطب ، وقد كان يكفي الحطب القليل لهذا الأمر ، لكن الحقد أوجب أن جمعوا من الحطب قدرا مدهشا ـ بقدر حقدهم لا بقدر حرق إبراهيم ـ وصنعوا منجنيقا ، تقذف ، لأنهم لم يكونوا

٥٥٥

قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)

____________________________________

يتمكنون من اقتراب تلك النار الكثيرة المهولة ، ثم وضعوا إبراهيم في فوهة المنجنيق ، بمشهد من الملك والجماهير ، وقذفوه في النار (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) وقد كان أمرا تكوينيا ، نحو (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) والسلام أعم من البرد ، فإن البرد إذا زاد لم يسلم الإنسان فيه (عَلى إِبْراهِيمَ) والمراد بالقول إما خلق الصوت ، أو الإرادة.

[٧١] (وَأَرادُوا) أي القوم (بِهِ) بإبراهيم عليه‌السلام (كَيْداً) أي شرا وتدبيرا في هلاكه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) إذ خسروا كيدهم ، بل فوق ذلك أن ظهرت عظمة إبراهيم عليه‌السلام ، مما سبب لنشر دعوته أكثر من ذي قبل فكأنهم جمعوا إلى خسارتهم بالنسبة إلى عقيدتهم الكافرة ، خسارة المغلوبية ، فهم الأخسرون.

[٧٢] وقد بقي إبراهيم عليه‌السلام في بابل العراق مدة يدعو فلم تنفع القوم الدعوة ، بل أرادوا حرقة فلم ينجحوا ، وسلط الله عليهم البعوض حتى أخذت لحومهم وشربت دماءهم وأهلكت واحدة منها نمرود الملك الطاغي ، ومن ثم هاجر إبراهيم عليه‌السلام إلى الشام ، لعل القوم هناك يقبلون الدعوة (وَنَجَّيْناهُ) أي إبراهيم عليه‌السلام (وَلُوطاً) وهو من أرحام إبراهيم عليه‌السلام ، وفي بعض التفاسير أنه ابن أخ إبراهيم (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) في تلك الأرض وهي الشام (لِلْعالَمِينَ) لجميع

__________________

(١) البقرة : ٦٦.

٥٥٦

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)

____________________________________

الناس ، فقد تواترت الأنبياء هناك ، وقد كانت الشام تطلق سابقا على ما يشمل لبنان وسورية وفلسطين والأردن وحواليها.

[٧٣] (وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) إسحاق بن إبراهيم من سارة وقد دعا عليه‌السلام أن يرزق ولدا فأعطاه الله إياه ، ويعقوب ولد إسحاق ، وقد وهبه الله سبحانه لإبراهيم ـ حيث إن الحفيد أيضا هبة للجد ـ ومعنى «نافلة» : «زائدة» إذ لم يكن يعقوب حسب دعاء إبراهيم ، وإنما كان لطفا محضا منه سبحانه عليه ، وتأنيث نافلة باعتبار النفس ، ولم يذكر إسماعيل عليه‌السلام لعله لكونه على مجرى الطبيعة ، إذ «سارة» كانت كبيرة وعقيمة ، أما «هاجر» فلم تكن كذلك ، وإنما هي شابة ولودة (وَكُلًّا) من إبراهيم وإسحاق ويعقوب (جَعَلْنا صالِحِينَ) للنبوة والرسالة والهداية والإرشاد وسائر الفضائل.

[٧٤] (وَجَعَلْناهُمْ) أي الثلاثة (أَئِمَّةً) جمع إمام ، وهو المقتدى ، أي يقتدى بهم في أمور الدين والدنيا (يَهْدُونَ) الناس إلى الحق (بِأَمْرِنا) وأرسلناهم إلى الناس ليرشدوهم (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أوحينا إليهم أن افعلوا الأفعال الخيرة الموجبة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة (وَإِقامَ الصَّلاةِ) أي إقامتها ، فإن التاء في مصدر باب الأفعال جائز الحذف (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي إعطاءها ، وتخصيصهما بالذكر بعد دخولهما في عموم الخيرات ، لأهميتهما (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)

٥٥٧

وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ

____________________________________

يعبدوننا ، قبال سائر الناس الذين كانوا يعبدون الأصنام.

[٧٥] (وَلُوطاً) الذي سبق ذكره ، وقد كان نجي من «بابل» مع إبراهيم ، إلى الأرض المباركة (آتَيْناهُ) أعطيناه (حُكْماً) أي قضاء بين الناس وحكومة ، فإن منصب الحكم إنما هو لله سبحانه ، ثم لأنبيائه والأئمة ، بإذنه (وَعِلْماً) والحكم غير العلم ، وإن استلزم مقدارا منه (وَنَجَّيْناهُ)؟ أنقذناه (مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) وهي «سدوم» التي كان أهلها يتعاطون اللواط والسحق والكفر وسائر المنكرات والخبائث جمع خبيث ، وهو الشيء أو العمل السيئ (إِنَّهُمْ) أي أهل تلك القرية (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) إضافة القوم إلى عملهم (فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله سبحانه ، فقد أمر الله سبحانه لوطا أن يخرج من القرية ، ثم عذب أهلها بأنواع العذاب ـ كما مر تفصيله ـ.

[٧٦] (وَأَدْخَلْناهُ) لوطا عليه‌السلام (فِي رَحْمَتِنا) بذلك الخروج عن القرية ، فكأنه كان حينذاك في العذاب ، فلما خرج دخل الرحمة (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ولهذا استحق الدخول في الرحمة ، ولم يبق في المدينة ليشمله العذاب والهلاك.

[٧٧] (وَ) اذكر يا رسول الله (نُوحاً) أو هو عطف على «لوطا» أي آتينا نوحا حكما وعلما (إِذْ نادى) أي زمان دعا الله سبحانه (مِنْ قَبْلُ)

٥٥٨

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

____________________________________

من قبل إبراهيم ولوط ، فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وإنما جيء به متأخرا مع أنه متقدم زمانا ، لأن أهل مكة كانوا أقرب إلى إبراهيم زمانا وعلما ونسبا ، فكان ذكره أجلى ، وفي مذاقهم أحلى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه بإهلاك الكفار (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) لعل المراد بهم المؤمنون به (مِنَ الْكَرْبِ) أي الحزن (الْعَظِيمِ) الذي لاقاه من الكفار طول تسعمائة وخمسين عاما ، فقد كانوا يضحكون منه ويؤذونه ويضربونه.

[٧٨] (وَنَصَرْناهُ) أي نصرنا نوحا ، بنجاته في السفينة وغرق الكفار بأجمعهم (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وإنما عدي «نصرنا» ب «من» دون «على» لإشراب الفعل معنى «المنع» وكأنه قال : النصر بالسير من وسطهم نحو سرت من البصرة (إِنَّهُمْ) أي المكذبين (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) فكأنهم كانوا قطعة من سوء ، حيث إن عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم كانت كلها سيئة (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) بأن أنزلناه السماء مدرارا ، وفجرنا الأرض عيونا ، حتى غرق كل شيء في الماء ، فلم ينج إلا نوح ومن حمل معه في السفينة.

[٧٩] (وَ) اذكر يا رسول الله ، أو أعطينا الحكم والعلم (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وهو ابن داود (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي الزرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)

٥٥٩

وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨)

____________________________________

أي في الوقت الذي تفرقت فيه الغنم ليلا ، فإن نفش بمعنى تفرق الإبل أو الغنم ليلا ليرعى بدون راع (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) حاضرين ، نسمع ونرى كيف حكما ، والإتيان بالجمع «حكمهم» باعتبار الحاكمين وطرفي النزاع.

روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال كان في بني إسرائيل رجل وكان له كرم ونفشت فيه غنم لرجل بالليل وقضمته وأفسدته ، فجاء به صاحب الكرم إلى داود فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه‌السلام : اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما فذهبا إليه فقال سليمان : إن كانت الغنم أكلت الأصل والفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم وما في بطنها ، وإن كانت ذهبت بالفرع ولم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم ، وكان هذا حكم داود وإنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف حكمهما لقال «كنا لحكمهما شاهدين» (١).

أقول : وكأن الحكم في تلك الأمة كان كذلك أما في شريعتنا فإن الحكم ضمان صاحب الغنم ما أتلفته لصاحب الكرم ، دون أن يكون الأرش معينا في الغنم ، وقد روي هذا الحكم بشكل آخر ، وإن داود وسليمان اختلفا في القضاء وكان حكم سليمان أقرب ، وإن كان كلاهما صحيحا ، وذلك كما لو أتاك آت فقال : إن فلانا كسر إنائي ، فقلت له : يعطيك إناء مثله ، وقال قاض آخر : يعطيك ثمنه فكلاهما جائز بالتراضي ، وإن كان المثل أقرب من القيمة ، في المثلي ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ١٣١.

٥٦٠