تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)

____________________________________

[٩٢] (قالُوا) أي الذين عبدوا العجل (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) لا نزال مقيمين على عبادته ، فإن برح بمعنى زال ، وعكف بمعنى أقام (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فننظر هل يعبده كما عبدناه ، وكما أخبرنا السامري قائلا : هذا إلهكم وإله موسى ، أم لا يعبده؟

[٩٣] ولما رجع موسى عليه‌السلام ورأى أنهم عبدوا العجل كما أخبره سبحانه من الطور ، توجه إلى هارون و (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل ، عن اتباعي ، وقوله :

[٩٤] (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي في الغضب الشديد لله ومقاتلة عبّاد العجل أو الخروج من بينهم ، متعلق بمحذوف أي ما هو السبب في أن لا تتبعن ، كما أن متعلق «ما منعك» محذوف ، وكثيرا ما يستعمل البلغاء مثل هذا تأكيدا للنفي ، فإن حذف المتعلق في «ما منعك» يحدث في الذهن فجوة وسيعة وهولا ، كما أن حذف الفعل في «ألا تتبعن» يوهم ابتداء الإنكار ، ومثله شائع كما قال سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١) وقوله : «ما يمنع القوم أن لا يعملوا حسنا» وقوله : «وقد رأى المنع في أن لا يجاريهم» ولذا كان «ألا تتبعن» أول الآية.

(أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) هل عصيت أمري الذي أمرتك؟ كما قال سبحانه : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ

__________________

(١) الأعراف : ١٣.

٥٠١

قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ

____________________________________

سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١) فكيف لم تصلح؟ ثم أخذ موسى بلحية أخيه ورأسه يجره إليه ، وألقى الألواح من يده تضجرا ، ولم يك هذا العمل من موسى لأنه شديد الغضب ، كما يقول البعض ، كما أنه لم يك ذلك لأنه ظن بهارون سوءا وإنما جرت عادة العقلاء على أن يبدوا استنكارهم الشديد لغير المجرم ، في أقوال وأعمال ، ليعرف المجرم وقع الجرم ، ولا يكون هو المعتب الأول ، لئلا يثأر نفسه ، فإنك إذا أردت أن تفهم جارك سوء عمله من إلقاء القمامة على باب البيت ، تقول لولدك : «لماذا يصب القذارة على باب دارنا؟ هل أنت أعمى حتى لا تمنع الصاب؟ ولو رأيت القمامة بعد هذا لضربتك» وإنما الولد بريء مثلك وأنت تعلم ذلك ، وإنما تريد إفهام الجار ، على طريقة «إياك أعني واسمعي يا جارة» وهذا من فنون الأدب والبلاغة.

[٩٥] (قالَ) هارون مخاطبا لموسى (يَا بْنَ أُمَ) وإنما خص الأم بالذكر ، استعطافا وترقيقا ليسكن الغضب المشتعل في موسى على عبّاد العجل (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ولم يقل هارون ذلك ، إلا لكي يعرف بنو إسرائيل أنه لم يكن المذنب في القصة ، لا لأنه رأى موسى غضبان عليه (إِنِّي خَشِيتُ) لو فارقتهم وخرجت من بينهم (أَنْ تَقُولَ) أنت (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إذ خروج الزعيم من بين القوم يؤدي إلى تفرقهم ، كما أن محاربته لهم تؤدي إلى التفرقة ، وقد كان عذر هارون عليه‌السلام صحيحا ، فإن الناس لا يتبعون الخلف كما يتبعون

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

٥٠٢

وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)

____________________________________

الرئيس ، وبأدنى شيء يتفرقون عليه (وَ) تقول (لَمْ تَرْقُبْ) يا هارون (قَوْلِي) أي لم تحفظ وصيتي في ما أوصيتك به أن أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ، فتقول لي إنك لم تصلح حين سببت التفرقة بين القوم ، بغضبك الشديد عليهم ، أو مقاتلتك لهم ، أو خروجك من بينهم.

[٩٦] ولما أظهر موسى عليه‌السلام براءة ساحة أخيه ، وأبدى لومه الشديد وغضبه على عبّاد العجل في هذه الصورة ، وبهذا القالب توجه إلى السامري رأس الفتنة (قالَ) موسى عليه‌السلام (فَما خَطْبُكَ) أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى ما صنعت (يا سامِرِيُ) حيث أضللت الناس؟

[٩٧] (قالَ) السامري (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت ما لم يروه أو فطنت بما لم يفطنوا به ، فقد رأيت جبرائيل على فرس ـ في صورته البشرية ـ (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ) تراب (أَثَرِ الرَّسُولِ) تحت قوائم فرسه (فَنَبَذْتُها) طرحت تلك النبذة في العجل الذي صنعته من الذهب فكان له هذا الخوار من أثر ذلك التراب (وَكَذلِكَ) الذي حدثتك يا موسى (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي زينته لي حتى أوجه بني إسرائيل إلى نفسي ، وقد احتمل بعض المفسرين أن هذا الكلام كان كذبا من السامري أراد به أن يبرر ساحته ويظهر فضله في أنه فطن بما لم يفطن به بنو إسرائيل ، ولو ورد بما ذكره أثر صحيح لم يك مخالفا للمقاييس إذ رؤية الإنسان للملك ممكن ، كما إن الخوار لأجل الأثر ممكن ،

٥٠٣

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)

____________________________________

ولا يوجب عذر من يعبد العجل ، إذ لا عذر بعد تمام الحجة ، أرأيت لو جاء أحد الآن وقال : إن هذه الفأرة إلهكم ، وعلى يده فأرة مصنوعة من النحاس لكنها تتحرك ، هل يكون المعترف بكونها إلها معذورا؟

[٩٨] ثم أعلن موسى عليه‌السلام طرد السامري عن جماعة بني إسرائيل إلى الأبد (قالَ) للسامري (فَاذْهَبْ) من بيننا (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) فقد كان إذا مسه أحد أخذته الحمى عقوبة لما اقترف من صنع العجل ، كما أن الماس كانت تأخذه الحمى بمسه السامري ، فمعنى لا مساس : لا أمس أحدا ولا يمسني أحد. وقد ورد في الحديث أن السامري كان سخيا ولذا لم يقتله موسى عليه‌السلام (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك الشديد في يوم القيامة (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي لن تخلف ذلك الوعد ، بل يأتيك بالقطع واليقين (وَانْظُرْ) يا سامري (إِلى إِلهِكَ) أي العجل الذي كنت تسميه إلها (الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي مقيما تعبده وترشد الناس إلى عبادته (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار حتى يذوب (ثُمَ) لنبردنه بالمبرد حتى يصير كالتراب ثم (لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ) أي البحر (نَسْفاً) أي لنذريه ، وقد أراد عليه‌السلام بذلك بيان أن الشيء الذي يحرق بالنار ، ويبرد ، وينسف في البحر لا يكون إلها ، فإن بني إسرائيل قد علقت نفوسهم بما تنظر إليه عيونهم ، فكان هذا العمل أدعى لردعهم عن عبادة العجل ـ وهذا العمل ، من قبيل ما ذكرنا أن البليغ قد يظهر ما ينويه في العمل لتقريع المجرم ، فإن العجل لم يكن مذنبا ، أو يفهم

٥٠٤

إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ

____________________________________

هذا العمل ، وإنما أريد بذلك تقريع غيره ـ.

[٩٩] (إِنَّما إِلهُكُمُ) يا بني إسرائيل (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو المستحق للعبادة ، لا العجل المصنوع من الذهب (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أن علمه وسع كل شيء ، فهو عالم بكل شيء ، وإنما جيء بهذه الصفة لبيان أن أعمالكم كلها معلومة لديه ، فلا يعمل الإنسان ما ينافي أمره ورضاه ، كما أنه تعريض بالعجل الذي لا يعلم شيئا ، كيف يكون إلها؟

[١٠٠] (كَذلِكَ) الذي قصصنا عليك يا رسول الله نبأ موسى (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أخبار الأنبياء عليهم‌السلام السابقين وأممهم وما فيه عبرة وعظة (وَقَدْ آتَيْناكَ) أي أعطيناك يا رسول الله (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا ، فنحن المصدر ، لا إنا واسطة (ذِكْراً) أي القرآن الذي يذكر الناس بالمبدأ والمعاد ، وسائر المعارف ، مما هي مفطورة في خلقتهم ، وإنما القرآن يذكرهم بها.

[١٠١] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن هذا الذكر (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) حملا ثقيلا من الآثام والمعاصي.

[١٠٢] في حال كونهم (خالِدِينَ فِيهِ) في ثقل ذلك الحمل ، والمراد الخلود في جزائه ، وهو النار ـ بعلاقة السبب والمسبب ـ (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ

٥٠٥

الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)

____________________________________

الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي بئس الحمل حملهم ، في ذلك اليوم المهول ، فإنه حمل يوجب إدخالهم النار.

[١٠٣] ثم بين يوم القيامة بأنه (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) والصور هو : البوق الذي ينفخ ويصيح فيه إسرافيل مخاطبا الأرواح لتلتحق بأجسادها ، قائلا للناس : أحيوا بأمر الله سبحانه ، وهي النفخة الثانية (وَنَحْشُرُ) نجمع (الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان (يَوْمَئِذٍ) أي من يوم النفخ (زُرْقاً) جمع أزرق ، فإن الإنسان المكدر المهموم تعلو وجهه زرقة.

[١٠٤] (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتكلمون بإخفات وسر ، فإن الإنسان إذا أخذته الدهشة أو الجلال لا يتكلم إلا خفية ونجوى ، يقول بعضهم لبعض : (إِنْ لَبِثْتُمْ) ما بقيتم ومكثتم في الدنيا (إِلَّا عَشْراً) عشرة ليالي ، فإنهم يقللون مدة لبثهم في الدنيا ، وهكذا الإنسان يقلل ما مضى من عمره ، كأنه شيء يسير.

[١٠٥] (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) لا يغيب عنا شيء ، والمراد أن سرهم لا يخفى علينا (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أرشدهم في الحساب ، وأصوبهم في الرأي (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي ما بقيتم في الدنيا إلا يوما واحدا ، وإنما كان أرشدهم لأن من كان أرشد يرى عمر الدنيا

٥٠٦

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا

____________________________________

أقل ، لما يرى من زوالها بسرعة.

[١٠٦] (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْجِبالِ) ما حالها يوم القيامة (فَقُلْ) يا رسول الله (يَنْسِفُها) أي يقلعها ويدكها (رَبِّي نَسْفاً) ودكا ، فقد جاء رجل من ثقيف سائلا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمتها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها (١).

[١٠٧] (فَيَذَرُها) أي يذر الجبال ويجعلها (قاعاً) أي أرضا ملساء منكشفة (صَفْصَفاً) أي مستوية لا علو فيها ولا نتوء ، والصفصف هو : المستوي من الأرض.

[١٠٨] (لا تَرى فِيها) في تلك القاع المصفصف المكون من الجبال ، حيث انتثرت على الأرض (عِوَجاً) اعوجاجا بالعلو والانخفاض (وَلا أَمْتاً) أي أكمة ، قالوا : العوج الانخفاض ، والأمت الارتفاع.

[١٠٩] (يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (يَتَّبِعُونَ) يتبع الناس (الدَّاعِيَ) الذي يدعوهم للحياة وللجمع في المحشر (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا اعوجاج للداعي بحيث يدعو بعضا ويذر بعضا ، وإنما دعوة عامة شاملة للجميع (وَخَشَعَتِ) خضعت (الْأَصْواتُ) فلا ترتفع (لِلرَّحْمنِ) الذي يتفضل عليهم هناك كما تفضل عليهم هنا (فَلا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٧٤.

٥٠٧

تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)

____________________________________

تَسْمَعُ) من الناس ، أيها السامع (إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيا.

[١١٠] (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) لأحد من المجرمين (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) بأن يشفع له ، أو يشفع ، فهناك كل من الشافع والمشفوع له يلزم أن يكون بتعيين الله سبحانه (وَرَضِيَ) الرحمن (لَهُ) لذلك الشافع أو المشفوع له (قَوْلاً) أي من كان مرضي القول ، بأن كان مؤمنا له مقام الشفاعة بالنسبة إلى الشافع ـ ومؤمنا غير مستحق للعقاب القطعي ـ بالنسبة إلى المشفوع له.

[١١١] وليس هناك الأمر اعتباطا ، كالدنيا التي لا يعلم الحاكم فيها ، ما يستحق المحكوم له ، إن هناك في معرض الإله العالم بكل شيء فإنه سبحانه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما عمل الإنسان وقدمه إلى الآخرة ـ في حياته ـ (وَما خَلْفَهُمْ) أي ما خلفوه في الدنيا من الآثار الصالحة أو الفاسدة (وَلا يُحِيطُونَ) أولئك (بِهِ) أي بالله (عِلْماً) فهو يعلمهم ، وهم لا يعلمون منه إلا بقدر ما شاء.

[١١٢] (وَ) هناك (عَنَتِ) أي خضعت وذلت (الْوُجُوهُ) وإنما نسب الخضوع إلى الوجوه لأنها يظهر فيها أثر الخضوع (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) فليس ميتا لا يعلم ، ولا غائبا لا يدرك ، وإنما هو حي قائم على كل الأمور مطلع عليها (وَقَدْ خابَ) خسر (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي نوع من

٥٠٨

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ

____________________________________

الظلم كان شركا ، أو عصيانا ، فإنه يخسر ثواب الله سبحانه ، ويخسر نفسه فيما لو أدخل النار.

[١١٣] (وَ) أما (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ) مقابل من عمل ظلما (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) في العقيدة بما يلزم الإيمان به (فَلا يَخافُ) من الآخرة (ظُلْماً) إذ لا ظلم هناك على أحد ، بل عدل وفضل (وَلا هَضْماً) بأن يهضم من حقوقه وينقص من ثوابه ، والظلم أن يعاقب بلا سبب ، والهضم أن ينقص من حسناته.

[١١٤] (وَكَذلِكَ) الذي أخبرناك من القصص وأخبار القيامة (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا هذا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليعرفه قومك ، فإنه بلسانهم ولغتهم ، لئلا يقولوا لم نكن نعلم (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي كررنا فيه من جنس الوعيد ، والتصريف هو تحويل المعنى الواحد في قوالب متعددة للفائدة ، والوعيد هو الإيعاد بالنار والعقاب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقي هؤلاء المعاصي والآثام (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) بأن يذكرهم القرآن بمصائر الأمم المكذبة فيتذكرون وينقطعون عن الكفر والآثام ، والفرق بين الأمرين إن إحداث الذكر ، مقدمة للتقوى ، فإن الإنسان إذا تذكر كان معرضا لأن يتقي حيث يجيش في نفسه الخوف وينتهي بالآخرة إلى التقوى.

[١١٥] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الذي عنت له الوجوه ، ويعاقب

٥٠٩

وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ

____________________________________

المجرمين ، ويثبت المطيعين ، الذي أنزل القرآن ليكون درسا وتذكرة (وَ) قد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية ، فأنزل سبحانه (لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) قراءة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي يتم الوحي ، بل أصبر حتى يتم جبرائيل ما جاء به ثم اقرأ ما جاء ، وقضى بمعنى تم ، كما قال سبحانه : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) (١) (وَقُلْ) يا رسول الله ، يا (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فإن العلم هو الاطلاع على الكون ما سبق وما حضر وما يأتي ، وذلك من أوسع الأمور ، فالإحاطة به غير ميسور لغير الله سبحانه ، وهو الذي هيأ الأسباب للبشر لتعلم بعضها ، ولذا يأمر الله الرسول ، بأن يدعو للزيادة في العلم ، فإنه كلما زاد علم الإنسان ، زادت قيمته وأجره وقربه من الله سبحانه ـ فيما لو عمل بما علم ـ

[١١٦] وبمناسبة مبادرة الرسول في تلاوة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه خوف النسيان ، كما في سورة أخرى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٢) يأتي الكلام حول نسيان آدم عليه‌السلام ما عهد الله معه ، (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) بأن لا يأكل من الشجرة إن أحب البقاء في الجنة ، وقلنا له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (٣) (مِنْ قَبْلُ) أي سابقا (فَنَسِيَ) العهد ، إما حقيقة ، أو المراد أنه ترك العهد ، فكان كالناسي ، من قبيل (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٤) وهذا أقرب إلى الاعتقاد بأن

__________________

(١) النساء : ١٠٤.

(٢) الأعلى : ٧.

(٣) طه : ١١٩ و ١٢٠.

(٤) التوبة : ٦٧.

٥١٠

وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧)

____________________________________

الأنبياء معصومون عن كل الخطأ والنسيان (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي تصميم رأي وثبات أمر ، أو المراد أنه لم يكن من الأنبياء أولي العزم ، وهم خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد عليهم‌السلام.

[١١٧] وإذ جاء ذكر من آدم عليه‌السلام ناسب السياق بيان قصته ، كما قال سبحانه : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) (١) ولأنه بدء الخلقة ، وبعد ذلك يأتي الختام ، ليناسب الجو العام للسورة ، التي هي حول العقيدة.

(وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) قولا لفظيا ، بخلق صوت سمعوه ، أو إلهاما ونقرا في القلب ، والملائكة مشتقة من «ألك» بمعنى الرسالة ، وسموا بذلك لأنهم رسل الله سبحانه في أوامره وتبليغاته (اسْجُدُوا لِآدَمَ) إذا سويته ونفخت فيه من روحي (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه (أَبى) وامتنع من السجود كبرا وطغيانا.

[١١٨] (فَقُلْنا يا آدَمُ) أي قلنا لآدم بعد كبر الشيطان عن سجدته (إِنَّ هذا) الشيطان (عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء ، يريد بكما الشر والخديعة فلا تغترا به واحفظا أنفسكما عن كيده ومكره (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) أي لا يكون سبب خروجكما من الجنة بأن تطيعاه فيما نهى الله سبحانه ـ نهي تنزيه ـ ليكون مصيركما الخروج (فَتَشْقى) أي فتقع في

__________________

(١) طه : ١٠٠.

٥١١

إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠)

____________________________________

تعب العمل وكد الاكتساب وزحمات الدنيا ، فإن الشقاء التعب ، كما تقدم في قوله : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (١) وإنما جاء بالمفرد لأن المخاطب آدم ، ورعاية لرؤوس الآي ، وإلا فالمراد شقاء كليهما.

[١١٩] ثم بين سبحانه محاسن البقاء في الجنة التي تزول بالخروج منها ، وقد كان الأمر للإرشاد كأوامر الطبيب الذي يقول إن عملت بهذه الوصفة ، لم تمرض ، فإن أمره إرشادي ليس بواجب وإنما تعود الفائدة إلى المريض بذاته (إِنَّ لَكَ) يا آدم (أَلَّا تَجُوعَ فِيها) أي في الجنة لسعة طعامها وعدم التعب في تناوله (وَلا تَعْرى) لكثرة ثياب الجنة ، فلا يبقى الإنسان فيها عاريا ، وبحاجة إلى الكد والعمل لتحصيل الثياب.

[١٢٠] (وَأَنَّكَ) يا آدم (لا تَظْمَؤُا فِيها) أي لا تعطش في الجنة لوفرة مياهها (وَلا تَضْحى) يقال ضحى الرجل إذا برز للشمس ، أي لا يصيبك حر الشمس.

[١٢١] (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ) أي ألقى في نفس آدم (الشَّيْطانُ) إلقاء خفية (قالَ يا آدَمُ) إنك لا تبقى في الجنة أبدا إلا أن تعمل بوصيتي وتأخذ بإرشادي ف (هَلْ أَدُلُّكَ) وأعرفك (عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنة ولم يخرج منها أبدا (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) لا

__________________

(١) طه : ٢ و ٣.

٥١٢

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١)

____________________________________

يفنى ولا يزول؟

[١٢٢] وقد مال آدم إلى كلامه ، إذ أقسم له أنه ناصح مشفق ، ولم يكن آدم سمع أحدا يحلف بالله كاذبا وحيث أمرهما بالأكل من الشجرة المنهية ، تذكر آدم نهي الله سبحانه بقوله لهما : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١) لكن الشيطان تدارك الأمر وقال (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢) يعني أن النهي إنما هو لأجل أن تبقيان على حالتكما الإنسانية ، فإذا أكلتما أصبحتما ملكين ، وبالنتيجة نفذت المكيدة فيهما (فَأَكَلا) آدم وحواء (مِنْها) من تلك الشجرة (فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهرت لهما عورتهما ، حيث أن بمجرد الأكل ، سقطت ملابسهما عن أبدانهما ، كما قال سبحانه : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) (٣) والسوءة هي العورة (وَطَفِقا) أي شرع آدم وحواء (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) يلصقان على أنفسهما ـ ليخرجا من العري وظهور السوءة ـ (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) من أوراق أشجارها.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمره الإرشادي ، فإن الأمر على ثلاثة أقسام : الوجوبي ، والندبي ، والإرشادي ، وفي مخالفة كل منها يستعمل لفظ العصيان ، يقول الطبيب لمريضه المخالف لإرشاده : لم عصيتني حتى يدوم مرضك؟ (فَغَوى) أي ضل الطريق المسعد له.

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

(٢) الأعراف : ٢١.

(٣) الأعراف : ٢٨.

٥١٣

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ

____________________________________

فإن الغواية ضلال الطريق ، وهو كما يصح في مخالفة الوجوب ، يصح في مخالفة الإرشاد ، فإن الأكل من الشجرة سبب أن يخرج من الجنة ، وأي ضلال عن السعادة أكبر من هذا؟

[١٢٣] فندم آدم مما فعله وعرف أن الشيطان غره وحلف بالله كاذبا ، فأخذ يتوب ويبكي (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه واختاره لأن يكون نبيا وغفر ذنبه في مخالفته للأمر الإرشادي (فَتابَ عَلَيْهِ) التوبة هي الرجوع ، فإن الإنسان العاصي يبتعد عن الله ، والله سبحانه يعرض عنه ، فإذا ندم الإنسان واستغفر ، وتاب إلى الله ، تاب الله عليه ورجع إليه (وَهَدى) أي هداه لمصالحه ، وأراه الطريق الموجب لعودته إلى الجنة ، بعد ما غوى وضل الطريق.

[١٢٤] (قالَ) الله سبحانه (اهْبِطا) أيها الفريقان فريق آدم وحواء ، وفريق الشيطان (مِنْها) أي اخرجا من الجنة (جَمِيعاً) كلكم ، والهبوط إما باعتبار علو الجنة حسا عن الأرض ، وإما باعتبار علوها رتبة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن الشيطان عدو لآدم وحواء ، وهما عدوان له ، وباعتبار آخر ، أن الرجل والمرأة أيضا عدو بعضهم لبعض (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) «إن» للشرط و «ما» زائدة لتجميل الكلام ، أي إن أتاكم من طرفي أسباب الهداية ، بأن أمرتكم بأوامر تهديكم إلى طريق الحق في الدنيا ، والسعادة في الآخرة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) وأخذ

٥١٤

فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ

____________________________________

بأوامري وإرشاداتي (فَلا يَضِلُ) طريق السعادة ، كما غوى آدم (وَلا يَشْقى) لا يبقى في تعب ونصب كما شقي آدم أي وقع في النصب والتعب ـ وهذا خطاب عام لكل البشر ، وإن كان طرف الخطاب هم الثلاثة ـ.

[١٢٥] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) بأن لم يتبع أوامري ، التي ذكرته بها ، وسميت الأوامر ذكرا ، لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها وجذورها (فَإِنَّ لَهُ) في الدنيا (مَعِيشَةً ضَنْكاً) ضيقة ، وذلك لأن أوامر الله سبحانه أكثر ملائمة للحياة ، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش ماديا أو روحيا ولذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية وأضيق المجالات النفسية (وَنَحْشُرُهُ) نحشر المعرض ، ومعنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في (يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) العين ، لا يرى شيئا ،

[١٢٦] وكم يتأذى الإنسان في ساحة مهولة مدتها خمسون ألف سنة ، وفيها من الأهوال ما تذهل البصير فكيف بالأعمى ، ولذا يسأل الكافر (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) أي لماذا أحضرتني في هذا الموقف أعمى البصر (وَ) الحال أني في الدنيا (قَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أرى الأشياء؟

[١٢٧] (قالَ) الله في جوابه (كَذلِكَ) العمى الذي أصابك هنا. كما كنت في الدنيا ، فقد كنت في الدنيا أعمى البصيرة ، ولذا ابتليت هنا بعمي

٥١٥

أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ

____________________________________

البصر فقد (أَتَتْكَ) وجاءتك (آياتُنا) الدالة على وجودنا وسائر صفاتنا (فَنَسِيتَها) تركتها فعل الناسي بالمنسي ، وأعرضت عنها وأغفلت بصيرتك دونها (وَكَذلِكَ) أي كنسيانك عن الآيات (الْيَوْمَ) في القيامة (تُنْسى) تهمل ولا يعتنى بشأنك ، بل تبقى في تعب العمى ونصب الأهوال المتراكمة التي تلقفك من هنا وهناك.

[١٢٨] (وَكَذلِكَ) أي كما جزينا من نسي الآيات بالضنك والعمى والنسيان له (نَجْزِي) كل (مَنْ أَسْرَفَ) جاوز الحد بالكفر والعصيان (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) بيان لقوله «من أسرف» أو لأن عدم الإيمان تسبقه حالة نفسية تجاوز به عن الحد (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) للمسرف (أَشَدُّ) من الضنك في الدنيا (وَأَبْقى) أكثر بقاء ، فإن الضنك في الدنيا هين زائل ، أما عذاب الآخرة فهو شديد باق.

[١٢٩] ثم بين سبحانه أن الكفار في ضلالة حيث لم يعتبروا بما مضى من عذاب الله للأمم السالفة (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) استفهام إنكاري توبيخي ، أي ألم يرشد هؤلاء (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) هذا فاعل يهد ، أي إهلاكنا للقرون السابقة ، لم يصر سببا لهداية هؤلاء إلى الحق ، وخوفهم من العقاب في الدنيا أن تمادوا في غيهم وكفرهم (يَمْشُونَ) هؤلاء الكفار المعاصرين لك يا رسول الله (فِي مَساكِنِهِمْ) فقد كان

٥١٦

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ

____________________________________

كفار مكة يمرون بمساكن عاد وثمود وقوم لوط عند ذهابهم إلى الشام ، ويرون آثارهم وعلاماتهم ، كما قال سبحانه : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ) (١) أفلا يخافون أن يصيبهم ما أصاب أولئك (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك لأولئك (لَآياتٍ) لعبر ودلالات (لِأُولِي النُّهى) النهى جمع نهية ، وهو العقل أي لأصحاب العقول ، يعتبروا بها ولا يعملوا مثل أعمال أولئك حتى يبتلوا بمثل مصيرهم.

[١٣٠] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب عن الكفار في الدنيا ، فقد أراد الله سبحانه ، وإرادته كلمته ، أن لا يعذب هؤلاء في الدنيا بمثل عذاب الأمم السابقة ، ولعل ذلك لأجل أن هذه الأمة تأتي بأولاد وذراري صالحين ، كما صار من أبي عامر «حنظلة» ومن أبي سفيان «أم حبيبة» وهكذا ، والله سبحانه لا يعذب إلا إذا لم يكن صالح في ذرية الكافر كما قال سبحانه : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) (٢) وقال (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٣) (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) لهم ، واللزام مصدر ، وصف به كقولك زيد عدل (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على «كلمة» أي لو لا الكلمة والأجل المسمى أي المدة التي سميت لهؤلاء الكفار لكان العذاب لازما لهم.

[١٣١] وإذ كان لهؤلاء الكفار مدة لا بد أن يقضوها حتى يأتيهم الموت ، وإن الله لم يشأ هلاكهم مثل إهلاكه للأمم السابقة (فَاصْبِرْ) يا رسول الله

__________________

(١) الصافات : ١٣٨ و ١٣٩.

(٢) الفتح : ٢٦.

(٣) نوح : ٢٨.

٥١٧

عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ

____________________________________

(عَلى ما يَقُولُونَ) في شأن التوحيد والرسالة وسائر أنواع أذاهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزه الله بالحمد ، فإن الحمد ثناء وتنزيه ـ كما تقدم ـ (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) صباحا (وَقَبْلَ غُرُوبِها) أي عصرا (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) آناء الليل ساعاته ، وهو جمع «إنى» على وزن «إلى» ولعل الإتيان ب «من» دون «في» لإفادة الابتداء والشروع أي أشرع بالتسبيح من ساعات الليل (وَ) سبح (أَطْرافَ النَّهارِ) بالإضافة إلى قبل الغروب والطلوع ، كما بعد الطلوع ووقت الضحى ، وأول الظهر وعند وقت العصر (لَعَلَّكَ) يا رسول الله (تَرْضى) فإن الإنسان الدائم الاتصال بالله ، الذي يذكره صباحا ومساء وفي ساعات الليل وساعات النهار ، تطمئن نفسه بالله ، ويرضى لمقدراته وأحكامه وسنته لأن يكون عارفا بالله هادئا إلى ما قضى وقدر ، فالرضا من ثمار التسبيح ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (١) و (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢) ثم إن تكرار التسبيح لتعلق أحدهما بالصباح والمساء ، وأحدهما بآناء الليل وأطراف النهار.

[١٣٢] اتصل بالله سبحانه وقر نفسا بفضله ولطفه وذكره (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تنظر نظر رغبة وميل ـ فإن الرؤية قسم من إمداد العين

__________________

(١) التغابن : ١٢.

(٢) الرعد : ٢٩.

٥١٨

إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)

____________________________________

نحو الشيء لأن الإنسان يتصل بذلك الشيء بواسطة إلقاء شعاع عينه عليه ، وإن قلنا في مسألة الرؤية بالانطباع ـ (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) الضمير يعود إلى «ما» (أَزْواجاً) أصنافا (مِنْهُمْ) من البشر أو من الكفار ، والمعنى لا ترغب في الجاه والمال والبنين التي متع بها الناس ، فإنها أمور زائلة فانية ، ولا ينبغي للإنسان أن يرغب فيها ، فإنما هي (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الزهرة هي النور الذي يرون عند الرؤية ، ولذا يقال لكل شيء مستنير زاهر ، ونصبها على كونها حالا من «ما» أي أن ما متعنا القوم ، إنما هي بهجة الحياة العاجلة ونضارتها (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي نمتحنهم بسببه ، والضمير يعود إلى «ما» وجيء ب «في» لأن الإنسان يعيش في وسط تلك البهجة والنضارة.

وليس المعنى أن لا يرغب الإنسان في الحياة ، بل المعنى أن لا يجعل الحياة منتهى نظره ـ بل ينظر إليها نظرا عرضيا ، ولذا قال سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) (وَرِزْقُ رَبِّكَ) الذي وعدك في الآخرة (خَيْرٌ) من متعة الحياة الدنيا (وَأَبْقى) أي أكثر بقاء لأن الحياة الدنيا فانية ، وتلك الحياة باقية ، أو أن المراد ، أن متع الكفار من الحرام ، ورزق الله من الحلال خير لعدم العقاب فيه ، وأبقى لأنه ذو بركة وبقاء بخلاف الحرام الذي لا بركة فيه ، كما قال سبحانه : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٢)

__________________

(١) البقرة : ٢٠٢.

(٢) البقرة : ٢٧٧.

٥١٩

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ

____________________________________

[١٣٣] وإذا توجهت أنت إلى الله سبحانه ولم تمد عينيك إلى زهرة الحياة ، فاللازم أن توجه عائلتك إلى الله سبحانه ، كما توجهت أنت (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) فإنها عمود الدين ، والصلة بين الله وبين العبد (وَاصْطَبِرْ) أي اصبر ، وكأن الاصطبار أقوى دلالة من الصبر. لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. (عَلَيْها) على الصلاة فإن فيها صعوبة التكرار كل يوم خمس مرات ، مما لا يتأتى إلا بصبر طويل ، ولعل تخصيص الأهل ، لكونهم الأسوة ، ولفرض تعليم المسلمين فإن الواجب على المسلم أن يبدأ بأهله ، ثم بين سبحانه أن هذا التكليف ليس مستلزما للمشقة كطلب سائر الموالي من عبيدهم أن يكتسبوا لهم ويأتوا لهم بالرزق (لا نَسْئَلُكَ) يا رسول الله (رِزْقاً) بل عبادة وطاعة (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) فإن من يرزق لا يطلب الرزق (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) فرزقك في الحياة علينا ، وعاقبتك في الآخرة على التقوى ، وفي الأحاديث ما حاصله أن الله وكل أمر الدنيا إلى نفسه ، وأمر الآخرة إلى الناس ، فاللازم أن يعمل الإنسان حتى ينال سعادة الآخرة.

[١٣٤] وفي ختام السورة يأتي الحديث عن المتكبرين والكفار الذين لا يؤمنون ويأتون بحجج واهية ، حيث أن الجو العام للسورة كان حول العقيدة ، والمؤمنين والمكذبين (وَقالُوا) يعني الكفار (لَوْ لا) أي لماذا لا (يَأْتِينا) الرسول (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي بخارقة نقترحها عليه؟ فقد كانوا يقترحون خوارق تعنتا لا حقيقة واستظهارا (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ)

٥٢٠