تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

[٣٦] (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فإن اتخاذ الولد حقيقة محال ، والولد تشريفا ، بأن يتبنى ، خلاف شأنه سبحانه ، و «من» لإفادة النفي مطلقا ، واحدا كان الولد أم متعددا (سُبْحانَهُ) أي أنزهه عن اتخاذ الولد تنزيها ، وليس أمر عجيب ولادة عيسى عليه‌السلام من غير أب ، فإنه تعالى (إِذا قَضى أَمْراً) وأراد شيئا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ) للشيء الذي أراده (كُنْ) إما لفظا ، أو ذلك حكاية عن إرادته تعالى (فَيَكُونُ) ذلك الشيء.

[٣٧] ثم أتم الكلام سبحانه حول قصة عيسى عليه‌السلام بقوله (وَ) أوصاني (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) أيها البشر ، فلست أنا إلها ، وهل يبقى بعد شهادة عيسى كلام؟ (فَاعْبُدُوهُ) وحده (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا عوج فيه ، ولا انحراف ، ومن الظريف أن كتاب «العهدين» مشتمل على تصريح عيسى ، بأن الله ربه ، بل لقد زاد النصارى ، أن لمريم أم عيسى زوجا يسمى «يوسف» ومع ذلك ، قالوا بأنه الله ، أو أنه ابن الله.

[٣٨] ومع هذه الحجج عقليها ، وشرعيها ، لم يقنع النصارى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الأحزاب جمع حزب ، وهو الفئة من الناس ، ذات لون واحد في العقيدة ، أو العمل ، أي من بين أهل الكتاب ، فقالت اليعقوبية منهم ، هو الله ، وقالت النسطورية منهم هو ابن الله ، وقالت الإسرائيلية منهم ثالث ثلاثة (فَوَيْلٌ) أي شدة العذاب ، فإن ويل كلمة وعيد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، واتخذوا عيسى ربا ،

٤٤١

مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ

____________________________________

أو شريكا ، أو ابنا له (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، أي من محضر ، أو هو مصدر ميمي ، أي من حضورهم في يوم عظيم هو يوم القيامة ، فإنهم يفضحون ويعاقبون على رؤوس الأشهاد.

[٣٩] إن الكافرين في يوم القيامة ، حيث لا ينفعهم السمع والبصر ، يكونون أقوى الناس سماعا وإبصارا ، أما في الدنيا ، وحيث أن السمع والبصر وسيلة الهداية والسعادة ، فإنهم لا يسمعون ، ولا يبصرون (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) بهم ، أي ما أسمعهم وأبصرهم ، وذلك صيغة التعجب على معنى ما أسمعهم وأبصرهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي في القيامة (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرون الطريق.

[٤٠] (وَأَنْذِرْهُمْ) أي أنذر يا رسول الله الناس ، (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسر الإنسان ، ويندم على ما فات منه من السعادة (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) حين فرغ من الأمور ، وانقطعت الآمال ، فالمؤمن يتحسر على أنه لم لم يعمل أكثر؟ والكافر والعاصي يتحسران ، على أنه لم كفر وعصى ، حتى يلقى العذاب والهوان (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) الآن في الدنيا عن ذلك (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حتى لا يتحسروا هناك حسرة الكافر على ما قدمت يداه.

[٤١] إنه لا بد وأن يأتي ذلك اليوم حين (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ

٤٤٢

الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ

____________________________________

الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) فكل ما في الأرض ما ليس ملكا لإنسان ، وكل ما فيها مما هو ملك البشر ، يبقى هنا بدون مالك ، ولفظة «نحن» للتأكيد ، كما إن إرث الأرض كناية عن عدم وجود إنسان فيها ، حتى تكون الأرض محتملة لحيازته (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) بأعمالهم ، حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا ، فنجازيهم عليها.

[٤٢] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي في القرآن (إِبْراهِيمَ) وليس الذكر إنشاء الإنسان الكلام ، حتى يقال إن الله هو الذاكر لا الرسول ، بل الذكر هو أن يذكر شيئا سواء كان منشئا له أم ناقلا ، وقد جاءت قصة إبراهيم لتفنيد مزاعم العرب الذين عبدوا الشركاء ، وتذكيرهم ، بأن إبراهيم جدهم هو الذي حارب الشرك ، كما جاءت قصة عيسى عليه‌السلام من قبل لتفنيد مزاعم النصارى ، حيث يجعلون لله ولدا ، وبيان أن عيسى المسيح عليه‌السلام لم يكن ابنا لله ، وإنما كان عبدا رسولا (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) كثير التصديق لله سبحانه في جميع الأمور أو كثير الصدق (نَبِيًّا) مرسلا من قبل الله سبحانه ، وهو من النبوة بمعنى الرفعة ، أو من النبأ بمعنى الخبر ، لأن النبي رفيع الشأن مخبر عن الله سبحانه.

[٤٣] اذكره (إِذْ قالَ) حين قوله (لِأَبِيهِ) أي لعمه آزر ، فإن العادة أن يسمى العم أبا ، كما تسمى الخالة أما (يا أَبَتِ) أي يا أبي والتاء عوض عن الياء ، كما قال ابن مالك :

وفي النداء أبت ، أمت عرض

واكسر أو افتح ومن اليا التاء عوض

٤٤٣

لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ

____________________________________

(لِمَ تَعْبُدُ) أي لماذا تعبد (ما لا يَسْمَعُ) أي الصنم الذي لا يسمع الكلام (وَلا يُبْصِرُ) شيئا (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا يكفيك حاجة من حوائجك يقال أغنى عنه ، إذا جلب إليه نفعا ، أو دفع عنه ضررا؟

[٤٤] (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله سبحانه ، وبالأمور الكونية (ما لَمْ يَأْتِكَ) فلست أنت تعلم حول المبدأ ، والمعاد والكون ما أعلمه أنا (فَاتَّبِعْنِي) فيما أدعوك إليه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي مستقيما لا عوج فيه ولا انحراف وهو صراط الحقيقة في باب المبدأ ، وسائر الشؤون لا الضلال ، كما عليه عبدة الأصنام.

[٤٥] (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه ، فإن من يطيع أحدا يكون كالعابد له ، إذ العابد يطيع المعبود ، فهو مجاز من باب التشبيه ، ومثله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي عاصيا ، فكيف تطيع من يعصي إلهك وخالقك؟ ومن المحتمل أن يكون آزر معترفا بالإله ، وإنما يعبد الأصنام تقربا إليه ، ولذا نفّره إبراهيم عن عبادة الشيطان بأنه عاص لله.

[٤٦] (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ) أي يلامسك (عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) الرحمن الذي هو مصدر الرحمة والتفضل ، يعذبك ، بما تخالفه ،

٤٤٤

فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧)

____________________________________

وتطيع الشيطان ، وتعبد الأصنام (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) بأن يكلك الله إلى الشيطان ، حتى تكون وليا وتابعا له ، لا وليا لله وتابعا إياه ، والشيطان لا يغني عن وليه شيئا ، فتخسر الدنيا والآخرة.

[٤٧] (قالَ) آزر ، مجيبا لإبراهيم في دعوته (أَراغِبٌ) أي هل تنفر (أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) معرض عنها (يا إِبْراهِيمُ) فإن رغب ، إذا عدي ب «عن» كان بمعنى النفرة ، وإذا عدي ب «في» كان بمعنى الطلب ، والاستفهام إنكاري (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن دعوتك ، وإعراضك عن الأصنام (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة ، فابتعد عني (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي فارقني وتنح عني دهرا طويلا ، فإن الملي بمعنى الدهر الطويل ، من ملو ، يقال كنت عنده ملوا أي زمانا طويلا.

[٤٨] (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جواب آزر (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي كن سالما ، وهذه كلمة يقولها الإنسان الحليم عند ملاقاة الجاهل ، كما قال سبحانه (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (١) وذلك من باب ترقيق الجو ، ولتلطيف نفس الجاهل العاتية ، حتى لا تزيده الدعوة والكلام بغضا وعنادا فوق ما كان (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي أطلب منه الغفران لك ، وذلك بأن يهديك حتى تستحق الغفران (إِنَّهُ) سبحانه (كانَ بِي حَفِيًّا) لطيفا بارا ، فلعله يقبل استغفاري ويهديك الصراط.

__________________

(١) الفرقان : ٦٤.

٤٤٥

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا

____________________________________

[٤٩] (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أتنحى عنكم ـ أنت والقوم ـ وقد سبق أن دعا إبراهيم القوم ، فلم ينفع فيهم الدعاء ، ولذا قرر أن يعتزلهم إلى مكان آخر يدعو فيه ، لعلهم يجيبون الدعوة ، فقد طاف إبراهيم عليه‌السلام ـ لتركيز دعوة التوحيد ـ العراق والشام ومصر والحجاز (وَ) أعتزل (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أتنحى عن أصنامكم ، إذ المبتعد عن بلد ، يبتعد عن كل شيء فيه (وَأَدْعُوا رَبِّي) لكم بالهداية (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي) لهدايتكم (شَقِيًّا) فيستجب دعائي في هدايتكم ، أي لعله سبحانه يقبل الدعاء ، ويردكم عن الضلال إلى الهدى ، وليس هذا تكرارا ، فإن ما سبق ، كان خاصا بآزر ، وهذا عام لكل القوم.

[٥٠] (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) إبراهيم (وَ) اعتزل (ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بأن فارقهم ، وهاجر إلى الأرض المقدسة ، لم نتركه وحده يقاسي الوحدة ، والغربة ، بل تفضلنا عليه بما يؤنس وحشته ، ويجمع شمله (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولدا صلبيا (وَيَعْقُوبَ) ولد الولد (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) يهدي الناس إلى الحق ، فقد كثرنا إبراهيم عددا ، كما كثرنا الدعوة التي دعا بها إلى الله سبحانه ، فشددنا أزره بالأنبياء عليهم‌السلام ، الذين ينتهجون نهجه في الدعوة.

[٥١] (وَوَهَبْنا لَهُمْ) لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام (مِنْ رَحْمَتِنا)

٤٤٦

وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ

____________________________________

وتفضلنا عليه (وَجَعَلْنا لَهُمْ) لإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام (لِسانَ صِدْقٍ) فقد كانوا صادقين في دعوتهم يصدقهم الناس ، جزاء لاستقامتهم في الدعوة ، في قبال ذلك التكذيب الذي واجه القوم به إبراهيم ، قبل الاعتزال (عَلِيًّا) أي في حال كون ذلك اللسان عليا رفيعا ، ينظر إليه الناس برفعة ، حتى إذا قال شيئا أطاعوه ، وسمعوا منه.

[٥٢] ثم يأتي السياق ، ليبين دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ، وتفضل الله عليهم ، إجمالا بدون تفصيل ، إذ المقصود بيان الدعاة والدعوة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي اذكر يا رسول الله في القرآن (مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قد أخلصه الله سبحانه لنفسه ، كما قال سبحانه (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (١) ف «مخلص» اسم مفعول من أخلص (وَكانَ رَسُولاً) إلى فرعون وملأه ، وإلى سائر البشر (نَبِيًّا) يأتيه الوحي من قبل الله سبحانه.

[٥٣] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) الطور اسم جبل كان يناجي عليه موسى عليه‌السلام ربه ، أي ناديناه من طرف ذلك الجبل ، طرفه الأيمن لا الأيسر ، وذلك حين أقبل من «مدين» ورأى النار في الشجرة ، ولما دنا منها سمع الصوت (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢)

__________________

(١) طه : ٤٢.

(٢) القصص : ٣١.

٤٤٧

وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤)

____________________________________

(وَقَرَّبْناهُ) إلينا في حال كونه (نَجِيًّا) نناجيه بكلام خفي لا يسمعه غيره ، فقد كان القرب إلى هذا الحد حد المناجاة والإسرار في الأذن ، لكن المراد ليس القرب المكاني ـ فإنه سبحانه منزه عن المكان ـ وإنما القرب المعنوي الذي هو عبارة عن جعل نفس موسى عليه‌السلام بحيث يتمكن من تلقي كلام الله سبحانه ، ثم إن من المعلوم ، إن الله لا يكلم باللسان ـ لأنه منزه عن الجسم وعوارضه ـ وإنما يخلق الصوت ، فيسمعه من كملت نفسه ، وأراد سبحانه إسماعه.

[٥٤] (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لموسى (مِنْ رَحْمَتِنا) وتفضلنا عليه (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) فأنعمنا على موسى بجعل هارون نبيا ، يشد أزره ويساعده في الدعوة ، إجابة لدعائه ، حيث قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١).

[٥٥] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِسْماعِيلَ) بن حزقيل ، كما ورد في الأحاديث ، لا إسماعيل بن إبراهيم الخليل (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) إذا وعد وفي ، ولو طالت المدة ، فقد ورد عن الصادق عليه‌السلام إنه إنما سمي صادق الوعد ، لأنه وعد رجلا في مكان ، فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسماه الله عزوجل صادق الوعد ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك ، فقال له إسماعيل ما زلت منتظرا لك (٢).

أقول : ليس معنى ذلك إن إسماعيل لم يعمل عملا في تلك

__________________

(١) طه : ٣٠ ـ ٣٣.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ١٠٥.

٤٤٨

وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ

____________________________________

المدة ، فلعله كان مشتغلا بأمره ـ التبليغ ـ أو العمل أو نحوهما ، فلا يقال : كيف يترك الإنسان عمله سنة لوعد ، أليس عدم مجيء الصاحب دليل على خلفه ، حتى يكون إسماعيل في حل منه؟ (وَكانَ رَسُولاً) إلى قومه (نَبِيًّا) يوحى إليه ، من قبل الله سبحانه ، وقد ورد أن الله عزوجل بعثه إلى قومه ، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه فأتاه ملك ، فقال : إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال لي أسوة بما يصنع بالأنبياء (١).

[٥٦] (وَكانَ) إسماعيل (يَأْمُرُ أَهْلَهُ) أي عائلته ، أو عشيرته ، أو قومه ـ فإن الأهل يطلق على كل واحد من هؤلاء ـ وإن كان الأنسب بمقام النبوة إرادة المعنى الثالث (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) المراد بهذين اللفظين الخضوع لله سبحانه ، وإعطائه الفقراء وإن كان بغير صورة الصلاة والزكاة في هذه الشريعة فإن الصلاة بمعنى العطف ، والزكاة بمعنى النمو ، وفي الصلاة عطف نحوه سبحانه ، وفي الزكاة نمو للمال (وَكانَ) إسماعيل (عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) رضي سبحانه عن أعماله وأخلاقه وسيرته.

[٥٧] (وَاذْكُرْ) يا رسول الله (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِدْرِيسَ) سمي بذلك لكثرة دراسته للكتب ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم وخاط ، ونظر في الحساب ، وقد كان الناس قبله

__________________

(١) راجع القصص للجزائري : ص ٣١٦.

٤٤٩

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)

____________________________________

يلبسون الجلود ـ كما روي ـ (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) كثير الصدق ، أو كثير التصديق لله سبحانه (نَبِيًّا) يوحى إليه من قبله سبحانه.

[٥٨] (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أي إلى مكان عليّ رفيع ، إما رتبة بأن كانت رتبته ، ومنزلته عند الله رفيعة ، وإما محلا ، فقد ورد أنه رفع إلى السماء ، وهناك قبض روحه ملك الموت.

[٥٩] (أُولئِكَ) الذين تقدم أسماءهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالنبوة ، والمنزلة الرفيعة (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أبو البشر عليه‌السلام. (وَ) من ذرية (مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) في السفينة (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) يعني يعقوب عليه‌السلام ، وإنما ذكر سبحانه هذا التفصيل مع إن الجميع من ذرية آدم ، لبيان ذكر مراتبهم في شرف الانتساب ، أو شرف التفضل ، فمن كان منسوبا إلى إبراهم أشرف نسبا ممن لا ينتسب إليه ، وإنما ينتسب إلى آدم عليه‌السلام فقط ، كما أن من حمل أبوه في السفينة كان التفضل عليه أكثر ممن لم يحمل ، بأن كان قبل الطوفان (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي أنعمنا عليهم ، في جملة من هديناهم إلى الحق ، واخترناهم للنبوة والإرشاد ، إن أولئك كلهم (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) وتقرأ عندهم (آياتُ الرَّحْمنِ) الدالة على وجوده وصفاته (خَرُّوا سُجَّداً) جمع ساجد ، أي ساجدين لله سبحانه ، تعظيما له ولكلامه وآياته (وَبُكِيًّا) باكين ، فإن «بكى» على

٤٥٠

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ

____________________________________

«فعول» جمع «باك» ونصب سجدا وبكي على الحال عن ضمير «خروا».

[٦٠] فأولئك الأنبياء المختارون ، الذين يسجدون لتلاوة آيات الله ، وتفيض أعينهم من الدمع عند قراءة كتابه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) جماعة من نسلهم وذريتهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) كاليهود خلف إسرائيل ، والمشركين من خلف إبراهيم عليه‌السلام ، وهكذا (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) الملذات الزائلة ، إذا رأوها ذهبوا وراءها ، ليتبعوها ، أولئك الأخيار جاء من بعدهم هؤلاء الأشرار (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) أي يلقى هذا الخلف (غَيًّا) ضلالا ، وضياعا في الدنيا بالعيش الضنك ، وفي الآخرة بالعذاب والنار ، أو المراد يلقون جزاء غيهم ، يقال فلان يرى عمله ، أي يرى جزاء عمله.

[٦١] (إِلَّا مَنْ تابَ) عما سلف منه من المعاصي (وَآمَنَ) إيمانا صحيحا صادقا (وَعَمِلَ صالِحاً) في مقابل العمل السيئ ، الذي كان يعمله (فَأُولئِكَ) التائبون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا يبخسون من جزاء أعمالهم الحسنة ، وإنما يعطى جزاؤهم كاملا غير منقوص.

[٦٢] ثم وصف سبحانه الجنة بقوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ) والمراد بالجنة هناك الجنس ، ولذا صح وصفها بالجمع والعدن بمعنى الإقامة ، من عدن بالمكان ، إذا أقام فيه (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) المتفضل الراحم (عِبادَهُ)

٤٥١

بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ

____________________________________

المطيعين (بِالْغَيْبِ) أي وعدهم ، بما هو غائب عن حواسهم ، ولعل ذكر هذا الوصف ، لمدح المؤمنين بالجنة حيث أن العامل للغيب أكثر تحسينا من العامل لما يراه حاضر عنده ، أو لوصف الجنة ، كأنه يقال ، إن ما وعدتم به غائب لا تدرون ما هو؟ (إِنَّهُ) تعالى (كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) يأتي بالتأكيد ، ولا خلف فيه ، والمراد ب «وعده» أي ما وعد به ، أقيم المصدر مقام المفعول ، أو المراد وقت وعده.

[٦٣] (لا يَسْمَعُونَ) أي لا يسمع المؤمنون (فِيها) في تلك الجنات (لَغْواً) كلاما بلا ثمر ، سواء كان من قبيل السب والاستهزاء ، أم من قبيل الكلمات التي لا فائدة فيها (إِلَّا سَلاماً) حيث يسلم الملائكة عليهم ، ويسلم بعضهم على بعض ، وهذا الاستثناء منقطع ، كأنه قال «لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما ولا يسمعون اللغو» والاستثناء من باب المثال ، وإلا فهناك يتكلم بعضهم مع بعض ، أو المراد بالسلام كل كلام فيه سلامة من الباطل واللغو والإيذاء وما أشبه ، فالمراد «السلام» وصفا ، لا لفظا (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) في تلك الجنات (بُكْرَةً) صباحا (وَعَشِيًّا) مساء ، فإن ذينك الوقتين ، يتعارف فيهما الأكل لهم ، وإلا فلهم ما يشتهون في كل وقت (أُكُلُها دائِمٌ) (١) ثم إنه لا عشاء هناك ، إذ لا ليل ، وإنما ذلك من باب التشبيه.

[٦٤] (تِلْكَ) التي ذكرت أوصافها ، بالخلود ، والتعدد ، والسلام ، ووفرة

__________________

(١) الرعد : ٣٦.

٤٥٢

الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ

____________________________________

الأرزاق ، هي (الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا) أي نعطيه إرثا بعض عبادنا من (مَنْ كانَ تَقِيًّا) يتقي الكفر والآثام ، التي قلنا عنها (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) وإنما سمي إرثا ، لأنه يأتي الإنسان بعقب أعماله في الدنيا ، كما أن الإرث يأتي الإنسان بعقب موت قريب له ، أما النسب فلا يجدي إرثه في دخول الجنة فقد ورث أولئك الأنبياء خلف أضاعوا الصلاة فلم ينفعهم النسب في إرث الجنة.

[٦٥] (وَما نَتَنَزَّلُ) نحن أهل الجنة محلا من الجنان (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فالمواضع هناك معينة ، لأصحابها ، لا يتمكن أحد من التخلف عن موضعه ، وهذا من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم ـ حيث إن الكلام كان حول أهل الجنة ، وإن المتقين هم الوارثون لها ـ وما ذكرناه من أن الآية من كلام أهل الجنة هو الأنسب بالسياق ، وهناك قول آخر ، إن الآية حكاية عن كلام جبرائيل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال له : ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) أي أمامنا (وَما خَلْفَنا) أي ورائنا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي المحل الذي نحن فيه ، فإنه المالك المطلق للجنة ، ولا ينزل أحد في موضع منها ، إلا بإذنه وأمره (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ينسى لأحد مقامه ، وما يستحقه ، بل يعطي كل واحد من الجنة المكان الذي هو بقدر عمله.

[٦٦] إنه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كما كان رب أمام الجنة وخلفها ، وما بينهما فهو المالك المطلق للكونين (فَاعْبُدْهُ) أيها

٤٥٣

وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)

____________________________________

الإنسان ، أو أيها الرسول (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) على تحمل المشاق ، ولا تكن كمن أضاع الصلاة ، واتبع الشهوات ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي من يسمى بكونه إلها ـ عن استحقاق ـ بمعنى أنه لا مثل له ، حتى يعلم ذلك ويعبد معه شريكا له.

[٦٧] إنه هو الله الواحد الذي لا شريك له ، له الأرض والسماء والجنة ، لكن الإنسان العاتي ، لا يعترف بالمعاد ، ويتعجب من أنه كيف يمكن إعادة الإنسان بعد الممات! (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) والمراد به هذا النوع ، لأكل فرد منه (أَإِذا ما مِتُ) «ما» زائدة ، لتزيين الكلام (لَسَوْفَ أُخْرَجُ) من قبري (حَيًّا) على نحو الاستفهام الإنكاري.

[٦٨] فرد عليه سبحانه بقوله (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) المنكر للمعاد (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي سابقا ـ قبل أن يكون هذا الكلام ـ (وَ) الحال أنه (لَمْ يَكُ شَيْئاً) فإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة.

[٦٩] (فَوَ رَبِّكَ) يا رسول الله (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) نجمعهم للحساب يوم القيامة (وَالشَّياطِينَ) نحشر الشياطين معهم ، لنجمع بين القادة والأتباع ، بين من كان يوسوس في صدورهم بعدم البعث ، والذين اتبعوهم في الإنكار (ثُمَ) بعد الحشر (لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) في أطرافها ، في حال كونهم (جِثِيًّا) جمع جاثي ، وهو الذي برك على ركبتيه ، فإنهم

٤٥٤

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها

____________________________________

هناك في صور مزرية مهانة مقترنين مع الشياطين ، جاثين على الركب ، تلفحهم نار الجحيم ، كالمجرم الذي يجثو مع سائر المجرمين حول السجن ، يرى الذل والصفاد ، وقد كان هذا جزائهم ، حيث تكبروا في الدنيا ، ولم يطيعوا الأوامر ، وأنكروا المعاد.

[٧٠] (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) لنستخرجن (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) من كل جماعة ، شايعوا طريقة خاصة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) «العتي» مصدر «كالعتو» وهو التمرد والعصيان ، أي نبدأ بالأعتى ، فالأعتى ، لنقلهم في جهنم أولا فأولا.

[٧١] (ثُمَ) هذا للتراخي في الكلام ، لا في الزمان ، وكأنه يأتى به للسياق والتناسب (لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها) أي بالنار (صِلِيًّا) الصلي مصدر صلى يصلي ، يقال صلى اللحم يصليه صليا شواه وألقاه في النار للطبخ والإحراق ، ومثله أصلاه وصلّاه ، والمعنى أنه لا يجار على أحد هناك ، بل إنما يصلى الكافر والعاصي حسب عملهما.

[٧٢] (وَإِنْ مِنْكُمْ) أي ما منكم أحد أيها البشر (إِلَّا وارِدُها) أي مشرف عليها ، كما قال سبحانه : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (١) ، أي أشرف ، قال الصادق عليه‌السلام : أما تسمع الرجل يقول ، وردنا ماء بني فلان ، فهو الورود ولم يدخل (٢) ، أقول : ولعل ذلك باعتبار العبور من جهنم على

__________________

(١) القصص : ٢٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٢٩١.

٤٥٥

كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)

____________________________________

الصراط ، فإن العابر يقال له الوارد ، فمن عبر المدينة على مركوب له ، يقال : ورد بلدة فلان (كانَ عَلى رَبِّكَ) ورود الجميع (حَتْماً) لازما (مَقْضِيًّا) قد قضاه وقدره.

[٧٣] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، أو ظلموا غيرهم (فِيها) أي في النار (جِثِيًّا) باركين على ركبهم ، يريدون النهوض ، فلا يتمكنون ، كما لا يقدرون على الاستراحة ، فهم دائمو العذاب ، والمراد ب «نذر» نلقيهم فيها ، حتى يبقون في جهنم.

[٧٤] إن الظالمين هناك مصيرهم النار ، كما عرفنا ، فما كان عملهم ، حتى استحقوا هذه النار؟ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي الأدلة المنزلة في القرآن ، أو مطلقا (بَيِّناتٍ) في حال كونها واضحات الدلالة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله والرسول ، وما جاء به (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين والكافرين (خَيْرٌ مَقاماً) فهل مقامنا ، ومالنا من الدنيا خير أم مقامكم ومالكم في الدنيا؟ (وَ) أينا (أَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا ، فإن الكفار يتفاخرون على المسلمين ، بأنهم أحسن منهم حالا ، فما حصل المؤمنون من إيمانهم؟ فلو كان الإيمان يقود الإنسان إلى السعادة فلما ذا نرى أن المؤمنين في ضنك وضيق والكفار في سعة

٤٥٦

وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ

____________________________________

ورفاه؟ لكن هذه مغالطة ، فالمؤمنون إنما هم في ضيق لمدة يسيرة ومن جراء عدم تكالبهم على الدنيا ، مع إن من المؤمنين منعمين في الدنيا ، كما يرينا التاريخ ، وسيجزون هنالك بأحسن وأفضل من دنيا الكافرين ـ بالنسبة إلى هذه الفترة الضيقة أيضا ـ.

[٧٥] إن عاقبة الكفر لا بد وأن تكون الهلاك والدمار ، وأن تمشي في أيام قليلة على زخارف الدنيا وبهرجها (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول (مِنْ قَرْنٍ) من الأجيال البشرية (هُمْ أَحْسَنُ) من هؤلاء المتبجحون القائلون (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (أَثاثاً) أي متاعا وزينة (وَرِءْياً) أي منظرا وهيئة ، فإن الله الذي أهلك الأمم ، التي كانت أكثر جمالا ومالا ، قادر على هلاك هؤلاء ، فليحدوا من كفرهم وكبرهم ، وإلا كان مصيرهم مصير أولئك.

[٧٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المتبجحين (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) والكفر (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي فدعه لأن يسعفه الله سبحانه بالمال والعمر وسائر الأمور المرتبطة بالدنيا ، وهذا تهديد في صورة الأمر ، كما نقول «دع الله يمهل الظالم» نريد أنه وإن أمهل لمصلحة ، فإن عاقبته لا بد وأن تكون إلى الخسار والفناء ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) أي أمهلهم سبحانه ، حتى جاء الوقت المقدر لأخذهم (إِمَّا الْعَذابَ) الذي يجعل لهم في الدنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بأن ماتوا فقامت

٤٥٧

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)

____________________________________

قيامتهم ، وعذبوا في الآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حين أخذ الله لهم ، إما بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) هل مكان المؤمنين الناجين شرا أم مكانهم في العذاب (وَ) من هو (أَضْعَفُ جُنْداً) هل جند المؤمنين أضعف أم الكافرين؟ إنهم هنالك يعرفون أيهما كان خير مقاما وأحسن نديا ، وهذا كما تقول للطالب الكسول ـ الذي يضحك من جدك في الدرس ـ ستعرف لدى الامتحان أينا أحسن؟

[٧٧] إن للمؤمنين العاقبة الحسنى ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، وللكافرين العاقبة السيئة ، إما في الدنيا أو في الآخرة ، وبالإضافة إلى العاقبة الحسنى ، فالمؤمن يزداد هدى في هذه النشأة ، وله الباقيات في تلك النشأة ، فله ثلاث أقسام من الخير ، بينما ليس للكافر إلا الدنيا المنغصة لذاتها فقط ، (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا) إلى الإيمان والإسلام (هُدىً) ورشادا ، فإن الإنسان في الدنيا يحتاج في كل خطوة هداية ورشادا ، وهكذا يأخذ الله بيد المهتدي في كل خطوة خطوة ، ليزيده هداية (وَالْباقِياتُ) أي الأعمال التي تبقى (الصَّالِحاتُ) مما قدمها الإنسان إلى آخرته (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) مما يصرفه الكفار في هذه الحياة من الملذات (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي عاقبة ومنفعة ، من رد بمعنى رجع ، فإن ثواب ذلك أحسن من لذة الكفار ، وإن ما يرجع الإنسان المؤمن إليه في الآخرة من عمله خير مما يرجع الكافر ، والحاصل أن الكافر إذا أنفق درهما في الخمر التذ هنا ، وجوزي بالنار هناك ، وإن

٤٥٨

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ

____________________________________

المؤمن إذا أنفق درهما في الصدقة ، كان ثواب درهم أكثر لذة من لذة الخمر للكافر ، وجوزي هناك بالنعيم.

[٧٨] ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أن العاص بن وائل ، كان يطلبه خباب ابن الأرت دينا ، فأتاه يتقاضاه ، فقال له العاص : ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب والفضة والحرير؟ قال : بلى ، قال : فالموعد ما بيني وبينك الجنة ، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا (١) ، فنزلت هذه الآيات (أَفَرَأَيْتَ) يا رسول الله ، وهذه الجملة تستعمل للتعجب ، أي هل رأيت كذا حتى تتعجب (الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) وهو العاص (وَقالَ لَأُوتَيَنَ) في الجنة (مالاً وَوَلَداً) فقد كان الكفار يزعمون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإن كانت هناك جنة فلهم النصيب الأوفر فيها.

[٧٩] (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أي هل اطلع هذا القائل على الغيب ، فعرف أنه هناك ، يعطى الأموال والأولاد؟ والأصل «أأطلع» فلما دخلت همزة الاستفهام على الفعل الماضي من باب «الافتعال» ـ إذ الأصل «أتطلع» فأدغمت التاء في الطاء ـ سقطت همزة الوصل تخفيفا (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) بأن صارت بينه وبين الله معاهدة ، بأن له المال والولد هناك؟ وإذا لم يكن أحد الأمرين ، فمن أين يقول : «لأوتين مالا وولدا»؟

[٨٠] (كَلَّا) ليس الأمر على ما زعم ، فإنه لا يعطى هناك مالا وولدا ،

__________________

(١) المناقب : ج ١ ص ٥٣.

٤٥٩

سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ

____________________________________

و (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) لنجازيه به في القيامة ، والمراد أمر الحفظة بكتابة مقاله (وَنَمُدُّ لَهُ) في الآخرة (مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) فلا ينقطع عذابه ، وإنما يمتد أبد الدهر.

[٨١] إنه هنالك لا يظفر بالمال والولد ، وماله وولده هنا أيضا ، يترك لنا ، فلا ينتفع بهما (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي ما يتلفظ به من المال والولد ، إذ هو قال : «لأوتين مالا وولدا» (وَيَأْتِينا فَرْداً) هو وحده ، بلا شيء يفيده مما جمعه واتخذه هنا من أموال وأولاد ، إن العاص مثال الإنسان العاتي ، فكم له من أمثال من الكفار والمردة في هذه الحياة ، أرأيتهم حتى تأخذ العبرة منهم ، وتقف على عقولهم المتحجرة وأدمغتهم البليدة؟

[٨٢] ومن نقل كلامهم السخيف يعطف السياق نحو عقائدهم السخيفة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله وسواه (آلِهَةً) المراد بذلك الجنس ، أي اتخذوا هذا الجنس ، حتى يشمل الفرد أيضا ، فإن كلا من الجنس والجمع ، ينوب مقام الآخر ـ كما سبق ـ (لِيَكُونُوا) أي تلك الآلهة ، وإنما جاء بلفظ العاقل ، جريا على مزاعم القوم ، فإنهم كانوا يطلقون عليها لفظ العاقل (لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار (عِزًّا) فقد كانوا يعتزون بالآلهة في الدنيا ، ويظنون أنهم شفعاء لهم في الآخرة.

[٨٣] (كَلَّا) ليس الأمر كما ظنوا ، فليست الأصنام ، إلا سبب ذلهم

٤٦٠