تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)

____________________________________

الغشاء (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يفهموا القرآن ، بعد ما أعرضوا عن الحق (وَفِي آذانِهِمْ) جعلنا (وَقْراً) أي ثقلا ، تشبيه بالذي في أذنه صمم ، حيث لا يسمع أصلا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ) يا رسول الله (إِلَى الْهُدى) لأن يهتدوا ويسلكوا السبيل الصحيح (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً) أي حين تمادوا في الغي حتى جعل على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا (أَبَداً) وعدم اهتدائهم ليس بالجبر ، وإنما بالاختيار ، أي إنهم ما داموا كذلك لا يهتدون.

[٥٩] (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (الْغَفُورُ) الذي يستر على عباده كثيرا ، وإن استحقوا الفضيحة (ذُو الرَّحْمَةِ) يرحمهم ويتفضل عليهم ، وإن أثموا وحادوا ، ولذا لا يعجّل لهؤلاء بالعذاب ، وإن علم أنهم لن يهتدوا أبدا (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) الله (بِما كَسَبُوا) من الكفر والآثام ، أي لو أراد أخذهم ـ فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة ـ (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الدنيا ، وأهلكهم كما أهلك القرون السابقة ، لما انقطع عنهم الرجاء (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) لأخذهم ، والانتقام منهم (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) أي دون ذلك الموعد (مَوْئِلاً) أي محل التجاء وفرار ، فهو الموعد الذي لا بد أن يصلوا إليه ، ولا يكون دونه محل آخر يفرون من الموعد إلى ذلك المحل ، وهذا من باب التشبيه ، ومجمل المعنى ، أن الله من

٤٠١

وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى

____________________________________

رحمته وفضله ، لا يأخذ هؤلاء فورا ، بل أنه تفضل عليهم بامتداد أجلهم إلى موعده ، وذلك منتهى الرجاء العادي في إيمانهم ، أما إذا لم يؤمنوا وجاء الموعد ، فلا مناص ، ولا خلاص.

[٦٠] ولا يغرنّ هؤلاء طول بقائهم في الدنيا ألا يعتبرون بالقرى التي أهلكناها حين ظلموا وعتوا؟ (وَتِلْكَ الْقُرى) أي قرى عاد وثمود ، وقوم لوط ونوح ، وغيرها (أَهْلَكْناهُمْ) أي أهل القرية (لَمَّا ظَلَمُوا) بتكذيب الأنبياء ، والعصيان عن أوامر السماء (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) أي هلاكهم ، فالمهلك مصدر ميمي (مَوْعِداً) خاصا ، فلم نأخذهم حتى وصلوا إلى ذلك الموعد ، وحينذاك حل بهم العقاب.

[٦١] وإذ أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بقصة أصحاب الكهف ، سألوه عن قصة العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وهذه القصة تشترك مع القصة السابقة ، في اشتمالها على بعض آيات الله سبحانه «كإحياء السمكة» كما أنها تشترك مع تلك في سير موسى كأصحاب الكهف ، سيرا إلى الله سبحانه ولمرضاته (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ مُوسى) بن عمران نبي بني إسرائيل ، صاحب الدعوة المشهورة التي اعتنقتها اليهود (لِفَتاهُ) أي شابه الذي كان يلازمه ويخدمه ، وهو يوشع بن نون ، وقد كان وصيا لموسى ، إن الله قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين ، وأتعلم منه فتزود يوشع حوتا مملوحا وخرجا (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال أسير إلى المقصد الذي أمرني الله (حَتَّى

٤٠٢

أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢)

____________________________________

أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) فيه أقوال وقد رجح بعض أهل الاطلاع ، أنه محل التقاء البحر الأحمر والبحر الأبيض ، أو مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر ، وقد كان الموعد هناك (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي زمانا طويلا ، وهذا كما يقول القائل أسير وراء مطلبي إلى النجف ، أو إلى ما شاء الله ، فيما كان أكثر الاحتمال وجود المطلب في النجف ، والحقب الدهر ، أو ثمانين سنة ، والمراد : السير حتى الوصول إلى المطلب.

[٦٢] (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي محل اجتماع البحرين (نَسِيا حُوتَهُما) فقد ورد أنهما هناك رأيا إنسانا ، وذهب يوشع لغسل السمكة ، فحييت بإذن الله سبحانه ، وفلتت من يد يوشع في البحر ونسي يوشع القصة ، كما نسي موسى عليه‌السلام أن يسأله ، ثم أخذا يسيران (فَاتَّخَذَ) الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) أي السبيل الذي اختاره (سَرَباً) أي مسلكا يذهب فيه.

[٦٣] (فَلَمَّا جاوَزا) أي موسى عليه‌السلام ويوشع ، ذلك المكان ، وأخذا يسيران ، أحس موسى عليه‌السلام بالجوع (قالَ) موسى (لِفَتاهُ) يوشع (آتِنا) أي جئ إلينا (غَداءَنا) أي طعامنا للغداء (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا وشدة ، فلنأكل الحوت لنتقوى ، ويذهب التعب عنا.

٤٠٣

قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ

____________________________________

[٦٤] (قالَ) يوشع في جواب موسى (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا) أي هل تذكر زمان نزلنا (إِلَى الصَّخْرَةِ) التي كانت هناك عند مجمع البحرين ، أو المراد أرأيت ما دهاني ، على نحو الاستفهام الاعتذاري (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) الذي كان معنا ، ولعله عليه‌السلام كان نسي الحوت عند غسله ، أو المراد أنه نسيه بعد ما وضعه على الصخرة ، كما في بعض التفاسير ، ثم اعتذر من موسى عليه‌السلام أنه لم يخبره بقصة الحوت قائلا (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) بضم الهاء في «أنسانيه» لأنه يجوز فيه أربعة أوجه «بالضم» و «الكسر» وفي كل واحد منهما بالإشباع ، وبدونه ، هذا حسب الأصل ، لكن في القرآن بالضم (أَنْ أَذْكُرَهُ) في موضع نصب بدل من الهاء في أنسانيه ، أي ما أنساني أن أذكره إلا الشيطان ، وذلك لأنه لو ذكر لموسى عليه‌السلام قصة الحوت عند الصخرة ، لما جاوزها موسى (وَاتَّخَذَ) الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) فإنه قد حيي وفلت من يدي ، وعجبا منصوب مصدرا نوعيا ، أي اتخاذا عجبا ، أو سبيلا عجبا ، فقد ذكر بعض المفسرين أن الماء انجاب عن الحوت ، وبقي كالكوّة في البحر (١).

[٦٥] ولما سمع موسى عليه‌السلام بقصة الحوت (قالَ ذلِكَ) الذي تقوله ، من أن الحوت قد حيي (ما كُنَّا نَبْغِ) أي نبغي ونطلب ، وحذف «يا» يبغ ، تخفيفا ، فقد كانت حياة الحوت آية ذلك الرجل الذي أطلبه ، ولعل الله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٦٤.

٤٠٤

فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦)

____________________________________

سبحانه كان أخبر موسى عليه‌السلام ، بأن آية ذلك الرجل ظهور خارقة منه ، لا كما قيل أن الآية كانت إحياء السمكة الميتة ، حتى يقال : كيف يجوز ـ على هذا ـ أن يقصد موسى أكل السمكة ، حين قال لفتاه آتنا غداءنا؟ (فَارْتَدَّا) أي رجع موسى عليه‌السلام وفتاه (عَلى آثارِهِما) أي الآثار التي تعديا منها يريدان نفس الطريق الذي سارا فيه (قَصَصاً) من قصّ ، بمعنى اتبع الأثر ، فهو مفعول مطلق لقوله «ارتدا» أي ارتدا ارتدادا ورجعا رجوعا.

[٦٦] ولما وصلا إلى محل الحوت (فَوَجَدا) موسى وفتاه (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) هو خضر عليه‌السلام ، وقد ورد أنه كان نبيا مرسلا ، بعثه الله إلى قومه ، فدعاهم إلى توحيده ، والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه ، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ، ولا أرض بيضاء ، إلا اهتزت خضراء ، وإنما سمى خضرا لذلك ، وكان اسمه «بليابن» (آتَيْناهُ) أي أعطيناه (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي فضلا من طرفنا ، وكل رحمة من عنده سبحانه ، وإنما الإتيان هنا بذلك للإشارة إلى فضله سبحانه عليه ، وقد كان من فضله سبحانه عليه النبوة ، وطول العمر ، وغيرهما (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) فكان علمه غير محتاج إلى التحصيل.

[٦٧] (قالَ لَهُ مُوسى) بعد التعارف والتسليم (هَلْ أَتَّبِعُكَ) يا خضر ـ ومن هنا يسدل الستار على أمر فتى موسى عليه‌السلام وكأنه رجع من هناك ، فلم يكن معهما بعد التلاقي ـ (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي هل

٤٠٥

قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)

____________________________________

تجوّز لي ، أن أكون معك ، لتعلمني من بعض علومك التي علمك الله إياها ، أي علما ذا رشد ، وهو علم الغيب ، ويظهر من الحوار والنتائج في تصرفات الخضر ، أن موسى أراد أن يرى كيفية علم الغيب ، لا أن يتعلم هو ذلك ، فالمراد من أن تعلمني أن تريني بعض علم الغيب ، كيف تعمل بما تظهر نتائجه بعدا ومستقبلا؟.

[٦٨] (قالَ) خضر لموسى عليه‌السلام (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي يثقل عليك الصبر ، بحيث لا تطيقه ، ولقد كان موسى عليه‌السلام مأمورا بالظاهر ، فلا يعمل عملا ، إلا إذا أتمت موازينه ومقاييسه الشرعية ، أما خضر عليه‌السلام ، فقد كان يعلم بالغيب ويعمل بحسبه ، ولا مانع من أن يرسل الله نبيا بهذا ، ونبيا بذلك ، وقد استدل بعض بذلك ، على أن للشريعة ظاهرا وباطنا ، لكن فيه أنه لم يدل دليل على مثل ذلك في شريعة الإسلام.

[٦٩] ثم قال خضر لموسى عليه‌السلام (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) يا موسى (عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) بما ترى ظاهره منكرا ، ولا تعلم باطنه؟

[٧٠] (قالَ) موسى عليه‌السلام (سَتَجِدُنِي) يا خضر (إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) لما أراه منك مما لا أعلم وجهه (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر ، حتى ينكشف وجه الحكمة ، لكن الله سبحانه لم يشأ ذلك ، إذ لم يقوّ في موسى عزيمة الصبر ، ولذا سأل ، ولم يصبر ، ولم يكن ذلك خلفا لوعده ، حتى يقال كيف خلف النبي الوعد؟.

٤٠٦

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي

____________________________________

[٧١] (قالَ) خضر عليه‌السلام (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) وكنت معي تشاهد بعض الأشياء ، التي لا تستقيم مع ظواهر الشريعة (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) تراه (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) فإني أنا أفسره لك فيما بعد ، وعلى هذا القرار تبع موسى خضرا عليه‌السلام.

[٧٢] (فَانْطَلَقا) معا يمشيان على شاطئ البحر (حَتَّى) وصلا إلى سفينة و (إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) خضر ، بأن قطع بعض ألواحها ، حتى دخلها الماء (قالَ) موسى مستنكرا هذا العمل (أَخَرَقْتَها) يا خضر (لِتُغْرِقَ أَهْلَها)؟ فما هذا العمل العجيب منك؟! ـ (لَقَدْ جِئْتَ) يا خضر (شَيْئاً إِمْراً) أي منكرا عظيما ، فإن إمر في اللغة ، بمعنى الداهية العظيمة ، وهو مشتق من الأمر ، لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه.

[٧٣] (قالَ) خضر (أَلَمْ أَقُلْ) لك (إِنَّكَ) يا موسى (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فقد شرطت على اتباعك لي أن تصبر ، فكيف اعترضت عليّ هذا الاعتراض ، ولم تصبر حتى أحدثك بالنتيجة؟

[٧٤] (قالَ) موسى عليه‌السلام بعد أن تذكر الشرط (لا تُؤاخِذْنِي) يا خضر (بِما نَسِيتُ) من الشرط حين سألتك واعترضت عليك (وَلا تُرْهِقْنِي

٤٠٧

مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)

____________________________________

مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تكلفني مشقة ، بل عاملني باليسر ، يقال أرهقه عسرا إذا كلفه أمرا يثقل عليه ، وقد قال جماعة إن النسيان هنا ، وفي قوله «نسيا حوتهما» وقوله في قصة آدم «فنسي» وما أشبه يراد به الترك ، لا النسيان الذي هو ضد الذكر ، وإنما يطلق على الترك النسيان ، لأنه من أسبابه ، وشبيه به في النتيجة ، كما قال سبحانه (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) مع أن الله سبحانه لا ينسى ، وقوله (نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) (٢) وإنما قالوا ذلك ، لما دل على أن الأنبياء عليهم‌السلام معصومين من السهو والنسيان والخطأ ، وما أشبه.

[٧٥] وقبل خضر من موسى عذره وأو صلتهما السفينة إلى المحل المقصود ونزلا منها (فَانْطَلَقا) يمشيان (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) أي ولدا وقد كان غلاما يلعب مع الصبيان ـ كما في بعض التفاسير (٣) ـ (فَقَتَلَهُ) أخذ خضر سكينا ، وقتل الغلام بلا سوء ، ولا جهة ظاهرة (قالَ) موسى عليه‌السلام مستوحشا من هذا العمل العجيب ، بلا مبرر ظاهر (أَقَتَلْتَ) يا خضر (نَفْساً زَكِيَّةً) أي طاهرة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير إن كان قتل نفسا ، حتى يستحق القصاص؟ فما هذا العمل منك يا خضر (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي منكرا فظيعا.

__________________

(١) التوبة : ٦٧.

(٢) الجائية : ٣٥.

(٣) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٦٩.

٤٠٨

تقريب القران الى الأذهان

الجزء السّادس عشر

من آية (٧٦) سورة الكهف

إلى آية (١٣٦) سورة طه

٤٠٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٤١٠

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ

____________________________________

[٧٦] (قالَ) خضر لموسى عليه‌السلام (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما تبعتني مشترطا بأنك لا تعارضني في أعمالي ، حتى أبين لك وجهها فيما بعد؟

[٧٧] (قالَ) موسى عليه‌السلام معتذرا (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المدة (فَلا تُصاحِبْنِي) ، لا تتركني أصحبك (قَدْ بَلَغْتَ) يا خضر (مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) ، قد أعذرت فيما بيني وبينك و «عذرا» مفعول بلغت ، أي قد بلغت إلى حال يعذرك الناس بالنسبة إلي لو نحيتني عن نفسك ، فلقد خولف الشرط ـ حينذاك ـ ثلاث مرات.

[٧٨] (فَانْطَلَقا) يمشيان (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وهي قرية ناصرة ، التي سميت النصارى بهذا الاسم لانتسابهم إلى هذا المحل (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي سألاهم الطعام (فَأَبَوْا) ، أهل القرية (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) ، أن يقبلوهما ضيفين ، يقال ضيف زيد عمروا ، أي قبله ضيفا عنده (فَوَجَدا) خضر وموسى (فِيها) ، في تلك القرية (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) وصف الجدار بالإرادة مجاز ، لأنه شبيه بالمريد ، في أنه انحنى مائلا للانهدام ، والانقضاض بمعنى السقوط بسرعة (فَأَقامَهُ) ، سواه وعدله (قالَ) موسى كيف تصلح شؤون هؤلاء ، وهم قد بخلوا

٤١١

لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)

____________________________________

عليك بالضيافة (لَوْ شِئْتَ) هذا العمل (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لكي نسد بذلك الأجر جوعنا؟

[٧٩] ولما اعترض موسى عليه‌السلام على خضر هذا الاعتراض الثالث (قالَ) خضر (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي هذا وقت الفراغ ، أو هذا الإنكار علي هو المفرق بيننا ، لأنك قلت (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) (سَأُنَبِّئُكَ) يا موسى أي أخبرك ، ولعل دخول السين لأجل إن بين هذه القضية وبين الإخبار ، كان فصل زمان قليل (بِتَأْوِيلِ) بتفسير ، وإنما سمي تأويلا ، لأن تلك الأعمال إنما صدرت لأجل ذلك الأول والأخير ، الذي ترجع إليه (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فبادرت بالاعتراض ، والسؤال عنها.

[٨٠] (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ملكا لهم ، والمراد بالمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة ، فلا يقدرون على حركة يقدر عليها الأغنياء (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يتعيشون بهذه السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، أحدث فيها عيبا ، يسبب عدم الرغبة فيها (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي في عقب هؤلاء المساكين أصحاب السفينة (مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) أما إذا كانت السفينة معيبة ، فإن الملك لم يكن يأخذها ، ويعيرها أهمية ، فأردت إبقاء هذه السفينة بيد أصحابها

٤١٢

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ

____________________________________

المساكين ، وإنقاذها من يد الغاصب.

[٨١] (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتله (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) وكان هو كافرا ـ كما يظهر من القرينة ـ (فَخَشِينا) إن بقي في الحياة (أَنْ يُرْهِقَهُما) الإرهاق ، إدراك الشيء بما يغشاه وغلام مراهق إذا قرب أن يغشها حال البلوغ ، أن يغشي الغلام أبويه ، ويتسلط عليهما (طُغْياناً وَكُفْراً) فيطغيان ويكفران ، ثم إن الخشية كانت علما ، فإنها تستعمل مع العلم والشك ، والظن والوهم.

[٨٢] (فَأَرَدْنا) بقتل الغلام (أَنْ يُبْدِلَهُما) الأبوين (رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) ، من هذا الغلام (زَكاةً) ، طهارة ، وإنما قال ذلك مقابل قول موسى عليه‌السلام ـ نفسا زكية ـ (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أرحم بالأبوين ، فإن رحم بمعنى رحمة ، والمراد «الخير» عرفا ، لا حقيقة ، إذ لا خير في الكافر ، حتى يرجح المؤمن عليه بصيغة التفضيل ، وقد ورد أن الله سبحانه عرض لهما بجارية كانت أم جماعة من الأنبياء.

[٨٣] (وَأَمَّا الْجِدارُ) الذي أقمته ، ولم أتخذ أجرا عليه فإنما أقمته لأنه كان (لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) أي في المدينة التي استطعمنا أهلها ، فلم يضيفونا (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) ورد أنه كان لوحا من ذهب ، فيه كلمات من الإيمان فكان كنزا مالا ، وكنزا علما (وَكانَ

٤١٣

أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)

____________________________________

أَبُوهُما صالِحاً) قد دفن هذا الكنز للغلامين ، وجعل الجدار علامة له ـ ولعله كان قد أوصى بعض خواصه ، أن الغلامين إذا كبرا ، فليذهبا إلى محل الجدار ليجدا فيه إرثا لهما مني ـ وحيث إن الجدار إذا سقط ذهب الأثر ، ولم يصل الإرث إلى الغلامين ، وأراد سبحانه انتفاعهما به لصلاح أبيهما ، أمرني بإقامة الجدار (فَأَرادَ رَبُّكَ) يا موسى (أَنْ يَبْلُغا) أي يبلغ الغلامان (أَشُدَّهُما) يكبرا ويعقلا ويبلغا قوتهما (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) لينتفعا به علما ومالا (رَحْمَةً) وفضلا (مِنْ رَبِّكَ) عليهما (وَما فَعَلْتُهُ) أي ما فعلت شيئا من الأمور الثلاثة ، التي استغربتها (عَنْ أَمْرِي) ومن قبل نفسي ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر الله وإذنه وإجازته (ذلِكَ) الذي قلته لك في وجه الأمور الثلاثة (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) وثقل عليك ، حيث لم تكن تعرف وجهه.

وهنا أسئلة هي : أولا ، إنه كيف يجوز تخريب شيء؟ ألا يوجب ذلك الضمان؟ وثانيا كيف يجوز القصاص قبل الجناية؟ وثالثا كيف أخلف موسى الوعد حيث شرط أن لا يسأل ، وقد سأل؟ ورابعا كيف يكون موسى ، وهو أفضل تابعا لخضر ، وهل يجوز أمر الأفضل باتباع المفضول؟ وخامسا كيف نسي موسى ، والأنبياء منزهون عن النسيان؟ والجواب عن الأولين ، أن ذلك كان جائزا في شريعة الخضر ، وما المانع عن ذلك؟ وعن الثالث ، أن موسى علق عدم السؤال بالمشيئة ، فلم يكن خلف. وعن الرابع ، أن الأفضل ، يجوز أن يتعلم من غير

٤١٤

وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥)

____________________________________

الأفضل كما أن الرسول كان يتعلم من جبرائيل. وعن الخامس ، قالوا أن المراد بالنسيان نتيجة النسيان ـ كما سبق تقريره ـ فلا ينافي ذلك القاعدة العامة في عصمة الأنبياء.

[٨٤] وإذ أتم السياق قصة موسى والخضر عليه‌السلام ، عطف على السؤال الآخر الذي وجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول ذي القرنين ، فقال سبحانه (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي عن خبره ، وقصته ، وقد ورد في الأحاديث أنه لم يكن نبيا ولا ملكا ، وإنما كان عبدا أحب الله وأحبه الله ، وجاء إلى قومه ، يدعوهم فضربوا على قرنه ـ أي طرف رأسه ـ فذهب عنهم ، ثم أتى إليهم مرة أخرى ، ودعاهم ، فلم يجيبوا له ، بل ضربوه على قرنه الآخر ، فذهب عنهم ، ثم جاء في الثالثة وملك البلاد ، (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (سَأَتْلُوا) أي أقرأ (عَلَيْكُمْ مِنْهُ) من ذي القرنين (ذِكْراً) خبرا وقصة.

[٨٥] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) بأن سلطناه عليها ، وبسطنا ملكه فيها (وَآتَيْناهُ) أعطيناه (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي علما يتسبب به إلى ما يريد ، وطريقا يتوصل به إلى ما يحب ، فقد أعطي أسباب الحكم ، وأسباب العمران ، وأسباب السلطة.

[٨٦] (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي اقتضى أحد تلك الأسباب موجها وجهه نحو المغرب ، وسالكا طريقه إلى هنالك ، فإن الإنسان بدون السبب ـ من

٤١٥

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦)

____________________________________

مال ، ولوازم السفر التي هي أسبابه ـ لا يتمكن الوصول إلى مقصده.

[٨٧] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) ناحية المغرب من المعمورة في ذلك الوقت ، فهو كما نقول اليوم «موسكو» مشرق الأرض و «لندن» مغرب الأرض (وَجَدَها) أي وجد ذو القرنين الشمس (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) فالإنسان ، إذا كان في طرف مغربه جبل رأى الشمس تغرب خلف الجبل ، وإذا كان صحراء رآها تغرب في الصحراء ، وإذا كان بحر وجدها تغرب في البحر ، وكأن ذو القرنين وصل إلى محل من شاطئ المحيط الأطلسي ـ وكان يسمى بحر الظلمات ـ فوجد الشمس تغرب في البحر ، فإن البحر يسمى في اللغة «عينا» كما أن «حمئة» بمعنى كدرة ، أي في بحر ذي كدرة ، في لون مائه ، أو المراد أنه رآها قد غربت ، في عين كبيرة ذات حمئة ، ولا يخفى أن الآية تقول «وجدها» فهي حكاية عما جاء في نظر ذي القرنين ، لا عن الواقع (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند تلك العين (قَوْماً) يسكنون هناك (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) كان المراد بالقول إلهام إليه ، بالإلقاء في قلبه ، إن الأمر بيده ، فإن شاء عذبهم ، وإن شاء اتخذ فيهم سيرة حسنة ، فقد جرت البلاغة ، أن يؤتى بلفظ القول ، ويراد به التمكين من الشيء ، فيقول الملك : قلت للوزير ، اعمل ما شئت من الخير والشر ، وسترى جزاءك ، يريد أنه مكنه ليعمل ما يشاء (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) هؤلاء ، كما هي عادة الملوك ، إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وجعلوا أعزة أهلها أذلة (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) بأن تسير

٤١٦

قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩)

____________________________________

فيهم بسيرة حسنة ، وتعمل معهم العدل ، فإن كلا الأمرين بيدك ، وأنت قادر على الأمرين.

[٨٨] لكن ذا القرنين بيّن سياسته في هؤلاء ، وفي سائر المدن التي يفتحها ، ليس بيانا عمليا ، وإنما أنه قال ذلك قولا بلسانه ، لبيان منهجه بصورة عامة (قالَ) ذو القرنين (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالكفر أو سائر أنواع العصيان (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) حسب ما يستحق من النكال والعقاب (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد هذه الحياة الدنيا ، ومعنى الرد إلى الله سبحانه ، أنه يرد إلى حكمه ، وموقع جزائه الذي قرره (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) منكرا غير معهود ، من الشدة والغلظة.

[٨٩] (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) وهذا مقابل من ظلم (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) «الحسنى» خبر «فله» وهي صفة لمحذوف ، أي الخلة الحسنة ، وجزاء مصدر وقع موقع الحال ، أي فله الحسنى في حال كونها جزاء له (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي قولا جميلا ، بغير أن نشق عليه ، والمراد بالقول المعاملة معه معاملة حسنة ، في مقابل من ظلم والذي سوف نعذبه ، وكان الإتيان هناك ب «سوف» وهنا ب «السين» لإفادة تأخير العقاب هناك لعله يتوب ، وتقديم الثواب هنا بفترة يسيرة ريثما يحقق أمره.

[٩٠] (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) فأنهى رحلته الأولى نحو المغرب ،

٤١٧

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)

____________________________________

ليبدأ رحلته الثانية نحو المشرق ، فسلك طريقا ، هو سبب الوصول إلى المشرق.

[٩١] (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي أول العمارة من الجانب الشرقي من الأرض (وَجَدَها) وجد الشمس (تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) فكانوا عراة لا يجدون ما يسترون به أنفسهم من لفح الشمس الحارة ، أو المراد أن القوم في أرض مستوية ، لا جبال فيها ، ولا أشجار تسترهم عن حر الشمس ، كبعض صحارى إفريقيا.

[٩٢] (كَذلِكَ) الذي ذكرنا كانت رحلة ذي القرنين (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي كنا عالمين ، بما عند ذي القرنين من الآلات والجيوش والعدة ، والنوايا التي في صدره ، فقد كان مكشوفا لدينا ، كما كان القوم مكشوفين للشمس.

[٩٣] (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) وسلك سبيلا ثالثا في رحلته الثالثة ، يتسبب به للوصول إلى مكان آخر ، وهناك وصل إلى محل كان فيه أقوام مختلفة ، لا تفهم لغتهم ، وقد كان هذا المكان بقرب جبلين ، بينهما ممر ، وكان وراء الجبلين قبيلتان تسميان «يأجوج» و «مأجوج» وكانت القبيلتان تنزلان من هذا الممر على القوم ، فتعيثان فيهم الفساد ، وهناك عند ما رأى القوم ذا القرنين الملك المظفر القوي ، طلبوا منه أن يسد عليهم هذا الممر ، ليأمنوا شر يأجوج ومأجوج ففعل ذو القرنين ما

٤١٨

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ

____________________________________

طلبوا منه ، ثم شكر الله على أن وفقه لهذا العمل ، وأخبر القوم ، أن هذا السد يبقى حتى يوم القيامة ، إذ تسوى الأرض ، فيكون السد دكا ، كسائر الارتفاعات.

[٩٤] (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي الحاجزين ، وهما جبلان أو السدان اللذان كان بينهما ممر (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) من ورائهما وبالقرب منهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لا يعرفون كلام أحد ، لأن لهم لغة خاصة ، فغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، أورثت الصعوبة في التفاهم معهم.

[٩٥] (قالُوا) قال أولئك القوم (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) وإنما قال «مفسدون» لأنهما قبيلتان ، فباعتبار أفرادهما جيء بالفعل جمعا ، والمراد بالأرض أرضهم ، لا كل الأرض كما هو واضح (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ) يا ذا القرنين (خَرْجاً) أي بعضا من أموالنا ، وإنما سمي الخرج بذلك لخروجه من مال الإنسان ، كما سمي الدمل خراجا لخروجه من البدن (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ) بين يأجوج ومأجوج (سَدًّا) حائطا بين هذين الجبلين ليسد الممر الذي ينزلان منه إلينا وقد كان طلبهم في صورة الاستفهام من باب التأدب.

[٩٦] (قالَ) ذو القرنين (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي ما أعطاني الله من

٤١٩

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ

____________________________________

المال والمكنة خير من خرجكم ، فلا أحتاج إلى أموالكم لتكون أجرة لي في بناء السد (فَأَعِينُونِي) أيها القوم (بِقُوَّةٍ) من رجال ، وأدوات السد لأبني لكم السد (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ) أيها القوم (وَبَيْنَهُمْ) بين يأجوج ومأجوج (رَدْماً) سدا قويا ، والردم أقوى من السد.

[٩٧] (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي جيئوا بقطع الحديد ، مفرده زبرة ، وهي الجملة المجتمعة ، فامتثلوا أوامره وجاءوا بقطع الحديد (حَتَّى إِذا ساوى) الحديد (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي امتلأ الممر بين الجبلين ، ويسمى الجبل صدفا ، لأنه يصدف ، ويمنع عما وراءه ، كأنه سد وحاجز (قالَ) ذو القرنين لهم (انْفُخُوا) في النار بالمنافخ ، موجها النفخ نحو الحديد المتراكم بين الجبلين ، فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي جعل الحديد المتراكم كالنار في وهجها ولهيبها ، ولزم بعض الزبر بعضها الآخر (قالَ) ذو القرنين (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي جيئوا بالقطر ، وهو النحاس المذاب ، حتى أفرغ على الحديد الذي صار كالنار ، حتى يصير السد أقوى ، ويأخذ القطر بالفرج والخلايا.

[٩٨] ففعلوا ما قال لهم ذو القرنين ، وإذا بسد محكم ، لا يتمكن أحد أن يخربه أو يحدث فيه خللا ، ولما جاء موعد مجيء يأجوج ومأجوج ، وجاءوا لم يقدروا من المرور (فَمَا اسْطاعُوا) أصله استطاع حذف التاء تخفيفا ، أي لم يستطع يأجوج ومأجوج (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يعلوه

٤٢٠