تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٤٣

وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ

____________________________________

كالثمر ، وشيئا بيان لرزقا ، أي لا يملك أيّ شيء من رزق السماء والأرض (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أن يملكوه ، لأن الملك بيده سبحانه.

[٧٥] (فَلا تَضْرِبُوا) أيها الناس (لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي الأشباه ، وهي الأصنام ، فقد كانوا يجعلونها أشباها لله في الألوهية ، ويضربون لله المثل بها ، فإنك إذا جعلت خالدا قرين زيد ، ضربت المثل لزيد بخالد ، فقلت ، إن شخصا كزيد ، وهو خالد يفعل كذا ، أو لا يفعل كذا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) أن لا مثل له ، ولا إله سواه ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) بعدم المثل له ، لأنهم ما كانوا يتفكرون ، وإلا فلو تفكروا لعلموا ذلك.

[٧٦] وإذ تقدم المثال بالعبيد والسادة في قوله (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) يأتي السياق ليبين هذا المثل ، بوجه آخر فيقول سبحانه (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للمشركين في اتخاذهم الأصنام شركاء لله سبحانه وإنما بيّن هذا المثل ، ليقيسوا عليه أمر الألوهية ، فيدركوا خطأ جعلهم الشركاء ، فإن الإنسان ، ليعرف بالمثل ما لا يعرفه بالبراهين والأدلة (عَبْداً مَمْلُوكاً) عطف بيان على المثل (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) مما يقدر عليه السادة من الأخذ والعطاء ، وسائر التصرفات ، وهنا تنبيه لا بد من الإشارة إليه ، وهو أنه إذا وقعت حرب بين المسلمين وغيرهم ـ والحرب لا تكون طبعا من جانب المسلمين تعديا ـ كما قرر في محله ، قرر الإسلام أخذ الأسرى ، ثم التفدية والاسترقاق ، فالاسترقاق ، إنما ينشأ من المتعدين في الحروب ، وهذا يبقى رقّا هو وعقبه ما لم يتحرر ـ والتحرر له

٢٤١

____________________________________

أسباب كثيرة ، اضطرارية أو اختيارية ، مما لا يبقى العقب رقا غالبا ـ وقد جعل الإسلام هذا النظام مراعاة لمصالح شتى ، منها أن لا يرهق كاهل الدولة بالمساجين ، ومنها أن يكون الأسراء موزعين حتى يذوب الكفر والباطل شيئا فشيئا ، ويتعلموا معالم الإسلام ، بطبيعة كونهم في بيوت المسلمين وتحت رقابتهم ومعاشرتهم ، ومنها أن لا يتجرأ الكفار على المحاربة والاعتداء لأن الناس مستعدون للسجن ، ولا يستعدون للاسترقاق ، ومنها توسعة البلاد ، واختلاط الأمم في بوتقة واحدة ، وتقدم الحياة ومنها غير ذلك ، .. وهذا النظام أفضل بكثير من نظام الدول في أسرى الحرب إيجابيا وسلبيا ، ثم الرق محترم معال ، من قبل مولاه ، وإذا صار في شدة أعتقه الإسلام من بيت المال ، كما قال سبحانه (وَفِي الرِّقابِ) (١) ومثل هذا النظام من أصح الأنظمة ، إلا أن الرقيق لما كان في الغرب كان بغير هذا الشكل ، بل بشكل مزري فظيع ـ في جميع موارده ومصادره ـ جاء «لنكولن» ليحرر العبيد وأخذ بعض المسلمين المنهزمين ـ امام التيار الغربي ـ هذا التحرر شيئا بديعا ، فجعلوا يرددونه من غير وعي وإدراك ، حتى أن جماعة من المتنورين ، قالوا إن الإسلام أراد تحرير العبيد تدريجيا ولكن الظروف لم تسمح له ، تمشيا مع خطة «إذابة الإسلام في بوتقة الغرب» كما صنعوا بأحكام كثيرة هذا العمل المشين ، ولذا كان من اللازم أن نقول : إن النظام الإسلامي في الرقيق ، وفي غيره ، باق على حاله ، ولم يتبدل من الإسلام شيء أبدا ومن يريد التبدل ، فهو بين جاهل بالأنظمة الإسلامية وفلسفتها وجمال أحكامها أو معاند ، ومن يفعل ذلك ، فقد أخذ معول

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

٢٤٢

وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ

____________________________________

الهدم لجميع أحكام الإسلام ، إذ لو فتح هذا الباب في حكمه ، لكان منفتحا في كل حكم ، فما الفارق؟ (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) وهم السادة الذين رزقهم الله رزقا حسنا ، بلا وساطة سيد فإن الرزق كلما كان أقل واسطة كان أهنأ (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) لأنه مالك لا يخشى أحدا ، وليس عليه رقيب فيما يعطيه (هَلْ يَسْتَوُونَ) أولئك العبيد ، وهؤلاء السادة؟ وإنما أتى بصيغة الجمع لأن المراد ب «عبدا» و «من» الجنس؟ وإذا كان الجواب ، أنهما لا يتساويان قيل لهم : فكيف تساوون بين الله المالك ، وبين الأصنام المملوكة؟ فتعبدون كليهما على حد سواء ، وتجعلون للأصنام ، ما للإله من الألوهية والربوبية؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وحده لا شريك له ، وليس حمد لغيره فإنه الإله الواحد المستحق للحمد ، دون سواه ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) وهم المشركون (لا يَعْلَمُونَ) هذه الحقيقة ، وهي أن الحمد له وحده ولا يستحق ما سواه الحمد.

[٧٧] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) آخر لبيان عدم استواء الله سبحانه بالأصنام ، ليعرف المشركون من المثل خطأ طريقتهم الاشتراكية (رَجُلَيْنِ) بدل مثلا (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) لا ينطق (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من التفهيم ، والتفهم ، لأنه عاجز عن الكلام ـ والغالب أن الأبكم أصم ـ (وَهُوَ)

٢٤٣

كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

أي هذا الرجل الأبكم (كَلٌ) أي ثقل ووبال ، يقال كلّ عن الأمر ، إذا ثقل عليه (عَلى مَوْلاهُ) وليه المتولي لأموره (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) مولاه (لا يَأْتِ) الأبكم (بِخَيْرٍ) فلا منفعة لمولاه فيه ، فإنه أينما يبعثه لقضاء حاجة من حوائجه ، لا يقدر على قضائها إذ لا يتمكن على التفهيم ، والتفهم وهما عماد قضاء الحوائج (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) أي هذا الأبكم الذي صفته ذلك (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فهو ذو كلام واضح وبالإضافة إلى ذلك يأمر بالحق والعدل فهو كامل في ذاته ، مكمل لغيره ، مقابل الأبكم الذي لم يكن كاملا لذاته ولا قادرا على قضاء الحوائج ليكمل نواقص غيره (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق سوّي لا ينحرف كما ينحرف الأبكم لعدم تفهمه عن الناس ، ليمشي مستقيما ، بل يمشي حسب جهله فيضل وينحرف؟؟ وبالطبع يكون الجواب : كلا ، إنهما لا يتساويان ، وهنا يأتي التقريع فكيف تساوون مع الله الأصنام ، والنسبة بينهما أبعد من النسبة بين الأبكم والناطق؟

[٧٨] (وَ) إذ قد تحقق أنه لا شركة في الألوهية ، وإنه لا إله إلا إله واحد ، فلنعلم أن (لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فما غاب عن الحواس ، لعدم وجوده أو لوجوده ، ولكن الإنسان لا يدركه لضعف حواسه ، إن جميع ذلك لله ، فإنه القادر على إيجادها ، كما أنه هو القادر على الموجود فيها بالتصرف في شؤونها ، وهي تحت سلطة الله سبحانه ، ويعلم جميع مزاياها ، فهو إله واحد مالك عالم ، وأمر الآخرة بيده

٢٤٤

وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ

____________________________________

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي ساعة الحشر ووقت القيامة ، أمره وإيجاده ، وإنفاذه (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) فهو في مثل هذا الوقت القليل يأتي به إن شاء ، واللمح هو الطرف (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) من ذلك ، والترديد للإيضاح في التشبيه ، فإذا قلت : زيد كالأسد احتمل في القوة ، أو في القتل ، أو في الشجاعة ، فاذا قلت : أو هو أشجع أفاد إنك قصدت الشجاعة ، ثم أن لمح البصر لا بد له من زمان ، والأقرب منه أن يكون زمانه نصف ذلك الزمان ، ونحوه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته يأتي بالساعة في أي وقت شاء ، سريعا بدون حاجة إلى تعب وتهيئة مقدمات ، فليخضع الإنسان لهذا الإله المالك ، العالم ، الذي بيده الجزاء والحساب ولا يجعل له شريكا.

[٧٩] ثم يرجع السياق ، ليعدد جملة أخرى من النعم ، وكان الفصل بين كل جملة وجملة بأمور مرتبطة خارجة عن صميم النعم ، للايقاظ والتفنن ، كما هو أسلوب البلغاء في الكلام ، فإن الكلام ذا الوقع الواحد ، يوجب الكلل والملل (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ) أيها البشر (مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) فمن يا ترى ، يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة واللوازم التي جعلها في داخل الرحم إلى فم المخرج؟ (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) السمع يراد به الجنس ، والاختلاف بين الألفاظ بالجمع والمفرد للتفنن ، والأفئدة جمع فؤاد وهو القلب ، أي أنه تفضل عليكم

٢٤٥

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً

____________________________________

بالحواس لتستقوا بها المعلومات ، وبالقلب لتعوا الأشياء (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا نعمه سبحانه.

[٨٠] (أَلَمْ يَرَوْا) ألم ينظروا ويتدبروا (إِلَى الطَّيْرِ) المراد به الجنس ولذا جيء له بالحال جمعا ، (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) إنه تشبيه بالشيء المسخر الذي يجيء ويذهب لمصلحة الذي سخره فإن الإنسان يرى الطير يجيء ويذهب ويعلوا ويسف في وسط السماء ، والمراد بها جهة العلو (ما يُمْسِكُهُنَ) أي ما يحفظهن من السقوط على الأرض (إِلَّا اللهُ) سبحانه ، بما جعل في الكون من نواميس ، ففي داخل الطير ناموس ، وفي الهواء ناموس ، يتعاونان على تحليق الطائر ، فمن جعل هذه النواميس غيره سبحانه؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإمساك لئلا يسقط (لَآياتٍ) دلالات على عظيم القدرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله ، أما غير المؤمن فإنه لا يتفكر حتى تنفعه الآيات فتخصيص المؤمنين ، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[٨١] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) محلا للسكنى والاطمئنان ، فجعل الأرض بحيث تقبل السكنى ، وتهيئة المجتمع بحيث يكون الإنسان في محله مطمئنا ، نعمتان عظيمتان ، والذين عندهم علم الجيولوجيا يقولون : إن الإنسان لا يتمكن من الاستقرار هناك ـ لعدم الجاذبية ـ والمشردون الذين لا مأوى لهم ، يطمئنون فيه ، يعلمون قدر هذه النعمة العظيمة ، وقد تبادر إلى الذهن من هذه البيوت ، الأبنية

٢٤٦

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً

____________________________________

(وَ) هناك قسم آخر من البيوت ، فإنه سبحانه قد (جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) إما المراد الجلد بالذات ، أو الأعم منه ومن الشعر ، فإن الشعر أيضا «من جلد» (بُيُوتاً) هي الخباء (تَسْتَخِفُّونَها) تطلبون خفتها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي وقت ارتحالكم من مكان إلى مكان من ضعن بمعنى ارتحل (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) في مكان ، فإنها سهلة النصب والتقويض فإن أهل الصحراء يطلبون الماء والمرعى فينزلون هنا وهناك ، وهذه الأخبية سهلة لهم في النصب والطي والحمل (وَ) جعل لكم (مِنْ أَصْوافِها) أي صوف الأنعام وهي للضأن (وَأَوْبارِها) جمع وبر ، وهو للإبل (وَأَشْعارِها) جمع شعر ، وهو للماعز (أَثاثاً) وهو كل ما يفرش ويلبس ، ويستعمل في مثل هذه الشؤون (وَمَتاعاً) آلة للتمتع بالبيع والشراء وسائر الشؤون التي لا تسمى «أثاثا» (إِلى حِينٍ) إلى مدة من الزمان ، فإن هذه تبقى مدة وليست تفنى سريعا.

[٨٢] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ) أيها البشر (مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أي أشياء تستظلون بها في الحر والبرد ، فمن جعل الأبنية والأشجار بحيث يمنع الشمس عن النفوذ فيها ، فلو كانت جميعها كالزجاج ، كان الإنسان يتأثر ويتأذى من حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع «كن» أي مواضع تسكنون بها من كهوف وبيوت تنحتون من الجبال للمسكن

٢٤٧

وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ

____________________________________

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) جمع سربال ، وهو اللباس ، كالقميص ونحوه (تَقِيكُمُ) من وقي يقي بمعنى حفظ ، أي تحفظكم تلك الألبسة من (الْحَرَّ) كما تقيكم من البرد ، وذكر «الحر» من باب المثال ، كما تقول اقرأ «قل هو الله» أو قل «بسم الله» تريد جمع السورة والآية ، ولعل تخصيص الحر بالذكر دون البرد ، لأن الحر هو الشائع عند أهل الحجاز ، فبلادهم بلاد حارة (وَ) جعل لكم (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ) أي تحفظكم من (بَأْسَكُمْ) أي الحروب ، كالدروع ونحوها ، فمن يا ترى خلق القطن والكتان والحرير والصوف ، ليستعملها الإنسان في سرباله؟ ومن يا ترى خلق الحديد وجعله خاضعا للنار ، حتى تصنع منه الدروع ، ونحوها؟ إنه هو الله وحده لا شريك له (كَذلِكَ) أي كما جعل لكم هذه الأشياء (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بأن يتفضل عليكم في سائر حوائجكم التي هي لا تدخل تحت الإحصاء ـ في مختلف دروب الحياة المعقدة ـ (لَعَلَّكُمْ) لكي (تُسْلِمُونَ) لله سبحانه ، وتخضعون لإرادته.

[٨٣] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن التسليم لله سبحانه فلا يضرك يا رسول الله ذلك ، إذ إنما (عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواضح ، وقد فعلت ذلك.

[٨٤] إن الكفار لا ينكرون ما ينكرون لجهلهم وعدم معرفتهم وإنما يجحدون الله وآياته ، تعنتا وعنادا إنهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) الدالة على وجوده ،

٢٤٨

ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)

____________________________________

وسائر صفاته (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي ينكرون كونها من الله سبحانه ، ويتخذون الكفر والشرك طريقة لأنفسهم (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) وإنما جعل الكفر لأكثرهم ، لأن منهم من لم تتم عليه الحجة ، فقوله «يعرفون» بهذه القرينة صفة لمن قامت لديه الحجة لا لجميعهم.

[٨٥] ثم يرجع السياق إلى موقف الكفار يوم القيامة (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَبْعَثُ) أي نحضر للشهادة (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد على الكفار بأنهم كفروا وأشركوا وعصوا ، ولعل المراد بالشهداء ـ هنا ـ النبيون بقرينة أنه لكل أمة شهيد وما سيأتي من إشهاد الرسول على الكفار في زمانه ، وهناك الشهيد يتكلم بما علم من أعمال القوم ومعتقداتهم ، ويظن الكفار أنهم كالدنيا يتمكنون من المغالطة والتهريج ، ليبرءوا ساحتهم ولكن ليس هناك كذلك (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الكلام والدفاع ، في هذا الموقف ، فإن للقيامة مواقف ، لكل موقف شأن ، ولفظة «ثم» للترتيب في الكلام ، لا في الخارج ـ كما قرر في الأدب ـ (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يقال استعتب زيد ، أي أرضي من العتبى بمعنى الرضا ، أي لا يسترضون ولا يستصلحون ، كما كان يفعل بهم في الدنيا فليس هناك أحد يقول لهم : أرضوا ربكم بإطاعة أوامره ، إذ ليست الآخرة دار تكليف.

[٨٦] وفي ساحة القيامة يرى الكفار العذاب ، وقد جرت العادة في الدنيا أن

٢٤٩

وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ

____________________________________

أهل السجن لما يرون السجن يستنقذون بالناس ، وكثيرا ما يوجد من ينقذهم ، ولكن الآخرة ليست كذلك (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم ، أو غيرهم بالكفر والمعاصي (الْعَذابَ) المهيئ لهم فاستنقذوا لم يفدهم ذلك ، فإنه لا (يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) العذاب تخفيفا في الكم والزمان ، أو الكيف والمقدار (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون ، كما كان المجرم في الدنيا يمهل ويؤجل أمره بالوسائط ونحوها ، حتى يجد مخرجا.

[٨٧] وهناك في ساحة المحشر ، يرى المشركون بعض الآلهة التي كانوا يعبدونها ويشركون بالله بسببها ، كالمسيح عليه‌السلام ، والملائكة ، وعلي عليه‌السلام (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله (شُرَكاءَهُمْ) أي الشركاء الذين زعموا أنهم شركاء لله ، وهنا يضاف الشركاء إليهم ، لا إلى الله سبحانه (قالُوا) أي المشركون مشيرين ، إلى الشركاء يا (رَبَّنا هؤُلاءِ) الذين في ساحة المحشر (شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا) في الدنيا (نَدْعُوا) هم (مِنْ دُونِكَ)! وكأنهم يريدون بذلك تخفيف الأمر على أنفسهم ، ليأتوا بعنصر جديد في معرض المحاكمة ، فإن المجرم المراوغ دائما يأتي بعنصر جديد في المحاكمة ، ليصرف وجوه الناس إليه ، وليتحمّل معه شيئا من ثقل المحكمة ، وعند ذاك يفزع الشركاء من هذه المفاجئة المدهشة (فَأَلْقَوْا) أي الشركاء (إِلَيْهِمُ) إلى المشركين (الْقَوْلَ)

٢٥٠

إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)

____________________________________

يلقون إليهم هذا الكلام قائلين : (إِنَّكُمْ) أيها المشركون (لَكاذِبُونَ) فلم يكن لله شريك ولا يرتبط الأمر بنا.

[٨٨] (وَأَلْقَوْا) المشركون (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (السَّلَمَ) أي الاستسلام والخضوع ، فقد كانوا في الدنيا يتكبرون على الله ، وينفرون من أوامره ، ويحاربونه ، أما في ذلك اليوم ، فإنهم مستسلمون ، لم يجدوا نصيرا ولا ظهيرا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فقد ذهبت افتراءاتهم أدراج الرياح ، ولم يجدوا في آلهتهم المزعومة من يشفع لهم.

[٨٩] وهنا يأتي دور العذاب بعد أن تمت الحجة ، وقد هيء لهولاء عذاب مع عذاب (الَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يؤمنوا (وَصَدُّوا) أي منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بأن صرفوهم عن الإيمان به سبحانه (زِدْناهُمْ عَذاباً) ثانيا لإضلالهم (فَوْقَ الْعَذابِ) الأول المتهيئ لهم لضلالهم بسبب ما (كانُوا يُفْسِدُونَ) في الأرض ، بالصد عن سبيل الله.

[٩٠] تقدم أن على كل أمة شهيد ، وهنا يأتي الكلام ليبين أن الشهداء من أنفس الناس ، بالإضافة إلى الملائكة الشهود وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشهد على أمته ، تخصيصا ، لبيان موقفه مع الكافرين الذين أعرضوا عن الإيمان به ، وفيه تسلية له ، وتهديد لهم أن خصمكم غدا يكون صاحب الفضل

٢٥١

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ

____________________________________

فيكم فاحذروه (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) يشهد (عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فإن الصالحين من كل أمة ، يشهدون على الطالحين بالكفر والشرك والفسق والعصيان (وَجِئْنا بِكَ) يا رسول الله (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) القوم المعاصرون لك ، (وَ) هناك لا حجة لقومك ، فقد (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً) بيانا (لِكُلِّ شَيْءٍ) فلا مجال لهم ، لأن يقولوا ما عرفنا ، وما علمنا ، والمراد ب «كل شيء» الأمور العامة التي يحتاج إليها الإنسان في أمر دينه ودنياه ، فقد اشتمل القرآن الحكيم على الخطوط العامة للمبدأ والمعاد والنظام العام للدنيا السعيدة (وَهُدىً) أي هداية عن الضلال (وَرَحْمَةً) أي سبب تفضل وترحم فإن من اتبع القرآن رحمه‌الله سبحانه ، وتفضل عليه (وَبُشْرى) بشارة لسعادة الدنيا والآخرة (لِلْمُسْلِمِينَ) الذين آمنوا بك وأسلموا لله سبحانه ولأوامره.

[٩١] ثم يأتي السياق ، لبيان بعض ما في الكتب من الهدى والرحمة والبشرى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بأن يعدل الناس في سلوكهم ، فلا يجوروا ولا يظلموا ، من غير فرق بين أفراد الإنسان فإن كل إنسان لا بد له من عمل لنفسه ولغيره ، وهو إما عادل في عمله ، أو منحرف (وَالْإِحْسانِ) وهو فوق العدل ، فإهدائك إلى من أهدى إليك عدل ،

٢٥٢

وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها

____________________________________

وإلى من لم يهد إليك إحسان ، وهكذا (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي إعطاء الأقرباء حقوقهم ، وهذا عام بالنسبة إلى كل أحد ، وخاص بالنسبة إلى أقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فإنه سبحانه أمر بمودتهم وصلتهم وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما ، لن تضلوا من بعدي أبدا» (١) (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي الخلة الفاحشة ، وهي ما كان متفاحش القبح مجاوزة كالزنا ونحوه (وَالْمُنْكَرِ) وهو كل معصية ، وإن لم تكن فاحشة ، كترك جواب المسلم ، وإنما ذكر الفحشاء مع دخوله في المنكر ، لأهميته (وَالْبَغْيِ) أي الظلم وذكره لأهميته أيضا (يَعِظُكُمْ) الله أيها البشر ، فإن أوامره ونواهيه لخيركم وصلاحكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا ، فتذكروا ما أودع في فطرتكم من حسن تلك الأشياء ، وقبح هذه الأشياء.

[٩٢] (وَأَوْفُوا) أيها الناس (بِعَهْدِ اللهِ) فإن المعاهدة مع أيّ شخص كان ، عهد لله حيث أمر الله بوفائه (إِذا عاهَدْتُمْ) أو المراد إذا قال الإنسان عليه عهد لله أن يفعل كذا ، لزم عليه أن يفعل (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) جمع يمين وهي الحلف ، أي لا تتركوا متعلقها (بَعْدَ تَوْكِيدِها) بعد ما

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٥٠.

٢٥٣

وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً

____________________________________

أكدتم لها بذكر الله ، فإن الإنسان ، قد يحلف بدون ذكر اسم الله ، كأن يقول «أحلف أن أفعل كذا» وقد يؤكدها بقوله «أحلف بالله أن أفعل كذا» وهذا يحرم نقضه (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ) في عهودكم وأيمانكم (كَفِيلاً) إذ تسمية الله معناها أنه سبحانه كفيل بإنجاز هذا الوعد والإتيان بمتعلق القسم ، فلا تخالفوا بعد ذلك ف (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من نقض العهد واليمين ، فيجازيكم على فعلكم السيئ.

[٩٣] إن الوفاء بالعهد من أكثر الأمور تأكيدا لدى الإسلام ، سواء كان العهد مع الله أو مع رسوله ، أو مع الأئمة ، أو مع سائر الناس ، ولذا لا يترك هذا الحكم سبحانه إلا ويؤكده بضرب المثل ، ليكون أوقع في النفس ، ويتعاون العقل والعاطفة في إنفاذه (وَلا تَكُونُوا) أيها الناس في نقض الأيمان والعهود كالمرأة التي (نَقَضَتْ غَزْلَها) وفلّته (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) بأن غزلت ثم نقضت بعد تكرار وفشل وشدة ، قالوا : فقد كانت امرأة تسمى ريطة من تميم ، وكانت حمقاء ، فإذا أصبحت أخذت هي وجيرانها تغزل إلى انتصاف النهار ، ثم هي تنقض غزلها وتأمرهن أن ينقضن ما غزلن ولا يزال هذا دأبها ، فإن الرجل الذي ينقض العهد واليمين ، يكون كتلك المرأة ، في أنه بعد إبرام العهد ، ينقضه (أَنْكاثاً) جمع «نكث» وهو الغزل من الصوف والشعر ببرم ثم ينكث وينقض ليغزل ثانية ، ولقد كان بعض المعاهدين مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقضون عهدهم معهم ، بحجة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه قلة ضعيفة ، وأن

٢٥٤

تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ

____________________________________

قريش ، وسائر الكفار كثرة قوية ، ولكن هذا المبرر من عموم لا وجه له ، وإلا فما فائدة العهود والأيمان؟ (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) أي لا تكونوا بحيث تتخذون عهودكم وحلفكم (دَخَلاً) أي خدعة ومكرا ، فإن أصل الدخل ما أدخل في الشيء على وجه الفساد (بَيْنَكُمْ) فإن اليمين دخلت بين الطائفتين على وجه الفساد ، لأنها تسبب أن يتنازل جانب ـ وهم المسلمون ـ عن بعض منافعهم مراعاة لليمين والعهد بينهم وبين الكافرين ، بينما أن الجانب الثاني ـ وهم الكفار ـ لا يتنازلون على شيء من شؤونهم ، فهم ما داموا يرون ضعف أنفسهم عن مقاومة المسلمين يحتمون باليمين ، فإذا رأوا أنفسهم أقوياء نقضوها ، ليكونوا على المسلمين وهذا بخلاف العهد من الإنسان الوفي ، فإنه دخل بين الطرفين على وجه الصلاح ، وإذ يعطي الطرفين الأمن والطمأنينة وإنما كان الكفار ينقضون العهد حيث (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) «أربى» أفعل من الربا ، وهو الزيادة ، ومنه الربا في المعاملة ، أي لا تتخذوا الأيمان دخلا بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة ، والحاصل ، لا تنكثوا أيمانكم ، في حال كونكم اتخذتموها خديعة تريدون بالنكث الوصول مع أمة أخرى هي أكثر عددا من الأمة الأولى التي كانت طرف عهدكم (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ) أي يفعل بكم فعل المختبر (بِهِ) أي تكون أمة أربى من أمة ، ليظهر مدى وفائكم بالعهد ، فإن الوفاء بالعهود لا تظهر قيمته فيما كان الأمر على قدم المساواة مع طرف المعاهدة وغيرهم ، وإنما تظهر القيمة فيما كان الميزان غير معتدل ، وتكون الأمة غير المعاهد معها ، أقوى من المعاهد معها ، هذه

٢٥٥

وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)

____________________________________

وظيفتكم أيها المعاهدون ، أما الجانبان المتخالفان الذين عاهدتم مع أحدهما ، فإن الفصل بينهم سيكون في يوم القيامة ، بعد أن لم يرضخ أحدهما للحق الذي يراه في جانب خصمه ، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيانا يعقبه الجزاء (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أو أن المراد لزوم وفاء المعاهد بعهده ، وإن رأى أنه على خلاف مع من عاهد معه ، فإن وظيفته الوفاء ، أما التخالف بينهما ، فإنه سيفصل يوم القيامة ، وهذا أظهر باعتبار الخطاب في «لكم».

[٩٤] إن الخلاف لا بد وأن يفصل في الآخرة ، أما في الدنيا ، فإن الطبيعة البشرية ركبت بحيث لا تتفق ، فبعض يختار الضلال ، وبعض يختار الهدى (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يجبركم جميعا على الهداية (لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ذات دين واحد ، وطريقة واحدة ، ولكنه لا يشاء ذلك ، لأنه يبطل الثواب والعقاب والمدح والذم وإنما أراد سبحانه أن تكونوا مختارين (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يتركه حتى يضل بعد أن أراه الطريق ، فلم يسلكه ، كالملك الذي يترك المدينة العاصية ، حتى تفعل ما تشاء من الاجرام والقتل والسفك ، بعد أن بيّن لهم القوانين فلم يتبعوها (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالألطاف الخفية ، بعد أن أراهم الطريق فسلكوها (وَلَتُسْئَلُنَ) أيها البشر ضالكم ومهديكم (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الخير والشر والهدى والضلال.

[٩٥] ثم يمضي السياق يؤكد على الوفاء بالأيمان ـ واليمين والعهد يطلق كل

٢٥٦

وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)

____________________________________

واحد منهما على الآخر ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) غشا وخدعة تريدون بذلك انتهاز المنافع واهتبال الفرص ، فتعاهدون هذا لتأمنوا جانبه ، فإذا رأيتم عدم أمنكم من جهة أخرى ، نقضتم هذا العهد ، لتعاهدوا ذلك الجانب الثاني ، فقد صارت الأيمان داخلة بينكم للإفساد ، لأن الجانب المقابل يركن إليها ، فلا يستعد ، وذلك موجب لاضمحلاله وانهياره (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) فإن العهد قد أثبت القدم إذا صار كل جانب مطمئن الخاطر مرتاح البال ، لا يهمه من جانب صاحبه شيء أما إذا نقض العهد كان النقض زلّة للقدم ، فلا اطمئنان ، وذلك يوجب زعزعة الحياة السعيدة ، وارتفاع الثقة بين الناس في معاملاتهم ومعاهداتهم (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) وبال نقض أيمانكم في الدنيا والآخرة (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي بسبب صدكم عن طريقه سبحانه ، فإن الوفاء بالعهد طريقه الذي جعله للسعادة والطمأنينة فالنقص صاد عن هذا الطريق ، لأنه يجرّئ الناس على مثل عمله ، ولا يكون حينئذ اطمئنان من أحد على أحد (وَلَكُمْ) بالإضافة إلى ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة ، وما ورد من كون الآيات في علي عليه‌السلام بالنسبة إلى قصة الغدير ، فإن ذلك بيان لمصداق ظاهر من مصاديق الآية ، وإلا فالحكم عام ، والعلة مستوعبة ، ولا يظن الناقض ، أنه ربح ، حيث اختار الربح على الوفاء ، فإنه إذا راج النقيض سيأتي يوم ينقض عليه ، وهو خسران ، فأضاع بذلك شرف المعاهدة ولحقه الخسر

٢٥٧

وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)

____________________________________

الذي فر منه ، وهكذا جميع أحكامه سبحانه ، فإن من تخلف عنها للذة أو منفعة ، كيل له الصاع صاعين.

[٩٦] (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بأن تنقضوا عهدكم مع غيركم ، لثمن قليل ، ومنفعة ضئيلة ، فإن عهدا بينكم هو عند الله ، ومن خالفه لأجل مصلحة ، فإنه إنما باع عهد الله واشترى تلك المصلحة التي مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الأجر والمصلحة المترتبين على الوفاء بالعهد ـ عهد الله ـ (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) مما أعده لمن وفي بالعهد (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من ذلك الثمن القليل ، وتلك المصلحة التي تترتب على نقض العهد فيما بينكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كان لكم علم.

[٩٧] (ما عِنْدَكُمْ) أيها البشر (يَنْفَدُ) يتم ويخلص ، ولنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا ، فإنه فإن زائل (وَما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب المترتب على الوفاء بالعهد (باقٍ) أبد الآبدين (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) فيما أمرناهم به ، وبالأخص بقواعد عهودهم ، وإن أوجب ذلك ذهاب مصالح كثيرة من أيديهم (أَجْرَهُمْ) وثواب بقائهم (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فلا نعطيهم جزاء أعمالهم السيئة ، وإنما جزاء أعمالهم الحسنة ، التي هي أحسن أعمالهم ، ليس ذلك في الآخرة ، فحسب ، بل في الدنيا أيضا ، وإنا لنرى الإمام

٢٥٨

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً

____________________________________

المرتضى عليه‌السلام حين قيل له في الشورى : نبايعك على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وسيرة الشيخين ، رفض الأخير من الفقرات الثلاث ، ولم ينل الإمبراطورية الإسلامية ، لأجل هذا الرفض ، وقبل عثمان الثلاث ، لكنه خالف ، فقد حمد الإمام في الدنيا لصبره ، بما نرى إلى اليوم ، أما عثمان ، فكان جزاؤه في نقضه للعهد ، ما رأينا إلى هذا اليوم ، وثم قيل للإمام إن إبقاء معاوية لأيام قلائل ، يمهد له الإمبراطورية الهادئة ، لكن الإمام رفض ، ومعاوية عثر واهتبل ، فما مصيره في الدنيا ، إلا اللعن والعار ، بينما مصير الإمام الصابر ما نراه ، وفي الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر ، وإن رفّت ألوية الغادر المستعجل أياما ، قال الشاعر :

للمتقين من الدنيا عواقبها

وإن تعجّل فيها الظالم الآثم

[٩٨] وليس الجزاء الأحسن خاصا بمن وفي بعهده وصبر ، بل كل من عمل صالحا ، فإن له نفس ذلك الجزاء الأحسن (مَنْ عَمِلَ) عملا (صالِحاً) لا يشوبه فساد وباطل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تأكيد حتى يشمل الحكم ، لكلا الصنفين ، ولا يتوهم أنه خاص بالذكور (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فإن الإيمان شرط قبول الأعمال (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فإن الحياة الطيبة ، إنما تهيئ باتباع منهاج الله سبحانه ، فإذا عمل الجميع بذلك المنهاج ، صارت الحياة كلها بردا وسلاما ، أما إذا عمل البعض ، فهو يستفيد من طيب الحياة بقدر عمله ، ولنأخذ أن الحياة الطيبة ترتكز على الفضيلة والأمن والغنى ، فإذا عمل صار من نصيب كل واحد تلك

٢٥٩

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)

____________________________________

الحياة ، أما إذا عمل البعض ، كانت له فضيلة الاطمئنان القلبي ، وفضيلة القناعة ، وفضيلة الأخلاق الطيبة وما إليها ، وإن تكدرت حياته ، بما يتوجه إليه من غيره ، من الاضراب والفقر الذين أحدثهما غيره ، ممن لا يسير على منهاج الله سبحانه ، نعم لو لم يعمل صالحا ، فقد ـ مع فقد الأمن والغنى ـ الفضيلة أيضا ، فلا اطمئنان له وهو ضجر من الحياة ، سيئ الخلق ، وهكذا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي نعطيهم (أَجْرَهُمْ) في الدنيا والآخرة (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما مرّ ، فإن الدنيا كالآخرة تظهر فيها نتائج الأعمال ، فمن أهان الناس أهين ، ومن احترمهم احترم ، وعلى هذا المنوال من أكل كثيرا أتخم ، ومن أكل قليلا سلم ، ومن اقتصد لم يفتقر ، ومن أسرف تمسكن.

ورد أن رجلا من حضر موت ، يقال له عبدان الأشرع ، قال : يا رسول الله ، إن امرئ القيس الكندي ، جاورني في أرض ، فاقتطع من أرضي ، فذهب بها مني ، والقوم يعلمون إني لصادق ، ولكنه أكرم عليهم مني ، فسأل رسول الله امرء القيس عنه؟ فقال : لا أدري ما يقول ، فأمره أن يحلف ، فقال عبدان : إنه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود ، فخذ بيمينه ، فلما قام ليحلف أنظره ، فانصرفا ، فنزل قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) (١) الآيتان ، فلما قرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال امرئ القيس : أما ما عندي فينفد ، وهو صادق فيما يقول ، لقد اقتطعت أرضه ، ولم أدر كم هي ، فليأخذ من أرضي ما شاء ، ومثلها معها ، بما أكلت من ثمرها ، فنزل فيه ، ومن عمل صالحا الآية.

__________________

(١) النحل : ٩٦.

٢٦٠