تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

سورة ألم نشرح

مكية وهي ثمان آيات وسبع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢))

قوله عزوجل : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) استفهام بمعنى التّقرير ، أي قد فعلنا ذلك ومعنى الشرح الفتح بما يصده عن الإدراك وا تعالى لله فتح صدر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للهدى ، والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصده عن إدراك الحق ، وقيل معناه ألم نفتح قلبك ونوسعه ونلينه بالإيمان ، والموعظة ، والعلم ، والنبوة ، والحكمة ، وقيل هو شرح صدره في صغره (م) عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل عليه‌السلام وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه ، فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشّيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا : إن محمدا قد قتل فاستقبلوه ، وهو ممتقع اللون. قال أنس : وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره» (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي حططنا عنك وزرك الذي سلف منك في الجاهلية فهو كقوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وقيل الخطأ والسّهو وقيل ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها ، وقيل المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها لأن الوزر في اللغة الثقل تشبيها بوزر الجبل ، وقيل معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلا فسمى العصمة وضعا مجازا.

واعلم أن القول في عصمة الأنبياء قد تقدم مستوفى في سورة طه عند قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) وعند قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦))

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي أثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض وهو الصوت الخفي الذي يسمع من المحمل ، أو الرحل فوق البعير ، فمن حمل الوزر على ما قبل النّبوة قال هو اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمور كان فعلها قبل نبوته إذ لم يرد عليه شرع بتحريمها ، فلما حرمت عليه بعد النبوة عدها أوزارا وثقلت عليه وأشفق منها فوضعها الله عنه وغفرها له ومن حمل ذلك على ما بعد النبوة قال : هو ترك الأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقوله عزوجل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه سأل جبريل عن هذه الآية ، ورفعنا لك ذكرك قال : قال الله عزوجل : إذا ذكرت ذكرت معي» قال ابن عباس : يريد الأذان ، والإقامة ، والتّشهد ، والخطبة على المنابر ، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ، ولم يشهد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافرا ، وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة فليس خطيب ولا

٤٤١

متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله وقال الضحاك : لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به ، وقال مجاهد يريد التأذين وفيه يقول حسان بن ثابت :

أغر عليه للنبوة خاتم

من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي مع اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النّبيين ، وإلزامهم الإيمان به ، والإقرار بفضله ، وقيل رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله «محمد رسول الله» وفرض طاعته على الأمة بقوله : «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» ومن يطع الله ورسوله فقد فاز ، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء ثم وعده باليسر ، والرخاء بعد الشّدة والعناء ، وذلك أنه كان في شدة بمكة فقال تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وإنما كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرّجاء قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» وقال ابن مسعود : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخله عليه ويخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين قال المفسرون في معنى قوله لن يغلب عسر يسرين إن الله تعالى كرر لفظ العسر ، وذكره بلفظ المعرفة ، وكرر اليسر بلفظ النكرة ، ومن عادة العرب. إذا ذكرت اسما معرفا ثم أعادته كان الثاني هو الأول وإذا ذكرت اسما نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول كقولك كسبت درهما فأنفقت درهما. فالثاني غير الأول وإذا قلت كسبت درهما ، فأنفقت الدرهم فالثاني هو الأول ، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسرا واحدا ، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين ، فكأنه قال فإن مع العسر يسرا إن مع ذلك العسر يسرا آخر وزيف أبو على الحسن بن يحيى الجرجاني صاحب النظم هذا القول ، وقال قد تكلم الناس في قوله لن يغلب عسر يسرين فلم يحصل منه غير قولهم إن العسر معرفة ، واليسر نكرة ، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران وهو قول مدخول فيه إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفا إن مع الفارس سيفا فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين فمجاز قوله لن يغلب عسر يسرين أن الله عزوجل بعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة فاغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره فعدد الله نعمه عليه في هذه السّورة ، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم. فقال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي لا يحرنك الذي يقولون فإن مع العسر الذي في الدّنيا يسرا عاجلا ، ثم أنجز ما وعده وفتح عليه القرى القريبة ، ووسع ذات يده حتى كان يعطي المئين من الإبل ، ويهب الهبة السّنية ثم ابتدأ فضلا آخر من أمور الآخرة فقال تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) والدّليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو ، وهذا وعد لجميع المؤمنين ، والمعنى أن مع العسر الذي في الدّنيا للمؤمن يسرا في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية فقوله لن يغلب عسر يسرين أي إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة ، فدائم أبدا غير زائل ، أي لا يجتمعان في الغلبة فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص قال القشيري : كنت يوما في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقالت :

أرى الموت لمن أصبح

مغموما له أروح

فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف في الهواء :

٤٤٢

ألا يا أيها المرء

الذي الهم به برح

وقد أنشد بيتا لم

يزل في فكره يسنح

إذا اشتد بك العسر ففكر

في ألم نشرح

فعسر بين يسرين

إذا أبصرته فافرح

قال فحفظت الأبيات ففرج الله عني وقال إسحاق بن بهلول القاضي :

فلا تيأس إذا أعسرت يوما

فقد أيسرت في دهر طويل

ولا تظنن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

فإن العسر يتبعه يسار

وقول الله أصدق كل قيل

وقال أحمد بن سليمان في المعنى :

توقع لعسر دهاك سرورا

ترى العسر عنك بيسر تسرى

فما الله يخلف ميعاده

وقد قال إن مع العسر يسرا

وقال غيره :

وكل الحادثات إذا تناهت

يكون وراءها فرج قريب

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

قوله عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) لما عدد الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمه السالفة حثه على الشكر ، والاجتهاد في العبادة ، والنصب فيها وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها ، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى ، والنصب التعب قال ابن عباس : إذا فرغت من الصّلاة المكتوبة ، فانصب إلى ربك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة وقال ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض ، فانصب في قيام اللّيل ، وقيل إذا فرغت من التّشهد فادع لدنياك وآخرتك ، وقيل إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك ، وقيل إذا فرغت من تبليغ الرّسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين. قال عمر بن الخطاب إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته. السبهلل الذي لا شيء معه ، وقيل السبهلل الباطل (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي تضرع إليه راغبا في الجنة راهبا من النار ، وقيل اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه والله أعلم.

٤٤٣

سورة والتين

(مكية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسة أحرف) بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥))

قوله عزوجل : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قال ابن عباس : هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت ، قيل إنما خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التّنغيص ، وفيه غذاء ويشبه فواكه الجنة لكونه بلا عجم.

ومن خواصه أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يخرج بطريق الرشح ويلين الطبيعة ، ويقلل البلغم وأما الزيتون فإنه من شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به وشجرته في أغلب البلاد ولا يحتاج إلى خدمة وتربية وينبت في الجبال التي ليست فيها دهنية ويمكث في الأرض ألوفا من السنين ، فلما كان فيهما من المنافع ، والمصالح الدّالة على قدرة خالقهما لا جرم أقسم الله بهما ، وقيل هما جبلان فالتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس ، واسمهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما ينبتان التين والزيتون ، وقيل هما مسجدان فالتين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وإنما حسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة ، وقيل التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء ، وقيل التين مسجد نوح الذي بناه على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس (وَطُورِ سِينِينَ) يعني الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصّلاة والسّلام وسينين اسم للمكان الذي فيه الجبل سمي سينين وسيناء لحسنه ولكونه مباركا وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني الآمن ، وهو مكة حرسها الله تعالى لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيده ولا يعضد شجره ، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد وهذه أقسام أقسم الله بها لما فيها من المنافع والبركة وجواب القسم قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يعني في أعدل قامة ، وأحسن صورة ، وذلك أنه تعالى خلق كل حيوان منكبا على وجهه يأكل بفيه إلا الإنسان فإنه خلقه مديد القامة حسن الصورة يتناول مأكوله بيده مزينا بالعلم ، والفهم ، والعقل ، والتّمييز ، والمنطق. (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يعني إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله والسّافلون هم الضّعفاء ، والزمنى والأطفال والشّيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا لأنه لا يستطيع حيلة ، ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله ، وقيل ثم رددناه إلى النّار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض ثم استثنى. فقال تعالى :

٤٤٤

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم لا يردون إلى النار أو إلى أسفل سافلين وعلى القول الأول يكون الاستثناء منقطعا ، والمعنى ثم رددناه أسفل سافلين فزال عقله وانقطع عمله فلا تكتب له حسنة لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضّعف ، فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملون في حالة الشّباب والصّحة وقال ابن عباس : هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم فعلى هذا القول السبب خاص وحكمه عام قال عكرمة ما يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل وروي عن ابن عباس : قال إلا الذين قرءوا القرآن وقال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني غير مقطوع لأنه يكتب له بصالح ما كان يعمل قال الضّحاك : أجر بغير عمل ثم قال إلزاما للحجة. (فَما يُكَذِّبُكَ) يعني يا أيها الإنسان وهو خطاب على طريق الالتفات (بَعْدُ) أي بعد هذه الحجة والبرهان (بِالدِّينِ) أي بالحساب والجزاء ، والمعنى فما الذي يلجئك أيها الناس إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك ، ومبدأ خلقك ، وهرمك ، فتعتبر وتقول أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني ، فما الذي يكذبك بالمجازاة ، وقيل هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى فمن يكذبك أيها الرّسول بعد ظهور هذه الدّلائل ، والبراهين (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي بأقضى القاضين يحكم بينكم وبين أهل التكذيب يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ والتين والزيتون ، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين ، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشّاهدين» أخرجه الترمذي وعن البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في سفر فصلّى العشاء الأخيرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والله تعالى أعلم.

٤٤٥

سورة العلق

(مكية وهي تسع عشرة آية واثنتان وتسعون كلمة ومائتان وثمانون حرفا) قال أكثر المفسرين هذه السّورة أول سورة نزلت من القرآن وأول ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله (ما لَمْ يَعْلَمْ) (ق) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرّؤيا الصّالحة» ولمسلم «الصّادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الوحي» وفي رواية حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) حتى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة بنت خويلد فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ثم قال لخديجة أي خديجة ما لي وأخبرها الخبر قال لقد خشيت على نفسي قالت له خديجة كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرّحم وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهو ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة : أيّ ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو مخرجيّ هم؟ قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال : حتى حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد إنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ، فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.

(فصل)

في هذا الحديث دليل صحيح صريح على أن سورة اقرأ أول ما نزل من القرآن وفيه رد على من قال إن المدثر أول ما نزل من القرآن ، وقد تقدم الكلام على ذلك والجمع بين القولين في أول سورة المدثر وهذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن عائشة لم تدرك هذه القصة فيحتمل أنها سمعتها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من غيره من الصحابة ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني ، وإنما ابتدئ

٤٤٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ، فيأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تحملها القوى البشرية ، فبدئ بأول علامات النبوة توطئه للوحي ، وأما التّحنث فقد فسر في الحديث بالتعبد ، وهو تفسير صحيح لأن أصل التحنث من الحنث ، وهو الإثم ، والمعنى أنه فعل فعلا يخرج به من الإثم وقولها فجأة الحق أي جاءه الحق بالوحي بغتة.

قوله : فغطني بالغين المعجمة ، والطاء المشالة المهملة ، أي عصرني ، وضمني ضما شديدا ، وهو قوله حتى بلغ مني الجهد قال العلماء : والحكمة في الغط شغله عن الالتفات إلى غيره ، والمبالغة في صفاء قلبه ولهذا كرره ثلاثا.

قوله : زملوني زملوني كذا هو في الروايات مكرر مرتين ، ومعناه غطوني بالثياب ، وقوله حتى ذهب عنه الرّوع أي الفزع قولها كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا يروى بضم الياء وبالخاء المعجمة من الخزي أي لا يفضحك الله ، ولا يكسرك ، ولا يهينك ولا يذلك وروي بفتح الياء وبالحاء المهملة وبالنون أي لا يحزنك من الحزن الذي هو ضد الفرح وقولها وتحمل الكل أي الثقيل والحوائج المهمة ، وتكسب المعدوم أي تعطي المال لمن هو معدوم عنده ومعنى كلام خديجة أنك لا يصيبك مكروه لما جعل فيك من مكارم الأخلاق وحميد الفعال. وخصال الخير وذلك سبب السلامة من مصارع السوء.

قولها : وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية مسلم «وكان يكتب الكتاب العربي يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب» ومعناهما صحيح وحاصله أنه تمكن من دين النصرانية بحيث صار يتصرف في الإنجيل ، فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية إن أراد ، أو بالعربية إن أراد ذلك ، قوله هذا النّاموس الذي أنزل الله على موسى هو بالنون والسين المهملة ، يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام ومعنى النّاموس صاحب خبر الخير. إنما سمي جبريل بذلك لأن الله خصه بالوحي إلى الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام قوله يا ليتني فيها ، أي في أيام النّبوة وإظهار الرّسالة جذعا أي شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك ، وهو قوله وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا أي قويا بالغا قولها ثم لم يلبث ورقة أن توفي أي فلم يلبث أن مات قبل ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله كي يتردى التّردي الوقوع من علو ، وذروة الجبل أعلاه قوله تبدى له أي ظهر له قوله فيسكن لذلك جأشه أي قلبه ، وقيل الجأش هو ثبوت القلب عند الأمر العظيم المهول ، وقيل الجأش هو ما ثار من فزعه وهاج من حزنه والله أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١))

قوله عزوجل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك ، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديبا ، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل بسم الله ، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة ، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة (الَّذِي خَلَقَ) يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠))

٤٤٧

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها ، وأحسنها خلقه (مِنْ عَلَقٍ) جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضا (اقْرَأْ) كرره تأكيدا وقيل الأول اقرأ في نفسك ، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف. فقال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز ، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض ، فمن طلب العوض فليس بكريم ، وليس المراد أن يكون العوض عينا بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين ، وقيل الأكرم هو الذي لا الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة ، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة ، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم ، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين ، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولو لا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة. لو لا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش ، فسأل بعضهم عن الكلام ، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) قيل يحتمل أن يكون المراد علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، فيكون المراد من ذلك معنى واحدا ، وقيل علمه من أنواع العلم ، والهداية ، والبيان ، ما لم يكن يعلم ، وقيل علم آدم الأسماء كلها ، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) أي يتجاوز الحد ، ويستكبر على ربه (أَنْ) أي لأن (رَآهُ اسْتَغْنى) أي رأى نفسه غنيا وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك ، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالا فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد ، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان ، ثم هو عام لكل طاغ متكبر.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصّلاة (م) عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ، فقيل نعم فقال واللّات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» فأنزل الله هذه الآية ، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه كلا إن الإنسان ليطغى إلى قوله كلا لا تطعه قال : وأمره بما أمره به زاد في رواية ، فليدع ناديه يعني قومه (خ) عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند البيت لأطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد التّرمذي عيانا ومعنى أرأيت تعجبا للمخاطب وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفائدة التنكير في قوله عبدا تدل على أنه كامل العبودية ، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية ، وهذا دأبه وعادته ، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة ، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة ، ولا يلزم من ذلك أيضا عدم جواز منع المولى عبده ، والرجل زوجته عن قيام الليل ، وصوم

٤٤٨

التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) يعني العبد المنهي وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) يعني في الإخلاص والتوحيد (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) يعني أبا جهل (وَتَوَلَّى) أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبدا إذا صلّى وهو على الهدى آمر بالتّقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا (أَلَمْ يَعْلَمْ) يعني أبا جهل (بِأَنَّ اللهَ يَرى) يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به ، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم (كَلَّا) أي لا يعلم ذلك أبو جهل (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يعني عن إيذاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن تكذيبه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار ، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذبا شديدا والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار ، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال على البدل (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي صاحبها كاذب خاطئ.

قال ابن عباس : لما نهى أبو جهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة انتهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو جهل : أتنتهرني فو الله لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ، ورجالا مردا وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي فجاءه أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزبره فقال أبو جهل إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني فأنزل الله تعالى (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن غريب صحيح ، ومعنى فليدع ناديه أي عشيرته وقومه فلينتصر بهم ، وأصل النادي المجلس الذي يجمع الناس ، ولا يسمى ناديا ما لم يكن فيه أهله (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني الملائكة الغلاظ الشداد قال ابن عباس : يريد زبانية جهنم سموا بذلك لأنهم يدفعون أهل النّار إليها بشدة مأخوذ من الزّبن وهو الدفع (كَلَّا) أي ليس الأمر على ما هو عليه أبو جهل (لا تُطِعْهُ) أي في ترك الصّلاة (وَاسْجُدْ) يعني صل لله (وَاقْتَرِبْ) أي من الله (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء» وهذه السّجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشّافعي فيسن للقارئ ، والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقرأ باسم ربك وإذا السماء انشقت» أخرجه مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤٤٩

سورة القدر

وهي مدنية وقيل إنها مكية والقول الأول أصح ، وهو قول الأكثرين ، قيل إنها أول ما نزل بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنا عشر حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢))

قوله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن كناية عن غير مذكور (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر فوضعه في بيت العزة ، ثم نزل به جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة ، فكان ينزل بحسب الوقائع ، والحاجة إليه ، وقيل إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور ، والأحكام ، والأرزاق ، والآجال ، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده ، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه ، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض في الأزل ، قيل للحسين بن الفضل أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض قال : نعم قيل له فما معنى ليلة القدر قال سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر ، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها على اللّيالي من قولهم لفلان قدر عند الأمير ، أي منزلة وجاه ، وقيل سميت بذلك لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولا ، وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها.

(فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها)

(ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، واختلف العلماء في وقتها فقال بعضهم إنها كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم رفعت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تلاحى الرجلان «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم» وهذا غلط ممن قال بهذا القول لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في آخره «فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة» ، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة ، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن ليلة القدر رفعت قال كذب من قال ذلك قلت هي في كل شهر رمضان استقبله قال نعم.

ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها ، فقيل هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في

٤٥٠

ليلة أخرى هكذا أبدا قالوا : وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة وقال : مالك والثّوري وأحمد ، وإسحاق وأبو ثور ، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان ، وقيل بل تنتقل في رمضان كله ، وقيل إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبدا في جميع السنين لا تفارقها ، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة ، وصاحبيه وروي عن ابن مسعود أنه قال : من يقم الحول يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرّحمن. أما إنه علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وقال جمهور العلماء : إنها في شهر رمضان ، واختلفوا في تلك الليلة فقال أبو رزين العقيلي : في أول ليلة من شهر رمضان ، وقيل هي ليلة سبعة عشر وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر يحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا ، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان والله سبحانه وتعالى أعلم.

(ذكر الأحاديث الواردة في ذلك)

(ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين (ق) عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال «اعتكفنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشر الأواسط فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا فأتانا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه ، وأنا رأيت هذه الليلة ، ورأيتني أسجد في ماء وطين ، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا فو الذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم ، وكان المسجد على عريش ، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين» ، وفي رواية نحوه إلا أنه قال «حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» ، وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثا عن عبد الله بن أنيس قال : «كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت فوافيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر ، فقال كم اللّيلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي اللّيلة ، ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثا وعشرين» أخرجه أبو داود.

وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ومال إليه الشّافعي أيضا (خ) عن الصّنابحي ، أنه سأل رجلا هل سمعت في ليلة القدر شيئا قال ، أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها في أول السبع من العشر الأواخر ، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال : «قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد ، فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين قيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال : كان يدخل المسجد إذا صلّى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح ، فإذا صلّى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته» أخرجه أبو داود ولمسلم عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين» قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه ، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين (خ) عن ابن عباس قال التمسوها في أربع وعشرين ، وقيل في ليلة خمس وعشرين دليله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» ، وقيل هي ليلة سبع وعشرين يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وإليه ذهب أحمد (م) عن زر بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر قال أبيّ : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي

٤٥١

رمضان يحلف ، ولا يستثني ، فو الله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيامها ، وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها عن معاوية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في ليلة القدر ، قال ليلة سبع وعشرين» أخرجه أبو داود ، وقيل هي ليلة تسع وعشرين دليله قوله «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وقيل هي ليلة آخر الشهر ، عن ابن عمر قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع ، فقال هي في كل رمضان» أخرجه أبو داود قال ويروى موقوفا عليه.

(ذكر ليال مشتركة)

عن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر «اطلبوها ليلة سبع وعشرين من رمضان ، وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ، ثم سكت» أخرجه أبو داود عن عتبة بن عبد الرّحمن قال : حدثني أبي قال ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا في العشر الأواخر ، فإني سمعته يقول «التمسوها في تسع يبقين أو في خمس يبقين ، أو في ثلاث يبقين أواخر الشهر» قال وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد أخرجه التّرمذي (خ) عن عبادة بن الصّامت قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبر بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» قوله فتلاحى رجلان أي تخاصم رجلان ، وقوله فرفعت لم يرد رفع عينها ، وإنما أراد رفع بيان وقتها ، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها ، (خ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هي في العشر في سبع مضين أو سبع يبقين يعني القدر» وفي رواية «في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» قال أبو عيسى : «روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين ، وآخر ليلة من رمضان» قال الشّافعي : كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه يقال له نلتمسها في كذا ، فقال التمسوها في ليلة كذا قال الشّافعي : وأقوى الروايات عندي في ليلة إحدى وعشرين قال البغوي وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وأخفى الصّلاة الوسطى في الصّلوات الخمس ، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه ، ورضاه في الطّاعات ليرغبوا في جميعها ، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها ، وأخفى قيام السّاعة ليجتهدوا في الطاعات حذرا من قيامها ، ومن علاماتها. ما روى الحسن رفعه «إنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها» (ق) عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا اللّيل ، وأيقظ أهله ، وجد وشد المئزر» ولمسلم عنها قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره» (ق) عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزوجل ثم اعتكف أزواجه من بعده (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان» عن عائشة قالت «قلت يا رسول الله إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها قال : قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن صحيح أخرجه النسائي وابن ماجة.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

قوله عزوجل : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها ، وهذا على سبيل

٤٥٢

التعظيم لها ، والتّشويق إلى خيرها ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه :

فقال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال ابن عباس : ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، وتمنى ذلك لأمته فقال : يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا ، وأقلها أعمالا ، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر ، فقال ليلة القدر خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السّلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة ، وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى أعمار الناس قبله ، أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أي لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر أخرجه مالك في الموطأ قال المفسرون : معناه العمل الصّالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة.

الوجه الثاني : من فضلها قوله عزوجل : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) يعني إلى الأرض وسبب هذا أنهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وظهر أن الأمر بخلاف ما قالوه وتبين حال المؤمنين وما هم عليه من الطاعة ، والعبادة ، والجد ، والاجتهاد نزلوا إليهم ليسلموا عليها ويعتذروا مما قالوه ، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم (وَالرُّوحُ) يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله أكثر المفسرين : وفي حديث أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ، ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزوجل» ذكره ابن الجوزي ، وقيل إن الرّوح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشّمس إلى طلوع الفجر ، وقيل إن الروح ملك عظيم ينزل مع الملائكة ، تلك الليلة (فِيها) أي في ليلة القدر (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمر ربهم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي بكل أمر من الخير والبركة ، وقيل بكل ما أمر به وقضاه من كل أمر.

الوجه الثالث : من فضلها قوله تعالى : (سَلامٌ) أي سلام على أولياء الله وأهل طاعته قال الشّعبي : هو تسليم الملائكة في ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ، وقيل الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمنا أو مؤمنة يسلمون عليه من ربه عزوجل ، وقيل تم الكلام عند قوله (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ثم ابتدأ فقال تعالى : (سَلامٌ هِيَ) يعني القدر سلامة وخير ليس فيها شر ، وقيل لا يقدر الله في تلك اللّيلة ولا يقضي إلا السلامة ، وقيل إن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يحدث فيها أذى (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي أن ذلك السّلام أو السّلامة تدوم إلى مطلع الفجر ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

٤٥٣

سورة لم يكن

وتسمى سورة البينة وهي مدنية قاله الجمهور ، وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية هي ثمان آيات ، وأربع وتسعون كلمة وثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤))

قوله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني اليهود والنّصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) أي ومن المشركين ، وهم عبدة الأوثان ، وذلك أن الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل كتاب وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم ، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله وتشبيههم الله بخلقه ، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك ، والثاني المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله ، فذكر الله الجنسين في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) أي منتهين عن كفرهم وشركهم وقيل معناه زائلين (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) أي حتى أتتهم لفظه مضارع ومعناه الماضي (الْبَيِّنَةُ) أي الحجة الواضحة يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم ، وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية ، ودعاهم إلى الإيمان ، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم ، والآية فيمن آمن من الفريقين ، قال الواحدي في بسيطة : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما ، وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.

قال الإمام فخر الدين في تفسيره إنه لم يلخص كيفية الأشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عما ذا لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه ، فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية ، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر ، وهذا منتهى الإشكال في ظني قال والجواب عنه من وجوه :

أولها : وأحسنها الوجه ، الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب ، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه ، ثم قال (وَما

٤٥٤

تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغني فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخا ، وإلزاما قال الإمام فخر الدين : وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم ، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع ، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوها أخر قال : والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أي تلك البينة رسول من الله (يَتْلُوا) أي يقرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صُحُفاً) أي كتبا يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب (مُطَهَّرَةً) أي من الباطل والكذب والزّور ، والمعنى أنها مطهرة من القبيح ، وقيل معنى مطهرة معظمة ، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون (فِيها) أي في الصحف (كُتُبٌ) أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام (قَيِّمَةٌ) أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج ، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه ، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره ، واختلفوا فيه ، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون ، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال تعالى :

(وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

(وَما أُمِرُوا) يعني هؤلاء الكفار (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة ، والإنجيل ، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة ، وتجريدها عن شوائب الرّياء ، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة. كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات ، قال أصحاب الشّافعي : الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منويا ، فتجب النية في الوضوء ، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصا له ، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة من النار مطلوبا ، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافا لربه عزوجل بالرّبوبية ، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية ، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم» (حُنَفاءَ)

٤٥٥

أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام ، وقيل حنفاء أي حجاجا وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال ، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم ، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل ، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليس بحنيف (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي المكتوبة في أوقاتها (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي المفروضة عند محلها (وَذلِكَ) أي الذي أمروا به (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة ، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة ردا إلى الملة ، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة ، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها ، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة ، وقيل القيمة جمع القيم ، والقيم ، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولا وأتبعه بالعمل ثانيا ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين.

قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته ، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم.

فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة ، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب.

قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذلهم الله في الدّنيا ، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب. (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا : فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها ، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به أن يكون ربا ومدبرا ، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك ، وقيل : رضي الله أعمالهم ، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة (ذلِكَ) أي هذا الجزاء والرضا (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال وسماني قال نعم فبكى» وفي رواية البخاري «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، قال الله سماني لك ، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه» :

(شرح غريب الحديث)

أما بكاء أبي فإنه بكى سرورا ، واستصغارا لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة ، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما : كونه منصوصا عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة ، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكره هذه النعمة.

٤٥٦

وأما تخصيص هذه السّورة بالقراءة ، فإنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات عظيمة ، وكان الحال يقتضي الاختصار ، وأما الحكمة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة على أبي فهي أن يتعلم أبي القراءة من ألفاظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضبط أسلوب الوزن المشروع وقدره بخلاف ما سواه من النّعم المستعملة في غيره فكانت قراءته على أبي ليتعلم أبي منه لا ليتعلم هو من أبي وقيل إنما قرأ على أبي ليتعلم غيره التواضع والأدب وأن لا يستنكف الشريف وصاحب الرتبة العالية أن يتعلم القرآن ممن هو دونه ، وفيه تنبيه على فضيلة أبي والحث عن الأخذ عنه وتقديمه في ذلك فكان كذلك بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسا وإما ما في القراءة وغيرها ، وكان أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٥٧

سورة الزلزلة

وهي مكية وقيل مدنية وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسعة وأربعون حرفا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» أخرجه التّرمذي وقال : حديث غريب وله عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ (إِذا زُلْزِلَتِ) عدلت له نصف القرآن ومن قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) عدلت له ربع القرآن ومن قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) عدلت له ثلث القرآن» وقال حديث غريب.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

قوله عزوجل : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي تحركت حركة شديدة ، واضطربت ، وذلك عند قيام الساعة ، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل ، وشجر ، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان أحدهما : وهو قول الأكثرين ، أنها في الدّنيا ، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة. (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها ، وما في بطنها من الدّفائن ، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول ، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب ، والفضة ، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع ، فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها ، لأن الكبد مستور في الجوف ، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور ، واستعار القيء للإخراج ، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة ، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض ، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها ، فهو ثقل عليها ، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتا. (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة ، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان. أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر ، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة ، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة ، فيسأل بعضهم بعضا عن ذلك ، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها ، والكافر جاحد لها ، فإذا وقعت سأل عنها ، وقيل مجاز الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فيقول الإنسان ما لها ، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر ، فتشكوا العاصي ، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له «عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٥٨

هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها» أخرجه التّرمذي ، وقال حديث حسن صحيح (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس : أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة ، والعقل ، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) أي عن موقف الحساب بعد العرض (أَشْتاتاً) أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم ، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر وهو قوله تعالى :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد (خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته ، ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر ، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته ، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه ، وماله ، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) وكان أحدهما يأتيه السائل ، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة ، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا ، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب ، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود : أحكم آية في القرآن (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وسمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير ، فقال ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب ، وقالا فيها مثاقيل كثيرة ، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم : مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤٥٩

سورة العاديات

وهي مكية في قول ابن مسعود وغيره مدنية في قول ابن عباس ، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفا

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤))

قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) فيه قولان أحدهما ، أنها الإبل في الحج قال عليّ كرم الله وجهه : هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، وعنه قال كانت أول غزاة في الإسلام بدرا ، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزّبير ، وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات؟ فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها مد أعناقها في السير وأصله من حركة النار في العود. (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) يعني أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها فيضرب الحجر حجرا آخر فيوري النّار ، وقيل هي النيران بجمع (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يعني الإبل تدفع بركبانها يوم النّحر من جمع إلى منى والسنة أن لا يدفع حتى يصبح والإغارة سرعة السير ، ومنه قولهم أشرق ثبير كيما نغير (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي هيجن بمكان سيرها غبارا.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي وسطن بالنقع جمعا وهو مزدلفة ، فوجه القسم على هذا أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة ، وتعريضه بإبل الحج للتّرغيب وفيه تقريع لمن لم يحج بعد القدرة عليه ، فإن الكنود هو الكفور ، ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك القول الثاني في تفسير والعاديات ، قال ابن عباس وجماعة هي الخيل العادية في سبيل الله والضبح صوت أجوافها إذا غدت قال ابن عباس : وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس ، والكلب ، والثعلب ، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع أو تعب ، وهو من قول العرب ضبحته النّار إذا غيرت لونه ، (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) يعني أنها توري النّار بحوافرها إذا سارت في الحجارة ، وقيل هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها وقال ابن عباس : هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي باللّيل فيوري أصحابها نارا ، ويصنعون طعامهم ، وقيل هو مكر الرّجال في الحرب ، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يعني الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصّباح لأن النّاس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد ، (فَأَثَرْنَ بِهِ) أي بالمكان (نَقْعاً) أي غبارا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي دخلن به أي بذلك النّقع وهو الغبار ، وقيل صرن بعدوهن وسط جمع العدو ، وهم الكتيبة وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصّحة ، وأشبه بالمعنى ، لأن الضبح من صفة

٤٦٠