تفسير الخازن - ج ٢

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٢

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥٦٥

١
٢

سورة المائدة

نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة فقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته وقال «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها». فإن قلت لما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة من بين سور القرآن بقوله فأحلوا حلالها وحرموا حرامها وكل سور القرآن يجب أن يحل حلالها ويحرم حرامها ، قلت هو كذلك وإنما خص هذه السورة لزيادة الاعتناء بها فهو كقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) فأكد اجتناب الظلم في هذه الأربعة أشهر وإن كان لا يجوز الظلم في شيء من جميع أشهر السنة وإنما أفرد هذه الأربعة الأشهر بالذكر لزيادة الاعتناء بها ، وقيل إنما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة لأن فيها ثمانية عشر حكما لم تنزل في غيرها من سور القرآن.

قال البغوي روي عن ميسرة قال : إن الله تعالى أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم ينزلها في غيرها وهي قوله : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وتمام بيان الطهر في قوله : «إذا قمتم إلى الصلاة ـ والسارق والسارقة ـ ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ـ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام» وقوله : (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يعني العهود قال الجماعة : واختلفوا في المراد بهذه العقود التي أمر الله تعالى بوفائها فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة ، أوفوا بالعقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به. وقيل : هو خطاب للمؤمنين أمرهم بالوفاء بالعقود. قال ابن عباس : هي عهود الإيمان وما أخذه على عباده في القرآن فيما أحل وحرم. وقيل هي العقود التي كانت في الجاهلية كان يعاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة على من حاول ظلمه أو بغاه بسوء وذلك هو معنى الحلف الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. قال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام».

وقيل : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم وما يعقده الإنسان على نفسه. والعقود خمسة : عقد اليمين ، وعقد النكاح ، وعقد العهد ، وعقد البيع ، وعقد الشركة. زاد بعضهم : وعقد الحلف.

٣

قال الطبري : وأولى الأقوال عندنا بالصواب ما قاله ابن عباس أن معناه أوفوا يا أيها المؤمنون بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها فيما أحلّ وحرم عليكم وألزمكم فرضه وبيّن لكم حدوده وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لأن الله تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم فقال تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وهو خطاب للمؤمنين خاصة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش وإنما سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز. قال الزجاج : كل حي لا يميز فهو بهيمة. والأنعام : جمع النعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يدخل فيها ذوات الحافر في قول جميع أهل اللغة. واختلفوا في معنى الآية فقال الحسن وقتادة : بهيمة الأنعام ، الإبل والبقر والغنم والمعز. وعلى هذا القول إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام على جهة التوكيد. وقال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش وحمر الوحش. وعلى هذا إنما أضاف البهيمة إلى الأنعام ليعرف جنس الأنعام وما أحل منها لأنه لو أفردها فقال البهيمة لدخل فيه ما يحل ويحرم من البهائم فلهذا قال تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ). وقال ابن عباس : هي الأجنّة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت أو نحرت. ذهب أكثر العلماء إلى تحليلها وهو مذهب الشافعي ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في الجنين ذكاته ذكاة أمه أخرجه الترمذي وابن ماجة.

وفي رواية أبي داود قال : «قلنا يا رسول الله ننحر النّاقة ونذبح البقرة والشاة ونجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه» وروى الطبري عن ابن عمر في قوله : أحلّت لكم بهيمة الأنعام ، قال : ما في بطنها.

قال عطية العوفي : قلت إن خرج ميتا آكله؟ قال : نعم هو بمنزلة رئتها وكبدها. وعن ابن عباس قال : الجنين من بهيمة الأنعام وعنه أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنب الجنين. وقال : هذا من بهيمة الأنعام. وشرط بعضهم الإشعار وتمام الخلق. وقال ابن عمر : ذكاة ما في بطنها ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب. وقال أبو حنيفة : لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني في القرآن تحريمه وأراد به قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إلى آخر الآية فهذا من المتلو علينا وهو ما استثنى الله عزوجل من بهيمة الأنعام (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني أحللت لكم الأنعام كلها والوحشية أيضا من الظباء والبقر والحمر غير محلّي صيدها وأنتم محرمون في حال الإحرام فلا يجوز للمحرم أن يقتل صيدا في حال إحرامه (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) يعني أن الله يقضي في خلقه ما يشاء ، من تحليل ما أراد تحليله وتحريم ما أراد تحريمه وفرض ما يشاء أن يفرضه عليهم من أحكامه وفرائضه مما فيه مصلحة لعباده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) نزلت في الحطم واسمه شريح بن هند بن ضبعة البكري أتى المدينة وحده وخلف خيله خارج المدينة ودخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلا ما ، تدعو الناس

٤

فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم فخرج من عنده وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فلما خرج شريح. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ، فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

لقد لفّها بالليل سواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

خدلج الساقين ممسوح القدم

فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجّا مع حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدي ، فقال المسلمون : يا رسول الله هذا الحطم قد خرج حاجا فخلّ بيننا وبينه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه قد قلد الهدي. فقالوا : يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية فأبى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ).

قال ابن عباس : هي المناسك كان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك.

وقيل : الشعائر ، الهدايا المشعرة وإشعارها أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة أنها هدي وهو سنة في الإبل والبقر عون الغنم ، ويدل عليه ما روي عن عائشة : «فتلت قلائد بدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت فما حرم عليه شيء كان له حلالا» أخرجاه في الصحيحين (م).

عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهلّ بالحج. وعند أبي حنيفة لا يجوز إشعار الهدي بل قال يكره ذلك. وقال ابن عباس (١) في معنى الآية : لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم. وقيل : شعائر الله شرائع الله ومعالم دينه ، والمعنى : لا تحلوا شيئا من فرائضه التي افترض عليكم واجتنبوا نواهيه التي نهى عنها (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه والشهر الحرام : هو الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال في الجاهلية فيه ، فلما جاء الإسلام ، لم ينقض هذا الحكم ، بل أكده. والمراد بالشهر الحرام هنا ، ذو القعدة. وقيل : رجب. ذكرهما ابن جرير. وقيل : المراد بإحلال الشهر الحرام النسيء. قال مقاتل : كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ ، فيقول : إني قد أحللت كذا وحرمت كذا يعني به الأشهر فنهى الله عن ذلك وسيأتي تفسير النسيء في سورة براءة : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) الهدي ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى ، والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد في عنق البعير وغيره والمعنى : ولا الهدي ذوات القلائد. قال الشاعر :

حلفت برب مكة والمصلى

وأعناق هدي مقلدات

فعلى هذا القول إنما عطف القلائد على الهدي مبالغة في التوصية لأنها من أشراف البدن المهداة والمعنى : ولا تستحلوا الهدي خصوصا المقلدات منها. وقيل : أراد أصحاب القلائد وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا

__________________

(١) قوله وقال ابن عباس إلخ كأن هذا قول ثان له رضي الله عنه إذ تقدم له غير هذا ا ه.

٥

أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم من لحاء شجر الحرم فكانوا يأمنون بذلك فلا يتعرض لهم أحد ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك الفعل ونهاهم عن استحلال نزع شيء من شجر الحرم (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يعني ولا تستحلوا القاصدين إلى البيت الحرام وهو الكعبة شرّفها الله وعظمها (يَبْتَغُونَ) يعني يطلبون (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) يعني الرزق والأرباح في التجارة (وَرِضْواناً) يعني ويطلبون رضا الله عنهم بزعمهم لأن الكافر لا حظ له في الرضوان لكن يظن أن فعله ذلك طلب الرضوان فيجوز أن يوصف به بناء على ظنه. وقيل إن المشركين كانوا يقصدون بحججهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا يغالونه فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب ذلك القصد نوع من الحرمة وهو الأمن على أنفسهم. وقيل : كان المشركون يلتمسون في حجهم ما يصلح لهم دنياهم ومعاشهم. وقيل : ابتغاء الفضل هو للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وذلك أنهم يحجون جميعا.

(فصل)

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية فقال قوم : هذه الآية منسوخة إلى هاهنا لأن قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام يقتضي حرمة القتل في الشهر الحرام وفي الحرم وذلك منسوخ بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يقتضي حرمة منع المشركين عن البيت الحرام وذلك منسوخ بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فلا يجوز أن يحج مشرك ولا يأمن بالهدي والقلائد كافر وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر المفسرين.

قال الشعبي : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية. وقيل : المنسوخ منها قوله ولا آمين البيت الحرام نسختها آية براءة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ) هذا وقال ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم.

قال الواحدي : وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة وأن هذه الآية محكمة قالوا ما ندبنا إلى أن نخيف من يقصد بيته من أهل شريعتنا في الشهر الحرام ولا في غيره وفصل الشهر الحرام عن غيره بالذكر تعظيما وتفضيلا وحرم علينا أخذ الهدي من المهدين وصرفه عن بلوغ محله وحرم علينا القلائد التي كانوا يفعلونها في الجاهلية وهذا غير مقبول ، والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء ، على أن الله عزوجل قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها.

وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه وذراعيه جميع لحاء الشجر لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن قد تقدم له عهد ذمة أو أمان. وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين لقوله تعالى عمرة من المشركين لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ) يعني من إحرامكم (فَاصْطادُوا) هذا أمر إباحة ، لأن الله حرم الصيد على المحرم حالة إحرامه بقوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وإذا حلّ من إحرامه بقوله وإذا حللتم فاصطادوا وإنما قلنا إنه أمر إباحة لأنه ليس واجبا على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد ومثله قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) معناه أنه قد أبيح لكم ذلك بعد الفراغ من الصلاة (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ).

٦

قال ابن عباس : لا يحملنكم. وقيل : معناه لا يكسبنكم ولا يدعوكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) يعني بغض قوم وعداوتهم (أَنْ صَدُّوكُمْ) يعني لأن صدوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) والمعنى : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء ، لأن صدوكم عن المسجد الحرام ، لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، فكان الصدّ قد تقدم (أَنْ تَعْتَدُوا) عليهم يعني : بالقتل وأخذ المال (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) يعني ليعن بعضكم بعضا على ما يكسب البر والتقوى قال ابن عباس : البر متابعة السنة (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) يعني ولا يعن بعضكم بعضا على الإثم وهو الكفر والعدوان هو الظلم. وقيل : الإثم المعاصي ، والعدوان البدعة (م) عن النواس بن سمعان ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم فقال : البر «حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروا الله أن تعتدوا ما أمركم به أو تجاوزوا إلى ما نهاكم عنه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني لمن خالف أمره ففيه وعيد وتهديد عظيم.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣))

قوله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) بيّن الله تعالى في أول السورة ما أحل لنا من بهيمة الأنعام بقوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم إنه تعالى استثنى من ذلك بقوله : إلا ما يتلى عليكم. فذكر ذلك المستثنى بقوله حرمت عليكم الميتة فكل ما فارقته الروح مما يذبح بغير ذكاة فهو ميتة. وسبب تحريم الميتة ، أن الدم لطيف جدا ، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس ذلك الدم وبقي في العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم والدم هو المسفوح الجاري ، وكانت العرب في الجاهلية تجعل الدم في المصارين وتشويه وتأكله ، فحرم الله ذلك كله. ولحم الخنزير ، أراد به جميع أجزائه وأعضائه. وإنما خص اللحم بالذكر ، لأنه المقصود بالأكل وقد تقدم في سورة البقرة أحكام هذه الثلاثة أشياء وما استثنى الشارع من الميتة والدم وهو السمك والجراد والكبد والطحال وذكرنا الدليل على إباحة ذلك واختلاف العلماء في ذلك.

وقوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني ما ذكر على ذبحه غير اسم الله وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح فحرم الله بهذه الآية وبقوله : ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه (وَالْمُنْخَنِقَةُ).

قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها فحرم الله ذلك. والمنخنقة : جنس الميتة لأنها لما ماتت لم يسل دمها. والفرق بينهما ، أن الميتة تموت بلا سبب أحد ، والمنخنقة تموت بسبب الخنق. (وَالْمَوْقُوذَةُ) : يعني المقتولة بالخشب. وكانت العرب في الجاهلية يضربون الشاة بالعصا حتى تموت ويأكلونها فحرّم الله ذلك (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) يعني التي تتردى من مكان عال فتموت أو في بئر فتموت. والتردي : هو السقوط من سطح أو من جبل ونحوه وهذه المتردية تلحق بالميتة فيحرم أكلها ويدخل في هذا الحكم إذا رمى بسهمه صيدا فتردى ذلك الصيد من جبل أو من مكان عال فمات فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم (وَالنَّطِيحَةُ) يعني التي تنطحها شاة أخرى حتى تموت وكانت العرب في الجاهلية تأكل ذلك ، فحرمها الله تعالى لأنها في حكم الميتة. فأما الهاء في الكلمات التي تقدمت أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ، فإنما دخلت عليها ، لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة. كأنه قال : حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة

٧

والمتردية. وخصت الشاة ، لأنها من أعم ما يأكله الناس ، والكلام إنما يخرج على الأعم الأغلب ثم يلحق به غيره.

فإن قلت : لم أثبتت الهاء في النطيحة مع أنها في الأصل منطوحة فعدلوا بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة تقول : كف خضيب وعين كحيل يعني كف مخضوبة وعين مكحولة. قلت : إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها ، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول : رأيت قبيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أم امرأة. فعلى هذا ، إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لموصوف غير مذكور وهو الشاة.

وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ومررت بقبيلة بني فلان. وقوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه أكلوا ما بقي منه ، فحرمه الله تعالى. والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه كالأسد والذئب والنمر والفهد ونحوه وفي الآية محذوف تقديره وما أكل السبع منه لأن ما أكله السبع فقد فقد فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) يعني إلا ما أدركتموه وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء المذكورة والظاهر أن هذا الاستثناء يرجع إلى جميع المحرمات المذكورة في الآية من قوله تعالى : والمنخنقة ، إلى ، وما أكل السبع. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وقتادة.

قال ابن عباس : يقول الله تعالى ما أدركتم من هذا كله وفيه روح فاذبحوه فهو حلال. وقال الكلبي : هذا الاستثناء مما أكل السبع خاصة. والقول هو الأول وأما كيفية إدراكها ، فقال أكثر أهل العلم من المفسرين : إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز. قال ابن عباس : إذا طرفت بعينها أو ركضت برجلها أو تحركت فاذبح فهو حلال. وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبع إذا جرح فأخرج الحشوة أو قطع لجوف قطعا تيأس معه الحياة فلا ذكاة لأن ذلك وإن كان به حركة ورمق إلا أنه قد صار إلى حالة لا يؤثر في حياته الذبح وهو مذهب مالك واختاره الزجاج وابن الأنباري ، لأن معنى التذكية أن يلحقها وفيها بقية تشخب معها الأوداج وتضطرب اضطراب المذبوح لوجود الحياة فيه قبل ذلك وإلا فهو كالميتة. وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء ، فالمراد من التذكية ، تمام قطع الأوداج وانهار الدم ويدل عليه ما روي عن رافع بن خديج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر «وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة» أخرجاه في الصحيحين.

وأقل الذبح في الحيوان المقدور عليه قطع المريء والحلقوم وأكمله قطع الودجين مع ذلك والحلقوم بعد الفم ، وهو موضع النفس والمريء مجرى الطعام والودجان عرقان يقطعان عند الذبح وأما آلة الذبح فكل ما أنهرا الدم وفرى الأوداج من حديد وغيره إلا السن والظفر لما تقدم من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك.

قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) يعني وحرم ما ذبح على النصب. والنصب يحتمل أن يكون جمعا واحده نصاب وأن يكون واحدا وجمعه أنصاب وهو الشيء المنصوب. قيل : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها وليست هذه الحجارة بأصنام إنما الأصنام الصور المنقوشة. وقال ابن عباس : هي الأصنام المنصوبة. والمعنى : وما ذبح على اسم النصب أو لأجل النصب

٨

فهو حرام (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) يعني وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح وكانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها أمرني ربي وعلى واحد نهاني وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وعلى واحد غفل أي ليس عليه شيء. وكانت العرب في الجاهلية ، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل أو تحمل عقل أو غير ذلك من الأمور العظام جاءوا إلى هبل وكانت أعظم صنم لقريش ، بمكة وجاءوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج أمرني ربي فعلوا ذلك الأمر وإن خرج نهاني ربي ولم يفعلوه وإن أجالوا على نسب فإن خرج منكم كان وسطا فيهم وإن خرج من غيركم كان حلفا فيهم وإن خرج ملصق كان على حاله وإن اختلفوا في العقل وهو الدية فمن خرج عليه قدح العقل تحمله وإن خرج الغفل أجابوا ثانيا حتى يخرج المكتوب عليه فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. وقيل : الأزلام كعاب فارس والروم التي كانوا يقامرون بها. وقيل : كانت الأزلام للعرب. والكعاب للعجم وهي : النرد وكلها حرام لا يجوز اللعب بشيء منها.

عن قطن بن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «العيافة والطيرة والطرق من الجبت» أخرجه أبو داود وقال : الطرق الزجر والعيافة الخط. وقيل : العيافة زجر الطير والطرق الضرب بالحصى والجبت كل ما عبد من دون الله عزوجل. وقيل : الجبت الكاهن. وروى البغوي بسند الثعلبي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطيّر طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة وقوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) يعني ما ذكر من هذه المحرمات في هذه الآية لأن المعنى حرم عليكم تناول كذا وكذا فإنه فسق والفسق ما يخرج من الحلال إلى الحرام وقيل إن الإشارة عائدة على الاستقسام بالأزلام والأول أصح (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) يعني يئسوا أن ترجعوا عن دينكم إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في أن يعود المسلمون إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام ، أيسوا من ذلك وذلك هو اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة عام حجة الوداع فعند ذلك يئس الكفار من بطلان دين الإسلام. وقيل : إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة.

وقيل : لم يرد يوما بعينه وإنما المعنى الآن يئس الذين كفروا من دينكم فهو كما تقول : اليوم قد كبرت. تريد : الآن قد كبرت. وتقول : فلان كان يزورنا وهو اليوم يجفونا ولم ترد يوما بعينه. يعني : وهو الآن يجفونا ولم تقصد به اليوم قال الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسرّ

أراد فزمان علينا وزمان لنا ولم يقصد اليوم واحد معين (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فلا تخافوا الكفار أيها المؤمنون الذين آمنوا أن يظهروا على دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم (وَاخْشَوْنِ) أي وخافوا مخالفة أمري وأخلصوا الخشية لي.

قوله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نزلت هذه الآية في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندق وبركت لثقل الوحي وذلك في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة (ق).

عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال : فأي آية؟ قال : «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفات في يوم الجمعة أشار عمر إلى ذلك اليوم يوم عيد لنا. وعن ابن عباس

٩

أنه قرأ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) وعنده يهودي فقال : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا فقال ابن عباس : «فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة» أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب.

قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وعيد لليهود ، وعيد للنصارى ، وعيد للمجوس. ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.

وروي أنه لما نزلت هذه الآية ، بكى عمر فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عمر؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا. فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص قال : صدقت» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش بعدها أحدا وثمانين يوما ومات صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل : لاثنتي عشر ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة. وأما تفسير الآية فقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يعني بالفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض هذا معنى قول ابن عباس.

وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى أكملت لكم دينكم ، أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين. وقيل : معناه أني أظهرت دينكم على الأديان وأمنتكم من عدوكم بأن كفيتكم ما كنتم تخافونه. وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنه لا يزول ولا ينسخ وإن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة. وقيل : إكمال الدين لهذه الأمة أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة. وقال ابن الأنباري : اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر فيكون الوقت الأول تاما في وقته ، وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة. ومعلوم أن العشرين أكمل منها والشرائع التي تعبد الله عزوجل بها عباده في الأوقات المختلفة مختلفة وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها فكمل الله عزوجل الشرائع في اليوم الذي ذكره وهو يوم عرفة ولم يوجب ذلك أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القفال واختاره أن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبدا كاملا كانت الشرائع النازلة من عند الله كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت البعثة بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد لا يصالح فيه لا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيل بعد التحتم.

وأما في آخر زمان البعثة ، فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة ، فالشرع أبدا كان كاملا إلا أن الأول كمال إلى يوم مخصوص ، والثاني كمال إلى يوم القيامة ، فلأجل هذا المعنى قال : اليوم أكملت لكم دينكم. ثم قال تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) يعني بإكمال الدين والشريعة ، لأنه لا نعمة أتم من الإسلام.

وقال ابن عباس : حكم لها بدخول الجنة. وقيل : معناه أنه تعالى أنجز لهم ما وعدهم في قوله ولأتم نعمتي عليكم فكان من تمام النعمة أن دخلوا مكة آمنين وحجّوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعني واخترت لكم الإسلام دينا من بين الأديان وقيل : معناه ورضيت لكم الإسلام لأمري والانقياد لطاعتي فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم وإنما قال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يوم نزلت هذه الآية وإن كان الله تعالى لم يزل راضيا بدين الإسلام فيما مضى قبل نزول هذه الآية لأنه لم يزل يصرف نبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعباده المؤمنين من حال إلى حال وينقلهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى أكمل لهم شرائع الدين ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم أنزل عليهم هذه الآية : ورضيت لكم الإسلام دينا ، يعني بالصفة التي هو اليوم بها وهي نهاية الكمال وأنتم الآن عليه فالزموه ولا

١٠

تفارقوه. روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قال جبريل قال الله عزوجل : «هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه» وروى الطبري عن قتادة قال : ذكر لنا أنه يمثل لكل أهل دين دينهم يوم القيامة فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخبر حتى يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزى. وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى ومتصلة بها ، والمعنى : أن المحرمات وإن كانت محرمة ، إلا أنها قد تحل في حالة الاضطرار إليها. ومن قوله تعالى : ذلكم فسق ، إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره من معنى التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو المرضي عند الله.

ومعنى الآية : فمن اضطر أي أجهد وأصيب بالضر الذي لا يمكنه معه الامتناع من أكل الميتة. وهو قوله تعالى : في مخمصة ، يعني في مجاعة. والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع. غير متجانف لإثم : يعني غير مائل إلى إثم أو منحرف إليه. والمعنى : فمن اضطر إلى أكل الميتة أو إلى غيرها في المجاعة فليأكل غير متجانف لإثم وهو أن يأكل فوق الشبع. وقول فقهاء العراق. وقيل : معناه غير متعرض لمعصية في مقصد وهو قول فقهاء الحجاز (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، يعني لمن أكل من الميتة في حال الجوع والاضطرار.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) روى الطبري بسنده عن أبي رافع قال : «جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذن عليه فأذن له فلم يدخل فقال : قد أذنّا لك يا رسول الله قال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب».

قال أبو رافع فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته فجاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها قال فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ).

وروي عن عكرمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم وسعد بن أبي خيثمة وعويمر بن ساعدة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ماذا أحل لنا فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) قال ابن الجوزي : وأخرج حديث أبي رافع الحاكم في صحيحه قال البغوي : فلما نزلت هذه الآية أذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها (ق) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية». ولمسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم» وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد الخير قالا : يا رسول الله إنّا قوم نصيد بالكلاب وبالبزاة فماذا يحل لنا فنزلت هذه الآية.

قال البغوي : وهذا القول أصح في سبب نزولها. وأما التفسير فقوله تعالى يسألونك يعني يسألك أصحابك يا محمد ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل كأنهم لما تلا عليهم من خبائث المآكل ما تلا سألوا عما أحل لهم (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) يعني قل لهم يا محمد أحل لكم الطيبات يعني : ما ذبح عن اسم الله عز

١١

وجل. وقيل : الطيبات كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة. واعلم : أن العبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل المروءة والأخلاق الجميلة من العرب ، فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) فإن الخبيث غير مستطاب ، فصارت هذه الآية الكريمة نصا فيما يحل ويحرم من الأطعمة. وقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) يعني وأحل صيد ما علمتم من الجوارح فحذف ذكر الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه ولأنهم سألوا عن الصيد وقيل : إن قوله وما علمتم من الجوارح ابتداء كلام خبره فكلوا مما أمسكن عليكم وعلى هذا القول يصح معنى الكلام من غير إضمار. والجوارح : جمع جارحة وهي الكواسب من : السباع والطير كالفهد والنمر والكلب والبازي والصقر والعقاب والشاهين والباشق من الطير مما يقبل التعليم سميت جوارح من الجرح لأنها تجرح الصيد عند إمساكه وقيل : سميت جوارح لأنها تكسب. والجوارح : الكواسب من جرح واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) يعني اكتسبوا وقوله ويعلم ما جرحتم بالنهار أي اكتسبتم مكلبين يعني معلمين.

والمكلب : هو الذي يغري الكلاب على الصيد. وقيل : هو مؤدّب الجوارح ومعلمها وإنما اشتق له هذا الاسم من الكلب ، لأنه أكثر احتياجا إلى التعليم من غيره من الجوارح. (تعلمونهن) يعني تعلمون الجوارح الاصطياد (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) يعني من العلم الذي علمكم الله ، ففي الآية دليل على أنه لا يجوز صيد جارحة ما لم تكن معلمة. وصفة التعليم هو أن الرجل يعلم جارحة الصيد وذلك أن يوجد فيها أمور منها : أنه إذا أشليت (١) على الصيد استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل منها شيئا ومنها أن لا ينفر منه إذا أراده وأن يجيبه إذا دعاه فهذا هو تعليم جميع الجوارح فإذا وجد ذلك منها مرارا كانت معلمة وأقلها ثلاث مرات فإنه يحل قتلها إذا جرحت بإرسال صاحبها (ق). عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت إنا قوم نصيد بهذه الكلاب؟ فقال «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه وإن خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليه فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره».

وفي رواية : فإنك لا تدري أيها قتل وسألته عن الصيد المعراض ، فقال : إذا أصبت بحده فكل وإذا أصبت بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل فإن وقع في المال فلا تأكل.

واختلف العلماء فيما إذا أخذت الكلاب الصيد وأكلت منه شيئا فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاوس الشعبي وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قول الشافعي ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ورخص بعضهم في أكله يروي ذلك عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وبه قال مالك لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيد الكلب «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» أخرجه أبو داود. وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذت صيدا أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فإنه لا يحل إلا أن يدركه حيا فيذبحه فيحل (ق).

__________________

(١) قوله إذا أشليت قال في الصحاح وقول الناس أشليت الكلب على الصيد خطأ وقال أبو زيد أشليت الكلب دعوته وقال ابن السكيت يقال أو سدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغربته به ولا يقال أشليته إنما الإشلاء الدعاء ا ه.

١٢

عن أبي ثعلبة الخشني قال : قلت يا رسول الله أنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم وبكلبي المعلم فما يصلح لي؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل.

وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) دخلت من في قوله مما للتبعيض لأنه إنما أحل أكل بعض الصيد وهو اللحم دون الفرث والدم. وقيل : من زائدة فهو كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

قال ابن عباس : يعني إذا أرسلت جارحك فقل بسم الله وإن نسيت فلا حرج. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل» فعلى هذا يكون الضمير في عليه عائد إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا الله عليه عند إرساله. وقيل : الضمير عائد إلى ما أمسكن عليكم. والمعنى : سموا الله عليه إذا أدركتم ذكاته. وقيل : يحتمل أن يكون الضمير عائد إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله عليه عند الأكل فعلى هذا تكون للتسمية شرطا عند إرسال الجوارح وعند إرسال الذبيحة وعند الأكل وسيأتي بيان هذه المسألة (١) في سورة الأنعام عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني واحذروا مخالفة الله يعني فيما أحل لكم وحرم عليكم (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة ففيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهاه عنه.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

قوله عزوجل : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إنما كرر إحلال الطيبات للتأكيد كأنه قال : اليوم أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ويحتمل أن يراد باليوم ، اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله : اليوم يئس الذي كفروا من دينكم اليوم أكملت لكم دينكم. ويكون الغرض من ذكر هذا الحكم ، أنه تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، فبين أنه كما أكمل الدين وأتم النعمة ، فكذلك أتم النعمة بإحلال الطيبات.

وقيل : ليس المراد باليوم يوما معينا وقد تقدم الكلام في ذلك اليوم وفي معنى الطيبات في الآية المتقدمة. وقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) يعني وذبائح أهل الكتاب حل لكم وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم متنصروا العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحته.

روي عن علي بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصارى العرب بني تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. ومذهب الشافعي : أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن ، فإنه لا تحل ذبيحته.

سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال : لا بأس به. ثم قرأ : ومن يتولهم منكم ، فإنه منهم وهذا

__________________

(١) قوله وسيأتي بيان هذه المسألة إلخ لم يتعرض لما ذكره هنا عند الآية الآتية في سورة الأنعام ا ه مصححه.

١٣

قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى مثل هذا مذهب الشافعي.

وأجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له ، وأجمعوا على أن المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح فحمل هذه الآية عليه أولى ولأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره ، وإنما تختلف الذكاة ، فلما خص أهل الكتاب بالذكر دل على أن المراد بطعامهم وذبائحهم واختلف العلماء فيما لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله فقال ابن عمر : لا يحل ذلك وهو قول ربيعة وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل. سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح فقال : يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني وذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكل وإذا غاب عنك فكل فقد أحله الله لك وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم الله فيكون هذا ناسخا لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وليس الأمر كذلك ولا نسخ لأن الأصل أنهم يذكرون الله عند الذبح فيحمل أمرهم على هذا فإن تيقنا أنهم ذبحوا على غير اسم الله لم تأكل ولا وجه للنسخ.

وقوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) يعني أن ذبائحنا لهم حلال وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا. وقال الزجاج : معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود إلى إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن تطعمهم من ذبائحنا. وقيل : إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة من الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين ثم قال تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) قال مجاهد : هن الحرائر فعلى هذا القول لا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين : خوف العنت ، وعدم طول الحرة.

وقال ابن عباس : المحصنات : العفائف. فعلى هذا القول لا يحل نكاح الزانية لأنها لم تدخل في هذا التحليل وأباح العلماء نكاحها إذا تابت وحسنت توبتها.

روى طارق بن شهاب أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت : إني أخشى أن أفضحك إني قد بغيت فأتى عمر فذكر ذلك له منها فقال : أليس قد تابت؟ قال : بلى. قال : فزوجها. وقيل : إنما خص المحصنات بالذكر وهن الحرائر أو العفائف ليحث المؤمنين على تخير النساء ليكون الولد كريم الأصل من الطرفين.

وقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني وأحل لكم المحصنات من أهل الكتاب اليهود والنصارى. قال ابن عباس : يعني الحرائر من أهل الكتاب. وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك : يريد العفائف من أهل الكتاب فعلى قول ابن عباس : لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية وهو مذهب الشافعي قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان ، الكفر ، والرق. وعلى قول الحسن ومن وافقه ، يجوز التزويج بالأمة الكتابية وهو مذهب أبي حنيفة لعموم هذه الآية. واختلف العلماء في حكم هذه المسألة فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التزويج بالذميات من اليهود والنصارى. روي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية وروي عن ابن عمر كراهية ذلك ويحتج

١٤

بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) وكان يقول : لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى وأجاب الجمهور عن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بأنه عام خص بهذه الآية فأباح الله تعالى المحصنات من أهل الكتاب وحرم من سواهن من أهل الشرك وقال سعيد بن المسيب والحسن : يجوز التزويج بالذميات والحربيات من أهل الكتاب لعموم قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وأجاب جمهور العلماء بأن ذلك مخصوص بالذميات دون الحربيات من أهل الكتاب.

قال ابن عباس : من نساء أهل الكتاب من تحل لنا ومنهن من لا تحل لنا. وقرأ : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والمراد بهم أهل الذمة دون أهل الحرب من أهل الكتاب. وقوله تعالى : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) يعني متعففين بالتزوج غير زانين (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) يعني ولا منفردين ببغي واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها وحده حرم الله الجماع على جهة السفاح وهو الزنا واتخاذ الصديق وهو الخدن وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج بعقد صحيح (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) يعني ومن يجحد ما أمر الله به من توحيده ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من عند الله (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) يعني فقد بطل ثواب عمله الذي كان عمله في الدنيا وخاب وخسر في الدنيا والآخرة. وقيل في معنى الآية ، ومن يكفر بشرائع الإيمان وتكاليفه فقد خاب وخسر وقال قتادة ذكر لنا إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم؟ يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ، فأنزل الله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. وقيل : لما أباح الله تعالى نكاح الكتابيات ، قلن فيما بينهن لولا أن الله قد رضي أعمالنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فأنزل الله هذه الآية والمعنى أن تزوج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر. وقيل : إن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة بإباحة ذبائحهم ونكاح نسائهم إلا أن ذلك غير حاصل لهم في الآخرة ، لأن كل من كفر بالله وجحد نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقيل : إن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله أو جحد بشيء مما أنزل الله فقد كفر بالله وحبط عمله المتقدم (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) إذا مات على ذلك وهذا الشرط لا بد منه لأنه إذا تاب وآمن قبل الموت قبلت توبته وصح إيمانه. قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة ومثله قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ومثله من الكلام إذا اتجرت فأتجر في البر أي إذا أردت التجارة. وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية ومذهب داود الظاهري وذهب جمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم إلى أنه يجزئ عدة صلوات بوضوء واحد وأجيب عن ظاهر الآية بأن المعنى إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر فحذف ذلك لدلالة المعنى عليه وهذا أحد اختصارات القرآن وهو

١٥

كثير جدا ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» أخرجاه في الصحيحين وقيل في معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقيل : هو أمر ندب ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارة وإن كان على طهر ويدل عليه ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» أخرجه الترمذي. وقيل : هذا إعلام من الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ويدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج يوما من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء فقال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» أخرجه مسلم. والقول الأول هو المختار في معنى الآية وفروض الوضوء المذكور في هذه الآية أربعة : الأول غسل الوجه وهو قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) واستدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وحجته أن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويا ولما روي في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». والوضوء من الأعمال فيجب أن يكون منويا وإنما قلنا : إن الوضوء مأمور به وأنه من أعمال الدين لقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). والإخلاص ، عبارة عن النية الخالصة ومتى كانت النية الخالصة ، معتبرة كان أصل النية في جميع الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى معتبرا. واستدل أبو حنيفة لعدم وجوب النية في الوضوء بهذه الآية قال : إن النية ليست شرطا لصحة الوضوء ، لأن الله تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها ، فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وأجيب عنه : بأنا إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن وهو قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وأما حد الوجه ، فمن منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا لأنه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل جميع الوجه في الوضوء ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والعذارين والشارب والعنفقة وإن كانت كثة. وأما اللحية فإن كانت كثة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل ما تحتها ويجب غسل ما تحت اللحية الخفيفة وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما نزل من اللحية عن الذقن؟ فيه قولان : أحدهما وبه قال أبو حنيفة ، لا يجب لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في المسح فكذلك حكم الشعر النازل عن حد الوجه لا يجب غسله. والقول الثاني يجب إمرار الماء على ظاهره لأن الوجه مأخوذ من المواجهة فتدخل جميع اللحية في حكم الوجه. الفرض الثاني قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) يعني : واغسلوا أيديكم إلى المرافق والمرافق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد. وذهب جمهور العلماء إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل ونقل عن مالك والشافعي وزفر وأبي بكر بن داود الظاهري ، أنه لا يجب إدخال المرفقين في الغسل واختاره ابن جرير الطبري. ونقل عن مالك : وقد سئل عن قول الله عزوجل : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فقال : الذي آمر به أن يبلغ المرفقين في الغسل لا يجاوزهما وحجة أصحاب هذا القول أن كلمة إلى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه كما في قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) ولأن الحد لا يدخل في المحدود فوجب أن لا يجب غسل المرفقين في الوضوء وحجة الجمهور أن كلمة إلى هنا بمعنى مع ومنه قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي مع أموالكم ويعضده من السنة ما صح من حديث أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل اليمنى حتى أشرع في العضد ثم يده السرى حتى أشرع في العضد ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوضأ. والجواب عن الحجة المتقدمة إن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه كما في هذه الآية لأن المرفق من جنس اليد وإذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه كما في قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) لأن النهار من غير جنس الليل فلا يدخل فيه. الفرض الثالث : قوله تعالى :

١٦

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اختلف العلماء في القدر الذي يجب مسحه من الرأس فقال مالك يجب مسح جميعه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى عنه أنه يجب مسح أكثره وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربعه. وفي رواية أخرى عنه : يجب مسح قدر ثلاثة أصابع منه وقال الشافعي الواجب مسح ما ينطلق عليه اسم المسح والمراد إلصاق المسح بالرأس وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح بالرأس فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب وأخذ الشافعي باليقين فأوجب مسح ما يقع عليه اسم المسح وأخذ أبو حنيفة ببيان السنة وهو ما روي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين متفق عليه وقدر الناصية بربع الرأس. الفرض الرابع : قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) اختلف العلماء في هذا الحكم. وهل فرض الرجلين المسح أو الغسل؟ فروى عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان. ويروى ذلك عن قتادة أيضا. ويروى عن أنس أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل. وعن عكرمة قال : ليس في الرجلين إنما نزل فيهما المسح. وعن الشعبي أنه قال : إنما هو المسح عن الرجلين. ألا ترى إن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل. ومذهب الإمامية من الشيعة : أن الواجب في الرجلين المسح.

وقال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم : إن فرض الرجلين هو الغسل. وقال داود الظاهري : يجب الجمع بينهما. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين الغسل والمسح. وسبب هذا الاختلاف ، اختلاف القراء في هذا الحرف. فقرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : وأرجلكم بفتح اللام عطفا على الغسل فيكون من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم. وقال أصحاب هذه القراءة : إنما أمر الله عباده بغسل الأرجل دون مسحها ويدل عليه أيضا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والتابعين فمن بعدهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم وأرجلكم بكسر اللام عطفا على المسح. أما قراءة النصب فالمعنى فيها ظاهر لأنه عطف على المغسول لوجوب غسل الرجلين على مذهب الجمهور ولا يقدح فيه قول من خالف. وأما قراءة الكسر فقد اختلفوا في معناها والجواب عنها فقال أبو حاتم وابن الأنباري وأبو علي الكسر عطف على الممسوح ، غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل. وقال أبو زيد : المسح خفيف الغسل لقول العرب تمسحت للصلاة بمعنى توضأت لها وهات ما أتمسح به للصلاة بمعنى أتوضأ.

قال أبو حاتم : وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحا بهذا الاعتبار فعلى هذا الرأس والرجل ممسوحا إلا أن مسح الرأس أخف. والذي يدل على أن المراد بالمسح في الرجل الغسل ذكر التحديد وهو قوله تعالى : إلى الكعبين لأن التحديد إنما جاء في المغسول ولم يجئ في الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح علم أنه في حكم الغسل. وقال جماعة من العلماء : إن الأرجل معطوفة على الرؤوس في الظاهر والمراد فيها الغسل لأنه قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيهما مختلف كما قال الشاعر :

يا ليت بعلك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

والمعنى : وحاملا رمحا لأن الرمح لا يتقلد به وكذلك قول الآخرين. علفتها تبنا وماء باردا. يعني وسقيتها ماء باردا. وكذلك المعنى في الآية وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم فلما لم يذكر الغسل وعطفت الأرجل على الرؤوس في الظاهر اكتفى بقيام الدليل على أن الأرجل مغسولة من مفهوم الآية والأحاديث الصحيحة الواردة بغسل الرجلين في الوضوء. وأما من جعل كسر اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ دون الحكم واستدل بقولهم : جحر ضب خرب. وقال الخرب نعت للجحر لا للضب وإنما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس

١٧

يجيد لأن الكسر على المجاورة إنما يحمل لأجل الضرورة في الشعر أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس لأن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر ولأن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف.

أما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وقوله تعالى : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فيه دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين كما في وجوب غسل الرجلين كما في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) والمعنى : واغسلوا أرجلكم مع الكعبين وقد تقدم اختلاف العلماء في ذلك عند قوله إلى المرافق ، والكعبان : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم هذا قول جمهور العلماء من أهل الفقه واللغة وشذت الشيعة ، ومن قال بمسح الرجلين. فقال : الكعب عبارة عن عظم مستدير على ظهر القدم ويدل على بطلان هذا القول أن الكعب لو كان على ما ذكره لكان في كل رجل كعب واحد فكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فلما قال إلى الكعبين علم أن لكل رجل كعبين فبطل ما قالوه وثبت قول الجمهور.

(فصل)

قد تقدم أن الفروض المذكورة في هذه الآية أربعة : وهي غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على وجوب النية في الوضوء فصارت فرضا خامسا. وذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى وجوب الترتيب في الوضوء ، وهو أن يغسل الأعضاء في الوضوء على الولاء كما ذكره الله في هذه الآية فيغسل أولا وجهه ثم يده ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، فصار الترتيب فرضا سادسا. وذهب أبو حنيفة ، إلى أن الترتيب في الوضوء غير واجب احتج الشافعي على وجوب الترتيب بهذه الآية وذلك أن الله تعالى أمر بغسل الوجه ثم بغسل اليدين ثم بمسح الرأس ثم بغسل الرجلين فوجب أن يقع الفعل مرتبا كما أمر الله تعالى ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث حجة الوداع «ابدأ بما بدأ الله به» وهذا الحديث ، وإن ورد في قصة السعي بين الصفا والمروة ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولأن أفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوضوء ما وردت إلا مرتبة كما ورد في نص الآية ولم ينقل عنه ولا عن غيره من الصحابة أنه توضأ منكسا أو غير مرتب ، فثبت أن ترتيب أفعال الوضوء كما مر الله تعالى ونص عليه في هذه الآية واجب واحتج. أبو حنيفة لمذهبه بهذه الآية أيضا. وذلك أن الواو لا توجب الترتيب ، فإذا قلنا بوجوب الترتيب صار ذلك زيادة على النص وذلك غير جائز وأجيب عنه بأنه لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر وبيان الكتاب إنما يؤخذ من السنة.

(فصل في ذكر الأحاديث التي وردت في صفة الوضوء وفضله)

(ق) عن حمران مولى عثمان بن عفان «أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (ق).

عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري «قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا بإناء فأفرغ منه على يديه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» زاد في رواية بعد قوله : «فأقبل بيديه وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه».

١٨

عن عبد خير قال : أتانا علي كرم الله وجهه وقد صلى فدعا بطهور فقلنا ما يصنع بالطهور وقد صلى ما يريد إلا ليعلمنا فأتى بإناء فيه ماء وطست فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يده ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا فمضمض ونثر من كف يأخذ منه ثم غسل وجهه ثلاثا وغسل يده اليمين ثلاثا وغسل الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم جعل يده في الإناء فمسح رأسه مرة واحدة ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله الشمال ثلاثا ثم قال : «من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو هذا» أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله كيف الطهور فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو قال ظلم وأساء» أخرجه أبو داود.

وعن ابن عباس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» أخرجه الترمذي وصححه (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال : «ويل للأعقاب من النار» (م) عن جابر قال : أخبرني عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ارجع وأحسن وضوءك قال فرجع فتوضأ ثم صلى» أخرجه مسلم عن خالد عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة» أخرجه أبو داود (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : تخلف عنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته : «ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا» عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرة» أخرجه البخاري عن أبي هريرة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ مرتين مرتين أخرجه أبو داود والترمذي. وقال وقد روي عن أبي هريرة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا» (م).

عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يحدث الناس فأدركت من قوله «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة» فقلت ما أجود هذا فإذا قائل بين يدي يقول التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (م).

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب» (ق) عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وفي رواية قال : رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله».

وفي رواية لمسلم قال : سمعت خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات» أخرجه الترمذي.

١٩

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» أخرجه أبو داود وابن ماجة. وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) أي اغتسلوا أمر الله بالاغتسال من الجنابة وذلك يجب على الرجل والمرأة بأحد شيئين : إما بخروج المني على أي صفة كان من احتلام أو غيره أو بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال فإذا حصل وجب الغسل (ق).

عن عائشة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بهما أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ثم يفيض الماء على سائر جسده» أو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) فقد تقدم تفسيره وأحكامه في تفسير سورة النساء وفي قوله تعالى منه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب. وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) يعني من ضيق بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم عند عدم الماء (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يعني من الأحداث والذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير للذنوب (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعني تشكرون نعمة الله عليكم بأن طهركم من الأحداث والذنوب وما جعل عليكم في الدين من حرج. قوله تعالى :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩))

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) يعني : ما أنعم به عليكم من النعم كلها ، لأن كثرة النعم وذكرها يوجب مزيد الشكر من المنعم عليه والاشتغال بطاعة المنعم بها والانقياد لأمره وهو الله تعالى : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) يعني : واذكروا عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وذلك حين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا وقيل الميثاق هو الذي أخذه عليهم في يوم ألست بربكم قالوا بلى : (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعني إن الله تعالى عالم بما في قلوب عباده من خير وشر. وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) قال ابن عباس يريد أنهم يقومون لله بحقه ومعنى ذلك : هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) يعني وتشهدون بالعدل يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أهل بغضك وأعداءك أقم شهادتك لهم وعليهم بالصدق والعدل.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) ولا يحملنكم بغض قوم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) على ترك العدل فيهم لعدوانهم (اعْدِلُوا) أمر الله بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) أي العدل أقرب للتقوى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعني : أن الله تعالى خبير بجميع أعمالكم مطلع عليها وخبير بمن عدل ومن لم يعدل.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني عملوا بما واثقهم الله به وأوفوا بالعهود التي عاهدهم عليها (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) هذا بيان للوعد كأنه لما تقدم ذكر الوعد فقيل : أي شيء هذا الوعد؟ فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.

٢٠