تفسير الخازن - ج ٣

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٣

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٤

١
٢

سورة الرعد

قال ابن الجوزي : اختلفوا في نزولها على قولين : أحدهما أنها مكية ، رواه أبو طلحة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية إلا آيتين إحداهما قوله (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) والأخرى قوله (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً). والقول الثاني أنها مدنية رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وبه قال جابر بن زيد وروي عن ابن عباس أنها مدنية إلا آيتين نزلتا بمكة ، وهما قوله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) إلى آخر الآيتين وقال بعضهم : المدني منها قوله (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) إلى قوله (دَعْوَةُ الْحَقِ) وهي ثلاث وقيل خمس وأربعون آية وثمانمائة وخمس وخمسون كلمة وثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

قوله عزوجل (المر) قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه أنا الله أعلم وأرى. وروى عطاء عنه أنه قال : إن معناه أنا الله الملك الرحمن (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) الإشارة بتلك إلى آيات السورة المسماة بالمر ، والمراد بالكتاب السورة أي آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ثم قال تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) يعني من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه ، وقيل المراد بالإشارة في قوله : تلك الأخبار والقصص أي الأخبار والقصص التي قصصتها عليك يا محمد هي آيات التوراة والإنجيل والكتب الإلهية القديمة المنزلة ، والذي أنزل إليك يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك الحق أي هو الحق فاعتصم به وقال ابن عباس وقتادة : أراد بآيات الكتاب القرآن ، والمعنى : هذه آيات الكتاب الذي هو القرآن ثم قال : والذي أنزل إليك من ربك الحق ، يعني : وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق لا شك فيه ولا تناقض (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) يعني مشركي مكة نزلت هذه الآية في الرد عليهم حين قالوا إن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ، ثم ذكر من دلائل ربوبيته وعجائب قدرته ما يدل على وحدانيته فقال تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) جمع عمود وهي الأساطين والدعائم التي تكون تحت السقف وفي قوله : (تَرَوْنَها) قولان أحدهما أن الرؤية ترجع إلى السماء يعني : وأنتم ترون السموات مرفوعة بغير عمد من تحتها يعني ليس من دونهما دعامة تدعمها ولا من فوقها علاقة تمسكها ، والمراد نفي العمد بالكلية. قال إياس بن معاوية : السماء مقبية على الأرض مثل القبة ، وهذا قول الحسن وقتادة وجمهور المفسرين ، وإحدى الروايتين عن ابن عباس. والقول الثاني : إن الرؤية ترجع

٣

إلى العمد ، والمعنى أن لها عمدا ولكن لا ترونها أنتم ، ومن قال بهذا القول يقول : إن عمدها على جبل قاف ، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا ، والسماء عليه مثل القبة ، وهذا قول مجاهد وعكرمة والرواية الأخرى عن ابن عباس ، والقول الأول أصح ، وقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم تفسيره والكلام عليه في سورة الأعراف بما فيه كفاية (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يعني ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران ، يجريان على ما يريد (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني إلى وقت معلوم ، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها. وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما يعني أنهما يجريان في منازلهما ودرجاتهما إلى غاية ينتهيان إليها ولا يجاوزانها ، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيرا خاصا إلى جهة بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة ، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يعني أنه تعالى يدبر أمر العالم العلوي والسفلي ، ويصرفه ويقضيه بمشيئته ، وحكمته ، على أكمل الأحوال لا يشغله شأن عن شأن ، وقيل : يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ، ففيه دليل على كمال القدرة والرحمة ، لأن جميع العالم محتاجون إلى تدبيره ورحمته ، داخلون تحت قهره وقضائه وقدرته (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته. وقيل : إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان : الأول : الموجودات المشاهدة ، وهي خلق السموات والأرض وما فيهما من العجائب وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم وهذا قد تقدم ذكره. والقسم الثاني : الموجودات الحادثة في العالم ، وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم ، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا ، وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته ، واليقين صفة من صفات العلم ، وهو فوق المعرفة والدراية وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك ، يقال منه استيقن وأيقن بمعنى علم. قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) لما ذكر الدلالة على وحدانيته وكمال قدرته وهي رفع السموات بغير عمد ، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية ، فقال : وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء ، وقيل : كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام ، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف ، وعند أصحاب الهيئة : الأرض كرة ، ويمكن أن يقال : إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فكل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم ، فحصل الجمع ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض ، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلا وأبين دليلا من أصحاب الهيئة (وَجَعَلَ فِيها). يعني في الأرض (رَواسِيَ) يعني جبالا ثابتة ، يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس :

٤

كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض (وَأَنْهاراً) ، يعني وجعل في الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلوا وحامضا (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) ، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته (لَآياتٍ) أي دلالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب ، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء ، وقال صاحب المفردات : الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» إذ كان الله منزلها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني ، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها. قوله عزوجل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) يعني متقاربات بعضها من بعض ، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت ، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع (وَجَنَّاتٌ) يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك ، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمه العباس «عم الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) يعني أشجار الجنات وزروعها ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل : في حده جوهر سيال به قوام الأرواح ؛ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قوله تعالى : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) قال : الدقل والنرسيان والحلو والحامض» أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب. قال مجاهد : هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد ، وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات ، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلا. قيل : إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو ، ولا تسمع. وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني الذي ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته. قوله تعالى (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة ، وقيل : العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل : العجب في حق الله محال لأنه تعالى علّام الغيوب لا تخفى عليه خافية ، والخطاب في الآية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم ، وقيل : معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السموات والأرض ، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم. وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم ، وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله ، وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم (أَإِذا كُنَّا تُراباً) يعني بعد الموت (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) يعني نعاد خلقا جديدا بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وفيه دليل على

٥

أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى ، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة ، وأن الله على كل شيء قدير ، ومن أنكر ذلك فهو كافر (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) يعني يوم القيامة ، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلا بالغل (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني أنهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية ، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم ، وهو قولهم «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم ، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلا ليرتدع غيره به ، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قال ابن عباس : معناه إنه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه. وقال مجاهد : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم ، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني من أهل مكة (لَوْ لا) أي هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) يعني على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف ، وليس لك من الآيات شيء (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال ابن عباس : الهادي هو الله ، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي ، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو الله يهدي من يشاء. وقال عكرمة في رواية أخرى عنه وأبو الضحى : الهادي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعنى : إنما أنت منذر وأنت هاد ، وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية : الهادي هو العمل الصالح. وقال أبو صالح : الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر. قوله عزوجل :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) لما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآيات أخبرهم الله عزوجل عن عظيم قدرته ، وكمال علمه وأنه عالم بما تحمل كل أنثى يعني من ذكر أو أنثى سويّ الخلق أو ناقص الخلق واحدا أو اثنين أو أكثر (وَما تَغِيضُ) يعني وما تنقص (الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) قال أهل التفسير : غيض الأرحام الحيض على الحمل فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصانا في الولد لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم ، فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد ، وإذا لم تحض يزداد الولد ويتم فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم ، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم ، وقيل : إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة فإن رأت خمسة أيام دما ، وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل. وقيل : النقصان السقط والزيادة تمام الخلق. وقال الحسن : غيضها نقصانها من تسعة أشهر والزيادة زيادتها على تسعة أشهر فأقل مدة الحمل ستة أشهر وقد يولد لهذه المدة ويعيش. واختلفوا في أكثره فقال قوم : أكثر مدة الحمل سنتان ، وهو قول عائشة ، وبه قال أبو حنيفة وقيل : إن الضحاك ولد لسنتين. وقال جماعة :

٦

أكثرها أربع سنين وإليه ذهب الشافعي. وقال حماد بن أبي سلمة : إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين ، وعند مالك أن أكثر مدة الحمل خمس سنين (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) يعني بتقدير واحد لا يجاوزه ، ولا ينقص منه. وقيل : إنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه. وقيل : معناه إنه تعالى خصص كل حادثة من الحوادث بوقت معين وحالة معينة وذلك بمشيئته الأزلية وإرادته وتقديره الذي لا يقدر عليه غيره (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني أنه تعالى يعلم ما غاب عن خلقه ، وما يشاهدونه. وقيل : الغيب هو المعدوم والشاهد هو الموجود. وقيل : الغيب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر في الحس (الْكَبِيرُ) أي العظيم الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه فهو يعود إلى معنى كبر قدرته ، وأنه تعالى المستحق لصفات الكمال (الْمُتَعالِ) يعني المنزه عن صفات النقص المتعالي عن الخلق ، وفيه دليل على أنه تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامة وتنزيهه عن جميع النقائص. قوله تعالى (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي مستو منكم من أخفى القول وكتمه ومن أظهره وأعلنه ، والمعنى أنه قد استوى في علم الله تعالى المسرّ بالقول والجاهر به (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مستتر بظلمته (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ذاهب بالنهار في سربه ظاهر. والسرب بفتح السين وسكون الراء الطريق. وقال القتيبي : السارب المتصرف في حوائجه. قال ابن عباس في هذه الآية : هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وقيل : مستخف بالليل ظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته ، وأخفيته إذا كتمته وسارب بالنهار أي متوار دخل في السرب مستخفيا ، ومعنى الآية : سواء ما أضمرت به القلوب أو نطقت به الألسن ، وسواء من أقدم على القبائح مستترا في ظلمات الليل أو أتى بها ظاهرا في النهار فان علمه تعالى محيط بالكل (لَهُ مُعَقِّباتٌ) يعني : لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل عقبتها ملائكة النهار والتعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر معقبات بلفظ التأنيث ، وإن كان الملائكة ذكورا لأن واحدها معقب ، وجمعها معقبة ثم جمع المعقبة معقبات. كما قيل أبناوات سعد ورجالات بكر (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر ، وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ، وهو أعلم بهم ، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون. وقيل : إن مع كل واحد من بني آدم ملكين ملك عن يمينه ، وهو صاحب الحسنات وملك عن شمال وهو كاتب السيئات وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل العبد حسنة كتبها له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة قال صاحب الشمال لصاحب اليمين أكتبها عليه فيقول : انظره لعله يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات ، فإن هو تاب منها وإلا قال : اكتبها عليه سيئة واحدة وملك موكل بناصية العبد فإذا تواضع العبد لله عزوجل رفعه بها ، وإن تجبر على الله عزوجل وضعه بها وملك موكل بعينيه يحفظهما من الأذى وملك موكل بفيه لا يدعه يدخل فيه شيء من الهوام يؤذيه فهؤلاء خمسة أملاك موكلون بالعبد في ليله وخمسة غيرهم في نهاره ، فانظر إلى عظمة الله تعالى وقدرته وكمال شفقته عليك أيها العبد المسكين. وهو قوله تعالى (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) يعني : يحفظون العبد من بين يديه ومن وراء ظهره ، ومعنى من أمر الله بأمر الله وإذنه ما لم يجيء القدر فإذا جاء خلوا عنه. وقيل : معناه إنهم يحفظونه ، بما أمر الله به من الحفظ له. قال مجاهد : ما من عبد إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه يؤذيه إلا قال له الملك وراءك ، إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. وقال كعب الأحبار : لو لا أن الله تعالى وكلّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وقال ابن جريج : معنى يحفظونه أي يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وهذا على قول من يقول : إن الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات ، وقال عكرمة : الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم والضمير في قوله له راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عباس في

٧

معنى هذه الآية : لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من شر الجن وطوارق الليل والنهار. وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، وهما من بني عامر بن زيد وكانت قصتهما على ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال : «أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة وهما من بني عامر بن زيد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه فدخل المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر ، وكان من أجمل الناس وكان أعور فقال : يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك ، فقال : دعه فان يرد الله به خيرا يهده فأقبل حتى قام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين. قال : تجعل الأمر لي بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما ذلك إلى الله تعالى يجعله حيث يشاء. قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال : لا قال : فما تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال : أو ليس ذلك لي اليوم قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان عامر قد أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف ، فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراجعه ودار أربد من خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضربه ، فاخترط شبرا من سيفه ثم حبسه الله تعالى عليه فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه ، فقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته فولى عامر هاربا وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنها عليك خيلا جردا وشبابا مردا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يمنعني الله من ذلك وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج ، فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه ، فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، ثم ركب فرسه وجعل يركض في الصحراء ، ويقول : ادن يا ملك الموت وجعل يقول الشعر ، ويقول لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله إليه ملكا فلطمه ، فأرداه في التراب ثم عاد فركب جواده حتى مات على ظهره ، وأجاب الله عزوجل دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عامر بن الطفيل فمات بالطعن ، وأربد بن ربيعة مات بالصاعقة وأنزل الله عزوجل في شأن هذه القصة سواء منكم من أسر القول ، ومن جهر به إلى قوله له معقبات من بين يديه ، ومن خلفه يعني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه من أمر الله أي بأمر الله وقيل : إن تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير تقديره له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، وقوله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) خطاب لهذين عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، يعني لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة التي أنعم بها عليهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) يعني : من الحالة الجميلة فيعصون ربهم ، ويجحدون نعمه عليهم فعند ذلك تحل نقمته بهم ، وهو قوله تعالى (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) يعني هلاكا وعذابا (فَلا مَرَدَّ لَهُ) يعني لا يقدر أحد أن يرد ما أنزل الله بهم من قضائه وقدره (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يعني وليس لهم من دون الله من وال يلي أمرهم ونصرهم ويمنع العذاب عنهم قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) لما خوف الله عزوجل عباده بقوله : وإذا أراد الله بقوم سوءا ذكر في هذه الآية من عظيم قدرته ما يشبه النعم من وجه يشبه العذاب من وجه ، فقال تعالى : هو الذي يعني هو الذي يريكم البرق والبرق معروف ، وهو لمعان يظهر من خلال السحاب وفي كونه خوفا وطمعا وجوه : الأول إن عند

٨

لمعان البرق يخاف من الصواعق ، ويطمع في نزول المطر. الثاني : أنه يخاف من البرق من يتضرر بالمطر كالمسافر ومن في جرينه يعني بيدره التمر والزبيب والقمح ونحو ذلك ، ويطمع فيه من له في نزول المطر نفع كالزارع ونحوه. الثالث : أن المطر يخاف منه إذا كان في غير مكانه وزمانه ، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وزمانه فان من البلاد ما إذا أمطرت قحطت وإذا لم تمطر أخصبت (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) يعني المطر. يقال : أنشأ الله السحابة فنشأت أي أبداها فبدت والسحاب جمع سحابة ، والسحاب غربال الماء ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل : السحاب الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء. ولهذا قيل : سحاب جهام وهو الخالي من الماء وأصل السحب الجر وسمي السحاب سحابا إما لجر الريح له أو لجره الماء أو لانجراره في سيره (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أكثر المفسرين على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه. وأورد على هذا القول ما عطف عليه. وهو قوله (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) وإذا كان المعطوف مغايرا للمعطوف عليه وجب أن يكون غيره. وأجيب عنه أنه لا يبعد أن يكون الرعد اسما لملك من الملائكة وإنما أفرده بالذكر تشريفا له على غيره من الملائكة ، فهو كقوله : وملائكته وجبريل وميكال. قال ابن عباس : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا أخبرنا عن الرعد ما هو قال : «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث يشاء الله» قالوا فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال : «زجره السحاب حتى تنتهي حيث أمرت» قالوا صدقت. أخرجه الترمذي مع زيادة فيه. المخاريق : جمع مخراق ، وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا ، وأراد به هنا آلة تزجر بها الملائكة السحاب. وقد جاء تفسيره في حديث آخر وهو صوت (١) من نور تزجر الملائكة به السحاب ، قال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير. فإن أصابه صاعقة فعلي ديته ، وكان عبد الله بن الزبير إذا سمع الرعد ترك الحديث ، وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وكان يقول إن الوعيد لأهل الأرض شديد. وفي بعض الأخبار أن الله تعالى يقول : «لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد» وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر ، وإن بحور الماء في نقرة إبهامه ، وإنه يسبح الله فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر ، وقيل : إن الرعد اسم لصوت الملك الموكل بالسحاب ، ومع ذلك فإن صوت الرعد يسبح الله عزوجل لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه لله عزوجل عن جميع النقائص ، ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن جميع النقائص ، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة تسبيحا ومنه قوله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وقيل المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبح الله فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه ، وقوله والملائكة من خيفته يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله عزوجل وهيبته وخشيته ، وقيل : المراد بهذه الملائكة أعوان السحاب جعل الله عزوجل مع الملك الموكل بالسحاب أعوانا من الملائكة ، وهم خائفون خاضعون طائعون. وقيل : المراد بهم جميع الملائكة وحمله على العموم أولى (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) جمع صاعقة ، وهي العذاب النازل من البرق فيحترق من تصيبه وقيل : هي الصوت الشديد النازل من الجو ثم يكون فيه نار أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد ، وهذه الأشياء الثلاثة تنشأ منها (فَيُصِيبُ بِها) يعني بالصواعق (مَنْ يَشاءُ) يعني فيهلك بها كما أصاب أربد بن ربيعة. قال محمد الباقر : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يعني يخاصمون في الله. وقيل : المجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله

__________________

(١). قوله صوت لعله سوط كما يقتضيه السياق ا ه مصححة.

٩

نزلت في شأن أربد بن ربيعة حين قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مم ربك أمن در أم من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته. وسئل الحسن عن قوله : ويرسل الصواعق الآية فقال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا من أصحابه يدعونه إلى الله ، وإلى رسوله فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه ، هل هو من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم كلامه فانصرفوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه. فقال : ارجعوا إليه فرجعوا فلم يزدهم على مقالته الأولى شيئا بل قال : أأجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى شيئا بل أخبث. فقال : ارجعوا إليه فرجعوا إليه فبينما هم عنده يدعونه وينازعونه ، وهو لا يزيدهم على مقالته شيئا إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر ، وهم جلوس عنده فرجعوا ليخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رجعوا استقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لهم : احترق صاحبكم قالوا : من أين علمتم ذلك؟ قالوا قد أوحى الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله. واختلفوا في هذه الواو ، فقيل : واو الحال فيكون المعنى فيصيب بها من يشاء في حال جداله في الله وذلك إن أريد لما جادل في الله ، أهلكه الله بالصاعقة ، وقيل : إنها واو الاستئناف فيكون المعنى أنه تعالى لما تمم ذكر الدلائل قال : بعد ذلك وهم يجادلون في الله (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد الأخذ بالعقوبة ، من قولهم يمحل به محلا إذا أراد به سوءا ، وقيل : هو من قولهم يمحل به إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ، واجتهد فيه فيكون المعنى أنه سبحانه وتعالى شديد المحال بأعدائه حتى يهلكهم بطريق لا يعرفونه ولا يتوقعونه. وقيل : المحل من المحول وهو الحيلة ، والميم زائدة ثم اختلفت عبارات المفسرين في معنى قوله شديد المحال فقال الحسن : معناه شديد النقمة. وقال مجاهد وقتادة : شديد القوة. وقال ابن عباس : شديد الحول. وقيل شديد العقوبة وقيل معناه شديد الجدال. وذلك أنه لما أخبر عنهم أنهم يجادلون في الله أخبر أنه أشد جدالا منهم. قوله تعالى :

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) يعني لله دعوة الصدق ، قال على دعوة الحق التوحيد ، وقال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله. قال صاحب الكشاف دعوة الحق فيها وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إليه في قولك كلمة الحق. للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به ، وأنها بمعزل من الباطل ؛ والمعنى أن الله تعالى يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله إن كان مصلحة له فكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقا بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا نفع فيه ولا جدوى فيرد دعاءه. الثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ، وعن

١٠

الحسن : الله هو الحق وكل دعاء إليه دعوة الحق. فإن قلت : ما وجه اتصال هذين الوصفين بما قبلهما. قلت : أما على قصة أربد فظاهر لأن إصابته بالصاعقة كانت بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه دعا عليه وعلى صاحبه عامر بن الطفيل فأجيب فيهما فكانت الدعوة دعوة حق ، وأما على قوله وهم يجادلون في الله فوعيد للكفار على مجادلتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإجابة دعائه إن دعا عليهم. وقيل في معنى الآية : الدعاء بالإخلاص ، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني والذين يدعونهم آلهة من دون الله ، وهي الأصنام التي يعبدونها (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) يعني لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرر إن دعوهم (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) يعني إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه ، يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ولا يقدر أن يجيب دعاءه أو يبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ، ولا يقدر على نفعهم. وقيل : شبههم في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطهما ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا ، ولم يبلغ طلبته من شربه وقيل إن القابض على الماء ناشرا أصابعه لا يكون في يده منه شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء كذلك الذي يدعو الأصنام لأنها لا تضر ولا تنفع ولا يفيده منها شيء. وقيل شبه : بالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد بعينيه ، فهو يشير بكفيه إلى الماء ويدعوه بلسانه فلا يأتيه أبدا هذا معنى قول مجاهد ، وعن عطاء كالعطشان الجالس على شفير البئر وهو يمد يديه إلى البئر فلا هو يبلغ إلى قعر البئر ليخرج الماء ، ولا الماء يرتفع إليه فلا ينفعه بسطه الكف إلى الماء ودعاؤه له ، ولا هو يبلغ فاه كذلك الذي يدعون الأصنام لا ينفعهم ذلك. وقال ابن عباس : كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما من الماء ولا يبلغ الماء فاه مادام باسط كفيه ، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ودعائهم الأصنام حين لا ينفعهم البتة ثم ختم هذا بقوله (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) يعني أصنامهم (إِلَّا فِي ضَلالٍ) يعني يضل عنهم إذا احتاجوا إليه ، قال ابن عباس في هذه الآية أصواتهم محجوبة عن الله تعالى. قوله عزوجل (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) في معنى هذا السجود قولان : أحدهما أن المراد منه السجود على الحقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض ، ثم على هذا القول ففي معنى الآية وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد منه الخصوص ، فقوله : ولله يسجد من في السموات يعني الملائكة ومن في الأرض من الإنس يعني المؤمنين طوعا وكرها ، يعني من المؤمنين من يسجد لله طوعا وهم المؤمنون المخلصون لله العبادة ، وكرها يعني المنافقين الداخلين في المؤمنين وليسوا منهم فان سجودهم لله على كره منهم ، لأنهم لا يرجون على سجودهم ثوابا ولا يخافون على تركه عقابا بل سجودهم وعبادتهم خوف من المؤمنين. الوجه الثاني : هو حمل اللفظ على العموم ، وعلى هذا ففي اللفظ إشكال ، وهو أن جميع الملائكة والمؤمنين من الجن والإنس يسجدون لله طوعا ، ومنهم من يسجد كرها كما تقدم وأما الكفار من الجن والإنس ، فلا يسجدون لله البتة فهذا وجه الإشكال. والجواب عنه أن المعنى أنه يجب على كل من في السموات ومن في الأرض أن يسجد لله ، فعبر بالوجوب عن الوقوع والحصول. وجواب آخر وهو أن يكون المراد من هذا السجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية ، وكل من في السموات من ملك ومن في الأرض من إنس وجن ، فإنهم يقرون لله بالعبودية والتعظيم ويدل عليه قوله تعالى «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله». والقول الثاني : في معنى هذا السجود هو الانقياد والخضوع وترك الامتناع فكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى ، وهذا الاعتبار لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل فهم خاضعون مناقدون له. وقوله تعالى (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) الغدوة والغداة أول النهار ، وقيل : إلى نصف النهار والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصل ، وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. قال المفسرون : إن ظل كل شخص يسجد لله ظل المؤمن والكافر. وقال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعا وهو طائع وظل

١١

الكافر يسجد لله كرها ، وهو كاره. وقال الزجاج : جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباري : ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولا وأفهاما تسجد بها وتخشع كما جعل للجبال أفهاما حتى سبحت لله مع داود ، وقيل : المراد بسجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب آخر ، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها ، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال تعظم ، وتكثر في هذين الوقتين ، وقيل : لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما.

(فصل)

وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة ، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة والله أعلم. قوله تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله من رب السموات والأرض ، يعني من مالك السموات والأرض ، ومن مدبرهما وخالقهما فسيقولون : الله لأنهم مقرون بأن الله خالق السموات وما فيها ، والأرض ، وما فيها فإن أجابوك بذلك فقل : أنت يا محمد الله رب السموات والأرض. وقيل : لما قال هذه المقالة للمشركين عطفوا عليه وقالوا أجب أنت فأمره الله أن يجيبهم بقوله (قُلِ اللهُ) أي قل يا محمد (اللهُ) وقيل : إنما جاء السؤال والجواب من جهة واحدة لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق كل شيء ، فلما لم ينكروا ذلك وأجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله الله فكأنهم قالوا ذلك أيضا ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله (قُلْ) أي قل يا محمد للمشركين (أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ) يعني من دون الله (أَوْلِياءَ) يعني الأصنام والولي الناصر ، والمعنى توليتم غير رب السموات والأرض واتخذتموهم أنصارا يعني الأصنام (لا يَمْلِكُونَ) يعني وهم لا يملكون (لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فكيف لغيرهم. ثم ضرب الله مثلا للمشركين الذين يعبدون الأصنام وللمؤمنين الذين يعبدون الله. فقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) قال ابن عباس : يعني المشرك والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) يعني الشرك والإيمان والمعنى كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن وكما لا تستوي الظلمات والنور كذلك لا يستوي الكفر والإيمان ، وإنما شبه الكافر بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي سبيلا ، كذلك الكافر لا يهتدي سبيلا (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) هذا استفهام إنكار يعني جعلوا لله شركاء (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) يعني خلقوا سموات وأرضين وشمسا وقمرا وجبالا وبحارا وجنا وإنسا (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) من هذا الوجه ، والمعنى هل رأوا غير الله خلق شيئا فاشتبه عليهم خلق الله بخلق غيره ، وقيل : إنه تعالى وبخهم بقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا خلقا مثل خلقه فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم ، وهذا استفهام إنكاري أي ليس الأمر كذلك حتى يشتبه عليهم الأمر ، بل إذا تفكروا بعقولهم وجدوا الله تعالى هو المنفرد بخلق سائر الأشياء والشركاء مخلوقون له أيضا لا يخلقون شيئا حتى يشتبه خلق الله بخلق الشركاء ، وإذا كان الأمر كذلك فقد لزمتهم الحجة ، وهو قوله تعالى (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الله خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقا ، وقوله الله خالق كل شيء من العموم الذي يراد به الخصوص لأن الله تعالى خلق كل شيء وهو غير مخلوق (وَهُوَ الْواحِدُ) يعني والله تعالى هو الواحد المنفرد بخلق الأشياء كلها (الْقَهَّارُ) لعباده حتى يدخلهم تحت قضائه وقدره وإرادته. وقوله عزوجل : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لما شبه الله عزوجل الكافر بالأعمى والمؤمن بالبصير وشبه الكفر بالظلمات ، والإيمان بالنور ضرب لذلك مثلا فقال تعالى : أنزل من السماء ماء يعني المطر (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أودية جمع واد وهو المفرج بين الجبلين يسيل فيها الماء وقوله : فسالت أودية فيه اتساع ، وحذف تقديره فسال في الوادي فهو كما يقال جري النهر والمراد جرى الماء في النهر فحذف في لدلالة الكلام عليه بقدرها. قال مجاهد بمثلها وقال ابن جريج : الصغير بقدره والكبير بقدره ، وقيل : بمقدار مائها وإنما نكر أودية لأن المطر إذا نزل لا يعم جميع

١٢

الأرض ، ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون واد. فلهذا السبب جاء هذا بالتنكير. وقال ابن عباس : أنزل من السماء ماء يعني قرآنا وهذا مثل ضربه الله تعالى فسالت أودية بقدرها يريد بالأودية القلوب شبه نزول القرآن الجامع للهدى والنور ، والبيان بنزول المطر لأن المطر إذا نزل عمّ نفعه وكذلك نزول القرآن وشبه القلوب بالأودية ، لأن الأودية يستكن فيها الماء وكذلك القلوب يستكن فيها الإيمان والعرفان ببركة نزول القرآن فيها ، وهذا خاص بالمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بنزول القرآن (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا ورعوا ، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فتعلم ، وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه‌الله ، وغيره في معنى هذا الحديث وشرحه أما الكلأ فباغمز يقع على الرطب واليابس من الحشيش ، وأما قوله وكان منها أجادب فالجيم والدال المهملة والباء الموحدة كذا في الصحيحين ، وهي الأرض التي لا تنبت الكلأ جمع جدب على غير قياس وقياسه أجدب ، والجدب ضد الخصب. وقال الخطابي : هي التي تمسك الماء ولم يسرع فيه النضوب وفي رواية الهروي أخاذات بالخاء المعجمة والذال المعجمة جمع أخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء ، وقوله : ورعوا كذا هو في صحيح مسلم من الرعي ، ووقع في صحيح البخاري وزرعوا بزيادة زاي من الزرع والقيعان بكسر القاف جمع قاع وهو المستوي من الأرض ، وقوله : فذلك مثل من فقه في دين الله يروى بضم القاف وهو المشهور وروي بكسرها ومعناه فهم الأحكام وأما معنى الحديث ومقصوده فهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب مثلا لما جاء به من الهدى ، والعلم بالأرض التي أصابها المطر. قال العلماء : والأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس لأنهم منها خلقوا ، فالنوع الأول من أنواع الأرض الطيبة التي تنتفع بالمطر فتنبت به العشب فينتفع الناس به والدواب بالشرب والرعي وغير ذلك وكذلك النوع الأول من الناس من يبلغه الهدى من غير ذلك من العلم فيحيا به قلبه ويحفظه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع به وينفع غيره. قال مسروق : صحبت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدتهم كالأخاذات لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم. النوع الثاني من أنواع الأرض : أرض لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة لغيرها ، وهي إمساك الماء لغيرها لينتفع به الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة ، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة فيبقى ما عندهم من العلم حتى يجيء المحتاج إليه المتعطش لما عندهم من العلم فيأخذه منهم فينتفع به هو وغيره ، النوع الثالث : من أنواع الأرض أرض سبخة لا تنبت مرعى ولا تمسك ماء كذلك النوع الثالث من الناس ليس لهم قلوب حافظة ، ولا أفهام ثاقبة فإذا بلغهم شيء من العلم لا ينتفعون به في أنفسهم ولا ينفعون غيرهم والله أعلم. وقوله تعالى (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة ، كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا (رابِياً) يعني عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليه ، وها هنا تم المثل ثم ابتدأ بمثل آخر فقال تعالى (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) الإيقاد جعل الحطب في النار لتتقد تلك النار تحت الشيء ليذوب (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) يعني لطلب زينة ، والضمير في قوله عليه يعود على الذهب والفضة ، وإن لم يكونا مذكورين لأن الحلية لا تطلب إلا منهما (أَوْ مَتاعٍ) يعني أو لطلب متاع آخر مما ينتفع به كالحديد والنحاس والرصاص ونحوه مما يذاب وتتخذ منه الأواني وغيرها مما ينتفع له ، والمتاع كل ما ويتمتع به. ويقال لكل ما ينتفع به في البيت كالطبق والقدر ونحو ذلك من الأواني : متاع (زَبَدٌ مِثْلُهُ) يعني أن ذلك الذي يوقد عليه في النار إذا أذيب ، فله أيضا زبد مثل زبد الماء فالصافي من الماء ومن هذه الجواهر هو الذي ينتفع به وهو مثل الحق. والزبد من الماء ومن هذه الجواهر هو

١٣

الذي لا ينتفع به ، وهو مثل الباطل وهو قوله تعالى (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) فالحق هو الجوهر الصافي الثابت ، والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به وهو قوله (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) يعني ضائعا باطلا والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد إلى جوانبه. وقيل : الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح الغيم إذا فرقته والمعنى أن الباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) يعني الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام التي تذاب (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) يعني يثبت ويبقى ولا يذهب (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) قال أهل التفسير والمعاني : هذا مثل ضربه الله للحق والباطل. فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال ، فإن الله يمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء فيذهب الزبد ويبقى الماء الصافي الذي ينتفع به ، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى ويذهب العلو الذي هو الكدر ، وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. فالباطل وإن علا في وقت فإنه يذهب هو وأهله ، والحق يظهر هو وأهله. وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس ومثل الكافر وخبث اعتقاده كالزبد الذي لا ينتفع به البتة. وقيل : هذا مثل ضربه الله للنور الذي يحصل في قلوب العباد على ما قسم لها في الأزل لأن الوادي إذا سال كنس كل شيء فيه من النجاسات والمستقذرات ، كذلك إذا سال وادي قلب العبد بالنور الذي قسم له على قدر إيمانه ومعرفته كنس كل ظلمة وغفلة فيه ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض يعني يذهب البواطل وهي الأخلاق المذمومة ، وتبقى الحقائق وهي الأخلاق الحميدة كذلك يضرب الله الأمثال. وقوله تعالى :

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١))

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) قيل : اللام في للذين متعلقة بيضرب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذي استجابوا لربهم يعني أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده والإيمان به وبرسوله وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، فعلى هذا يكون قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم للفريقين من المؤمنين والكافرين وقيل تم الكلام عند قوله كذلك يضرب الله الأمثال ثم استأنف بقوله للذين استجابوا لربهم الحسنى. قال ابن عباس وجمهور المفسرين : يعني الجنة. وقيل : الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) يعني الكبار الذين استمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) يعني لبذلوا ذلك كله فداء لأنفسهم من عذاب النار يوم القيامة (أُولئِكَ) يعني الذين لم يستجيبوا لربهم (لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) قال إبراهيم النخعي : سوء الحساب أن يحاسب الرجل بذنبه كله ولا يغفر له منه شيء (وَمَأْواهُمْ) يعني في الآخرة (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) يعني وبئس ما مهد لهم في الآخرة ، وقيل : المهاد الفراش يعني وبئس الفراش يفرش لهم في جهنم. قوله تعالى (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) يعني فيؤمن به ويعمل بما فيه (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) يعني أعمى البصيرة ، لا أعمى البصر وهو الكافر فلا يؤمن بالقرآن ولا يعمل بما فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل بن هشام. وقيل : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل فالأول هو حمزة أو عمار والثاني هو أبو جهل وحمل الآية على العموم أولى ، وإن كان السبب مخصوصا ، والمعنى : لا يستوي من

١٤

يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى لأن الأعمى لا يهتدي لرشد ، وربما وقع في مهلكة وكذلك الكافر والجاهل لا يهتديان للرشد وهما واقعان في المهلكة (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) يعني إنما يتعظ ذوو العقول السليمة الصحيحة ، وهم الذين ينتفعون بالمواعظ والأذكار. قوله عز وجل (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) يعني الذي عاهدهم عليه وهو القيام بما أمرهم به ، وفرضه عليهم وأصل العهد حفظ الشيء ، ومراعاته حالا بعد حال وقيل أراد بالعهد ما أخذه على أولاد آدم حين أخرجهم من صلبه ، وأخذ عليهم العهد والميثاق (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) بل يوفون به فهو توكيد لقوله الذين يوفون بعهد الله (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) قال ابن عباس : يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل يعني يصل بينهم بالإيمان ولا يفرق بين أحد منهم والأكثرون على أن المراد به صلة الرحم عن عبد الرحمن بن عوف. قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «قال الله تبارك وتعالى : أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته أو قال بتتّه» أخرجه أبو داود والترمذي (ق). عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» (خ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» صلة الرحم مبرة الأهل والأقارب والإحسان إليهم وضده القطع ، قوله : وان ينسأ له في أثره الأثر هنا الأجل سمي الأجل أثرا لأنه تابع للحياة وسابقها. ومعنى ينسأ : يؤخر والمراد به تأخير الأجل. وهو على وجهين : أحدهما أن يبارك الله في عمره فكأنما قد زاد فيه. والثاني أن يزيده في عمره زيادة حقيقية والله يفعل ما يشاء (ق) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يدخل الجنة قاطع» في رواية سفيان يعني «قاطع رحم» (خ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ليس الواصل بالمكافئ الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فان صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر» أخرجه الترمذي. وقوله تعالى : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) يعني أنهم مع وفائهم بعهد الله وميثاقه والقيام بما أمر الله به من صلة الرحم يخشون ربهم ، والخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) تقدم معناه.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨))

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) يعني على طاعة الله وقال ابن عباس : على أمر الله. وقال عطاء : على المصائب والنوائب. وقيل : صبروا عن الشهوات وعن المعاصي وقيل : حمله على العموم أولى فيدخل فيه الصبر على جميع النوائب والمأمورات من سائر العبادات والطاعات ، وجميع أعمال البر وترك جميع المنهيات فيدخل فيه ترك جميع المعاصي من الحسد والحقد والغيبة ، وغير ذلك من المنهيات ، ويدخل فيه الصبر عن المباحات مثل

١٥

جميع الشهوات والصبر على ما نزل به من الأمراض والمصائب ، وأصل الصبر حبس النفس عما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه فالصبر لفظ عام يدخل تحته جميع ما ذكر ، وإنما قيّد الصبر بقوله (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لأن الصبر ينقسم إلى نوعين : الأول الصبر المذموم وهو أن الإنسان قد يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على ما تحمل من النوازل وقد يصبر لئلا يعاب على الجزع ، وقد يصبر لئلا تشمت به الأعداء ، وكل هذه الأمور وإن كان ظاهرها الصبر فليس ذلك داخلا تحت قوله : (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لأنها لغير الله تعالى. النوع الثاني : الصبر المحمود وهو أن يكون الإنسان صابرا لله تعالى راضيا بما نزل به من الله طالبا في ذلك الصبر ثواب الله محتسبا أجره على الله فهذا هو الصبر الداخل تحت قوله ابتغاء وجه ربهم يعني صبروا على ما نزل بهم تعظيما لله وطلب رضوانه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يعني الصلاة المفروضة. وقيل : حمله على العموم أولى فيدخل صلاة الفرض والنفل والمراد بإقامتها إتمام أركانها وهيئاتها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال الحسن : المراد به الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها سرا ، وإن كان متهما بترك أداء الزكاة فالأولى أن يؤديها علانية. وقيل : إن المراد بالسر ما يخرج من الزكاة بنفسه والمراد بالعلانية ما يؤديه إلى الإمام. وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع والمراد بالعلانية الزكاة الواجبة وحمله على العموم أولى (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) قال ابن عباس : يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء ، وهو معنى قوله : «إن الحسنات يذهبن السيئات» ويدل على صحة هذا التأويل ما جاء في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل أخرى فانفكت أخرى حتى خرج إلى الأرض» وقال ابن كيسان : يدفعون الذنب بالتوبة وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير وقال القتيبي معناه إذا سفه عليهم حلموا والسفه السيئة والحلم الحسنة ، وقال قتادة : ردوا عليهم ردا معروفا. وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى أبواب الجنة الثمانية قلت إنما هي تسع خلال فيحتمل أنه عد خلتين بواحدة ولما ذكر الله عزوجل هذه الخلال من أعمال البر ، ذكر بعدها ما أعد للعاملين بها من الثواب فقال تعالى (أُولئِكَ) يعني من أتى بهذه الأعمال (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) يعني الجنة والمعنى إن عاقبتهم دار الثواب (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار يعني بساتين إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به (يَدْخُلُونَها) يعني الدار التي تقدم وصفها (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) يعني ومن صدق من آبائهم بما صدقوا به ، وإن لم يعمل بأعمالهم قاله ابن عباس. وقال الزجاج : إن الإنسان لا ينتفع بغير أعماله الصالحة فعلى قول ابن عباس : معنى صلح صدق وآمن ووحد ، وعلى قول الزجاج معناه أصلح في عمله قال الواحدي والصحيح : ما قاله ابن عباس لأن الله تعالى جعل ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخوله الجنة مع هؤلاء ، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو كان دخولهم الجنة بأعمالهم الصالحة ، لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان صالحا في عمله ، فهو يدخل الجنة. قال الإمام فخر الدين الرازي : قوله تعالى وأزواجهم ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وروي أنه لما كبرت سودة أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلاقها فسألته أن لا يفعل ، ووهبت يومها لعائشة فأمسكها رجاء أن تحشر في جملة أزواجه فهو كالدليل على ما ذكرناه. وقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يعني من أبواب الجنة. وقيل من أبواب القصور ، قال ابن عباس : يريد به التحية من الله والتحف والهدايا (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يعني يقولون : سلام عليكم فأضمر القول هاهنا لدلالة الكلام عليه (بِما صَبَرْتُمْ) يعني يقولون لهم : سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها في الدنيا وأدخلكم بما صبرتم في دار الدنيا على الطاعات ، وترك

١٦

المحرمات الجنة وقيل : إن السلام قول والصبر فعل ولا يكون القول ثوابا للفعل ، فعلى هذا يكون قوله : سلام عليكم دعاء من الملائكة لهم يعني سلمكم الله بما صبرتم. قال مقاتل : إن الملائكة يدخلون عليهم في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف من الله تعالى. يقولون : سلام عليكم بما صبرتم ، وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة موقوفا عليه قال : «إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك من ملائكة الله يستأذن فيقوم أدنى الخدم إلى الباب فإذا بالملك يستأذن فيقول : للذي يليه ملك يستأذن. ويقول الآخر : كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول ائذنوا له فيقول أقربهم إلى المؤمن ائذنوا له ويقول الذي يليه ائذنوا له وكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف» (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) يعني فنعم العقبى عقبى الدار. وقيل : معناه فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) لما ذكر الله أحوال السعداء وما أعد لهم من الكرامات والخيرات ذكر بعده أحوال الأشقياء ، وما لهم من العقوبات فقال تعالى (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ونقض العهد ضد الوفاء به ، وهذا من صفة الكفار لأنهم هم الذين نقضوا عهد الله يعني خالفوا أمره ، ومعنى من بعد ميثاقه من بعد ما أوثقوه على أنفسهم بالاعتراف والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) يعني ما بينهم وبين المؤمنين من الرحم والقرابة (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعني بالكفر والمعاصي (أُولئِكَ) يعني من هذه صفته (لَهُمُ اللَّعْنَةُ) يعني الطرد عن رحمة الله يوم القيامة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) يعني النار لأن منقلب الناس في العرف إلى دورهم ، ومنازلهم ، فالمؤمنون لهم عقبى الدار وهي الجنة ، والكفار لهم سوء الدار وهي النار. قوله تعالى (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني يوسع على من يشاء من عباده فيغنيه من فضله ، ويضيق على من يشاء من عباده فيفقره ويقتر عليه ، وهذا أمر اقتضته حكمة الله (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) يعني مشركي مكة لما بسط الله عليهم الرزق أشروا وبطروا ، والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المشتهى. وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) يعني بالنسبة إلى الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) أي قليل ذاهب. قال الكلبي : المتاع مثل السكرجة والقصعة والقدر ينتفع بها في الدنيا ثم تذهب كذلك الحياة لأنها ذاهبة لا بقاء لها (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني من أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) يعني هلا أنزل على محمد آية ومعجزة مثل معجزة موسى وعيسى (قُلْ) أي قل لهم يا محمد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) فلا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عزوجل وهو قوله (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) يعني ويرشد إلى دينه والإيمان به من أناب بقلبه ورجع إليه بكليته (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من قوله من أناب (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) يعني وتسكن قلوبهم (بِذِكْرِ اللهِ) قال مقاتل : بالقرآن لأنه طمأنينة لقلوب المؤمنين والطمأنينة والسكون إنما تكون بقوة اليقين ، والاضطراب إنما يكون بالشك (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) يعني بذكره تسكن قلوب المؤمنين ويستقر اليقين فيها. وقال ابن عباس : هذا في الحلف وذلك أن المسلم إذا حلف بالله على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه. فإن قلت أليس قد قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الأنفال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) والوجل استشعار الخوف ، وحصول الاضطراب وهو ضد الطمأنينة فكيف وصفهم بالوجل والطمأنينة وهل يمكن الجمع بينهما في حال واحد. قلت : إنما يكون الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة ، إنما تكون عند الوعد والثواب فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه وعقابه وتطمئن إذا ذكرت فضل الله ورحمته وكرمه وإحسانه.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ

١٧

وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) اختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس : فرح لهم وقرة أعين. وقال عكرمة : نعمى لهم. وقال قتادة : حسن لهم وفي رواية أخرى ، عنه إن هذه الكلمة عربية يقول الرجل للرجل : طوبى لك أي أصبت خيرا. وقال إبراهيم النخعي خير لهم وكرامة. وقال الزجاج : طوبى من الطيب وقيل تأويلها الحال المستطابة لهم وهو كل ما استطابه هؤلاء في الجنة من بقاء بلا فناء وعز بلا ذل وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم. قال الأزهري : تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين. وقال سعيد بن جبير : طوبى اسم الجنة بالحبشية وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى اسم شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها. وقال عبيد ابن عمير : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي كل دار وغرفة في الجنة منها غصن لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان : الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل : كل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح وروي عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طوبى فقال : «هي شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه. قال : «طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» هكذا ذكر البغوي هذين الحديثين بغير سند ، وروي بسنده موقوفا عن أبي هريرة قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرءوا إن شئتم وظل ممدود» فبلغ ذلك كعب الأحبار فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى والقرآن على محمد لو أن رجلا ركب فرسا أو حقة أو جذعة ، ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما إن الله غرسها بيده ، ونفخ فيها من روحه وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة ، وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. فقال البغوي وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن الأشعث عن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : «إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله لها تفتقي لعبدي عما يشاء فتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء وعن الثياب» (ق) عن سهل بن سعد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (ق) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها» (ق) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة» زاد البخاري في روايته «واقرءوا إن شئتم وظل ممدود». وقوله تعالى (وَحُسْنُ مَآبٍ) يعني ولهم حسن منقلب ومرجع ينقلبون ويرجعون إليه في الآخرة وهي الجنة. قوله عزوجل : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) يعني كما أرسلناك يا محمد إلى هذه الأمة كذلك أرسلنا أنبياء قبلك إلى أمم قد خلت ومضت (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يعني لتقرأ على أمتك الذي أوحينا إليك من القرآن وشرائع الدين (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) قال قتادة ومقاتل وابن جريج : هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب : «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقالوا : لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما نكتب باسمك اللهم فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمن يعني أنهم ينكرونه ويجحدونه والمعروف أن الآية مكية. وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الحجر يدعو ويقول في دعائه : «يا

١٨

الله يا رحمن» فرجع أبو جهل إلى المشركين وقال : إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية ونزل قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن» فقال الله تعالى (قُلْ) أي قل يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يعني عليه اعتمدت في أموري كلها (وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعني وإليه توبتي ورجوعي. قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآية نزلت في نفر من مشركي قريش منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاهم وقيل : إنه مر بهم وهم جلوس فدعاهم إلى الله عزوجل فقال له عبد الله بن أبي أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى تتفتح فإنها أرض ضيقة لمزارعنا واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار ، ونزرع ونتخذ البساتين فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود ، حيث سخر له الجبال تسير معه أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان أو أحي لنا جدك قصيا أو من شئت من موتانا لنسأله عن أمرك أحق أو باطل فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله من عيسى فأنزل الله هذه الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) فأذهبت عن وجه الأرض (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) يعني شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فأحياها واختلفوا في جواب لو فقال قوم جواب لو محذوف ، وإنما حذف اكتفاء بمعرفة السامع مراده وتقديره ولو أن قرآنا فعل به كذا وكذا لكان هذا القرآن فهو كقول الشاعر :

فأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أراد : لو شيء أتانا رسوله سواك لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة فإنه قال معناه لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم وقال آخرون : جواب لو تقدم تقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن ، ولم يؤمنوا به لما سبق في علمنا فيهم كما قال : «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» ثم قال تعالى (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) يعني في هذه الأشياء ، وفي غيرها إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) قال أكثر المفسرين : معناه أفلم يعلم؟ قال الكلبي : هذه لغة النخع وقيل هي لغة هوازن واختلف أهل اللغة في هذه اللفظة فقال الليث وأبو عبيد ألم ييأس ألم يعلم واستدلوا لهذه اللغة بقول الشاعر :

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

يعني ألم تعلموا. واستدلوا عليه أيضا بقول شاعر آخر :

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه

وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

يعني ألم يعلم الأقوام. قال قطرب : يئس بمعنى علم لغة للعرب. قالوا : ووجه هذه اللغة أنه إنما وقع اليأس في مكان العلم لأن علمك بالشيء ويقينك به ييئسك من غيره. وقيل : لم يرد أن اليأس في موضع كلام العرب للعلم وإنما قصد أن يأس الذين آمنوا من ذلك يقتضي أن يحصل العلم بانتفائه فإذن معنى يأسهم يقتضي حصول العلم. وقال الكسائي ما وجدت العرب تقول يئست بمعنى علمت قال وهذا الحرف في القرآن من اليأس المعروف لا من العلم وذلك أن المشركين لما طالبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآيات اشرأبّ المسلمون لذلك وأرادوا أن يظهر لهم آية ليجتمعوا على الإيمان ، فقال الله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء ويعلموا علما

١٩

يقينا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) يعني من غير ظهور آية. وقال الزجاج : القول عندي أن معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو يشاء لهدى الناس جميعا. وحاصله أن في معنى الآية قولين : أحدهما أن يئس بمعنى علم. والقول الثاني : أنه من اليأس المعروف وتقدير القولين ما تقدم وتمسك أهل السنة بقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) يعني من الكفر والأعمال الخبيثة (قارِعَةٌ) أي نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا أحيانا مرة بالجدب ، ومرة بالسلب ومرة بالقتل والأسر. وقال ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثها إليهم (أَوْ تَحُلُ) يعني السرايا أو البلية (قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) وقيل معناه أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) يعني النصر والفتح وظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه وقيل أراد بوعد الله يوم القيامة لأن الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) والغرض منه تشجيع قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإزالة الحزن عنه لعلمه بأن الله لا يخلف الميعاد. قوله عزوجل :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦))

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) وذلك أن كفار مكة إنما سألوا هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء ، فأنزل الله هذه الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى أنهم إنما طلبوا منك هذه الآيات على سبيل الاستهزاء ، وكذلك قد استهزئ برسل من قبلك (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني فأمهلتهم وأطلت لهم المدة (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) يعني بالعذاب بعد الإمهال فعذبتهم في الدنيا بالقحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) يعني فكيف كان عقابي لهم (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يعني أفمن هو حافظها ورازقها وعالم بها وبما عملت من خير وشر ويجازيها بما كسبت فيثيبها إن أحسنت ، ويعاقبها إن أساءت وجوابه محذوف ، وتقديره كمن ليس بقائم بل هو عاجز عن نفسه ومن كان عاجزا عن نفسه فهو عن غيره أعجز وهي الأصنام التي لا تضر ولا تنفع (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) يعني وهو المستحق للعبادة لا هذه الأصنام التي جعلوها لله شركاء (قُلْ سَمُّوهُمْ) يعني له. وقيل : صفوهم بما يستحقون ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) يعني أم تخبرون الله (بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) يعني أنه لا يعلم أن لنفسه شريكا من خلقه وكيف يكون المخلوق شريكا للخالق وهو العالم بما في السموات والأرض ولو كان لعلمه والمراد من ذلك نفي العلم بأن يكون له شريك (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) يعني أنهم يتعلقون بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له وقيل : معناه بل بظن من القول لا يعلمون حقيقته (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) قال ابن عباس : زين لهم الشيطان الكفر وإنما فسر المكر بالكفر لأن مكرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر منهم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى لأنه هو الفاعل المختار على الإطلاق

٢٠