تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣))

(كَلَّا) أي لا ينجيه من عذاب الله شيء ثم ابتدأ فقال تعالى (إِنَّها لَظى) يعني النار ولظى اسم من أسمائها وقيل : الدركة الثانية من النار سميت لظى لأنها تتلظى أي تلتهب ، (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) يعني الأطراف كاليدين والرجلين مما ليس بمقتل. والمعنى أن النار تنزع الأطراف فلا تترك عليها لحما ولا جلدا. وقال ابن عباس : تنزع العصب والعقب وقيل تنزع اللحم دون العظام وقيل تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان ثم تأكله فذلك دأبها. وقيل لمكارم خلقه ومحاسن وجهه وأطرافه ، (تَدْعُوا) يعني النار إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) أي عن الإيمان (وَتَوَلَّى) أي عن الحق فتقول له إليّ يا مشرك إليّ يا منافق إليّ إليّ. قال ابن عباس تدعو الكافر والمنافق بأسمائهم بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقيل تدعو أي تعذب قال أعرابي لآخر دعاك الله أي عذبك الله (وَجَمَعَ فَأَوْعى) يعني وتدعو من جمع المال في الوعاء ولم يؤد حق الله منه ، (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) قال ابن عباس الهلوع الحريص على ما لا يحل. وقيل شحيحا بخيلا. وقيل ضجورا وقيل جزوعا ، وقيل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر وقال ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) يعني إذا أصابه الفقر لم يصبر وإذا أصابه المال لم ينفق. وقال ابن كيسان خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويهرب مما يكره ثم تعبده بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. قيل أراد بالإنسان هنا الكافر وقيل هو على عمومه ثم استثنى الله عزوجل فقال تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) وهذا استثناء الجمع من الواحد لأن الإنسان واحد وفيه معنى الجمع (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) يعني يقيمونها في أوقاتها وهي الفرائض.

فإن قلت كيف قال على صلاتهم دائمون ثم قال بعده على صلاتهم يحافظون؟

قلت معنى إدامتهم عليها أن يواظبوا على أدائها ، وأن لا يتركوها في شيء من الأوقات وأن لا يشتغلوا عنها بغيرها إذا دخل وقتها ، والمحافظة عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها وهو أن يأتي بها العبد على أكمل الوجوه. وهذا إنما يحصل بأمور ثلاثة منها ما هو سابق للصلاة كاشتغاله بالوضوء وستر العورة وإرصاد المكان الطاهر للصلاة ، وقصد الجماعة وتعلق القلب بدخول وقتها وتفريغه عن الوسواس والالتفات إلى ما سوى الله عزوجل. وأما الأمور المقارنة للصلاة فهي أن لا يلتفت في الصلاة يمينا ولا شمالا وأن يكون حاضر القلب في جميعها بالخشوع والخوف وإتمام ركوعها وسجودها. وأما الأمور الخارجة عن الصلاة فهو أن يحترز عن الرياء والسمعة خوف أن لا تقبل منه مع الابتهال والتضرع إلى الله تعالى في سؤال قبولها وطلب الثواب فالمداومة على الصلاة ترجع إلى نفسها والمحافظة عليها ترجع إلى أحوالها وهيئاتها. وروى البغوي بسنده عن أبي الخير قال سألنا عقبة بن عامر عن قوله عزوجل الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون أبدا؟ قال لا ولكنه إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ

٣٤١

وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) يعني الزكاة المفروضة لأنها مقدرة معلومة. وقيل هي صدقة التطوع وذلك بأن يوظف الرجل على نفسه شيئا من الصدقة يخرجه على سبيل الندب في أوقات معلومة (لِلسَّائِلِ) يعني الذي يسأل (وَالْمَحْرُومِ) يعني الفقير المتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يؤمنون بالبعث بعد الموت والحشر والنشر والجزاء يوم القيامة (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون ثم أكد ذلك الخوف فقال تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) يعني أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي ولا اجتنب المحظورات بالكلية كما ينبغي بل قد يكون وقع منه تقصير من الجانبين فلا جرم ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) تقدم تفسيره في سورة المؤمنين.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي يقومون فيها عند الحكام ولا يكتمونها ولا يغيرونها وهذه الشهادة من جملة الأمانات إلا أنه خصها بالذكر لفضلها لأن بها تحيا الحقوق وتظهر وفي تركها تموت وتضيع ، وقيل أراد بالشهادة الشهادة له بأن لا إله إلا الله واحد لا شريك له ولهذا عطف عليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) ثم ذكر ما أعده لهم فقال تعالى : (أُولئِكَ) يعني من هذه صفته (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فما بالهم (قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك ، نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون منك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) يعني أنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين حلقا وفرقا ، والعزون جماعات في تفرقة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) قال ابن عباس : معناه أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي نعيم كما يدخلها المسلمون ويتنعمون فيها وقد كذبوا نبيي ، (كَلَّا) أي لا يدخلها ثم ابتدأ فقال تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي من الأشياء المستقذرة من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة نبه الله على أنهم خلقوا من أصل واحد وشيء واحد وإنما يتفاضلون بالمعرفة ويستوجبون الجنة بالإيمان والطاعة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن بشر بن جحاش قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال «يقول الله عزوجل يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة» ، وأخرجه ابن الجوزي في تفسيره بلا إسناد. وقيل في معنى الآية إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقيل معناه إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون ولم نخلقهم كالبهائم بلا علم ولا عقل.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَلا أُقْسِمُ) يعني وأقسم وقد تقدم بيانه (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) يعني مشرق كل يوم من السنة

٣٤٢

ومغربه. وقيل يعني مشرق كل نجم ومغربه (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) معناه إنا لقادرون على إهلاكهم وعلى أن نخلق أمثل منهم وأطوع لله (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بمن هو خير منكم (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) أي في أباطيلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) نسختها آية القتال ثم فسر ذلك فقال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) يعني القبور (سِراعاً) أي إلى إجابة الداعي (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) يعني إلى شيء منصوب كالعلم والراية ونحوه. وقرئ بضم النون والصاد وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها (يُوفِضُونَ) أي يسرعون ومعنى الآية أنهم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة خاضعة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يغشاهم هوان (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة الذي كانوا يوعدون به في الدنيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٤٣

سورة نوح

مكية وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وأربعة وعشرون كلمة وتسعمائة وتسعة وتسعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨))

قوله عزوجل : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي بأن خوف قومك وحذرهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني الغرق بالطوفان والمعنى إنا أرسلناه لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أنذركم وأبين لكم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه ولا تشركوا به شيئا (وَاتَّقُوهُ) أي وخافوه بأن تحفظوا أنفسكم مما يؤثمكم (وَأَطِيعُونِ) أي فيما آمركم به من عبادة الله وتقواه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي يغفر لكم ذنوبكم. ومن صلة وقيل يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان وذلك بعض الذنوب (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، معناه يقول آمنوا قبل الموت تسلموا من العذاب فإن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يؤخر ، قال الزمخشري إن قلت كيف قال ويؤخركم مع الإخبار بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلى تناقض قلت قضى مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير عنكم وحيث يمكنكم الإيمان ، (قالَ) يعني نوحا عليه الصلاة والسلام (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي نفارا وإدبارا عن الإيمان (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي ليؤمنوا بك فتغفر لهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا دعوتي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يرون (وَأَصَرُّوا) على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان بك (اسْتِكْباراً) أي تكبرا عظيما (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي معلنا قال ابن عباس : بأعلى صوتي.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ

٣٤٤

أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧))

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) أي كررت لهم الدعاء معلنا (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) قال ابن عباس يريد الرجل بعد الرجل أكلمه سرا بيني وبينه أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) وذلك أن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم فقال لهم استغفروا ربكم أي من الشرك واطلبوا المغفرة بالتوحيد حتى يفتح عليكم أبواب نعمه وذلك لأن الاشتغال بالطاعة يكون سببا لاتساع الخير والرزق.

وأن الكفر سبب لهلاك الدنيا فإذا اشتغلوا بالإيمان والطاعة حصل ما يحتاجون إليه في الدنيا. وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع فقيل له ما سمعناك استسقيت فقال طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر ثم قرأ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) الآية قوله بمجاديح السماء واحدها مجدح وهو نجم من النجوم. وقيل هو الدبران وقيل هي ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها بالمجدح الذي له شعب وهي عند العرب من الأنواء الدالة على المطر فجعل عمر الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفون وكانوا يزعمون أن من شأنها المطر لا أنه يقول بالأنواء.

وعن بكر بن عبد الله أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا. وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له استغفر الله وشكا آخر إليه الفقر وقلة النسل وآخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح أتاك رجال يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا هذه الآية وقوله يرسل السماء عليكم أي يرسل ماء السماء وذلك لأن ماء المطر ينزل من السماء إلى السحاب ثم ينزل من السحاب إلى الأرض. وقيل أراد بالسماء السحاب ، وقيل أراد بالسماء المطر من قول الشاعر

إذا نزل السماء بأرض قوم

فحلوا حيثما نزل السماء

يعني المطر مدرارا أي كثير الدر وهو حلب الشاة حالا بعد حال. وقيل مدرارا أي متتابعا (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثر أموالكم وأولادكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي البساتين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) وهذا كله مما يميل طبع البشرية إليه (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) قال ابن عباس أي لا ترون لله عظمة. وقيل معناه لا تخافون عظمته فالرجاء بمعنى الخوف ، والوقار العظمة من التوقير وهو التعظيم. وقيل التعظيم وقيل معناه ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشركون له نعمة وقيل معناه ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) يعني تارة بعد تارة وحالا بعد حال نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى تمام الخلق. وقيل معناه خلقكم أصنافا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضا وهذا مما يدل على وحدانية الله وسعة قدرته (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي بعضها فوق بعض.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) يعني في سماء الدنيا وقوله فيهن هو كما يقال أتيت بني تميم وإنما أتى رجلا منهم (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) يعني مصباحا مضيئة. قال عبد الله بن عمرو إن الشمس والقمر وجوههما إلى السموات وضوء الشمس والقمر فيهن جميعا وأقفيتهما إلى الأرض ويروى هذا عن ابن عباس أيضا ، (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أراد مبدأ خلق آدم وأصل خلقه من الأرض والناس كلهم من ولده وقوله نباتا اسم جعل في موضع المصدر أي إنباتا. وقيل تقديره أنبتكم فنبتم نباتا وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا ولما قال أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم نباتا عجيبا وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة الله

٣٤٥

تعالى وصفة الله تعالى غير محسوسة لنا فلا يعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر بهذا أن العدول عن تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣))

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض بعد الموت (وَيُخْرِجُكُمْ) أي منها يوم البعث (إِخْراجاً) يعني إخراجا حقا لا محالة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي فرشها لكم مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا واسعة.

قوله تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أي لم يجيبوا دعوتي (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) يعني اتبع السفلة والفقراء القادة والرؤساء الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالا في الدنيا وعقوبة في الآخرة (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) يعني كبيرا عظيما يقال كبيرا وكبارا بالتشديد والتخفيف والتشديد أشد وأعظم في المبالغة والماكرون هم الرؤساء والقادة ومكرهم احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح عليه الصلاة والسلام وتحريش السفلة على أذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه والاستماع منه. وقيل مكرهم هو قولهم لا تذرن آلهتكم وتعبدوا إله نوح ، وقال ابن عباس في مكرهم قالوا قولا عظيما. وقيل افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله (وَقالُوا) يعني القادة للأتباع (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركن عبادتها (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) هذه أسماء آلهتهم وإنما أفرد بالذكر وإن كانت داخلة في جملة قوله لا تذرن آلهتكم لأنهم كانت لهم أصنام هذه الخمسة المذكورة هي أعظمها عندهم. قال محمد بن كعب هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا كان أتباعهم يقتدون بهم ويأخذون بعدهم بأخذهم في العبادة فجاءهم إبليس وقال لهم : لو صورتم صورهم كان ذلك أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا ذلك ثم نشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك وسميت تلك الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين من المسلمين ، (خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صارت الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس في قوله ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ، قال كانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت الأوثان ، وروي عن ابن عباس أن تلك الأوثان دفنها الطوفان وطمها التراب فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات كانت لثقيف والعزى لسليم وغطفان وجشم ، ومناة كانت

٣٤٦

لخزاعة بقديد وإساف ونائلة وهبل كانت لأهل مكة. ولذلك سمت العرب أنفسهم بعبد ود وعبد يغوث وعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي ضل بسبب الأصنام كثير من الناس. وقيل أضل كبراء قوم نوح كثيرا من الناس (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) يعني ولا تزد المشركين بعبادتهم الأصنام إلا ضلالا وهذا دعاء عليهم وذلك أن نوحا عليه‌السلام كان قد امتلأ قلبه غضبا وغيظا عليهم فدعا عليهم.

فإن قلت كيف يليق بمنصب النبوة أن يدعو بمزيد الضلال وإنما بعث ليصرفهم عنه.

قلت إنما دعا عليهم بعد أن أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) وقيل إنما أراد بالضلال في أمر الدنيا وما يتعلق بها لا في أمر الآخرة (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أي بالطوفان (فَأُدْخِلُوا ناراً) أي في حالة واحدة وذلك في الدنيا كانوا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب. واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة عذاب القبر وذلك لأن الفاء تقتضي التعقيب في قوله تعالى أغرقوا فأدخلوا نارا ، وهذا يدل على أنه إنما حصل دخول النار عقيب الإغراق ولا يمكن حمله على عذاب الآخرة لأنه يبطل دلالة الفاء ، وقيل معناه أنهم سيدخلون نارا في الآخرة فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصدق الوعد في ذلك والأول أصح (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) يعني تنصرهم وتمنعهم من العذاب الذي نزل بهم (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) يعني أحد يدور في الأرض فيذهب ويجيء من الدوران. وقيل أصله من الدار أي نازل دار (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) قال ابن عباس وغيره كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي حذرنيه ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم بعد ذلك أرحام النساء وأيبس أصلاب الرجال وذلك قبل نزول العذاب بأربعين سنة. وقيل بسبعين سنة وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكم جميعا ولم يكن معهم صبي وقت العذاب لأن الله تعالى أعقمهم قبل العذاب (رَبِّ اغْفِرْ لِي) وذلك أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل ، وقيل يحتمل أنه لما دعا على الكفار قال رب اغفر لي يعني ما صدر مني من ترك الأفضل. وقيل يحتمل أنه حين دعا على الكفار أنه إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام منهم فاستغفر من ذلك لما فيه من طلب حظ النفس أو لأنه ترك الاحتمال. (وَلِوالِدَيَ) وكان اسم أبيه ملك بن متوشلخ واسم أمه سمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل لم يكن بين آدم ونوح عليهما‌السلام من آبائه كافر وكان بينهما عشرة آباء (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي داري وقيل مسجدي وقيل سفينتي (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهذا عام في كل مؤمن آمن بالله وصدق الرسل ، وإنما بدأ بنفسه لأنها أولى بالتخصيص والتقديم ثم ثنى بالمتصلين به لأنهم أحق بدعائه من غيرهم ثم عمم جميع المؤمنين والمؤمنات ليكون ذلك أبلغ في الدعاء ، (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي هلاكا ودمارا فاستجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم جميعا والله أعلم.

٣٤٧

سورة الجن

وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤))

قوله عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت وجود الجن فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة ، واعترف بوجودهم جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية ، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف. وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجود الجن لكن اختلفوا في ماهيتهم ، فقيل الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة ، وقيل إنها جواهر وليست بأجسام ولا أعراض ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور والآفات ولا يعلم عدة أنواعهم إلا الله تعالى ، وقيل إنهم أجسام مختلفة الماهية لكن تجمعهم صفة واحدة وهي كونهم حاصلون في الحيز موصوفون بالطول والعرض والعمق ، وينقسمون إلى لطيف وكثيف وعلوي وسفلي ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية وأن يكون لها علم مخصوص وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة أو شاقة يعجز البشر عن مثلها. وقد يتشكلون بأشكال مختلفة وذلك بإقدار الله تعالى إياهم على ذلك ، وقيل إن الأجسام متساوية في تمام الماهية وليست البنية شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه ، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة فأنكروا وجود الجن وقالوا البنية شرط للحياة وإنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة ، وهذا قول منكر وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب والسنة.

(فصل)

اختلف الرواة هل رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجن فأثبتها ابن مسعود فيما رواه عنه مسلم في صحيحه وقد تقدم حديثه في تفسير سورة الأحقاف عند قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) وأنكرها ابن عباس فيما رواه عنه البخاري ومسلم. قال ابن عباس «ما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ

٣٤٨

وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم (فَقالُوا) يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل الله تعالى على نبيه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) زاد في رواية «وإنما أوحي إليه قول الجن» أخرجاه في الصحيحين ، قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس هذا معناه أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع ، صادف هؤلاء النفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي بأصحابه وعلى هذا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه الله عزوجل بما أوحي إليه من قوله قل أوحى إليّ أنه استمع نفر من الجن وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون.

والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول إلى الإنس والجن فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة ، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره. وهذا الحديث يقتضي أن الرجم بالنجوم ولم يكن قبل المبعث. وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه وآخرون إلى أنه كان لكن زاد بهذا المبعث وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين هذا آخر كلام القرطبي والله أعلم.

عكاظ سويقة معروفة بقرب مكة كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية وأول الإسلام وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة لتغير هوائها. ومكة من تهامة معدودة ونخلة واد من أودية مكة قريب منها.

وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر لأصحابه واقعة الجن وكما أنه مبعوث إلى الإنس فهو أيضا مبعوث إلى الجن لتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وقوله استمع نفر من الجن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة قيل كانوا تسعة من جن نصيبين. وقيل سبعة سمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقالُوا) أي لما رجعوا إلى قومهم ، (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) قال ابن عباس رضي الله عنهما بليغا أي ذا عجب يعجب منه لبلاغته وفصاحته (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي يدعو إلى الصواب يعني التوحيد والإيمان (فَآمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهودا وقيل كانوا نصارى وقيل كانوا مجوسا ومشركين (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي جلال ربنا وعظمته ، ومنه قول أنس «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» أي عظم قدره وقيل الجد الغنى. ومنه الحديث «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس : عظمت قدرة ربنا وقيل أمر ربنا وقيل فعله وقيل آلاؤه ونعماؤه على خلقه وقيل علا ملك ربنا (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي أنه تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس به والله تعالى منزه عن كل نقص (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) يعني جاهلنا قيل هو إبليس (عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي كذبا وعدوانا وهو وصفه تعالى بالشريك والولد أي الشطط وهو مجاوزة الحد في كل شيء.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي كنا نظن أن الإنس والجن صادقون في قولهم إن لله

٣٤٩

صاحبة وولدا وأنهم لا يكذبون على الله في ذلك فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد كذبوا على الله.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمته فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وذكره ابن الجوزي في تفسيره بغير سند ومعنى الآية زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا ، قال ابن عباس إثما. وقيل طغيانا وقيل غيا وقيل شرا وقيل عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا وعظمة ويقولون يعني عظماء الجن سدنا الجن والإنس. والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) يعني الجن (كَما ظَنَنْتُمْ) أي يا معشر الكفار من الإنس (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) يعني يقول الجن وأنا (لَمَسْنَا السَّماءَ) أي طلبنا بلوغ السماء الدنيا واستماع كلام أهلها (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً) يعني من الملائكة (شَدِيداً وَشُهُباً) أي من النجوم (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) أي من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي أرصد له ليرمى به. وقيل شهابا من الكواكب ورصدا من الملائكة ، عن ابن عباس قال «كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زاد فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يصلي بين جبلين أراه قال بمكة فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض» ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلا فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض.

وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦))

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي برمي الشهب (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ومعنى الآية لا ندري هل المقصود من المنع من الاستراق هو شر أريد بأهل الأرض أم أريد بهم صلاح وخير (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المؤمنون المخلصون (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي دون الصالحين مرتبة. قيل المراد بهم غير الكاملين في الصلاح وهم المقتصدون فيدخل فيهم الكافر وغيره (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة والقدة القطعة من الشيء ، قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين. وقيل أهواء مختلفة وشيعا متفرقة لكل فرقة هوى كأهواء الناس وذلك أن الجن فيهم القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغير ذلك من أهل الأهواء ، فعلى هذا

٣٥٠

التفسير يكون معنى طرائق قددا أي سنصير طرائق قددا وهو بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب مختلفة متفرقة ، وقيل معناه كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة (وَأَنَّا ظَنَنَّا) الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي علمنا وأيقنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي لن نفوته إن أراد بنا أمرا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي إن طلبنا فلن نعجزه أينما كنا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي لما سمعنا القرآن آمنا به وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) أي نقصانا من عمله وثوابه (وَلا رَهَقاً) يعني ظلما وقيل مكروها يغشاه (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) وهم الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون العادلون عن الحق ، قال ابن عباس وهم الذين جعلوا لله أندادا (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي قصدوا طريق الله وتوخوه (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) يعني الذين كفروا (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) يعني وقودا للنار يوم القيامة.

فإن قلت قد يتمسك بظاهر هذه الآية من لا يرى لمؤمني الجن ثوابا وذلك لأن الله تعالى ذكر عقاب الكافرين منهم ولم يذكر ثواب المؤمنين منهم.

قلت ليس فيه تمسك له وكفى بقوله فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب والله أعدل وأكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.

فإن قلت كيف يعذب الجن بالنار وقد خلقوا منها.

قلت وإن خلقوا من النار فقد تغيروا عن تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر والله تعالى قادر أن يعذب النار بالنار قوله عزوجل : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ).

اختلفوا فيمن يرجع الضمير إليه فقيل هو راجع إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم والمعنى لو استقام الجن على الطريقة المثلى الحسنى لأنعمنا عليهم وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وقيل معناه لو ثبت الجن الذين سمعوا القرآن. على الطريقة التي كانوا عليها قبل استماع القرآن ولم يسلموا (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي لوسعنا الرزق عليهم.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩))

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين «لأسقيناهم ماء غدقا» يعني كثيرا وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين.

والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيرا وعيشا رغدا. وإنما ذكر الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله «لنفتنهم فيه» أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه. وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم والقول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه (يَسْلُكْهُ) أي يدخله (عَذاباً صَعَداً) ، قال ابن عباس شاقا وقيل عذابا لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة.

قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة ، وذكر الله تعالى فيدخل فيه

٣٥١

مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فيها فأمر الله عزوجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها. وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير الله تعالى ، قال سعيد بن جبير «قالت الجن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد لله» وروي عنه أيضا أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره ، (م) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه» الآراب الأعضاء ، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أمرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعرا ولا ثوبا : الجبهة واليدين والركبتين والقدمين» وفي رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر» كف شعره عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة وقد نهي عن ذلك.

قوله عزوجل : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَدْعُوهُ) يعني يعبد الله ويقرأ القرآن وذلك حين كان يصلي الفجر ببطن نخلة (كادُوا) يعني الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) يعني يركب بعضهم بعضا من الازدحام عليه حرصا على استماع القرآن ، قاله ابن عباس. وعنه أيضا أنه من قول النفر من الجن الذين رجعوا إلى قومهم فأخبروهم عن طاعة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له واقتدائهم به في الصلاة. وقيل في معنى الآية لما قدم عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره ويظهر هذا الأمر وينصره على من ناوأه وعاداه. وأصل البلد الجماعة بعضهم فوق بعض.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧))

(قُلْ) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرئ على الأمر (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما أدعو ربي (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً») أي لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا وإنما الضار والنافع والمرشد والمغوي هو الله تعالى. (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي لم يمنعني منه أحد إن عصيته (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملجأ ألجأ إليه وقيل حرزا أحترز به وقيل مدخلا في الأرض مثل السرب أدخل فيه (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) أي ففيه الجوار والأمن والنجاة. وقيل معناه ذلك الذي يجبرني من عذاب الله يعني التبليغ وقيل إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه. وقيل معناه لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا عن الله عزوجل فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت ، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني ولم يؤمن (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) يعني العذاب يوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) أي عند نزول العذاب (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أهم أم المؤمنون (قُلْ إِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) يعني العذاب وقيل يوم القيامة (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ

٣٥٢

رَبِّي أَمَداً) أي أجلا وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل (عالِمُ الْغَيْبِ) أي هو عالم ما غاب عن العباد (فَلا يُظْهِرُ) أي فلا يطلع (عَلى غَيْبِهِ) أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به (أَحَداً) أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته. قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن. فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جريا على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر الله تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة ، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع الله على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله.

والذي ينبغي أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات الأولياء خلافا للمعتزلة وأنه يجوز أن يلهم الله بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك. ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب» أخرجه البخاري قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون.

ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» ، ففي هذا إثبات كرامات الأولياء ولا يقال لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي عن غيرها ولا نسد الطريق إلى معرفة الرسول من غيره فنقول الفرق بين معجزة النبي وكرامة الولي أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرون بالتحدي ، ولا يجوز للولي أن يدعي خرق العادة مع التحدي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة وقد يظهر على يد الولي أمر خارق للعادة من غير دعواه. وهذا أيضا يدل على ثبوت نبوة النبي لأن الكرامة إنما تظهر على يد من هو معتقد للرسول متابع له فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر الخارق على يد متابعه. وأما الكاهن فليس بمتبع للرسول وقد انسد باب الكهانة بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ادعى منهم اطلاعا على غيب فقد كفر بما جاء به القرآن وكذلك حكم المنجم والله تعالى أعلم ، وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي من بين يدي الرسول ومن خلفه وذكر البعض دال على جميع الجهات (رَصَداً) أي حفظه من الملائكة يحفظونه من الشيطان أن يسترق السمع من الملائكة ويحفظونه من الجن أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة فيخبروا به قبل الرسول. وقيل إن الله تعالى كان إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان عنه فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره وإن جاء ملك قالوا له هذا رسول ربك.

٣٥٣

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(لِيَعْلَمَ) أي ليعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ) أي أن جبريل قد بلغ إليه رسالات ربه وقيل معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن الله قد حفظهم ودفع عنهم. وقيل معناه ليعلم الله أن الرسل (قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فيعلم الله ذاك ظاهرا موجودا فيوجب فيه الثواب (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي علم الله ما عند الرسل فلا يخفى عليه شيء من أمورهم (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) قال ابن عباس : أحصى ما خلق وعرف ما خلق لم يفته شيء حتى مثاقيل الذر والخردل ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٣٥٤

سورة المزمل

مكية قيل غير آيتين منها وهما قوله (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وقيل غير آية وهي (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) الآية وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف.

قال المفسرون كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزمل في ثيابه أول ما جاءه جبريل فرقا منه فكان يقول زملوني زملوني حتى أنس به. وقيل خرج يوما من البيت وقد لبس ثيابه فناداه جبريل يا أيها المزمل ، وقيل معناه متزمل النبوة أي حاملها والمعنى زملت هذا الأمر فقم به واحمله فإنه أمر عظيم وإنما لم يخاطب بالنبي والرسول لأنه كان في أول الأمر ومبدئه ، ثم خوطب بالنبي والرسول بعد ذلك ، وقيل كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نام وهو متزمل في ثوبه فنودي يا أيها المزمل (قُمِ اللَّيْلَ) أي للصلاة والعبادة واهجر هذه الحالة واشتغل بالصلاة والعبودية وكان قيام الليل فريضة في ابتداء الإسلام (إِلَّا قَلِيلاً) أي صل الليل إلا قليلا تنام فيه وهو الثلث ثم بين قدر القيام فقال تعالى : (نِصْفَهُ) أي قم نصف الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي إلى الثلث.

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي على النصف إلى الثلثين خيره بين هذه المنازل فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه ، فكان يقوم الليل كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم‌الله وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قيل ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه السورة وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة. وقيل ستة عشر شهرا. وكان قيام الليل فرضا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس وثبتت فريضته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) (م) عن سعد بن هشام قال «انطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان القرآن. قلت فقيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزمل قلت بلى قالت فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة».

٣٥٥

وقوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال ابن عباس بينه بيانا وعنه أيضا «اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا» ، وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفا حرفا أثره في أثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق. وترتيلا تأكيد في الأمر به وأنه لا بد للقارئ منه ، وقيل إن الله تعالى لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن حتى يتمكن المصلي من حضور القلب والتأمل والفكر في حقائق الآيات ومعانيها فعند الوصول إلى ذكر الله تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور وجلاله وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة ، والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة.

(فصل)

(خ) عن قتادة قال «سئل أنس كيف كانت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم يمد بسم الله ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم» عن أم سلمة رضي الله عنها وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلاته فقالت «ما لكم وصلاته ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا» ، أخرجه النسائي وللترمذي قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف الرّحمن الرّحيم ، ثم يقف وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف» وفي رواية أبي داود قالت «قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته آية آية» (ق) عن عبد الله بن مغفل قال «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته» ، (ق) عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال «جاء رجل إلى ابن مسعود قال إني لأقرأ المفصل في ركعة قال عبد الله هذّا كهذّ الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع ، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة» وفي رواية «فذكر عشرين سورة من المفصل» الهذ سرعة القطع والمراد به هنا سرعة القراءة والعجلة فيها ، وقوله لا يجاوز تراقيهم التراقي جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وعند مخرج الصوت ، والنظائر جمع نظير وهو الشبه والمثل. عن عائشة رضي الله عنها قالت «قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآية من القرآن» ، أخرجه الترمذي وللنسائي عن أبي ذر نحوه وزاد «والآية إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» عن سهل بن سعد قال «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقرأ فقال : الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرءوا القرآن قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقال السهل يتعجل لقراءته ولا يتأجله» أخرجه أبو داود وزاد غيره في رواية «لا يجاوز تراقيهم» عن جابر رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال : اقرءوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقومونه كما يقوم القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» أخرجه أبو داود عن ابن مسعود قال «لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» قوله تعالى :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦))

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) قال ابن عباس شديدا. وقيل ثقيلا يعني كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق ، وقيل سماه ثقيلا لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس وقيل ثقيلا لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام. وقيل ثقيلا على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم ، وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة. وقيل ثقيلا أي ليس

٣٥٦

بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان. وقيل سماه ثقيلا لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. وقيل ثقيلا في الوحي وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة» ، (ق) عن عائشة رضي الله عنها «أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل إلي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» (م) عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه» وفي رواية «كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه» قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقا أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد ، وقوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة ، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم. وقيل هي قيام آخر الليل وقيل أوله ، وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ. روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل ، وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل ، وقيل ناشئة الليل قيامه وقيل ناشئة الليل وطاؤه (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار. وقرئ وطأ بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد على المصلي وأثقل. من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشد وأثقل وقال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وقيل أثبت للخير وأحفظ للقراءة من النهار وقيل هي أوطأ للقيام وأسهل على المصلي من ساعات النهار لأنه خلق لتصرف العباد والليل والخلوة برب العباد ولأن الليل أفرغ للقلب من النهار ولا يعرض له في الليل حوائج وموانع مثل النهار وأمنع من الشيطان وأبعد من الرياء وهو قوله تعالى : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أصوب قراءة وأصح قولا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات وقيل معناه أبين قولا بالقرآن.

والحاصل أن عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأبعد عن الرياء وأكثر بركة وأبلغ في الثواب وأدخل في القبول.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك واشتغالك. وقيل فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصا وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعا والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه. وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله. وقيل معناه وتوكل عليه توكلا واجتهد في العبادة وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة الله وطاعته.

٣٥٧

فإن قلت كيف قال تبتيلا مكان تبتلا ولم يجيء على مصدره؟

قلت جاء تبتيلا على بتل نفسك إليه تبتيلا فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلا فهو كقوله والله أنبتكم من الأرض نباتا ، وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل. وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلا وتبتلت تبتيلا فتبتيلا محمول على معنى بتل إليه تبتيلا وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله تعالى لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولا التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا لله تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه. وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلا بما وعدك من النصر على الأعداء (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي من التكذيب لك والأذى (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي واعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه (أُولِي النَّعْمَةِ) أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل نزلت في المطعمين ببدر (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر. وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم فقال تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا) أي عندنا في الآخرة (أَنْكالاً) يعني قيودا عظاما ثقالا لا تنفك أبدا وقيل أغلالا من حديد (وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع (وَعَذاباً أَلِيماً) أي وجيعا (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) يعني رملا سائلا وهو الذي إذا أخذت منه شيئا يتبعك ما بعده (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) يعني يا أهل مكة (رَسُولاً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ) أي فرعون (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة ، خوّف بذلك كفار مكة ثم خوّفهم يوم القيامة فقال تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا ، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة ، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم ، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) يعني شيوخا شمطا من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم ، فابعث بعث النار من ذريتك. (ق) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله عزوجل يوم القيامة : يا آدم فيقول لبيك وسعديك» زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب ، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد

٣٥٨

وترى النّاس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا : يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد ثم قال : أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض ، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود ، وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا» أما ما يتعلق بمعنى الحديث فقوله أن تخرج من ذريتك بعث النار فمعناه ميز أهل الجنة من أهل النار ، وأما الرقمة بفتح الراء وإسكان القاف فهي الأثرة في باطن عضد الحمار. وقوله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة وثلث أهل الجنة ، وشطر أهل الجنة فيه البشارة العظيمة لهذه الأمة وجعلهم ربع أهل الجنة أولا ثم الثلث ثم الشّطر لفائدة حسنة ، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم ، وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد مرة دليل على الاعتناء به ، ودوام ملاحظته وفيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى ، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر الله وحمده على إنعامه عليهم ، وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة ، وسرورهم بها ، وأما ما. يتعلق بمعنى الآية الكريمة ، والحديث في قوله تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويشيب الوليد» ففيه وجهان : الأول عند زلزلة السّاعة قبل خروجهم من الدّنيا ، فعلى هذا هو على ظاهره الثاني أنه في القيامة ، فعلى هذا يكون ذكر الشّيب مجازا ، لأن القيامة ليس فيها شيب ، وإنما هو مثل في شدة الأمر ، وهوله يقال في اليوم الشّديد يوم تشيب فيه نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تعاقب على الإنسان أسرع فيه الشيب. قال المتنبي :

والهم يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم

فلما كان الشّيب من لوازم كثرة الهموم والأحزان جعلوه كناية عن الشّدة والهول ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن الطفل لا تمييز له ، وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون سن الشّيخوخة والشّيب. (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) وصف اليوم بالشّدة أيضا وأن السّماء مع عظمها تنفطر به ، وتتشقق فما ظنك بغيرها من الخلائق ، وقيل تتشقق لنزول الملائكة ، وقيل به أي بذلك المكان ، وقيل الهاء ترجع إلى الرّب سبحانه وتعالى أي بأمره وهيبته. (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كائنا لا محالة فيه ، ولا خلف (إِنَّ هذِهِ) أي آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) أي مواعظ يتذكر بها (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) بالإيمان والطاعة. قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) أي أقل من ثلثي الليل (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) أي تقوم نصفه وثلثه (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) يعني المؤمنين ، وكانوا يقومون معه الليل (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو الله تعالى. لا يفوته علم ما يفعلون ، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه. (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة. قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه ، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر الله به من القيام فقال تعالى : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة ذلك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي فعاد عليكم بالعفو

٣٥٩

والتخفيف ، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فيه قولان :

أحدهما : أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة ، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء ، قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد ، وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية ، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن الله تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه ، وقيل نسخ ذلك التّهجد ، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضا بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).

القول الثاني : أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته ، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان ، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها ، وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من قرأ خمسين آية في يوم أو ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية ، لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر». وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال : في رواية «من قرأ أربعين آية بدل خمسين وفي رواية عشرين» وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول الله ، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال : قلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» ثم ذكر الله حكمة النّسخ والتّخفيف. فقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) يعني أن المريض يضعف عن التّهجد باللّيل فخفف الله عزوجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يعني المسافرين للتجارة (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي يطلبون من رزق الله وهو الربح في التجارة (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني الغزاة والمجاهدين ، وذلك لأن المجاهد والمسافر مشتغل في النهار بالأعمال الشّاقة ، فلو لم ينم بالليل لتوالت عليه أسباب المشقة ، فخفف الله عنهم لذلك. روي عن ابن مسعود : قال «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشّهداء ثم قرأ عبد الله : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله» (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن وإنما أعاده للتأكيد (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي الواجبة. (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال ابن عباس : يريد سوى الزكاة من صلة الرحم وقرى الضيف ، وقيل يريد سائر الصّدقات ، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب ، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء ومراعاة النيّة والإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى بما يخرج والصرف إلى المستحق. (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي ثوابه وأجره (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه وروى البغوي بسنده عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله قال ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا كيف يا رسول الله؟ قال : إنما قال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي لذنوبكم وتقصيركم في قيام الليل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لجميع الذنوب ، والله تعالى أعلم.

٣٦٠