تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

سورة المدثر

وهي مكية وقيل غير آية من آخرها وهي ست وخمسون آية ومائتان وخمس وخمسون كلمة وألف حرف وعشرة أحرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (ق) عن يحيى بن كثير قال «سألت أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن أول ما نزل من القرآن قال يا أيها المدثر قلت يقولون اقرأ باسم ربك قال أبو سلمة سألت جابرا عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت فقال لي جابر لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا.

فأتيت خديجة فقلت دثروني فدثروني» وصبوا علي ماء باردا فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي ـ وذكر نحوه ـ فإذا هو قاعد على عرش في الهواء ـ يعني جبريل ـ فأخذتني رجفة شديدة» (ق) عن جابر رضي الله عنه من رواية الزهري «عن أبي سلمة عنه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال لي في حديثه : فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا فقلت زملوني زملوني فدثروني فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إلى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وفي رواية «فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره وفيه قال أبو سلمة الرّجز الأوثان قال ثم حمى الوحي بعد وتتابع.

فإن قلت دل هذا الحديث على أن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن ، ويعارضه حديث عائشة رضي الله عنها المخرج في الصحيحين أيضا في بدء الوحي ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، حتى بلغ ـ (ما لَمْ يَعْلَمْ) ـ فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده» الحديث.

قلت الصّواب الذي عليه جمهور العلماء أن أول ما نزل من القرآن على الإطلاق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، كما صرح به في حديث عائشة ، وقول من قال إن سورة المدثر أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ضعيف لا يعتد به ، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزّهري عن أبي سلمة عن جابر ، ويدل عليه أيضا قوله في الحديث وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال وأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ويدل

٣٦١

عليه أيضا قوله «فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال وأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر» وأيضا قوله «ثم حمي الوحي بعد وتتابع» فالصواب إن أول ما نزل من القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وإن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر فحصل بهذا الذي بيناه الجمع بين الحديثين ، والله أعلم قوله «فإذا هو قاعد على عرش بين السّماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه وقوله يحدث عن فترة الوحي ، أي عن احتباسه وعدم تتابعه ، وتواليه في النزول قوله «فجئثت منه» روى بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضّمير وروى بثاءين مثلثتين بعد الجيم ، ومعناه فرعبت منه وفزعت. وقوله «وحمي الوحي بعد وتتابع» أي كثر نزوله ، وازداد بعد فترته من قولهم حميت الشّمس والنّار إذا ازداد حرهما ، وقوله وصبوا علي ماء فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصب عليه ماء حتى يسكن فزعه والله أعلم.

وأما التّفسير فقوله عزوجل : يا أيها المدثر أصله المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها ، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما سماه مدثرا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دثروني ، وقيل معناه يا أيّها المدثر بدثار النّبوة والرّسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى ، فجعل النّبوة كالدثار واللباس ، مجازا (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي حذرهم من عذاب ربك إن لم يؤمنوا والمعنى قم من مضجعك ودثارك ، وقيل قم قيام عز واشتغل بالإنذار الذي تحملته (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فيه أربعة أوجه : أحدها أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على الحقيقة ، والثاني أن ينزل لفظ الثياب على الحقيقة والتطهير على المجاز والثالث أن ينزل لفظ الثّياب على المجاز ، والتّطهير على الحقيقة والرابع أن ينزل لفظ الثّياب والتّطهير على المجاز.

أما الوجه الأول : فمعناه وثيابك فطهر من النّجاسات والمستقذرات ، وذلك أن المشركين لم يكونوا يحترزون عنها فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصون ثيابه من النجاسات ، وغيرها خلافا للمشركين.

الوجه الثاني : معناه وثيابك فقصر وذلك لأن المشركين كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم على النّجاسات وفي الثّوب الطّويل من الخيلاء والكبر والفخر ما ليس في الثوب القصير فنهى عن تطويل الثوب وأمر بتقصيره لذلك ، وقيل معناه وثيابك فطهر عن أن تكون مغصوبة أو محرمة بل تكون من وجه حلال وكسب طيب.

الوجه الثالث : معناه حمل الثوب على النفس قال عنترة :

وشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

يريد نفسه والمعنى ونفسك فطهر عن الذّنوب والرّيب وغيرهم وكنى بالثياب عن الجسد لأنها تشتمل عليه.

الوجه الرابع : وهو حمل الثّياب والتّطهير على المجاز ، فقيل معناه وقلبك فطهر عن الصّفات المذمومة ، وقيل معناه وخلقك فحسن وسئل ابن عباس عن قوله ، وثيابك فطهر فقال : لا تلبسها على معصية ولا غدر أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :

وإني بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنع

والعرب تقول في وصف الرّجل بالصّدق والوفاء هو طاهر الثّياب ، وتقول لمن غدر إنه لدنس الثّوب ، والسّبب في ذلك أن الثوب كالشّيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوه كناية عن الإنسان كما يقال الكرم في ثوبه والعفة في إزاره ، وقيل إن من طهر باطنه طهر ظاهره.

وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) يعني أترك الأوثان ولا تقربها وقال ابن عباس : اترك المآثم ، وقيل الشّرك والمعنى اترك كل ما أجب لك العذاب من الأعمال والأقوال.

٣٦٢

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤))

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يعني لا تعط مالك مصانعة لتعطي أكثر منه هذا قول أكثر المفسرين وهذا النهي مختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما نهي عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة لأن من أعطى شيئا لغيره يطلب منه الزيادة عليه لا بد وأن يتواضع لذلك الذي أعطاه ، ومنصب النّبوة بحل عن ذلك وهذا غير موجود في حق الأمة ، فيجوز لغيره من الأمة ذلك كما قيل هما رباءان حلال وحرام فالحلال الهدية يهديها الرجل لغيره ليعطيه أكثر منها وأما الحرام فالربا المحرم بنص الشرع ، وقيل معناه لا تعط شيئا لمجازاة الدنيا أعط لله وأراد به وجه الله. وقيل معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره ، ولا يكثرن عملك في عينك فإنه مما أنعم الله به عليك وأعطاك. وقيل معناه لا تمنن على أصحابك بما تعلمهم من أمر الدين وتبلغهم من أمر الوحي كالمستكثر بذلك عليهم ، وقيل لا تمنن عليهم بنبوتك فتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به ، وقيل معناه لا تمنن لا تضعف عن الخير تستكثر منه ، وقيل معناه لا تمنن على النّاس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية ، فإن المن يحبط العمل (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله تعالى ؛ وقيل معناه فاصبر لله على ما أوذيت فيه ، وقيل معناه إنك حملت أمرا عظيما فيه محاربة العرب والعجم ، فاصبر على ذلك لله عزوجل ، وقيل معناه فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) أي نفخ في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وهي النّفخة الأولى ، وقيل الثانية وهو الأصح (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم النفخة وهو يوم القيامة (يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي شديد (عَلَى الْكافِرِينَ) يعني يعسر عليهم في ذلك اليوم الأمر ، فيعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم (غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير هين.

فإن قلت ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه.

قلت : فائدة التكرار التّأكيد كقوله : أنا محب لك غير مبغض ، وقيل لما كان على الكافرين غير يسير دل على أنه يهون على المؤمنين بخلاف الكفار فإنه عليهم عسير لا يسر فيه ليزداد غيظ الكافرين وبشارة المؤمنين قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ، وقيل معناه خلقته وحدي لم يشاركني في خلقه أحد ، والمعنى ذرني وإيّاه ، فأنا أكفيكه نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى الوحيد في قومه. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي كثير يمد بعضه بعضا دائما غير منقطع ، وقيل ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه ، فقيل كان ألف دينار وقيل أربعة آلاف درهم ، وقيل ألف ألف وقال ابن عباس : تسعة آلاف مثقال فضة وعنه كان له بين مكة والطّائف إبل وخيل ونعم ، وكان له غنم كثيرة وعبيد وجوار : وقيل كان له بستان بالطّائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا ، وقيل كان له غلة شهر بشهر ، (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي حضورا بمكة لا يغيبون عنه لأنهم كانوا أغنياء غير محتاجين إلى الغيبة لطلب الكسب ، وقيل معنى شهودا أي رجالا يشهدون معه المحافل والمجامع ، قيل كانوا عشرة وقيل سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة نفر خالد وهشام وعمارة (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطا مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان الوليد من أكابر قريش وكان يدعى ريحانة قريش.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨))

٣٦٣

(ثُمَّ يَطْمَعُ) أي يرجو (أَنْ أَزِيدَ) أي أزيده مالا وولدا وتمهيدا (كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيده قالوا فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله وولده حتى هلك (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي معاندا والمعنى أنه كان معاندا في جميع دلائل التوحيد والقدرة والبعث والنبوة منكرا للكل ، وقيل كان كفره كفر عناد وهو أنه كان يعرف هذا بقلبه وينكره بلسانه وهو أقبح الكفر وأفحشه (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) يعني سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصعود عقبة في النار يتصعد فيها الكافر سبعين خريفا ثم يهوي فيها سبعين خريفا فهو كذلك أبدا» أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله سأرهقه صعودا. قال هو جبل من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وقال الكلبي : الصعود صخرة ملساء في النّار يكلف الكافر أن يصعدها لا يترك يتنفس في صعوده يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد فيصعدها في أربعين عاما ، فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه ، ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدا قوله عزوجل (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي فكر في الأمر الذي يريده ونظر فيه وتدبره ورتب في قلبه كلاما ، وهيأه لذلك لأمر وهو المراد بقوله (وَقَدَّرَ) أي وقدر ذلك الكلام في قلبه وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) إلى قوله (الْمَصِيرُ) قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد يصلي والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاستماعه أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلي ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش صبأ والله الوليد ولتصبون قريش كلهم فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا فقال له الوليد ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ فقال وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم. فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا اللهم لا ، قال تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا قال تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ، قالوا اللهم لا وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه ، فقالت قريش للوليد فما هو فتفكر في نفسه ، ثم قال ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل ، وأهله ، وولده ، ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر. فذلك قوله عزوجل : (إِنَّهُ فَكَّرَ) أي في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وقدر في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن.

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣)) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩))

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي عذب ، وقيل لعن كيف قدر وهو على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) كرره للتأكيد ، وقيل معناه لعن على أي حال قدر من الكلام (ثُمَّ نَظَرَ) أي في طلب ما يدفع به القرآن ويرده (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) أي كلح وقطب وجهه كالمهتم المتفكر في شيء يدبره (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي عن الإيمان (وَاسْتَكْبَرَ) أي حين دعى إليه (فَقالَ إِنْ هذا) الذي يقوله محمد ويقرؤه (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يروى ويحكى عن السحرة (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما الله قال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ) أي سأدخله

٣٦٤

(سَقَرَ) هو اسم من أسماء جهنّم وقيل آخر دركاتها (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي وما أعلمك أي شيء هي سقر ، وإنما ذكره على سبيل التّهويل والتّعظيم لأمرها (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) قيل هما بمعنى كما تقول صد عني وأعرض عني وقيل لا بد من الفرق وإلا لزم التكرار فقيل معناه لا تبقى أحدا من المستحقين للعذاب إلا أخذته ، ثم لا تذر من لحوم أولئك شيئا إلا أكلته وأهلكته ، وقيل لا يموت فيها ولا يحيا أي لا تبقى من فيها حيا ولا تذر من فيها ميتا كلما احترقوا جددوا وأعيدوا ، وقيل لا تبقى لهم لحما ولا تذر منهم عظما ، وقيل لكل شيء ملال وفترة إلا جهنم ليس لها ملال ولا فترة فهي لا تبقى عليهم ولا تذرهم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) جمع بشرة أي مغيرة للجلد حتى تجعله أسود قال مجاهد : تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادا من اللّيل وقال ابن عباس : محرقة للجلد ، وقيل تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢))

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر جاء في الأثر «إن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصّياصي يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة قد نزعت منهم الرّحمة يدفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم» وقال عمرو بن دينار : إن أحدهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر وقال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية. قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع من ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم يعني الشجعان أفيعجز كل عشر منكم أن تبطش بواحد منهم يعني خزنة جهنم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي أنا أكفيكم منهم سبعة عشر عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، واكفوني أنتم اثنين ويروى عنه أنه قال أنا أمشي بين أيديكم على الصّراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) يعني لا رجالا آدميين فمن ذا يغلب الملائكة وإنما جعلهم ملائكة ليكونوا من غير جنس المعذبين وأشد منهم لأن الجنسية مظنة الرّأفة والرّحمة (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) أي عددهم في القلة (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ، وقيل فتنتهم هي قولهم لم لم يكونوا عشرين ، وما الحكمة في تخصيص هذا العدد وقيل فتنتهم هي قولهم كيف يقدر هذا العدد ، القليل على تعذيب جميع من في النار.

وأجيب عن قولهم لم لم يكونوا عشرين بأن أفعال الله تعالى لا تعلل ولا يقال فيها لم ، وتخصيص الزبانية بهذا العدد لأمر اقتضته الحكمة ، وقيل وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر أن هذا العدد يجمع أكثر القليل ، وأقل الكثير ، ووجه ذلك أن الآحاد أقل الأعداد وأكثرها تسعة ، وأقل الكثير عشرة فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير وأكثر القليل لهذه الحكمة ، وما سوى ذلك من الأعداد فكثير لا يدخل تحت الحصر.

وأجيب عن قولهم كيف يقدر هذا العدد القليل على تعذيب جميع أهل النّار ، وذلك بأن الله جلّ جلاله يعطي هذا القليل من القوة والقدرة ما يقدرون به على ذلك ، فمن اعترف بكمال قدرة الله ، وأنه على كل شيء قدير وأن أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذا الاستبعاد بالكلية. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني أن هذا العدد مكتوب في التّوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن العدد كان موجودا في كتابهم وأخبر به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٦٥

على وفق ما عندهم من غير سابقة دراسة ، وتعلم علم إنما حصل له ذلك بالوحي السّماوي ، فازدادوا بذلك إيمانا وتصديقا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا يَرْتابَ) أي ولا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني في عددهم وإنما قال ولا يرتاب وإن كان الاستيقان يدل على نفي الارتياب ليجمع لهم بين إثبات اليقين ونفي الشّك ، وذلك أبلغ وآكد لأن فيه تعريضا بحال غيرهم كأنه قال : وليخالف حالهم حال الناس المرتابين من أهل الكفر ، والنفاق (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق (وَالْكافِرُونَ) أي مشركو مكة.

فإن قلت لم يكن بمكة نفاق فكيف قال ، وليقول الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون وهذه السورة مكية.

قلت لأنه كان في علم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبره عما سيكون وهو كسائر الإخبار بالغيوب فعلى هذا تصير الآية معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه إخبار عن غيب سيقع وقد وقع على وفق الخبر ، وقيل يحتمل أن يراد بالّذين في قلوبهم مرض أهل مكة لأن فيهم من هو شاك وفيهم من هو قاطع بالكذب (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يعني أي شيء أراد الله بهذا المثل العجيب ، وإنما سموه مثلا لأنه استعارة من المثل المضروب لأنه مما غرب من الكلام وبدع استغرابا منهم لهذا العقد واستبعادا له ، والمعنى أيّ غرض قصد في جعل الملائكة تسعة عشرة لا عشرين ومرادهم بذلك إنكار هذا من أصله وإنه ليس من عند الله فلهذا سموه مثلا (كَذلِكَ) أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق به كذلك (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لأن الله تعالى بيده الهداية والإضلال (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) هذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ، والمعنى أن الخزنة تسعة عشر ، ولهم أعوان وجنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خلقوا لتعذيب أهل النار وقيل كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية فكذلك جنوده غير متناهية ، (وَما هِيَ) يعني النار (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي إلا تذكرة وموعظة للناس ، وقيل ما هي يعني آيات القرآن ومواعظه إلا تذكرة للناس يتعظون بها (كَلَّا) أي لا يتعظون ولا يتذكرون ، وقيل معناه ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه خزنة النار وقيل كلا هنا بمعنى حقا (وَالْقَمَرِ).

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١))

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أي ولى ذاهبا ، وقيل دبر بمعنى أقبل تقول العرب دبرني فلان أي جاء خلفي فاللّيل يأتي خلف النهار (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أضاء وتبين وهذا قسم وجوابه (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) يعني إن سقر لإحدى الأمور العظام ، وقيل أراد بالكبر دركات النار وهي سبعة جهنم ولظى والحطمة والسّعير وسقر والجحيم والهاوية (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) قيل يحتمل أن يكون نذيرا صفة للنار ، والمعنى أن النّار نذير للبشر قال الحسن : والله ما أنذر بشيء أدهى من النار ، وقيل يجوز أن يكون نذيرا صفة لله تعالى ، والمعنى أنا لكم منها نذير فاتقوها وقيل هو صفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر فأنذر (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي يتقدم في الخير والطّاعة أو يتأخر عنهما فيقع في الشر والمعصية ، والمعنى أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر ، وقد تمسك بهذه الآية من يرى أن العبد غير مجبور على الفعل وأنه متمكن من فعل نفسه.

وأجيب عنه بأن مشيئته تابعة لمشيئة الله تعالى ؛ وقيل إضافة المشيئة إلى المخاطبين على سبيل التهديد كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وقيل هذه المشيئة لله تعالى ، والمعنى لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي مرتهنة في النّار بكسبها ومأخوذة بعملها (إِلَّا أَصْحابَ

٣٦٦

الْيَمِينِ) فإنهم غير مرتهنين بذنوبهم في النار ، ولكن الله يغفرها لهم ، وقيل معناه فكوا رقاب أنفسهم بأعمالهم الحسنة كما يفك الراهن رهنه بأداء الحق الذي عليه.

واختلفوا في أصحاب اليمين من هم فقيل هم المؤمنون المخلصون ، وقيل هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم ، وقيل هم الذين كانوا على يمين آدم يوم أخذ الميثاق وحين قال الله تعالى لهم : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم ، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين وهو أشبه بالصواب لأن الأطفال لم يكتسبوا إثما يرتهنون به وعن ابن عباس قال هم الملائكة (فِي جَنَّاتٍ) أي هم في بساتين (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يتساءلون المجرمين وعن صلة فيقولون لهم.

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١))

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) قيل وهذا يقوي قول من قال إن أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لم يعرفوا الذنوب التي توجب النّار ، وقيل معناه يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين ، فعلى هذا التفسير يكون معنى ما سلككم ، أيّ يقول المسؤولون للسّائلين قلنا للمجرمين ما سلككم ، أي أدخلكم وقيل ما حبسكم في سقر ، وهذا سؤال توبيخ وتقريع (قالُوا) مجيبين لهم (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لله في الدّنيا (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي لم نتصدق عليه (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي في الباطل (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم الجزاء على الأعمال وهو يوم القيامة (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) يعني الموت قال الله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) قال ابن مسعود : تشفع الملائكة والنّبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) الآية ، وقال عمران بن حصين : الشّفاعة نافعة لكل أحد دون هؤلاء الذين تسمعون. روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يصف أهل النار فيعذبون قال فيمر بهم الرجل من أهل الجنة ، فيقول للرجل منهم يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا قال ؛ فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه قال ، ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان فيقول ما تريد فيقول أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا ، فيقول وإنك لأنت هو فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه» (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أيّ عن مواعظ القرآن (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) جمع حمار (مُسْتَنْفِرَةٌ) قرئ بالكسر أي نافرة وقرئ بالفتح أي منفرة مذعورة محمولة على النفار (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قيل القسورة جماعة الرّماة لا واحد له من لفظه ، وهي رواية عن ابن عباس وعنه أنها القناص وعنه قال : هي حبال الصيادين ، وقيل معناه فرت من رجال أقوياء وكل ضخم شديد عند العرب قسورة وقسور وقيل القسورة لغط القوم وأصواتهم وقيل القسورة شدة سواد ظلمة اللّيل وقال أبو هريرة : هي الأسد وذلك لأن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ القرآن هربوا منه شبههم بالحمر في البلادة والبله ، وذلك أنه لا يرى مثل نفار حمر الوحش إذا خافت من شيء.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) قال المفسرون إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٦٧

ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسوله نؤمر فيه باتباعك ، وقيل إن المشركين قالوا يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح ، وعند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك (كَلَّا) أي لا يؤتون الصحف وهو ردع لهم عن هذه الاقتراحات (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي لا يخافون عذاب الآخرة والمعنى أنهم لو خافوا النّار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة ، لأنه لما حصلت المعجزات الكثيرة كفت في الدّلالة على صحة النّبوة فطلب الزّيادة يكون من باب التعنت (كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) يعني إنه عظة عظيمة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي اتعظ به فإنما يعود نفع ذلك عليه (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا به ويطيعوه ، وهو حقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم وذنوبهم وقيل هو أهل أن تتقى محارمه ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية : هو أهل التّقوى وأهل المغفرة قال الله تبارك ، وتعالى أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له أخرجه التّرمذي ، وقال حديث غريب وفي إسناده سهيل بن عبد الله القطيعي وليس بالقوي في الحديث وقد تفرد به عن ثابت ، والله تعالى أعلم بمراده.

٣٦٨

سورة القيامة

مكية وهي أربعون آية ومائة وتسع وتسعون كلمة وستمائة واثنان وخمسون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣))

قوله عزوجل : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) اتفقوا على أن المعنى أقسم ، واختلفوا في لفظ لا فقيل إدخال لفظة لا على القسم مستفيض في كلام العرب وأشعارهم ، قال امرؤ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم أني أفر

قالوا : وفائدتها تأكيد القسم كقولك لا والله ما ذاك كما تقول تريد والله فيجوز حذفها. لكنه أبلغ في الرّد مع إثباتها ، وقيل إنها صلة كقول الله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) وفيه ضعف لأنها لا تزاد إلا في وسط الكلام لا في أوله.

وأجيب عنه بأن القرآن في حكم السّورة الواحدة بعضه متصل ببعض يدل عليه أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ، ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وجوابه في سورة (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وإذا كان كذلك كان أول هذه السورة جاريا مجرى الوسط وفيه ضعف أيضا لأن القرآن في حكم السّورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها فذلك غير جائز ، وقيل لا رد لكلام المشركين المنكرين للبعث أي ليس الأمر كما زعموا ، ثم ابتدأ فقال أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللّوامة ، وقيل الوجه فيه أن يقال إن لا هي للنفي ، والمعنى في ذلك كأنه قال لا أقسم بذلك اليوم ولا بتلك النّفس إلا إعظاما لهما فيكون الغرض تعظيم المقسم به وتفخيم شأنه ، وقيل معناه لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإنه إثباته أظهر من أن يقسم عليه. وروى البغوي في تفسير القيامة عن المغيرة بن شعبة قال : يقولون القيامة وقيامة أحدهم موته وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال أما هذا فقد قامت قيامته وفيه ضعف لاتفاق المفسرين على أن المراد به القيامة الكبرى لسياق الآيات في ذلك. وقوله (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قيل هي التي تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء ، وقيل اللوامة هي التي تندم على ما فات فتقول لو فعلت ولو لم تفعل وقيل ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا تقول هلا ازددت وإن عملت شرا تقول يا ليتني لم أفعل وقال الحسن : هي نفس المؤمن إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ، وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ، ولا يعاتبها ، وقيل هي النّفس الشّريفة التي تلوم النّفوس العاصية يوم القيامة بسبب ترك التّقوى ، وقيل هي النّفس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة وقيل هي النّفس الشّقية العاصية يوم القيامة بسبب ترك التقوى ، وقيل هي النفس الشقية تلوم نفسها

٣٦٩

حين تعاين أهوال يوم القيامة فتقول «يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله» فإن قلت أيّ مناسبة بين يوم القيامة ، وبين النّفس اللّوامة حتى جمع بينهما في القسم.

قلت وجه المناسبة أن في يوم القيامة تظهر أحوال النفوس اللّوامة من الشقاوة أو السعادة فلهذا حسن الجمع بينهما في القسم وقيل إنما وقع القسم بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبدا تستحقر فعلها واجتهادها في طاعة الله تعالى ؛ وقيل إنه تعالى أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنّفس اللّوامة فكأنه قال أقسم بيوم القيامة تعظيما لها ولا أقسم بالنفس اللوامة تحقيرا لها لأن النّفس الكافرة أو الفاجرة لا يقسم بها ، فإن قلت المقسم به هو يوم القيامة ، والمقسم عليه هو يوم القيامة ، فيصير حاصله أنه أقسم بيوم القيامة على وقوع القيامة وفيه إشكال.

قلت إن المحققين قالوا : القسم بهذه الأشياء قسم بربها في الحقيقة ، فكأنه قال أقسم برب القيامة ، وقيل لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن ثم لتحاسبن يدل عليه قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وقيل جواب القسم قوله :

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥))

(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ومعنى أيحسب الإنسان أيظن هذا الكافر أن العظام بعد تفرقها ورجوعها رميما ، ورفاتا مختلطة بالتراب وبعد ما نسفتها الريح فطيرتها في أباعد الأرض أن لن نجمع عظامه ، أي لا يمكننا جمعها مرة أخرى وكيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد ، وما علم أن القادر على الإبداء قادر على الإعادة نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة وهو ختن الأخنس بن شريق الثقفي وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول اللهم اكفني جاري السوء يعني عديّا والأخنس وذلك أن عديّا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا محمد حدثني متى تكون القيامة وكيف أمرها وحالها فأخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عدي بن ربيعة لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ، ولم أؤمن بك أو يجمع الله العظام فأنزل الله عزوجل. أيحسب الإنسان يعني هذا الكافر أن لن نجمع عظامه يعني بعد التفرق والبلاء فنحييه ما كان أول مرة ، وقيل ذكر العظام وأراد بها نفسه جميعها لأن العظام قالب النّفوس ، ولا يستوي الخلق إلا باستوائها ، وقيل إنما خرج على وفق قول هذا المنكر ، أو يجمع الله العظام بلى قادرين يعني على جمع عظامه ، وتأليفها وإعادتها إلى التركيب الأول والحالة ، والهيئة الأولى وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن نسوي بنانه يعني أنامله فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، فلا يقدر أن يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرهما ، وقيل معناه أظن الكافر أن لن نقدر على عظامه بلى نقدر على جمع عظامه حتى نعيد السّلاميات على صغرها إلى أماكنها ، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان فمن يقدر على جمع العظام الصغار ، فهو على جمع كبارها أقدر وهذا القول أقرب إلى الصواب ، وقيل إنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم به الخلق.

قوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ما عاش لا ينزع عن المعاصي ولا يتوب وقال سعيد بن جبير يقدم الذّنب ويؤخر التوبة ، ويقول سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت وهو على سوء حاله وشر أعماله ، وقيل هو طول الأمل يقول أعيش فأصيب من الدّنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت وقال ابن عباس : يكذب بما أمامه من البعث والحساب ، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجرا لميله عن الحق.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ

٣٧٠

أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣))

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أيّ متى يكون يوم القيامة والمعنى أن الكافر يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام السّاعة قال الله تعالى : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي شخص البصر عند الموت فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا ، وقيل تبرق أبصار الكفار عند رؤية جهنم ، وقيل برق إذا فزع وتحير لما يرى من العجائب ، وقيل برق أي شق عينه وفتحها من البريق وهو التلألؤ (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي أظلم وذهب ضوءه ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يعني أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران ، وقيل يجمع بينهما في ذهاب الضّوء ، وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر فهناك نار الله الكبرى (يَقُولُ الْإِنْسانُ) يعني الكافر المكذب (يَوْمَئِذٍ) أي القيامة (أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي المهرب وهو موضع الفرار (كَلَّا) أي لا ملجأ لهم يهربون إليه وهو قوله (لا وَزَرَ) أي لا حرز ولا ملجأ ولا جبل ، وكانوا إذا فزعوا لجئوا إلى الجبل فتحصنوا به ، فقيل لهم لا جبل لكم يومئذ تتحصنون به وأصل الوزر الجبل المنيع ، وكل ما التجأت إليه وتحصنت به فهو وزر ومنه قول كعب بن مالك.

الناس آلت علينا فيك ليس لنا

إلا السيوف وأطراف القنا وزر

ومعنى الآية أنه لا شيء يعصمهم من أمر الله تعالى لا حصن ولا جبل يوم القيامة يستندون إليه من النار (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) يعني مستقر الخلق وقال عبد الله بن مسعود : إليه المصير والمرجع وهو بمعنى الاستقرار ، وقيل إلى ربك مستقرهم أي موضع قرارهم من جنة أو نار ، وذلك مفوض إلى مشيئته فمن شاء أدخله الجنة برحمته ومن شاء أدخله النار بعدله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) قال ابن مسعود وابن عباس : بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيئ وما أخر بعد موته من سنة حسنة ، أو سيئة يعمل بها ، وعن ابن عباس أيضا بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة ، وقيل بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه ، وقيل بأول عمله وآخره وهو ما عمله في أول عمره وفي آخره ، وقيل بما قدم من ماله لنفسه قبل موته وما أخر من ماله لورثته.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله وهي سمعه وبصره وجوارحه ، وإنما دخلت الهاء في البصيرة لأن المراد من الإنسان جوارحه ، وقيل معناه بل الإنسان على نفسه عين بصيرة وفي رواية عن ابن عباس بل الإنسان على نفسه شاهد فتكون الهاء للمبالغة كعلامة (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) يعني ولو اعتذر بكل عذر وجادل عن نفسه ، فإنه لا ينفعه لأنه قد شهد عليه شاهد من نفسه ، وقيل معناه ولو اعتذر فعليه من نفسه ما يكذب عذره ، وقيل إن أهل اليمن يسمون السّتر معذارا وجمعه معاذير ، فعلى هذا يكون معناه ولو أرخى السّتور وأغلق الأبواب ليخفي ما يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه ، وهذا في حق الكافر لأنه ينكر يوم القيامة فتشهد عليه جوارحه بما عمل في الدنيا.

قوله عزوجل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التّنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه قال ابن جبير : قال ابن عباس أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحركها فحرك شفتيه فأنزل الله عزوجل (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. قال فاستمع وأنصت

٣٧١

ثم إن علينا أن تقرأه ، قال فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قرأه ، وفي رواية كما وعده الله تعالى لفظ الحميدي ، ورواه البغوي من طريق البخاري وقال فيه : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي ، كان مما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه فأنزل الله عزوجل الآية ، التي في لا أقسم بيوم القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، قال إن علينا أن نجمعه في صدرك ، وتقرأه فإذا قرأناه ، فاتبع قرآنه ، فإذا أنزلناه فاستمع ثم إن علينا بيانه علينا أن نبينه بلسانك. قال فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى ؛ وفي رواية كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه يخشى أن ينفك منه فقيل له لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، أيّ نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه ، ومعنى الآية لا تحرك بالقرآن لسانك ، وإنما جاز هذه الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه لتجعل به أي بأخذه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أي جمعه في صدرك وحفظك إياه (وَقُرْآنَهُ) أي قراءته علينا والمعنى سنقرئك يا محمد بحيث تصير لا تنساه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي لا تكن قراءتك مقارنة لقراءة جبريل عليك بل اسكت حتى يتم جبريل ما يوحى إليك ، فإذا فرغ جبريل من القراءة ، فخذ أنت فيها ، وجعل قراءة جبريل قراءته لأنه بأمره نزل بالوحي ونظيره. «من يطع الرسول فقد أطاع الله» وقيل معناه اعمل به واتبع حلاله ، وحرامه ، والقول الأول أولى لأن هذا ليس موضع الأمر باتباع حلاله وحرامه وإنما هو موضع الأمر بالاستماع حتى يفرغ جبريل من قراءته فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا نزل عليه جبريل بالوحي أصغى إليه فإذا فرغ من قراءته وعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحفظه (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي أن نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل وقيل إذا أشكل شيء من معانيه فنحن نبينه لك ، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والحلال والحرام ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عن معانيه لغاية حرصه على العلم فقيل له نحن نبينه لك.

قوله تعالى : (كَلَّا) أي حقا (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي تختارون الدنيا على العقبى وتعملون لها يخاطب كفار مكة.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضِرَةٌ) من النضارة ، وهي الحسن قال ابن عباس : حسنة وقيل مسرورة بالنعيم ، وقيل ناعمة ، وقيل مسفرة مضيئة ، وقيل بيض يعلوها نور وبهاء وقيل مشرقة بالنعيم. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال ابن عباس وأكثر المفسرين : تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب قال الحسن حق لها أن تنظر وهي تنظر إلى الخالق سبحانه وتعالى ، وروي عن مجاهد وأبي صالح أنهما فسرا النّظر في هذه الآية بالانتظار قال مجاهد تنتظر من ربها ما أمر لها به وقال أبو صالح : تنتظر الثّواب من ربها ، قال الأزهري : ومن قال إن معنى قوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بمعنى منتظرة فقد أخطأ لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته إنما تقول نظرت فلانا أي انتظرته ومنه قول الحطيئة :

وقد نظرتكم أعشاء صادرة

للورد طال بها حوزي وتنساسي

فإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين ، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكر فيه وتدبر بالقلب ، وهذا آخر كلامه ويشهد لصحة هذا أن النظر الوارد في التّنزيل بمعنى الانتظار كثير ولم يوصل في موضع بإلى كقوله (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) وقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) والوجه إذا وصف بالنظر وعدي بإلى لم يحتمل غير الرؤية ، وأما قوله أنظر إلى الله ثم إليك على معنى أتوقع فضل الله ثم

٣٧٢

فضلك ، فيكون النّظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب إنما يجوز هذا إذا لم يسند إلى الوجه ، فإذا أسند النظر إلى الوجه لم يحتمل نظر القلب ، ولا الانتظار وإذا بطل المعنيان لم يبق لبقاء الرّؤية كلام وإن شق ذلك عليهم ، والأحاديث الصحيحة تعضد قول من فسر النظر في هذه الآية بالرؤية وسنذكرها إن شاء الله تعالى.

(فصل : في إثبات رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة)

قال علماء أهل السنة رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا ، وأجمعوا على وقوعها في الآخرة ، وأن المؤمنين يرون الله سبحانه ، وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وزعمت طوائف من أهل البدع كالمعتزلة والخوارج ، وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه ، وأن رؤيته مستحيلة عقلا ، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح ، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى ، وقد رواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآيات القرآن فيها مشهورة ، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبتها مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة ، وكذلك باقي شبههم وأجوبتها مشهورة مستفاضة في كتب الكلام ، وليس هذا موضع ذكرها ، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله في خلقه ، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك.

وأما الأحاديث الواردة في إثبات الرّؤية فمنها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه ، وأزواجه ، ونعيمه وخدمه ، وسروره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أخرجه التّرمذي وقال : هذا حديث غريب ، وقال : وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يرفعه (ق) عن جرير بن عبد الله قال «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، وقال إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشّمس ، وقبل الغروب» قوله «لا تضامون» روي بفتح التاء وتشديد الميم وقد تضم التاء مع التّشديد أيضا ومعناه لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا تزدحمون وقت النظر إليه ، وروي بتخفيف الميم ومعناه لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض وقوله : «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر» معناه تشبيه الرّؤية بالرّؤية في الوضوح وزوال الشّك والمشقة لا تشبيه المرئي بالمرئي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن أناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر ، قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشّمس ليس دونها سحاب ، قالوا : لا يا رسول الله قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنكم سترونه كذلك» أخرجه أبو داود وأخرجه التّرمذي. وليس عنده في أوله أن أناسا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا قوله ليس دونها سحاب. قال الترمذي وقد روي مثل هذا الحديث عن أبي سعيد وهو صحيح ، وهذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري ومسلم ، ومعنى تضارون وتضامون واحد.

عن أبي رزين العقيلي قال : «قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة؟ قال نعم قلت وما آية ذلك في خلقه؟ قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال : فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل وأعظم» أخرجه أبو داود (م) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» والأحاديث في الباب كثيرة وهذا القدر كاف والله أعلم. قوله عزوجل : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة كالحة

٣٧٣

متغيرة مسودة قد أظلمت ألوانها ، وعدمت آثار النعمة ، والسرور منها لما أدركها من اليأس من رحمة الله تعالى : وذلك حين يميز بين أهل الجنة والنار (تَظُنُ) أي تستيقن والظّن هنا بمعنى اليقين (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أن يفعل بهم أمر عظيم من العذاب والفاقرة الدّاهية العظيمة والأمر الشّديد الذي يكسر فقار الظهر ويقصمه وقيل الفاقرة دخول النار ، وقيل هي أن تحجب تلك الوجوه عن رؤية الله تعالى : (كَلَّا) أي حقا (إِذا بَلَغَتِ) يعني النفس كناية عن غير مذكور (التَّراقِيَ) جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت ومنه قول دريد بن الصمة :

ورب عظيمة دافعت عنها

وقد بلغت نفوسهم التراقي

(وَقِيلَ) يعني وقال من حضره (مَنْ راقٍ) أي هل من طبيب يرقيه ويداويه مما نزل به ويشفيه ويخلصه من ذلك برقيته ودوائه ، وقيل لما نزل به من قضاء الله ما نزل التمسوا له الأطباء ، فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ، وقيل هذا من قول الملائكة الذين يحضرونه عند الموت يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه إذا خرجت فيصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، (وَظَنَ) أي أيقن الذين بلغت روحه التراقي (أَنَّهُ الْفِراقُ) يعني الخروج من الدنيا وفراق المال والأهل والولد (وَالْتَفَّتِ) أي اجتمعت (السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي الشدة بالشدة يعني شدة مفارقة الدنيا مع شدة الموت وكربه ، وقيل شدة الموت بشدة الآخرة ، وقيل تتابعت عليه الشدائد لا يخرج من كرب إلا جاءه ما هو أشد منه ، وقال ابن عباس : أمر الدنيا بأمر الآخرة فكان في آخر يوم من أيام الدّنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، وقيل الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه ، وقيل هما ساقا الميت إذا لفتا في الكفن ، وقيل هما ساقاه عند الموت ألا تراه كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى عند النزع ، وقيل إذا مات يبست ساقاه فالتفت إحداهما بالأخرى.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي مرجع العباد إلى الله تعالى يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم.

قوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) يعني أبا جهل لم يصدق بالقرآن ، ولم يصلّ لله تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الإيمان والتصديق (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يتبختر ويختال في مشيته ، وقيل أصله يتمطط أي يتمدد من المط ، وقيل من المطا وهو الظهر لأنه يلويه. (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) هذا وعيد على وعيد من الله تعالى لأبي جهل. وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد ومعناه ، ويل لك مرة بعد مرة وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه ، وقيل معناه أنك أجدر بهذا العذاب. وأحق وأولى به. يقال ذلك لمن يصيبه مكروه يستوجبه قال قتادة : ذكر لنا «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها فلما كان يوم بدر صرعه وقتله أشد قتلة. وكان نبي الله يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب في الآخرة (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً) أي ماء قليلا (مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي يصيب في الرحم ، والمعنى كيف يليق بمن خلق من شيء قذر مستقذر أن يتكبر ويتمرد عن الطاعة. (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) أي صار الإنسان علقة بعد النطفة

٣٧٤

(فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي فقدر خلقه وسواه وعدله وقيل نفخ فيه الروح وكمل أعضاءه (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ) أي الصنفين ثم فسرهما فقال (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي خلق من مائة أولادا ذكورا وإناثا (أَلَيْسَ ذلِكَ) أي الذي فعل وأنشأ الأشياء أول مرة (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي بقادر على إعادته بعد الموت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ منكم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، فانتهى إلى آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فانتهى إلى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ، فليقل بلى ومن قرأ (وَالْمُرْسَلاتِ) فبلغ ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنا بالله» أخرجه أبو داود وله عن موسى بن أبي عائشة قال «كان رجل يصلي فوق بيته ، فكان إذا قرأ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال سبحانك بلى فسألوه عن ذلك فقال سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والله سبحانه وتعالى أعلم :

٣٧٥

سورة هل أتى

وتسمى سورة الإنسان أيضا وهي مدنية كذا قال مجاهد ، وقتادة والجمهور ، وقيل مكية يحكى ذلك عن ابن عباس وعطاء بن يسار ومقاتل ، وقيل فيها مكي ومدني ، فالمكي منها قوله (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) وباقيها مدني قاله الحسن وعكرمة وقيل إن المدني من أولها إلى قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) ومن هذه الآية إلى آخرها مكي حكاه الماوردي وهي إحدى وثلاثون آية ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعة وخمسون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢))

قوله عزوجل : (هَلْ أَتى) أي قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ) يعني آدم عليه الصلاة والسلام (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى (م) عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك» قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك ، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه ، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب.

وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طينا ، وبقي أربعين سنة حمأ مسنونا وأربعين سنة صلصالا كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئا ولم يكن شيئا يذكر.

روي عن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية : لم يكن شيئا مذكورا فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود ، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئا مذكورا يعني أنهم كانوا نطفا في الأصلاب. ثم علقا ، ومضغا في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم (مِنْ نُطْفَةٍ) أي مني الرجل ومني المرأة (أَمْشاجٍ) أي أخلاط قال ابن عباس وغيره : يعني ماء الرجل ، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب ، وعظم فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة

٣٧٦

صفراء. وكل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة ، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض ، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة ، ثم عظما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر ، وقيل إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج. (نَبْتَلِيهِ) أي لنختبره بالأمر والنهي (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء ، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان ، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥))

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة ، وعرفناه طريق الخير والشر ، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل ، وبعثه الرسل وإنزال الكتب. (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) يعني إما موحدا طائعا لله ، وإما مشركا بالله في علم الله وذلك أن الله تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره ، وطاعته عن معصيته ، وقيل في معنى الآية إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر ، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه ، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر ، وأوعد الكافر فقال تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيأنا في جهنم (لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ) يعني يشدون بها (وَأَغْلالاً) أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم (وَسَعِيراً) يعني وقودا لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ) يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) يعني فيها شراب (كانَ مِزاجُها كافُوراً) قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك.

فإن قلت إن الكافور غير لذيذ ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به.

قلت قال أهل المعاني : أراد بالكافور بياضه ، وطيب ريحه وبرده. لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس : هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافورا ، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون ، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة ، وليس ككافور الدنيا ولكن الله سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم. بذلك الكافور والمسك والزنجبيل.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩))

(عَيْناً) بدلا من الكافور وقيل أعني عينا (يَشْرَبُ بِها) أي يشرب منها (عِبادُ اللهِ) قال ابن عباس أولياء الله (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم.

قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) لما وصف الله تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي

٣٧٧

يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب. والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة ، والزكاة والصوم والحج ، والعمرة ، وغير ذلك من الواجبات ، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئا ليس بواجب عليه ، وذلك بأن يقول : لله عليّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله. وذلك بأن يقول إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي كان لله عليّ كذا ، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به (خ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من نذر أن يطيع الله فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» وفي رواية «فليطعه ولا يعصه» وعنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (ق) عن ابن عباس قال : «استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها» أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر ، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفي بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى. (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي منتشرا فاشيا ممتدا ، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض ، وفي أولياء الله وأعدائه ، وقيل فشا سره في السموات. فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس ، والقمر ، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء ، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.

قوله عزوجل : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم الله تعالى : بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام ، ويواسون به أهل الحاجة ، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام. لأن به قوام الأبدان ، وقيل على حب الله عزوجل أي لحب الله (مِسْكِيناً) يعني فقيرا وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب (وَيَتِيماً) أي صغيرا وهو الذي لا أب له يكتسب له ، وينفق عليه (وَأَسِيراً) قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين ، وقيل هو الأسير من أهل الشرك. أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم وإن أسراهم يومئذ أهل الشرك. فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى ، وإن كانوا على غير ديننا ، وأنه يرجى ثوابه ، ولا يجوز أن يعطوا من الصدقة الواجبة كالزكاة والكفارة ، وقيل الأسير المملوك ، وقيل الأسير المرأة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان» يعني أسرى ، وقيل غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك.

واختلفوا في سبب نزول الآية ، فقيل نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الدحداح صام يوما فلما كان وقت الإفطار جاءه مسكين ، ويتيم ، وأسير فأطعمهم ثلاثة أرغفة ، وبقي له ولأهله رغيف واحد. فنزلت هذه الآية فيه ، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير فقبض ذلك الشعير فطحن منه ثلثه ، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه فلما فرغ أتى مسكين فسأل فأعطوه ذلك ثم عمل الثلث الثاني فلما فرغ أتى يتيم فسأل فأعطوه ذلك ، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأعطوه ذلك وطووا يومهم وليلتهم فنزلت هذه الآية. وقيل هذه عامة في كل من أطعم المسكين واليتيم والأسير لله تعالى وآثر على نفسه (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لأجل وجه الله تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم. فأثنى به عليهم ، وقيل قالوا ذلك منعا للمحتاجين من المكافأة ، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يراد به غيره. فهذا هو الإخلاص ، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما ، وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى لأن فيهما شركا ، ورياء فنفوا ذلك عنهم بقولهم إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.

٣٧٨

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦))

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم (عَبُوساً) وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازا كما يقال نهاره صائم ، والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة. (قَمْطَرِيراً) يعني شديدا كريها يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس ، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه ، والقمطرير الشديد ، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي الذي يخافونه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) أي حسنا في وجوههم (وَسُرُوراً) أي في قلوبهم (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي على طاعة الله واجتناب معصيته ، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار (جَنَّةً وَحَرِيراً) أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) يعني لا يؤذيهم حر الشمس ، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولا أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد :

وليلة ظلامها قد اعتكر

قطعتها والزمهرير ما زهر

والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي قريبة منهم ظلال أشجارها (وَذُلِّلَتْ) أي سخرت وقربت (قُطُوفُها) أي ثمارها (تَذْلِيلاً) أي يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا. (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه كانت قواريرا قوارير من فضة قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج ، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج ، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها ، قال الكلبي : إن الله تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها ، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة ، ولكنها أصفى من الزجاج. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم ، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص. والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١))

(وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي في الجنة (كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة ، وقيل هو النبت المعروف ، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى :

كأن القرنفل والزنجبيل

باتا بفيها وأريا مشورا

الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس :

٣٧٩

فكأن طعم الزنجبيل

به إذ ذقته سلافة الخمر

فلما كان الزنجبيل مستطابا عند العرب وصف الله تعالى شراب أهل الجنة بذلك ، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور ، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس : كل ما ذكر الله تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا ، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي سلسلة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليها في طرقهم ، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان ، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه ، وصفائه ، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوما ، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة.

قوله عزوجل : (وَإِذا رَأَيْتَ) قيل الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به (ثَمَ) يعني إلى الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً) أي لا يوصف عظمه (وَمُلْكاً كَبِيراً) قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكا لا زوال له ولا انتقال (عالِيَهُمْ) أي فوقهم (ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) وهو ما رق من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يعني طاهرا من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي ، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولا ، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم كرشح المسك ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم ، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد.

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨))

(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها. إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله لكم إلى هذا الوقت. فهو لكم بأعمالكم ، وقيل هو إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه ، وهو الثواب ، وقيل شكر الله لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات.

قوله عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) أي يا محمد (الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) قال ابن عباس : متفرقا آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة ، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة ، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي لعبادته فهي من

٣٨٠