تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

الحكمة المحضة ، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال ، وقيل هو عام في جميع التكاليف ، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم الله به سواء كان تكليفا خاصا كالعبادات والطاعات أو عاما متعلقا بالغير كالتبليغ ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) قيل أراد به أبا جهل ، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاه أبو جهل عنها ، وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه ، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء ، والمال فارجع عن هذا الأمر ، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية.

فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم. الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت ، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم ، ولا ينعكس لأن من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير الله فقد عصاه وجحد نعمه عليه. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) قيل المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل ، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان ، والمقصود أن يكون ذاكرا لله تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه. قوله عزوجل : (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار مكة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يعني الدار العاجلة ، وهي الدنيا. (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) يعني أمامهم (يَوْماً ثَقِيلاً) يعني شديدا وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به ، ولا يعملون له (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا) أي قوينا وأحكمنا (أَسْرَهُمْ) أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب ، وقيل الأسر مجرى البول والغائط ، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا. (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي إذا شئنا أهلكناهم ، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(إِنَّ هذِهِ) أي السورة (تَذْكِرَةٌ) أي تذكير وعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) أي لنفسه في الدنيا (إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي وسيلة بالطاعة ، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى الله تعالى ، وهو إلى اختيار العبد ، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عزوجل في سياق الآية. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة الله تعالى لأن الأمر إليه ، ومشيئة الله مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) أي بأحوال خلقه وما يكون منهم (حَكِيماً) أي حيث خلقهم مع علمه بهم (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من الله تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق (وَالظَّالِمِينَ) يعني المشركين (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٨١

سورة المرسلات

(مكية وهي خمسون آية ومائة وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤))

قوله عزوجل : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) اعلم أن المفسرين ذكروا في هذه الكلمات الخمس وجوها :

الأول : أن المراد بأسرها الرّياح ومعنى المرسلات عرفا الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس ، وقيل عرفا أي كثيرا (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) يعني الرّياح الشّديدة الهبوب ، (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً). يعني الرياح اللّينة ، وقيل هي الرياح التي أرسلها نشرا بين يدي رحمته ، وقيل هي الرّياح التي تنشر السحاب ، وتأتي بالمطر فالفارقات فرقا يعني الرياح التي تفرق السحاب ، وتبدده فالملقيات ذكرا يعني أن الرياح إذا أرسلت عاصفة شديدة قلعت الأشجار ، وخربت الديار ، وغيرت الآثار. فيحصل بذلك خوف للعباد في القلوب ، فيلجئون إلى الله تعالى ويذكرونه ، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر ، والمعرفة في القلوب عند هبوبها.

الوجه الثاني : أن المراد بأسرها الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ومعنى والمرسلات عرفا. الملائكة الذين أرسلوا بالمعروف من أمر الله ، ونهيه وهذا القول رواية عن ابن مسعود فالعاصفات عصفا يعني الملائكة تعصف في طيرانهم ، ونزولهم كعصف الرياح في السرعة ، والناشرات نشرا يعني أنهم إذا نزلوا إلى الأرض نشروا أجنحتهم ، وقيل هم الذين ينشرون الكتب ، ودواوين الأعمال يوم القيامة فالفارقات فرقا. قال ابن عباس : يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل ، فالملقيات ذكرا يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء ، وقيل يجوز أن يكون الذكر هو القرآن خاصة فعلى هذا يكون الملقى هو جبريل وحده ، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم.

الوجه الثالث : أن المراد بأسرها آيات القرآن ، ومعنى المرسلات عرفا آيات القرآن المتتابعة في النزول على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل عرف وخير فالعاصفات عصفا يعني آيات القرآن تعصف القلوب بذكر الوعيد حتى تجعلها كالعصف وهو النبت المتكسر ، والناشرات نشرا يعني آيات القرآن تنشر أنوار الهداية والمعرفة في قلوب المؤمنين. فالفارقات فرقا يعني آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل فالملقيات ذكرا يعني آيات القرآن هي الذّكر الحكيم الذي يلقى الإيمان والنور في قلوب المؤمنين.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩))

٣٨٢

وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣))

الوجه الرابع : أنه ليس المراد من هذه الكلمات الخمس شيئا واحدا بعينه فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) الرياح ويكون المراد بقوله (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) الملائكة.

فإن قلت وما المجانسة بين الرياح والملائكة حتى جمع بينهما في القسم قلت الملائكة روحانيون فهم بسبب لطافتهم ، وسرعة حركاتهم شابهوا الرياح فحصلت المجانسة بينهما من هذا الوجه فحسن الجمع بينهما في القسم عذرا أو نذرا أي للإعذار والإنذار من الله ، وقيل عذرا من الله ونذرا منه إلى خلقه ، وهذه كلها أقسام وجواب القسم قوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي من أمر الساعة ومجيئها (لَواقِعٌ) أي لكائن نازل لا محالة ، وقيل معناه إن ما توعدون به من الخير والشر لواقع بكم. ثم ذكر متى يقع فقال تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي محي نورها وقيل محقت (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي شقت وقيل فتحت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي قلعت من أماكنها (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) وقرئ وقتت بالواو ومعناهما وأحد أي جمعت لميقات يوم معلوم ، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخرت وضرب الأجل لجميعهم كأنه تعالى يعجب لعباده من تعظيم ذلك اليوم ، والمعنى جمعت الرسل في ذلك اليوم لتعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم ، ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) قال ابن عباس يوم فصل الرّحمن فيه بين الخلائق ثم أتبع ذلك تعظيما وتهويلا فقال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) أي وما أعلمك بيوم الفصل وهو له وشدته (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بالتوحيد والنبوة والمعاد والبعث والحساب.

قوله تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) يعني الأمم الماضية بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) يعني السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب ، وهم كفار قريش ، أي نهلكهم بتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إنما نفعل بهم ذلك لكونهم مجرمين (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) يعني النطفة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) يعني وقت الولادة وهو معلوم لله تعالى لا يعلم ذلك غيره (فَقَدَرْنا) قرئ بالتشديد من التقدير ، أي قدرنا ذلك تقديرا (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي المقدرون له وقرئ بالتخفيف من القدرة ، أي قدرنا على خلقه ، وتصويره كيف شئنا فنعم القادرون حيث خلقناه في أحسن صورة وهيئة.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢))

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي المنكرين للبعث لأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) يعني وعاء وأصله الضم والجمع (أَحْياءً وَأَمْواتاً) يعني تكفتهم أحياء على ظهرها بمعنى تضمهم في دورهم ومنازلهم وتكفتهم أمواتا في بطنها في قبورهم ، ولذلك تسمى الأرض أما لأنها تضم الناس كالأم تضم ولدها (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (رَواسِيَ شامِخاتٍ) يعني جبالا عاليات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) يعني عذابا

٣٨٣

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يعني أن هذا كله أعجب عن البعث فالقادر عليه قادر على البعث.

قوله عزوجل : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يعني يقال للمكذبين بيوم القيامة في الدنيا انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون وهو العذاب ثم فسره بقوله (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يعني دخان جهنم إذا سطع وارتفع تشعب ، وتفرق ثلاث فرق ، وكذلك شأن الدخان العظيم. فيقال لهم كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب كما يكون أولياء الله تعالى في ظل عرشه ، وقيل يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب على رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم (لا ظَلِيلٍ) أي إن ذلك الظل لا يظل من حر (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي لا يرد عنهم لهب جهنم والمعنى أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لا يدفع عنهم حر اللهب (إِنَّها) يعني جهنم (تَرْمِي بِشَرَرٍ) جمع شرارة وهي ما تطاير من النار (كَالْقَصْرِ) يعني كالبناء العظيم ونحوه قيل هي أصول الشجر ، والنخل العظام واحدتها قصرة وسئل ابن عباس عن قوله ، (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) فقال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع ، وفوق ذلك ودونه وندخرها للشتاء ، وكنا نسميها القصر.

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨))

(كَأَنَّهُ) يعني الشرر (جِمالَتٌ) جمع الجمال ، وقال ابن عباس : هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الجمال (صفر) جمع أصفر يعني أن لون ذلك الشرر أصفر وأنشد بعضهم :

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وقيل الصفر هنا معناه الأسود لأنه جاء في الحديث أن شرر نار جهنم أسود كالقير ، والعرب تسمى سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها شيء من الصفرة ، وقيل هي قطع النحاس ، والمعنى أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قوله عزوجل : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) يعني بحجة تنفعهم قيل هذا في بعض مواطن القيامة ومواقفها ، وذلك لأن في بعضها يتكلمون وفي بعضها يختصمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على يؤذن واختير ذلك لأن رؤوس الآي بالنون فلو قال فيتعذروا لم يوافق الآيات ، والعرب تستحب وفاق الفواصل كما تستحب وفاق القوافي ، والقرآن نزل على ما تستحب العرب من موافقة المقاطع ، والمعنى لا يكون إذن واعتذار قال الجنيدي : أي عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه.

فإن قلت قد توهم أن لهم عذرا ، ولكن قد منعوا من ذكره.

قلت ليس لهم عذر في الحقيقة لأنه قد تقدم الإعذار والإنذار في الدّنيا فلم يبق لهم عذر في الآخرة ، ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا أن لهم عذرا فلم يؤذن لهم في ذلك العذر الفاسد (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يعني أنه لما تبين إنه لا عذر لهم ، ولا حجة فيما أتوا به من الأعمال السيئة ، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عنهم لا جرم قال في حقهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) يعني بين أهل الجنة وأهل النار ، وقيل هو الفصل بين العباد

٣٨٤

في الحقوق والمحاكمات (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) يعني مكذبي هذه الأمة والذين كذبوا أنبياءهم من الأمم الماضية. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إن كانت لكم حيلة تحتالون بها لأنفسكم فاحتالوا وهم يعلمون أن الحيل يومئذ منقطعة لا تنفع وهذا في نهاية التوبيخ والتقريع فلهذا عقبة بقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قوله عزوجل (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا الشرك (فِي ظِلالٍ) جمع ظل وهو ظل الأشجار (وَعُيُونٍ) أي في ظلهم عيون ماء (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي يتلذذون بها (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي ويقال لهم كلوا واشربوا ، وهذا القول يحتمل أن يكون من جهة الله تعالى بلا واسطة ، وما أعظمها من نعمة أو يكون من جهة الملائكة على سبيل الإكرام (هَنِيئاً) أي خالص اللّذة لا يشوبه تنغيص (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من الطاعات (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قيل المقصود منه تذكير الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل ذلك الخير العظيم. فلما لم يفعلوا ذلك وقعوا في قوله. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قوله عزوجل : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً) يقول الكفار مكة كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا إلى منتهى آجالكم ، وهذا وإن كان ظاهر اللفظ أمرا إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي مشركون بالله مستحقون للعقاب لا جرم أتبعه بقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا قيل لهم صلوا مع محمد وأصحابه لا يصلون فعبر عن الصلاة بلفظ الركوع لأنه ركن من أركانها وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي بعد نزول القرآن إذا لم يؤمنوا به فبأي شيء يؤمنون والله أعلم.

٣٨٥

سورة النبأ

وتسمى سورة عم يتساءلون والتساؤل مكية وهي أربعون آية ومائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وسبعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨))

قوله عزوجل : (عَمَ) أصله عن ما (يَتَساءَلُونَ) عن أي شيء يتساءلون يعني المشركين ولفظه استفهام ، ومعناه التفخيم كقولك ، أي شيء زيد إذا عظمت شأنه ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى التوحيد ، وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون فيما بينهم فيقول بعضهم لبعض ماذا جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ذكر عما ذا تساؤلهم فقال تعالى : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) يعني الخبر العظيم الشأن قال الأكثرون هو القرآن ، وقيل هو البعث وقيل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فمن فسر النبأ العظيم بالقرآن قال اختلافهم فيه هو قولهم إنه سحر أو شعر أو كهانة أو نحو ذلك مما قالوه في القرآن ، ومن فسر النبأ العظيم بالبعث قال اختلافهم فيه فمن مصدق به ، وهم المؤمنون ومن مكذب به ، وهم الكافرون ومن فسره بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال اختلافهم فيه كاختلافهم في القرآن (كَلَّا) هي ردع وزجر وقيل هي نفي لاختلافهم ، والمعنى ليس الأمر كما قالوا (سَيَعْلَمُونَ) أي عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر يعني في القيامة (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وعيد على أثر وعيد ، وقيل معناه كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم وكفرهم ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم وإيمانهم ثم ذكر أشياء من عجائب صنائعه ليستدلوا بذلك على توحيده ، ويعلموا أنه قادر على إيجاد العالم وفنائه بعد إيجاده وإيجاده مرة أخرى للبعث والحساب ، والثواب ، والعقاب فقال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي فراشا وبساطا لتستقر عليها الأقدام (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) يعني للأرض حتى لا تميد (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) يعني أصنافا ذكورا وإناثا.

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨))

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم وليس الغرض أن السبات للراحة بل المقصود منه أن النوم يقطع التعب ويزيله ، ومع ذلك تحصل الراحة ، وأصل السبت القطع ، ومعناه أن النوم يقطع عن الحركة والتصرف في

٣٨٦

الأعمال (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته عن العيون ، ولهذا سمي الليل لباسا على وجه المجاز ، ووجه النعمة في ذلك هو أن الإنسان يستتر بظلمة الليل عن العيون إذا أراد هربا من عدو ونحو ذلك. (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي سببا للمعاش والتصرف في المصالح وقال ابن عباس تبتغون فيه من فضل الله وما قسم لكم من رزقه (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يعني سبع سموات محكمة ليس يتطرق عليها شقوق ولا فطور على ممر الزمان إلى أن يأتي أمر الله تعالى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) يعني الشمس مضيئة منيرة ، وقيل الوهاج الوقاد ، وقيل جعل في الشمس حرارة ونورا والوهج يجمع النور والحرارة (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) يعني الرياح التي تعصر السحاب. وهي رواية عن ابن عباس : وقيل هي الرياح ذوات الأعاصير ، وعلى هذا المعنى تكون من بمعنى الباء ، أي وأنزلنا بالمعصرات ، وذلك لأن الريح تستدر المطر من السّحاب ، وقيل هي السحاب وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس المعصرات السّحابة التي حان لها أن تمطر ، ولما تمطر وقيل المعصرات المغيثات والعاصر هو الغيث ، وقيل المعصرات السّموات ، وذلك لأن المطر ينزل من السّماء إلى السحاب (ماءً ثَجَّاجاً) أي صبابا مدرارا متتابعا يتلو بعضه بعضا ، ومنه الحديث «أفضل الحج العج والثج» ، أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بذلك الماء (حَبًّا) أي ما يأكله الإنسان كالحنطة ونحوها (وَنَباتاً) أي ما ينبت في الأرض من الحشيش مما يأكل منه الأنعام (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي ملتفة بالشجر ليس بينها خلال فدل على البعث بذكر ابتداء الخلق ثم أخبر عنه بقوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي الحساب (كانَ مِيقاتاً) أي لما وعده الله من الثواب والعقاب وقيل ميقاتا يجمع فيه الخلائق ليقضي بينهم (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) يعني لنفخة الأخيرة (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) يعني زمرا زمرا من كل مكان للحساب.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥))

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) يعني فكانت ذوات أبواب لنزول الملائكة ، وقيل تنحل وتتناثر حتى يصير فيها أبواب وطرق (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي عن وجه الأرض (فَكانَتْ سَراباً) أي هباء منبثا كالسراب في عين الناظر (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) أي طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار وروي عن ابن عباس «إن على جسر جهنم سبع محابس يسئل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصّلوات فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزّكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها ، وإلا يقال انظروا فإن كان له تطوع أكملت به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة» ، وقيل كانت مرصادا أي معدة لهم ، وقيل هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته ، والمرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو ، والمعنى إن جهنم ترصد الكفار أي تنتظرهم (لِلطَّاغِينَ) أي الكافرين (مَآباً) أي مرجعا يرجعون إليها (لابِثِينَ فِيها) أي في جهنم (أَحْقاباً) جمع حقب وهو ثمانون سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوم كل يوم ألف سنة يروى ذلك عن علي بن أبي طالب ، وقيل الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة.

فإن قلت الأحقاب وإن طالت فهي متناهية وعذاب الكفار في جهنم غير متناه فما معنى قوله أحقابا.

قلت ذكروا فيه وجوها :

أحدها : ما روي عن الحسن قال : إن الله تعالى لم يجعل على النار مدة بل قال لابثين فيها أحقابا ، فو الله ما

٣٨٧

هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب آخر ، ثم آخر إلى الأبد فليس للأحقاب عدة إلا الخلود وروي عن عبد الله بن مسعود قال : «لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا».

الوجه الثاني : أن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية ، والحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها أي في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، فهذا توقيت لأنواع العذاب الذي يبدلونه ولا توقيت للبثهم فيها.

الوجه الثالث : أن الآية منسوخة بقوله فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) قال ابن عباس : البرد النوم وقيل بردا أي روحا وراحة ، وقيل لا يذوقون بردا ينفعهم. (وَلا شَراباً) أي يغنيهم عن عطش (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) أي لكن يشربون حميما قيل هو الصفر المذاب ، وقيل هو الماء الحار الذي انتهى حره وغساقا قال ابن عباس الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده ، وقيل هو صديد أهل النار.

(جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

(جَزاءً وِفاقاً) أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ، وقيل وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار. (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي لا يخافون أن يحاسبوا ، والمعنى أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي التي جاءت بها الأنبياء ، وقيل كذبوا بدلائل التوحيد والنّبوة والبعث والحساب (كِذَّاباً) ، أي تكذيبا قال الفراء هي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال ، قال وقد سألني أعرابي منهم يستفتيني الحلق أحب إليك أم القصار يريد التقصير (وَكُلَّ شَيْءٍ) أي من الأعمال (أَحْصَيْناهُ) أي بيناه وأثبتناه (كِتاباً) أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ ، وقيل معناه وكل شيء علمناه علما لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل والمعنى أنا عالم بجميع ما فعلوه من خير وشر ، وأنا أجازيهم على قدر أعمالهم جزاء وفاقا (فَذُوقُوا) أي يقال لهم ذوقوا (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قيل هذه الآية أشد آية في القرآن على أهل النار كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.

قوله عزوجل : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي فوزا أي نجاة من العذاب ، وقيل فوزا بما طلبوه من نعيم الجنة ، ويحتمل أن يفسر الفوز بالأمرين جميعا لأنهم فازوا بمعنى نجوا من العذاب ، وفازوا بما حصل لهم من النّعيم. ثم فسره فقال (حَدائِقَ) جمع حديقة وهي البستان المحوط فيه كل ما يشتهون (وَأَعْناباً) التنكير يدل على تعظيم ذلك العنب (وَكَواعِبَ) جمع كاعب يعني جواري نواهد قد تكعبت ثديهن (أَتْراباً) يعني مستويات في السن (وَكَأْساً دِهاقاً) قال ابن عباس : مملوءة مترعة ، وقيل متتابعة ، وقيل صافية (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة ، وقيل في حالة شربهم لأن أهل الدنيا يتكلمون بالباطل في حالة شربهم (لَغْواً) أي باطلا من الكلام (وَلا كِذَّاباً) أي تكذيبا والمعنى أنه لا يكذب بعضهم بعضا ولا ينطقون به (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء حسابا أي كافيا وافيا ، وقيل حسابا يعني كثيرا ، وقيل جزاء بقدر أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٣٨٨

وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه ، وقيل لا يملكون منه خطابا أي لا يملكون شفاعة إلا بإذنه في ذلك اليوم.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) قيل هو جبريل عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس : الروح ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوفا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا ، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون من عظم خلقه مثلهم ، وقال ابن مسعود : الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال وهو في السماء الرابعة يسبح الله كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا وحده ، وقيل الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا هؤلاء جند وهؤلاء جند وقال ابن عباس الروح خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم ، وعنه أنهم بنو آدم يقومون صفا والملائكة صفا ، وقيل يقوم سماطان سماط من الروح وسماط من الملائكة (لا يَتَكَلَّمُونَ) يعني الخلق كلهم إجلالا لعظمته تعالى جلّ جلاله وتعالى عطاؤه وشأنه من هول ذلك اليوم (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أي في الكلام (وَقالَ صَواباً) أي حقا في الدنيا وعمل به ، وقيل قال لا إله إلا الله قيل الاستثناء يرجع إلى الروح والملائكة ، ومعنى الآية لا يشفعون إلا في شخص أذن الرّحمن في الشفاعة له ، وذلك الشخص ممن كان يقول صوابا في الدنيا ، وهو لا إله إلا الله (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الكائن الواقع لا محالة وهو يوم القيامة. (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي سبيلا يرجع إليه وهو طاعة الله وما يتقرب به إليه (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أي خوفناكم في الدنيا (عَذاباً قَرِيباً) أي في الآخرة وكل ما هو آت قريب (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) يعني من خير أو شر مثبتا في صحيفته ينظر إليه يوم القيامة. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) قال عبد الله بن عمرو «إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الدّواب والبهائم والوحوش ، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشّاة الحماء من الشاة القرناء نطحتها. فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا» وقيل يقول الله عزوجل للبهائم بعد القصاص إنا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم وكنتم مطيعين لهم أيام حياتكم فارجعوا إلى ما كنتم عليه كونوا ترابا ، فإذ رأى الكافر ذلك تمنى ، وقال يا ليتني كنت في الدّنيا في صورة بعض هذه البهائم ، وكنت اليوم ترابا وإذا قضى الله بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وقيل لسائر الأمم سوى الناس والجن عودوا ترابا فيعودون ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ، وقيل معناه إن الكافر إذا رأى ما أنعم الله به على المؤمنين من الخير ، والرحمة ، قال يا ليتني كنت ترابا يعني متواضعا في طاعة الله في الدنيا ، ولم أكن جبارا متكبرا ، وقيل إن الكافر ها هنا هو إبليس ، وذلك أنه عاب آدم وكونه خلق من تراب ، وافتخر عليه بأنه خلق من نار فإذا كان يوم القيامة ، ورأى ما فيه آدم وبنوه المؤمنين من الثواب والرحمة ، وما هو فيه من الشّدة والعذاب قال يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول التراب لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٣٨٩

سورة النازعات

مكية وهي ست وقيل خمس وأربعون آية ومائة وسبع وتسعون كلمة وسبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢))

قوله عزوجل : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) اختلفت عبارات المفسرين في هذه الكلمات هل هي صفات لشيء واحد أم لأشياء مختلفة على أوجه واتفقوا على أن المراد بقوله (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) وصف لشيء واحد وهم الملائكة :

الوجه الأول : في قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أقاصي أجسامهم. كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد ، والغرق من الإغراق أي ، والنازعات إغراقا وقال ابن مسعود : «إن ملك الموت ، وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء» (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) الملائكة تنشط نفس المؤمن أي تسلها سلّا رفيقا فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير ، وإنما خص النزع بنفس الكافر والنشط بنفس المؤمن ، لأن بينهما فرقا فالنزع جذب بشدة والنشط جذب برفق ، (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا ، ثم يدعونها حتى تستريح ، ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة ، وقيل هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد إذا أسرع في جريه. يقال له سابح (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يعني الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح ، وقيل هم الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.

الوجه الثاني : في قوله (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني النفس حين تنزع من الجسد ، فتغرق في الصدر ثم تخرج (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ، قال ابن عباس : هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة ، وذلك لأنه يعرض عليه مقعده في الجنة قبل أن يموت وقال علي بن أبي طالب : هي أرواح الكفار تنشط بين الجلد ، والأظفار حتى تخرج من أفواههم بالكرب والغم.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧))

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) يعني أرواح المؤمنين حين تسبح في الملكوت (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يعني استباقها إلى الحضرة المقدسة.

الوجه الثالث : في قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ، يعني النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي تذهب (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) ، يعني النجوم

٣٩٠

والشمس والقمر يسبحون في الفلك. (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يعني النجوم يسبق بعضها بعضا في السير.

الوجه الرابع : في قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً). يعني خيل الغزاة تنزع في أعنتها وتغرق في عرقها وهي الناشطات نشطا لأنها تخرج بسرعة إلى ميدانها ، وهي السابحات في جريها ، وهي السابقات سبقا لاستباقها إلى الغاية.

الوجه الخامس : في قوله (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني الغزاة حين تنزع قسيها في الرمي فتبلغ غاية المد وهو قوله غرقا ، (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) ، أي السّهام في الرمي (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يعني الخيل والإبل حين يخرجها أصحابها إلى الغزو.

الوجه السادس : ليس المراد بهذه الكلمات شيئا واحدا ، فقوله والنازعات يعني ملك الموت ينزع النفوس غرقا حتى بلغ بها الغاية ، (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) يعني النفس تنشط من القدمين بمعنى تجذب ، (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) يعني السفن ، (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يعني مسابقة نفوس المؤمنين إلى الخيرات والطاعات.

أما قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ، فأجمعوا على أنهم الملائكة قال ابن عباس : هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله عزوجل : العمل بها وقال عبد الرّحمن بن سابط يدبر الأمر في الدنيا أربعة أملاك جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، واسمه عزرائيل ، فأما جبريل فموكل بالرّياح والجنود ، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنّبات ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى أقسم الله بهذه الأشياء لشرفها ، ولله أن يقسم بما يشاء من خلقه ، أو يكون التقدير ، ورب هذه الأشياء ، وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن ، ولتحاسبن ، وقيل جوابه «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وقيل هو قوله :

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ)(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يعني النفخة الأولى يتزلزل ويتحرك لها كل شيء ، ويموت منها جميع الخلق (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يعني النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة ، وقال قتادة : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء ، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله عزوجل وقيل الرّاجفة التي تزلزل الأرض ، والجبال والرادفة التي تشق السماء ، وقيل الراجفة القيامة والرّادفة البعث يوم القيامة روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي بن كعب قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذهب ربع اللّيل قام وقال : أيّها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه.

قوله عزوجل : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خافقة قلقة مضطربة ، وقيل وجله زائلة عن أماكنها (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أهلها خاشعة ذليلة ، والمراد بها لكفار بدليل قوله تعالى : (يَقُولُونَ) يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون بعد الموت. (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) يعني أنرد إلى أول الحال ، وابتداء الأمر فنصير أحياء بعد الموت كما كنا أول مرة والعرب تقول رجع فلان في حافرته ، أي رجع من حيث جاء فالحافرة عنده اسم لابتداء الشيء وأول الشيء ويقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه الذي جاء منه يحفره بمشيئته ، فحصل بأثر قدميه حفر فهي محفورة في الحقيقة ، وقيل الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم سميت حافرة لأنها يستقر عليها الحافر ، والمعنى أإنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها ، وقيل الحافرة النار (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية وقرئ ناخرة وهما بمعنى ، وقيل الناخرة المجوفة التي يمر فيها الريح

٣٩١

فتنخر أي توصت (قالُوا) يعني المنكرين للبعث إذا عاينوا أهوال القيامة (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي رجعة غابنة يعني إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت. (فَإِنَّما هِيَ) يعني النفخة الأخيرة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة يجمعون بها جميعا (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) يعني وجه الأرض سميت ساهرة لأن عليها نوم الحيوان وسهرهم ، وقيل هي التي كثر الوطء عليها كأنها سهرت ، والمعنى أنهم كانوا في بطن الأرض. فلما سمعوا الصيحة صاروا على وجهها ، وقيل هي أرض الشام وقيل أرض القيامة ، وقيل هي أرض جهنم.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧))

قوله عزوجل : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) يا محمد وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شق عليه حين كذبه قومه ، فذكر له قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه كان يتحمل المشاق من قومه ليتأسى به (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المطهر (طُوىً) هو اسم واد بالشام عند الطور (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي علا وتكبر وكفر بالله (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي تتطهر من الشّرك والكفر ، وقيل معناه تسلم وتصلح العمل وقال ابن عباس : تشهد أن لا إله إلا الله (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده (فَتَخْشى) يعني عقابه وإنما خص فرعون بالذكر ، وإن كانت دعوة موسى شاملة لجميع قومه لأن فرعون كان أعظمهم فكانت دعوته دعوة لجميع قومه (فَأَراهُ) أي أرى موسى فرعون (الْآيَةَ الْكُبْرى) يعني اليد البيضاء والعصا (فَكَذَّبَ) يعني فرعون بأنها من الله (وَعَصى) أي تمرد وأظهر التجبر (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عن الإيمان (يَسْعى) يعمل الفساد في الأرض (فَحَشَرَ) أي فجمع قومه وجنوده (فَنادى) أي لما اجتمعوا (فَقالَ) يعني فرعون لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي لا رب فوقي ، وقيل أراد أن الأصنام أرباب وهو ربها وربهم (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي عاقبة فجعله عبرة لغيره بأن أغرقه في الدنيا ويدخله النار في الآخرة ، وقيل أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون وهما قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وكان بينهما أربعون سنة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى (لَعِبْرَةً) أي عظة (لِمَنْ يَخْشى) أي يخاف الله عزوجل ثم عاتب منكري البعث فقال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) معناه أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السّماء عندكم في تقديركم. فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد ، لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه إذا أضيف إلى خلق السماء مع عظمها وعظم أحوالها كان يسيرا فبين تعالى : أن خلق السماء أعظم ، وإذا كان كذلك كان خلقكم بعد الموت أهون على الله تعالى : فكيف تنكرون ذلك مع علمكم بأنه خلق السموات والأرض ولا تنكرون ذلك. ثم إنه تعالى ذكر كيفية خلق السّماء والأرض فقال تعالى :

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤))

٣٩٢

(رَفَعَ سَمْكَها) يعني علو سمتها ، وقيل رفعها بغير عمد (فَسَوَّاها) أي أتقن بناءها ، فليس فيها شقوق ، ولا فطور ، (وَأَغْطَشَ) أي أظلم (لَيْلَها) والغطش الظلمة (وَأَخْرَجَ) أي وأظهر وأبرز (ضُحاها) أي نهارها ، وإنما عبر عن النهار بالضحى لأنه أكمل أجزاء النهار في النور ، والضوء ، وإنما أضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان بسبب غروب الشمس وطلوعها ، وهي في السماء ثم وصف كيفية خلق الأرض. فقال تعالى :

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسطها ومدها قال أمية بن أبي الصلت :

دحوت البلاد فسويتها

وأنت على طيها قادر

فإن قلت ظاهر هذه الآية ، يقتضي أن الأرض خلقت بعد السّماء بدليل قوله تعالى (بَعْدَ ذلِكَ) وقد قال تعالى : في حم السّجدة (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) فكيف الجمع بين الآيتين وما معناهما.

قلت خلق الله الأرض أولا مجتمعة ، ثم سمك السماء ثانيا ، ثم دحا الأرض بمعنى مدها وبسطها. ثالثا ، فحصل بهذا التفسير الجمع بين الآيتين ، وزال الإشكال قال ابن عباس : خلق الله الأرض بأقواتها ، من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقيل معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) أي مع ذلك (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجر من الأرض عيونها ، ومرعاها أي رعيها ، وهي ما يأكله النّاس ، والأنعام واستعير الرعي للإنسان على سبيل التّجوز.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي الذي أخرج من الأرض هو بلغة لكم ولأنعامكم.

قوله عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) يعني النّفخة الثانية ، التي فيها البعث ، وقيل الطامة القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتعلو عليه ، والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع. (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي ما عمل في الدنيا من خير ، أو شر. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) يعني أنه ينكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي كفر (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي على الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي لمن هذه صفته (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي المحارم التي يشتهيها وقيل هو الرجل يهم بالمعصية ، فيذكر مقامه بين يديه جلّ جلاله للحساب فيتركها لذلك (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي لمن هذه صفته.

قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ) أي يا محمد (عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي متى ظهورها وقيامها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي لست في شيء من علمها وذكراها حتى تهتم لها وتذكر وقتها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي منتهى علمها لا يعلم متى تقوم الساعة إلا هو ، وقيل معناه فيم إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السّؤال ، ثم قال أنت يا محمد من ذكراها ، أي من علامتها ، لأنك آخر الرّسل ، وخاتم الأنبياء ، فكفاهم ذلك دليلا على دنوها ، ووجوب الاستعداد لها.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما ينفع إنذارك من يخافها. (كَأَنَّهُمْ) يعني الكفار (يَوْمَ يَرَوْنَها) أي يعاينون يوم القيامة. (لَمْ يَلْبَثُوا) أي في الدنيا ، وقيل في قبورهم (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها).

فإن قلت العشية ليس لها ضحى فما معنى قوله (أَوْ ضُحاها)؟

قلت قيل إن الهاء والألف صلة ، والمعنى لم يلبثوا إلا عشية ، أو ضحى ، وقيل إضافة الضّحى إلى العشية ، إضافة إلى يومها ، كأنه قال : إلا عشية أو ضحى يومها. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٣٩٣

سورة عبس

مكية وهي إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثون وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣))

قوله عزوجل : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه. (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) يعني ابن أم مكتوم ، واسمه عمرو ، وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة ، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي ، واسم أمه عاتكة بنت عبد الله المخزومية ، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديما بمكة ، وذلك أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم : يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله ؛ وجعل يناديه ويكرر النّداء ، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان ، والعبيد ، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم ، فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه إذا رآه ، ويقول مرحبا بمن عاتبني الله فيه ويقول له هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين ، وقيل قتل شهيدا بالقادسية قال أنس : رأيته يوم القادسية ، وعليه درع ومعه راية سوداء ، عن عائشة رضي الله عنها قالت «أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يقول يا رسول الله أرشدني ، وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأسا فيقول لا ففي هذا أنزلت» أخرجه التّرمذي ، وقال حديث غريب (وَما يُدْرِيكَ) أي أي شيء يجعلك داريا (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥))

(أَوْ يَذَّكَّرُ) أي يتعظ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي الموعظة (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) قال ابن عباس : عن الله وعن الإيمان بما له من المال (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرض له ، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا يؤمن ، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم

٣٩٤

(وَهُوَ يَخْشى) أي الله عزوجل (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تتشاغل وتعرض عنه (كَلَّا) أي لا تفعل بعدها مثلها (إِنَّها) يعني الموعظة وقيل آيات القرآن (تَذْكِرَةٌ) أي موعظة للخلق (فَمَنْ شاءَ) أي من عباد الله (ذَكَرَهُ) أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن ، ومحله عنده فقال عزوجل (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) يعني القرآن في اللّوح المحفوظ (مَرْفُوعَةٍ) أي رفيعة القدر عند الله ، وقيل مرفوعة في السّماء السابعة (مُطَهَّرَةٍ) يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون ، وهم الملائكة (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال ابن عباس : يعني كتبة ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون ، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر ، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير ، ثم أثنى عليهم. بقوله :

(كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥))

(كِرامٍ) أي هم كرام على الله (بَرَرَةٍ) أي مطيعين له جمع بار.

قوله عزوجل : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن الكافر وطرد (ما أَكْفَرَهُ) أي أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه ، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب ، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر ، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب ، وقيل في أمية بن خلف ، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر ، وقيل الآية عامة في كل كافر ، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن الله تعالى : خالقه منه فقال تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) لفظه استفهام ومعناه التّقرير ، ثم فسر ذلك فقال تعالى (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) يعني خلقه أطوارا نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ، إلى آخر خلقه ، وقيل قدره يعني خلق رأسه ، وعينيه ويديه ، ورجليه على قدر ما أراده (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه ، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل ، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه. (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعل له قبرا يوارى فيه ، وقيل جعله مقبورا ، ولم يجعله ملقى للسّباع ، والوحوش والطّيور ، أو أقبره معناه ستره الله بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه ، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. ثم قال تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي أحياه بعد موته للبعث ، والحساب وإنما قال تعالى (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة الله تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم (كَلَّا) ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه ، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد ، وإنكار البعث والحساب (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي لم يفعل ما أمره به ربه ، ولم يؤد ما فرض عليه ، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه ، ويسره ودبره له وجعله سببا لحياته ، وقيل مدخل طعامه ومخرجه. ثم بين ذلك فقال تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) يعني المطر.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧))

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي بذلك الماء (حَبًّا) يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان (وَعِنَباً) يعني أنه غذاء من وجه ، وفاكهة من وجه ، فلهذا أتبعه الحب (وَقَضْباً) يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب ، أي يقطع في كل الأيام ، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب.

٣٩٥

(وَزَيْتُوناً) وهو ما يعصر منه الزيت (وَنَخْلاً وَحَدائِقَ) جمع حديقة (غُلْباً) يعني غلاظ الأشجار ، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض. وقال ابن عباس : طوالا (وَفاكِهَةً) يعني جميع ألوان الفاكهة (وَأَبًّا) يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام ، وقيل فاكهة ما يأكله الناس ، والأب ما يأكله الدّواب. وقال ابن عباس : ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس. والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم (خ) عن أنس أن عمر قرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) قال فما الأب ، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري ، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه. (مَتاعاً لَكُمْ) يعني الفواكه والحب ، والعشب منفعة لكم (وَلِأَنْعامِكُمْ) ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق ، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه ، والمراد من الفرار التّباعد ، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان قصرت في برنا ، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا ، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه ، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء ، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا ، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة ، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة ، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحشرون حفاة عراة غرلا ، فقالت امرأة أيبصر أحدنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض قال : يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن صحيح ولما ذكر الله تعالى حال القيامة ، وأهوالها بين حال المكلفين ، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء. فوصف السّعداء بقوله تعالى :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء ، وقيل مسفرة من قيام اللّيل ، وقيل من أثر الوضوء ، وقيل من الغبار في سبيل الله (ضاحِكَةٌ) أي عند الفراغ من الحساب (مُسْتَبْشِرَةٌ) أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة الله ، ورضوانه. ثم وصف الأشقياء فقال تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي تعلوها ، وتغشاها ظلمة ، وكسوف وقال ابن عباس : تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض ، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء (أُولئِكَ) أي الذين صنع بهم هذا (هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) جميع كافر وفاجر والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٣٩٦

سورة التكوير

مكية وهي تسع وعشرون آية ومائة ، وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثون حرفا.

عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ») أخرجه الترمذي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧))

قوله عزوجل : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال ابن عباس : أظلمت ، وغورت ، وقيل اضمحلت ، وقيل لفت كما تلف العمامة ، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض ، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها ، قال ابن عباس : يكور الله الشّمس ، والقمر ، والنّجوم يوم القيامة في البحر ، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا. (خ) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة» قيل إن الشّمس ، والقمر ، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سببا لازدياد الحر في جهنم. (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تناثرت من السماء ، وسقطت على الأرض. قال الكلبي وعطاء : تمطر السّماء يومئذ نجوما ، فلا يبقى نجم إلا وقع (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي عن وجه الأرض ، فصارت هباء منثورا. (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها ، واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة ، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت ، وتركت هملا بلا راع أهملها أهلها ، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة. (وَإِذَا الْوُحُوشُ) يعني من دواب البر (حُشِرَتْ) أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض. وقال ابن عباس : حشرها موتها قال : وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة. (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم ، وقيل فجر بعضها في بعض العذاب ، والملح حتى صارت البحار كلها بحرا واحدا وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار ، وقيل سجرت أي يبست ، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة.

قال أبي بن كعب : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت ، واضطربت ، وفزعت الإنس ، والجن ، واختلطت الدّواب ، والطّير ، والوحش ، وماج بعضهم في بعض. فذلك قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)

٣٩٧

فحينئذ تقول الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فينطلقون إلى البحر ، فإذا هو نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم ، وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة ، وهي ما ذكر بعد هذه. وهو قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار ، وقيل ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله ، وقيل زوّجت النّفوس بأعمالها ، وقيل زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين ، وقيل معنى زوّجت ردت الأرواح إلى الأجساد.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣))

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) يعني الجارية التي دفنت ، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيئدها ، أي يثقلها حين تموت ، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. تدفن البنات حية مخافة العار ، والحاجة ، وروي عن ابن عباس قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت ، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة ، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة ، وإذا ولدت غلاما حبسته ، وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت ، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف ، أو شعر وتركها ترعى الإبل ، والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب ، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر بئرا في الصّحراء ، فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، فإذا نظرت دفعها من ورائها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الوائدة ، والموءودة في النّار» أخرجه أبو داود ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد ، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال :

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توأد

(بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) معناه تسأل الموءودة ، فيقال لها ، بأي ذنب قتلت ، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها. لأنها قتلت بغير ذنب. (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي نزعت ، وطويت ، وقيل قلعت كما يقلع السقف ، وقيل كشفت ، وأزيلت عمن فيها. (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أوقدت لأعداء الله تعالى (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت لأولياء الله.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢))

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير ، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا.

قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة والمعنى أقسم ، وقد تقدم ذلك في قوله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

(بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) يعني النّجوم تبدو بالليل ، فتظهر ، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس ، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب ، وقيل هي النّجوم الخمسة زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ،

٣٩٨

تخنس في مجاريها ، أي ترجع وراءها في الفلك ، وتنكس ، أي تستر وقت اختفائها ، وقيل إنها تخنس ، أي تتأخر عن مطالعها ، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار ، وقيل هي الظباء ، وهي رواية عن ابن عباس ، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء ، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها ، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش. (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أقبل بظلامه وقيل أدبر ، والعسعسة رقة الظّلام ، وذلك يكون في طرف الليل. (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أقبل وبدا أوله وقيل أسفر.

وفي تنفسه قولان أحدهما : أن في إقبال الصبح روحا ، ونسيما فجعل ذلك نفسا على المجاز الثاني ، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون ، فإذا تنفس وجد راحة ، فكأنه تخلص من الحزن ، فعبر عنه بالتنفس ، فهو استعارة لطيفة ، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى : (إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن الله عزوجل : (ذِي قُوَّةٍ) وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، فرفعها إلى السماء ، ثم قلبها ، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة ، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند ، وأنه صاح صيحة بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض ، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي في المنزلة والجاه (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السموات تطيعه الملائكة ، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله (أَمِينٍ) يعني على وحي الله تعالى إلى أنبيائه (وَما صاحِبُكُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب كفار مكة (بِمَجْنُونٍ) وهذا أيضا من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة ، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون ، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى الله عنه الجنون ، وكون القرآن من عند نفسه.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(وَلَقَدْ رَآهُ) يعني رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام «إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال : لن تقوى على ذلك قال ، بلى قال ، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح ، قال لا يسعني ذلك ، قال : فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات ، قال : لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه ، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق ، والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خر مغشيا عليه ، فتحول جبريل عن صورته ، وضمه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ، ورأسه تحت العرش ، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو ، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته» (وَما هُوَ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ) أي الوحي وخبر السّماء ، وما اطلع عليه مما كان غائبا عن علمه من القصص والأنباء. (بِضَنِينٍ) قرأ بالظاء ، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة ، وقرئ بضنين بالضاد ، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب ، ولا يبخل به عليكم ، ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، وهو أجرة الكاهن ، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه ، وإنما اتهموه ، فنفى الله عنه تلك التهمة ، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب. (وَما هُوَ) يعني

٣٩٩

القرآن (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) يعني إن القرآن ليس بشعر ، ولا كهانة كما قالت قريش ، وقيل كانوا يقولون إن شيطانا يلقيه على لسانه ، فنفى الله ذلك عنه ، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأين تعدلون عن القرآن ، وفيه الشفاء ، والهدى ، والبيان ، وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم. (إِنْ هُوَ) يعني ما في القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي موعظة للخلق أجمعين (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي يتبع الحق ، ويقيم عليه ، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته فقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أعلمهم الله أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله ، وتوفيقه ، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله تعالى ؛ ولا شرا إلا بخذلانه ، ومشيئته والله تعالى أعلم.

٤٠٠