تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

سورة الانفطار

مكية وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦))

قوله عزوجل : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فجر بعضها في بعض واختلط العذب بالملح ، فصارت بحرا واحدا ، وقيل معنى فجرت فاضت. (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي بحثرت ، وقلب ترابها وبعث من فيها منه الموتى أحياء. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) يعني علمت في ذلك اليوم ما قدمت من عمل صالح ، أو سيئ ، وأخرت بعدها من حسنة أو سيئة ، وقيل ما قدمت من الصّدقات وأخرت من الزّكوات ، وهذه أحوال يوم القيامة. قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي ما خدعك ، وسول لك الباطل حتى صنعت ما صنعت ، وضيعت ما أوجب عليك ، والمعنى ماذا أمنك من عقابه ، قيل نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقيل في أبي الشّريق ، واسمه أسيد بن كلدة ، وقيل كلدة بن خلف ، وكان كافرا ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعاقبه الله وأنزل الله هذه الآية ، وقيل الآية عامة في كل كافر وعاص ، يقول ما الذي غرك ، قيل غره حمقه ، وجهله وقيل تسويل الشّيطان له ، وقيل غره عفو الله عنه حيث لم يعاجله بالعقوبة في أول مرة بربك الكريم ، أي المتجاوز عنك ، فهو بكرمه لك لم يعاجلك بعقوبته بل بسط لك المدة لرجاء التّوبة. قال ابن مسعود «ما منكم من أحد إلا سيخلو الله عزوجل به يوم القيامة. فيقول : يا ابن آدم ما غرك بي يا ابن آدم! ماذا عملت؟ فيما علمت يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين» ، وقيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة فيقول لك يا ابن آدم ما غرك بربك الكريم ؛ ماذا كنت تقول. قال : أقول غرني ستورك المرخاة ، وقال يحيى بن معاذ : لو أقامني بين يديه ، وقال ما غرك بي أقول غرني بربك بي سالفا وآنفا ، وقال أبو بكر الوراق لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت غرني كرم الكريم ، وقال بعض أهل الإشارة. إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه ، وصفاته كأنه لقنه حجته في الإجابة حتى يقول غرني كرم الكريم.

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥))

(الَّذِي خَلَقَكَ) أي أوجدك من العدم إلى الوجود (فَسَوَّاكَ) أي جعلك سويا سالم الأعضاء ، تسمع

٤٠١

وتبصر (فَعَدَلَكَ) أي عدل خلقك في مناسبة الأعضاء فلم يجعل بعضها أطول من بعض ، وقيل معناه جعلك قائما معتدلا حسن الصّورة ، ولم يجعلك كالبهيمة المنحنية (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي في أي شبه من أب أو أم أو خال أو عم ، وجاء في الحديث «إن النطفة إذا استقرت في الرّحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم ثم قرأ : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ») ، وقيل معناه إن شاء ركبك في صورة إنسان ، وإن شاء في صورة دابة أو حيوان ، وقيل في أي صورة ما شاء ركبك من الصور المختلفة بحسب الطول ، والقصر ، والحسن ، والقبح والذكورة ، والأنوثة ، وفي هذه دلالة على قدرة الصانع المختار القادر. وذلك أنه لما اختلفت الهيئات ، والصفات دل ذلك على كمال القدرة ، واتساع الصنعة ، وأن المدبر المختار هو الله تعالى.

قوله عزوجل : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي بيوم الحساب والجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) يعني رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم (كِراماً) أي على الله (كاتِبِينَ) أي يكتبون أقوالكم وأعمالكم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعني من خير أو شر. قوله عزوجل (إِنَّ الْأَبْرارَ) يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء ما افترض الله عليهم ، واجتناب معاصيه. (لَفِي نَعِيمٍ) يعني نعيم الجنة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) روي أن سليمان بن عبد الملك قال : لأبي حازم المزني ليت شعري ما لنا عند الله ، فقال له : اعرض عملك على كتاب الله ، فإنك تعلم ما لك عند الله ، قال : أين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال : عند قوله (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) قال سليمان فأين رحمة الله قال قريب من المحسنين (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي عن النّار ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) قيل المخاطب بذلك هو الكافر ، وهو على وجه الزّجر له ، وقيل هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والمعنى أي شيء أعلمك به لو لم نعرفك أحواله (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) التكرير لتعظيم ذلك اليوم ، وتفخيم شأنه (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا تملك نفس كافرة لنفس كافرة شيئا من المنفعة (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) يعني أنه لم يملك الله في ذلك أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا ، والله أعلم.

٤٠٢

سورة المطففين

مدنية في قول ومكية في قول : وقيل فيها ثمان آيات مكية وهي من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها ، وقيل فيها آية مكية ، وهي قوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقيل إنها نزلت بين مكة ، والمدينة زمن

الهجرة ، وهي ست وثلاثون آية ومائة وتسع وستون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢))

قوله عزوجل : (وَيْلٌ) أي قبح وهي كلمة تذكر عند وقوع البلاء ، يقال ويل له وويل عليه ، وقيل ويل اسم واد في جهنم (لِلْمُطَفِّفِينَ) يعني الذين ينقصون المكيال والميزان لأنه لا يكاد المطفف يسرق في الكيل والوزن ، إلا الشيء اليسير الطّفيف قال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلا. فأنزل الله عزوجل : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل ، وقيل لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وبها رجل يقال له أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية وجعل الويل للمطففين ثم بين من هم. فقال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يعني أنهم إذا اكتالوا من النّاس ، ومن وعلى يتعاقبان ، وقيل معناه إذا اكتالوا من النّاس ، أي اشتروا شيئا استوفوا عليهم لأنفسهم الكيل والوزن.

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧))

(وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) يعني وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للناس كما يقال نصحتك ونصحت لك. (يُخْسِرُونَ) أي ينقصون الكيل والوزن وهذا الوعيد يلحق من يأخذ لنفسه زائدا ويدفع إلى غيره ناقصا ، ويتناول الوعيد القليل والكثير لكن إذا لم يتب منه فإن تاب منه ورد الحقوق إلى أهلها قبلت توبته ومن فعل ذلك ، وأصر عليه كان مصرا على كبيرة من الكبائر ، وذلك لأن عامة الخلق محتاجون إلى المعاملات وهي مبنية على أمر الكيل والوزن والذرع ، فلهذا السبب عظم الله أمر الكيل والوزن ، قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له اتق الله أوف الكيل والوزن ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق ، وقال قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، واعدل كما تحب أن يعدل لك ، قال الفضيل : بخس الميزان سواد يوم القيامة. (أَلا يَظُنُ) أي ألا يعلم ويستيقن (أُولئِكَ) أي الذين يفعلون هذا الفعل ، وهم المطففون (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) يعني من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأمره وجزائه وحسابه (ق) عن نافع «أن ابن عمر تلا (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال يقوم أحدهم في

٤٠٣

رشحه إلى أنصاف أذنيه» ، وروي مرفوعا عن المقداد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «تدنو الشّمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل» زاد التّرمذي أو ميلين «قال سليم بن عامر والله ما أدري ما يعني بالميل مسافة الأرض ، أو الميل ما تكتحل به العين قال فيكون النّاس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، وأشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيديه إلى فيه» قوله عزوجل : (كَلَّا) قيل إنه ردع وتنبيه أي ليس الأمر على ما هم عليه من بخس الكيل والميزان ، فليرتدعوا عنه فعلى هذا تم الكلام هنا ، وقيل كلا ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي الذي كتبت فيه أعمالهم (لَفِي سِجِّينٍ) قال ابن عمر هي الأرض السابعة السفلى ، وفيها أرواح الكفار وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله عزوجل (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) قال إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء ، فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض ، فتأبى أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين ، وهو موضع جند إبليس فيخرج لها من سجين رق ، فليتم ويختم ويوضع تحت جند إبليس لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة ، وقيل هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السماء منها فتقلب ، ويجعل كتاب الفجار تحتها ، قال وهب : هي آخر سلطان إبليس وجاء في الحديث «الفلق جب في جهنم مغطى وسجين جب في جهنم مفتوح» ، وقيل معناه لفي سجين لفي خسار وضلال ، وقيل إنه مشتق من السجن ، ومعناه لفي حبس وضيق شديد.

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ، ولا قومك ، وقيل إنما قال ذلك تعظيما لأمر سجين (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس هذا تفسيرا للسجن وإنما هو بيان للكتاب المذكور في قوله (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) والمعنى إن كتاب الفجار مرقوم أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثّوب لا ينسى ولا يمحى حتى يحاسبوا به ، ويجازوا عليه ، وقيل مرقوم رقم عليه بشر كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر ، وقيل مرقوم أي مختوم وهو بلغة حمير (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قيل إنه متصل بقوله يوم يقوم النّاس لرب العالمين ومعنى الآية ويل لمن كذب بهذا اليوم ، وقيل معناه مرقوم بالشّقاوة ، ثم قال ويل يومئذ للمكذبين أي في ذلك اليوم من ذلك الكتاب المرقوم عليهم بالشقاوة (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي بيوم القيامة (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي متجاوز عن نهج الحق (أَثِيمٍ) هو مبالغة في الآثم وهو المرتكب الإثم والمعاصي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيب الأولين.

قوله عزوجل : (كَلَّا) أي لا يؤمن ثم استأنف فقال (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن العبد إن أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي قال الله : (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ») أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن صحيح وأصل الرّان الغلبة ومعنى الآية أن الذّنوب والمعاصي غلبت على قلوبهم وأحاطت بها ، وقيل هو الذنب على الذّنب حتى يميت القلب وقال ابن عباس : ران على قلوبهم طبع عليها ، وقيل الرين أن يسود القلب من الذّنوب ، والطّبع أن يطبع على القلب وهو أشد من الرّين والإقفال أشد من الطّبع وقيل الرّين التغطية ، والمعنى أنه يغشى القلب شيء كالصدى فيغطيه فعند ذلك يموت القلب.

٤٠٤

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠))

(كَلَّا) قال ابن عباس يريد لا يصدقون وقيل معناه ليس الأمر كما يقولون إن لهم في الآخرة خيرا ثم استأنف فقال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قيل عن كرامته ورحمته ممنوعون ، وقيل إن الله لا ينظر إليهم ولا يزكيهم وهذا التّفسير فيه ضعف أما حمله على منع الكرامة والرّحمة فهو عدول عن الظّاهر بغير دليل ، وكذا الوجه الثاني فإن من حجب عن الله فإن الله لا ينظر إليه نظر رحمة ، ولا يزكيه والذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنهم محجوبون عن رؤية الله ، وهذا هو الصّحيح واحتج بهذه الآية من أثبت الرّؤية للمؤمنين قالوا : لو لا ذلك لم يكن للتّخصيص فائدة ، ووجه آخر وهو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتّهديد للكفار ، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمنين ، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمنين قال الحسن : لو علم الزّاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدّنيا.

وقيل كما حجبهم في الدّنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته وسئل مالك عن هذه الآية ، فقال : لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه ، وقال الشافعي في قوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) دلالة على أن أولياء الله يرون الله جلّ جلاله وعنه كما حجب قوما بالسّخط دل على أن قوما يرونه بالرضا ، ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبون عن الله يدخلون النّار. فقال عز من قائل (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي لداخلو النّار (ثُمَّ يُقالُ) أي تقول لهم الخزنة (هذَا) أي هذا العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يعني في الدنيا (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يتوهمه الفجار من إنكار البعث ، وقيل كلا أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه ، ثم بين محل كتاب الأبرار فقال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) جمع علي من العلو ، وقيل هو موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه وتقدم من حديث البراء المرفوع إن عليين في السّماء السابعة تحت العرش وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه ، وقيل هو قائمة العرش اليمنى وقال ابن عباس في رواية عنه في الجنة ، وقيل هي سدرة المنتهى ، وقيل معناه علو بعد علو وشرف بعد شرف ، وقيل هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقد عظّمها الله وأعلاها. (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) تنبيها له على عظم شأنه (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسير العليين ، والمعنى أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين فيه ما أعد لهم في الآخرة من الكرامة ، وقيل مكتوب فيه أعمالهم وعليون محل الملائكة وضده سجين ، وهو محل إبليس وجنوده.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧))

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ، أي يحضرون ذلك المكتوب ومن قال إنه كتاب الأعمال قال : يشهد ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين المقربون من الملائكة لكرامة المؤمن.

قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ) يعني المطيعين لله (لَفِي نَعِيمٍ) يعني نعيم الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي الأسرة في الحجال (يَنْظُرُونَ) أي إلى ما أعد الله لهم من نعيم الجنة ، وقيل ينظرون إلى أعدائهم كيف يعذبون في النّار ، وقيل ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يعني أنك إذا رأيتهم تعرف أنهم من أهل النعمة لما ترى على وجوههم من النّور والحسن والبياض ، قيل النضرة في الوجه والسرور في

٤٠٥

القلب (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) يعني الخمر الصّافية الطّيبة البيضاء (مَخْتُومٍ) يعني ختم على ذلك الشراب ومنع من أن تمسه الأيدي إلى أن يفك ختمه الأبرار.

فإن قلت قد قال في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) والنهر لا يختم عليه فكيف طريق الجمع بين الآيتين ، قلت يحتمل أن يكون المذكور في هذه الآية. في أوان مختوم عليها ، وهي غير تلك الخمر التي في الأنهار ، وإنما ختم عليها لشرفها ونفاستها (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي طينته التي ختم عليه بها مسك بخلاف خمر الدّنيا فإن ختامها طين وقال ابن مسعود مختوم أي ممزوج ختامه أي آخر طعمه ، وعاقبته مسك ، وقيل يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي فليرغب الرّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عزوجل ، ليحصل لهم هذا الشّراب المختوم بالمسك وقيل أصله من الشيء النّفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن ويبخل (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي شراب ينصب عليهم من غرفهم ومنازلهم وقيل يجري في الهواء مسنما فيصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها فإذا امتلأت أمسك وأصل هذه الكلمة من العلو ومنه سنام البعير لأنه أعلاه ، وقيل هو شراب اسمه تسنيم وهو من أشرف شراب أهل الجنة وقال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمقربين يشربونه صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة ، وسئل ابن عباس عن قوله من تسنيم فقال : هذا مما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤))

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) أي منها وقيل يشربها (الْمُقَرَّبُونَ) أي صرفا وقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي أشركوا يعني كفار قريش أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي أهل مكة (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من عمار وخباب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين (يَضْحَكُونَ) أي منهم ويستهزئون بهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) يعني مر المؤمنون الفقراء بالكفار الأغنياء (يَتَغامَزُونَ) يعني يتغامز الكفار والغمز الإشارة بالجفن والحاجب أي يشيرون إليها بالأعين استهزاء بهم (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ) يعني الكفار (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي معجبين بما هم فيه ، وقيل ينقلبون بذكرهم كأنهم يتفكهون بحديثهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ) يعني رأوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي هم في ضلال يأتون محمدا ويرون أنهم على شيء. قال الله عزوجل : (وَما أُرْسِلُوا) يعني المشركين (عَلَيْهِمْ) يعني على المؤمنين (حافِظِينَ) أي لأعمالهم والمعنى أنهم لم يوكلوا بحفظ أعمالهم قوله عزوجل : (فَالْيَوْمَ) يعني في الآخرة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) وسبب هذا الضحك أن الكفار لما كانوا في الدّنيا يضحكون من المؤمنين لما هم فيه من الشدة والبلاء فلما أفضوا إلى الآخرة انعكس ذلك الأمر فصار المؤمنون في السرور والنّعيم وصار الكفار في العذاب والبلاء ، فضحك المؤمنون من الكافرين لما رأوا حالهم وقال أبو صالح : تفتح للكافرين أبواب النّار وهم فيها ويقال لهم اخرجوا فإذا انتهوا إليها أغلقت دونهم فيفعل ذلك بهم مرارا والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون منهم وقال كعب بين الجنة والنّار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه في الدّنيا من الكفار اطلع عليه من تلك الكوى وهو يعذب فيضحك منه فذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ).

٤٠٦

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهو السرير ويتخذ في الحجلة وهي الكلة يزين بها البيت ، وأرائك الجنة من الدر والياقوت (يَنْظُرُونَ) يعني إليهم وهم في النّار يعذبون قال الله تعالى (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) أي جوزي الكفار (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي بالمؤمنين من الاستهزاء والضحك وهذا الاستفهام بمعنى التقرير ، وثوب ، وأثيب بمعنى ، قال أوس :

سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤٠٧

سورة الانشقاق

(مكية وهي خمس وعشرون آية ومائة وسبع كلمات وأربعمائة وثلاثون حرفا) بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧))

قوله عزوجل : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) يعني عند قيام السّاعة وهي من علاماتها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي سمعت أمر ربها بالانشقاق ، وأطاعته من الأذن وهو الاستماع (وَحُقَّتْ) أي حق لها أن تطيع أمر ربها (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) يعني مد الأديم العكاظي وزيد في سعتها ، وقيل سويت فلا يبقى فيها بناء ولا جبل (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي أخرجت ما في بطنها من الموتى والكنوز (وَتَخَلَّتْ) أي من ذلك الذي كان في بطنها من الموتى والكنوز (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) واختلفوا في جواب إذا فقيل جوابه محذوف تقديره إذا كان هذه الأشياء يرى الإنسان الثواب أو العقاب ، وقيل جوابه يا أيّها الإنسان إنك كادح والمعنى إذا انشقت السّماء لقي كل كادح ما عمله وقيل جوابه وأذنت وحينئذ تكون الواو زائدة (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي ساع إليه في عملك سعيا والكدح عمل الإنسان وجهده في الأمرين الخير والشّر ، وقيل معناه عامل لربك عملا وقيل معناه إنك كادح في لقاء ربك وهو الموت ، والمعنى أن هذا الكدح يستمر بك إلى الموت ، وقيل معناه إنك تكدح في دنياك كدحا تصير به إلى ربك. (فَمُلاقِيهِ) أي فملاق جزاء عملك.

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧))

(فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) سوف من الله واجب والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله ، فيعرف بالطاعة ، والمعصية ثم يثاب على الطاعة ، ويتجاوز له عن المعصية فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة فيه على صاحبه ، ولا مناقشة ولا يقال له لم فعلت هذا ولا يطالب بالعذر فيه ، ولا الحجة عليه فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذرا ، ولا حجة فيفتضح (ق) عن ابن أبي مليكة أن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من حوسب عذب قال : فقلت ، أو ليس يقول الله عزوجل فسوف يحاسب حسابا

٤٠٨

يسيرا قالت فقال إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب. (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) يعني في الجنة من الحور العين والآدميات (مَسْرُوراً) أي بما أوتي من الخير والكرامة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) يعني أنه تغل يده اليمنى إلى عنقه ، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره ، فيعطي كتابه بشماله من وراء ظهره ، وقيل تخلع يده الشّمال فتخرج من وراء ظهره فيعطي بها كتابه (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) يعني عند إعطائه كتابه بشماله من وراء ظهره يعلم أنه من أهل النّار فيدعو بالويل والهلاك ، فيقول يا ويلاه يا ثبوراه (وَيَصْلى سَعِيراً) أي ويقاسي التهاب النّار وحرها (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) يعني في الدنيا (مَسْرُوراً) يعني باتباع هواه وركوب شهواته (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع إلينا ولن يبعث والحور الرجوع (بَلى) ليس الأمر كما ظن بل يحور إلينا ، ويبعث ويحاسب (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي من يوم خلقه إلى أن يبعث قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) تقدم الكلام (فَلا أُقْسِمُ) في سورة القيامة.

وأما الشّفق فقال مجاهد : هو النهار كله وحجته في ذلك أنه عطف عليه فيجب أن يكون المذكور أولا هو النهار فعلى هذا الوجه يكون القسم باللّيل والنهار اللذين فيهما معاش العالم وسكونه ، وقيل هو ما بقي من النّهار وقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشّمس ، وهو مذهب عامة العلماء ، وقيل هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة وهو مذهب أبي حنيفة (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع وضم ما كان منتشرا بالنهار من الخلق والدواب والهوام وذلك أن اللّيل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه ، وقيل وما عمل فيه ويحتمل أن يكون ذلك تهجد العباد ، فيجوز أن يقسم به.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١))

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اجتمع وتم نوره وذلك في الأيام البيض ، وقيل استدار واستوى ، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه فقال تعالى (لَتَرْكَبُنَ) قرئ بفتح الباء وهو خطاب الواحد والمعنى لتركبن يا محمد (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) يعني سماء بعد سماء وقد فعل الله ذلك معه ليلة أسري به ، فأصعده سماء بعد سماء ، وقيل درجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله تعالى : وقيل معناه لتركبن حالا بعد حال (خ) عن ابن عباس قال : لتركبن طبقا عن طبق حالا بعد حال هذا لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى هذا يكون لك الظفر والغلبة على المشركين حتى يختم لك بجميل العاقبة فلا يحزنك تكذيبهم وتماديهم في كفرهم وقرئ لتركبن بضم الباء ، وهو الأشبه ويكون خطاب الجمع والمعنى لتركبن أيّها النّاس حالا بعد حال وأمرا بعد أمر ، وذلك في موقف القيامة تتقلب بهم الأحوال فيصيرون في الآخرة على غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وقال ابن عباس يعني الشّدائد وأهوال الموت ثم البعث ثم العرض ، وقيل حال الإنسان حالا بعد حال رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم كهل ثم شيخ ، وقيل معناه لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم. (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لتتبعن سنن من كان قبلكم وأحوالهم شبرا بعد شبر وذراعا بعد ذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنّصارى قال فمن» ، وقيل في معنى الآية إنه أراد به السّماء تتغير لونا بعد لون فتصير تارة وردة كالدّهان وتارة كالمهل وتنشق مرة وتطوي أخرى (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بالبعث والحساب وهو استفهام إنكار (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) يعني لا يصلون فعبر بالسّجود عن الصّلاة لأنه جزء منها ، وقيل أراد به سجود التلاوة وهذه السّجدة أحد سجدات القرآن عند الشّافعي ومن وافقه (ق) عن رافع قال «صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد ، فقلت ما هذا قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أزال

٤٠٩

أسجد فيها حتى ألقاه ولمسلم عنه قال : «سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) يعني بالقرآن والبعث (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) يعني يجمعون في صدورهم من التكذيب (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) يعني على عنادهم وكفرهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يعني غير مقطوع ولا منقوص في الآخرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٤١٠

سورة البروج

مكية وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلمات وأربعمائة وخمسة وستون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤))

قوله عزوجل : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) يعني البروج الاثني عشر وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب حكمة الباري جلّ جلاله ، وهو سير الشّمس والقمر الكواكب فيها على قدر معلوم لا يختلف وقيل البروج والكواكب العظام سميت بروجا لظهورها (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يعني يوم القيامة (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليوم الموعود يوم القيامة ، والمشهود يوم عرفة ، والشّاهد يوم الجمعة ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه الله منه» أخرجه الترمذي وضعف أحد رواته من قبل حفظه وهذا قول ابن عباس والأكثرين أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وقيل الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر وقيل الشاهد يوم التّروية ، والمشهود يوم عرفة وإنما حسن القسم بهذه الأيام لعظمها وشرفها ، واجتماع المسلمين فيها ، وقيل الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة ، وقيل الشّاهد هم الأنبياء والمشهود أي عليهم هم الأمم وقيل الشاهد هو الملك والمشهود أي عليه هو آدم وذريته ، وقيل الشّاهد هذه الأمة ونبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشهود عليهم هم الأمم المتقدمة ، وقيل الشّاهد الأنبياء والمشهود له هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الأنبياء قبله شهدوا له بالنبوة وقوله ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها ، وعظمها. وجواب القسم قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي لعن وقتل وقيل جوابه (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) والأخدود الشق المستطيل في الأرض.

واختلفوا فيهم فروي عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى السّاحر مر بالراهب ، وقعد إليه فإذا أتى السّاحر ضربه ، وإذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر ، فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال اليوم أعلم الرّاهب أفضل أم الساحر فأخذ حجرا ثم قال اللهم إن كان أمر الرّاهب أحب إليك من أمر السّاحر ، فاقتل هذه الدّابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك مبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ

٤١١

فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي النّاس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ها هنالك أجمع إن أنت شفيتني قال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عزوجل ، فإن آمنت بالله دعوت الله عزوجل فشفاك فآمن به فشفاه الله عزوجل فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك من رد عليك بصرك فقال ربي : فقال أو لك رب غيري قال ربي ، وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام فجيء بالغلام ، فقال له الملك أي بني إنه قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عزوجل فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الرّاهب فجيء له بالرّاهب ، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك ، فقيل له ارجع عن دينك فدعا بالميشار فوضع الميشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل ، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله تعالى فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فقال : وما هو قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل بسم الله رب الغلام ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات ، فقال الناس آمنا برب الغلام ثلاثا ، فأتى الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد ، والله نزل بك حذرك قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أماه اصبري ولا تقاعسي فإنك على الحق». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم.

وفي هذا الحديث إثبات كرامات الأولياء ، وفيه جواز الكذب في مصلحة ترجع إلى الدين ، وفيه إنقاذ النفس من الهلاك والأكمه هو الذي خلق أعمى ، والميشار بالياء وتخفيف الهمزة وروي بالنون وذروة الجبل بالضم والكسر أعلاه ، ورجف تحرك واضطرب والقرقور بضم القاف الأولى السفينة الصغيرة وانكفأت انقلبت ، والصّعيد هنا الأرض البارزة والسّكك الطّرق والأخدود الشّق العظيم في الأرض ، وأقحموه أي ارموه وتقاعست أي تأخرت وكرهت الدخول في النار. وقال ابن عباس : «كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه يسلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك». وذكر نحو حديث صهيب وقال وهب بن منبه : إن رجلا كان قد بقي على دين عيسى ، فوقع إلى نجران فأحبوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النّار واليهودية ، فأبوا عليه فخدّ الأخدود وحرق اثني عشر ألفا ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا ، فاقتحم البحر بفرسه فغرق.

وقال : محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر إن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب ، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه ، إذا أميطت يده عنها انبعثت دما ، وإذا تركت ارتدت مكانها وفي

٤١٢

يده خاتم حديد فيه مكتوب ربي الله فبلغ ذلك عمر ، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.

وقال : سعيد بن جبير وابن أبزى لما انهزم أهل اسفندهار ، قال : عمر بن الخطاب أيّ شيء يجري على المجوس من الأحكام ، فإنهم ليسوا بأهل كتاب ، فقال علي بن أبي طالب بلى قد كان لهم كتاب ، وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم ، فغلبت على عقله فوقع على أخته فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه قالت : المخرج منه أنّك تخطب الناس وتقول إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته. فقام خطيبا بذلك فقال إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات فقال الناس بأجمعهم معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به ، ما جاءنا به من نبي ، ولا أنزل علينا في كتاب ، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا ، فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا به فجرد لهم الأخدود ، وأوقدوا فيها النيران وعرضهم عليها فمن أبى قذفه في النار ومن أجاب أطلقه. وروي عن علي قال كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي بعث من الحبشة إلى قومه ثم قرأ عليّ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) الآية ، فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم الكفار ، فقتل أصحابه وأخذ من انفلت منهم فأوثقوه ثم خدوا له أخدودا فملؤوها نارا ، فمن تبع ذلك النبي رمي به في النار ومن تابعهم تركوه فجاؤوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت ، فقال الصبي يا أماه قعي ولا تقاعسي وقيل كانت الأخدود ثلاثة واحدة بنجران باليمن ، والأخرى بالشام ، والأخرى بفارس حرقوا بالنار فأما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي وأما التي بفارس فبختنصر ويزعمون أنهم أصحاب دانيال وأما التي باليمن فذو نواس يوسف ؛ فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهم قرآنا وأنزل في التي بنجران اليمن وذلك أن هذه القصة كانت مشهورة عند أهل مكة ، فذكر الله تعالى ذلك لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحملهم بذلك على الصبر ، وتحمل المكاره في الدين.

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠))

وقوله تعالى : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) ، هو تعظيم لأمر تلك النار قال الربيع بن أنس نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بقبض أرواحهم ، قبل أن تمسهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) ، أي جلوس عند الأخدود (وَهُمْ) يعني الملك الذي خد الأخدود وأصحابه (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم (شُهُودٌ) أي حضور وقيل يشهدون أن المؤمنين ضلال حين تركوا عبادة الصنم ، (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) قال ابن عباس ما كرهوا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) ، وقيل ما عابوا ولا علموا فيهم عيبا إلا إيمانهم بالله (الْعَزِيزِ) ، يعني إن الذي يستحق العبادة هو الله العزيز الغالب القاهر الذي لا يغالب ولا يدافع ، (الْحَمِيدِ) يعني الذي يستحق أن يحمد ويثنى عليه ، وهو أهل لذلك وهو الله جل جلاله ، (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فهو المستحق للعبادة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي من أفعالهم بالمؤمنين. (شَهِيدٌ) وفيه وعد عظيم للمؤمنين ووعيد عظيم للكافرين.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) أي عذّبوا وأحرقوا (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي بالنار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر وفيه دليل على أنهم إذا تابوا وآمنوا يقبل منهم ، ويخرجون من هذا الوعيد ، وأن الله تعالى يقبل منهم التوبة ، وأن توبة القاتل مقبولة ، وأنهم إن لم يتوبوا (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) يعني لهم عذاب جهنم بكفرهم ، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين ، وقيل لهم عذاب الحريق في

٤١٣

الدنيا وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي أحرقوا بها المؤمنين ارتفعت إليهم من الأخدود فأحرقتهم ، ولهم عذاب جهنم في الآخرة ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). قوله عزوجل : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) قال ابن عباس إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي يخلقهم أولا في الدنيا ، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت ليجازيهم بأعمالهم في القيامة (وَهُوَ الْغَفُورُ) يعني لذنوب جميع المؤمنين. (الْوَدُودُ) أي المحب لهم ، وقيل المحبوب أي يوده أولياؤه ويحبونه ، وقيل يغفر ويود أن يغفر ، وقيل هو المتودد إلى أوليائه بالمغفرة. (ذُو الْعَرْشِ) أي خالقه ومالكه. (الْمَجِيدُ) قرئ بالرفع على أنه صفة لله تعالى لأن المجد من صفات التعالي والجلال ، وذلك لا يليق إلا بالله تعالى. وقرئ المجيد بالكسر على أنه صفة للعرش أي للسرير العظيم إذ لا يعلم صفة العرش وعظمته إلا الله تعالى وقيل أراد حسنه فوصفه بالمجيد فقد قيل إن العرش أحسن الأجسام ، ثم قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يعني أنه لا يعجزه شيء ولا يمنع منه شيء طلبه ، وقيل فعال لما يريد لا يعترض عليه معترض ، ولا يغلبه غالب ، فهو يدخل أولياءه الجنة برحمته ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر. (هَلْ أَتاكَ) أي قد أتاك (حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا على الأنبياء ثم بين من هم فقال تعالى : (فِرْعَوْنَ) يعني وقومه (وَثَمُودَ) وكانت قصتهم عند أهل مكة مشهورة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من قومك يا محمد. (فِي تَكْذِيبٍ) يعني لك وللقرآن كما كذب من كان قبلهم من الأمم ، ولم يعتبروا بمن أهلكنا منهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) ، أي عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي كريم شريف كثير النفع والخير ليس هو كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قرئ بالرفع على أنه نعت للقرآن ، محفوظ يعني أن القرآن من التبديل والتغيير والتحريف ، وقرئ محفوظ بالكسر على أنه نعت للوح لأنه يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب ، ومنه تنسخ الكتب وسمي محفوظا لأنه حفظ من الشياطين من الزيادة والنقص ، وهو عن يمين العرش ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزوجل وصدق بوعده واتبع رسله ، أدخله الجنة» وقال : واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه من نور ، وكلامه سر معقود بالعرش وأصله في حجر ملك والله تعالى أعلم بمراده.

٤١٤

سورة الطارق

مكية وهي سبع عشرة آية ، وإحدى وستون كلمة ، ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣))

قوله عزوجل : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قيل نزلت في أبي طالب وذلك أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم نارا ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله ، فعجب أبو طالب فأنزل الله والسماء والطارق يعني النجم يظهر بالليل ، وكل ما أتاك بالليل فهو طارق ، ولا يسمى ذلك بالنهار ، وسمي النجم طارقا لأنه يطرق بالليل قالت هند :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق

تريد أن أباها نجم في علوه وشرفه. (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) قيل لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرفه ، حتى بينه الله له بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) ، أي المضيء المنير ، وقيل المتوهج ، وقيل المرتفع العالي ، وقيل هو الذي يرمى به الشيطان فيثقبه أي ينفذه ، وقيل النجم الثاقب هو الثريا لأن العرب تسميها النجم ، وقيل هو زحل سمي بذلك لارتفاعه ، وقيل هو كل نجم يرمى به الشيطان لأنه يثقبه فينفذه ، وهذه أقسام أقسم الله بها ، وقيل تقديره ورب هذه الأشياء وجواب القسم قوله تعالى :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩))

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) ، يعني أن كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ، قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة ، وقيل حافظ من الله تعالى يحفظها ، ويحفظ قولها ، وفعلها ، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ، ثم يحل عنها ، وقيل يحفظها من المهالك والمعاطب إلا ما قدر لها.

قوله عزوجل : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) يعني نظر تفكر واعتبار (مِمَّ خُلِقَ) أي من أيّ شيء خلقه ربه ، ثم بيّن ذلك فقال تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ) يعني من مني (دافِقٍ) ، أي مدفوق مصبوب في الرحم ، وأراد به ماء الرجل ، وماء المرأة ، لأن الولد مخلوق منهما وإنما جعله واحدا لامتزاجهما (يَخْرُجُ) يعني ذلك الماء وهو المني ، (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) يعني صلب الرجل ، وترائب المرأة ، وهي عظام الصدر والنحر. قال ابن عباس : هي موضع القلادة من الصدر ، وعنه أنها بين ثديي المرأة ، قيل إن المني ، يخرج من جميع أعضاء الإنسان ، وأكثر ما

٤١٥

يخرج من الدماغ ، فينصب في عرق في ظهر الرجل ، وينزل في عروق كثيرة من مقدم بدن المرأة ، وهي الترائب ، فلهذا السبب خصّ الله تعالى ، هذين العضوين بالذكر (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) يعني إن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل ، وقيل قادر على رد الماء في الصلب الذي خرج منه ، وقيل قادر على رد الإنسان ماء كما كان من قبل ، وقيل معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا ، إلى النطفة وقيل إنّه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر ، وقيل معناه إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء قادر على إعادته حيا بعد موته ، وهو أهون عليه ، وهذا القول هو الأصح ، والأولى بمعنى الآية لقوله تعالى بعده (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وذلك يوم القيامة. قيل معناه تظهر الخبايا. وقيل معنى تبلى تختبر ، وقيل السرائر هي فرائض الأعمال كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، والغسل من الجنابة ، فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربّه عزوجل وذلك لأن العبد قد يقول صليت ولم يصلّ ، وصمت ولم يصم ، واغتسلت ولم يغتسل ، فإذا كان يوم القيامة يختبر حتى يظهر من أداها ومن ضيعها. قال عبد الله بن عمر : يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر ، فيكون زينا في وجوه وشينا في وجوه ، يعني من أدى الفرائض كما أمر كان وجهه مشرقا ، مستنيرا يوم القيامة ، ومن ضيعها أو انتقص منها كان وجهه أغبر.

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

(فَما لَهُ) أي لهذا الإنسان المنكر البعث. (مِنْ قُوَّةٍ) أي يمتنع بها من عذاب الله (وَلا ناصِرٍ) أي ينصره من الله ، ثم ذكر قسما آخر فقال تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي ذات المطر ، سمي به لأنه يجيء ويرجع ويتكرر (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي تتصدع وتنبثق عن النبات ، والشجر ، والأنهار ، وجواب القسم.

قوله تعالى : (إِنَّهُ) يعني القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي إنه لحق وجد يفصل بين الحق والباطل. (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي باللعب والباطل. (إِنَّهُمْ) يعني مشركي مكة ، (يَكِيدُونَ كَيْداً) يعني يحتالون بالمكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه. (وَأَكِيدُ كَيْداً) يعني أجازيهم على كيدهم بأن استدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف ، وفي الآخرة بالنار (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل ولا تدع بهلاكهم. قال ابن عباس : هذا وعيد لهم من الله عزوجل ، ثم لمّا أمره بإمهالهم بيّن أن ذلك الإمهال قليل. فقال تعالى : (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) يعني قليلا ، فأخذهم الله يوم بدر ونسخ الإمهال بآية السيف ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

٤١٦

سورة الأعلى

مكية وهي تسع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وأحد وتسعون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤))

قوله عزوجل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي قل سبحان ربي الأعلى ، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، فقال سبحان ربي الأعلى» ، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي ، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون ، فعلى هذا يكون الاسم صلة ، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم ، ولذكره محترم. وقال ابن عباس : سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى. عن عقبة بن عامر ، قال : «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين ، وقيل خلق الإنسان مستويا معتدل القامة.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها ، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى ، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه ، وقيل قدر السعادة لأقوام ، والشقاوة لأقوام ، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له ، وعليه ، وقيل قدر الخير والشر ، وهدى إليهما ، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه ، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤))

(فَجَعَلَهُ) يعني المرعى بعد الخضرة (غُثاءً) أي هشيما يابسا باليا كالغثاء الذي تراه فوق السيل. (أَحْوى) أي أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود.

قوله عزوجل : (سَنُقْرِئُكَ) أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك. (فَلا تَنْسى) يعني ما يقرأ عليك ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل جبريل بالوحي ، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأولها ، مخافة أن ينساها ، فأنزل الله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) فلم ينس شيئا بعد ذلك (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) يعني أن تنساه وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور ، وقيل معناه إلا ما شاء الله أن تنساه ، ثم تذكره بعد ذلك ، كما

٤١٧

صح من حديث عائشة رضي الله عنها. قال : «سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه‌الله لقد أذكرني كذا وكذا ، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية «كنت أسقطتهن من سورة كذا» أخرجاه في الصحيحين ، وقيل هذا الاستثناء لم يقع ، ولم يشأ الله أن ينسيه شيئا. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) يعني من القول والفعل.

(وَما يَخْفى) يعني منهما والمعنى ، أنه تعالى يعلم السر والعلانية. (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نهون عليك أن تعمل خيرا ونسهله عليك حتى تعمله ، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة ، وقيل هو متصل بالكلام الأول ، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه ، ولا تنساه. (فَذَكِّرْ) أي فعظ بالقرآن. (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي مدة نفع الموعظة ، والتذكير ، والمعنى عظ أنت ، وذكر أن نفعت الذكرى ، أو لم تنفع ، إنما عليك البلاغ. (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيتعظ من يخشى الله تعالى. (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي الذكرى ويتباعد عنها. (الْأَشْقَى) أي في علم الله تعالى ، (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي النار العظيمة الفظيعة ، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة ، والنار الصغرى هي نار الدنيا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) أي في النار فيستريح (وَلا يَحْيى) أي حياة طيبة تنفعه.

قوله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس : وقيل قد أفلح من كان عمله زاكيا ، وقيل هو صدقة الفطر ، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : أعطى صدقة الفطر.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : خرج إلى العيد فصلّى وكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرأ تصدق ثم صلّى. ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع : كان ابن عمر إذا صلّى الغداة يعني يوم العيد قال : يا نافع أخرجت الصدقة ، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى ، وإن قلت لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلّى.

فإن قلت فما وجه هذا التأويل ، وهذه السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر.

قلت يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم ، كما قال : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) وهذه السورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح ، وكذا نزل بمكة (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، وكان ذلك يوم بدر. قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع سيهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع ، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر.

ووجه آخر وهو أنه كان في علم الله تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه ، وقيل وذكر اسم ربه فصلّى يعني الصلوات الخمس ، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد ، وبالصلاة صلاة العيد.

قوله عزوجل : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والباقي خير من الفاني ، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا لا قال : لأن الدنيا حضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل ، وتركنا الآجل ، وقيل إن أريد بذلك الكفار ،

٤١٨

فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة ، وهو خير وأبقى. (إِنَّ هذا) أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا ، وهو أربع آيات. (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن ، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى ، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة ، بل جميع الشرائع متفقة عليه.

عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال «دخلت المسجد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله ، قال : ركعتان تركعهما ، قلت يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر اقرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قلت يا رسول الله ، فما كان صحف موسى ، قال : كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح؟! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟! عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب! عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل»! أخرج هذا الحديث رزين في كتابه ، وذكره ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. ولم يعلم عليه شيئا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد في ركعة ركعة». أخرجه الترمذي والنسائي. وعن عبد العزيز بن جريج قال «سألنا عائشة بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة بقل هو الله أحد المعوذتين» ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي. وقال : حديث حسن غريب ، والله أعلم.

٤١٩

سورة الغاشية

مكية وهي ست وعشرون آية واثنتان وتسعون كلمة وثلاثمائة واحد وثمانون حرفا بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦))

قوله عزوجل : (هَلْ أَتاكَ) أي قد أتاك (حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) يعني القيامة ، سمّيت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها ، وقيل الغاشية النار ، سمّيت بذلك لأنها تغشى وجوه الكفار (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (خاشِعَةٌ) يعني ذليلة ، والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل ، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فعبر به عنه. (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال ابن عباس : يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب ، مثل الرهبان وأصحاب الصوامع ، لا يقبل الله منهم اجتهادا في ضلال بل يدخلون النار يوم القيامة. ومعنى النصب الدؤوب في العمل بالتعب. (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، أما الرواية فإنها تختص بمن أحدث في دين الإسلام شيئا ابتدعه من عنده فهو مردود عليه لا يقبل منه. وأما الرواية الثانية فإنها تشتمل على كل عامل في دين الإسلام ، أو غير دين الإسلام فإنه مردود عليه إذا لم يكن تابعا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل في معنى الآية عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار. وقيل عاملة ناصبة في النار ، لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال ، وهي رواية عن ابن عباس قال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وقيل يجرون على وجوههم في النار ، وقيل يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار وهو قوله تعالى : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله عزوجل : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فيدفعون إليها ورودا عطاشا ، فهذا شرابهم ، ثم ذكر طعامهم فقال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قيل هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهي رواية عن ابن عباس ، فإذا يبس لا تقربه دابة ، وقيل الضريع في الدنيا هو الشوك اليابس الذي له ورق ، وهو في الآخرة شوك من نار ، وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك ، أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حرا من النار ، قال أبو الدرداء : إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ،

٤٢٠