تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوه من رثاثة حالهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم. أي : لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينتقصه به ولعله عند الله خير منه وهو قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) السبب الثاني قوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) أي لا يستهزئ نساء من نساء (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيرن أم سلمة بالقصر. وعن ابن عباس : «أنها نزلت في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يهودية بنت يهوديين. عن أنس : بلغ صفية أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبكي فقال : ما يبكيك؟ قالت : قالت لي حفصة إني بنت يهودي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك لابنة نبي وعمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال : اتقي الله يا حفصة» أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب.

والسبب الثالث قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) عن أبي جبيرة بن الضحاك وهو أخو ثابت بن الضحاك الأنصاري قال : فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة «قدم علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يا فلان فيقولون مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فأنزل الله هذه الآية (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أخرجه أبو داود وفي الترمذي قال «كان الرجل منا يكون له اسمان وثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره قال فنزلت هذه الآية (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ).» قال الترمذي : حديث حسن. قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يعيب بعضكم بعضا ولا يطعن بعضكم في بعض. والمراد بالأنفس ، الإخوان هنا. والمعنى : لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم ، فإذا عاب عائب أحدا بعيب ، فكأنه عاب نفسه. وقيل : لا يخلو أحد من عيب فإذا عاب غيره فيكون حاملا لذلك على عيبه فكأنه هو العائب لنفسه ولا تنابزوا بالألقاب أي لا تدعوا الإنسان بغير ما سمي به. وقال ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله. وقيل : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. قيل : كان الرجل اليهودي والنصراني يسلم فيقال له بعد إسلامه : يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقيل : هو أن تقول لأخيك يا كلب يا حمار يا خنزير. وقال بعض العلماء : المراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يفيد ذما له ، فأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها كالأعمش والأعرج وما أشبه ذلك فلا بأس بها إذا لم يكرهها المدعو بها ، وأما الألقاب التي تكسب حمدا ومدحا تكون حقا وصدقا فلا يكره كما قيل لأبي بكر : عتيق ، ولعمر : الفاروق ، ولعثمان : ذو النورين ولعلي : أبو تراب ولخالد سيف الله ونحو ذلك (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الاسم أن تقولوا له يا يهودي أو يا نصراني بعد ما أسلم أو يا فاسق بعد ما تاب وقيل معناه أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي من ذلك كله (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : الضارون لأنفسهم بمعصيتهم ومخالفتهم. وقيل : ظلموا الذين قالوا لهم ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) قيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل

١٨١

فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ شيئا لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا. قال : لا غلبتني عيناي فنمت قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطلب لنا منه طعاما فجاء سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسأله طعاما فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عنده فضل طعام وأدم فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رحله فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا فلما رجع قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قالا : والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما. قال : ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة فأنزل الله عزوجل : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن يعني أن يظن بأهل الخير سوءا فنهى الله المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شرا وقيل هو أن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوءا أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا فيراه أخوه المسلم فيظن شرا لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا وفي نفس الأمر لا يكون كذلك لجواز أن يكون فاعله ساهيا أو يكون الرائي مخطئا فأما أهل السوء والفسق المجاهرون بذلك فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما : إثم ، وهو أن يظن ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظن ولا يتكلم به. وقيل : الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به وهو الظن الحسن بالله عزوجل ومنه مندوب إليه وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ومنه حرام محظور وهو سوء الظن بالله عزوجل وسوء الظن بالأخ المسلم (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحثوا عن عيوب الناس نهى الله عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى يظهر على ما ستره الله منها (ق).

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا.

التقوى هاهنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير. وقيل : معناهما واحد وهو طلب الأخبار. وقوله : ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها. قوله : ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره.

عن ابن عمر قال : «صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله». قال نافع : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك. والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي. وقال : حديث حسن غريب عن زيد بن وهب. قال : أتى ابن مسعود فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة» (م) عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة».

١٨٢

قوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يتناول بعضكم بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قلت وإن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه قد بهته». أخرجه مسلم عن عائشة قالت : «قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعني قصيرة فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ، قوله : لمزجته أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها وهذا الحديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة.

قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) قال مجاهد : لما قيل أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا قالوا لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بسوء غالبا قيل تأويله إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لأنه لا يحس بذلك وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه لأن الإنسان يتألم قلبه إذا ذكر بسوء كما يتألم جسده إذا قطع لحمه والعرض أشرف من اللحم فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحم الناس فترك أعراضهم أولى وقوله لحم أخيه آكد في المنع آكد لأن العدو قد يحمله الغضب على أكل لحم عدوه ، وقوله ميتا أبلغ في الزجر.

عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وفي نسخة وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود وقال ميمون بن سيار بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجي وقائل يقول كل يا عبد الله قلت وما آكل؟ قال كل بما اغتبت بعد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا قال : ولكنك استمعت ورضيت ، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في أمر الغيبة واجتناب نواهيه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) قوله عزوجل :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الذاكر فلانة؟ قال ثابت : أنا رسول الله قال انظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت في ثابت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) الآية. وقيل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة وأذن فقال عتاب بن أسيد الحمد لله الذي قبض أبي ولم ير هذا اليوم وقال الحارث بن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهيل بن عمرو إن يكره الله شيئا يغيره.

وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماء فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قالوا وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يعني آدم وحواء. والمعنى : إنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونكم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى إنا خلقنا كل واحد منكم أيها الموجودون من أب وأم فإن كل واحد منكم خلق كما خلق الآخر سواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في

١٨٣

النسب (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين وهي رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا شعوبا لتشعب القبائل منهم وقيل لتجمعهم (وَقَبائِلَ) جمع قبيلة وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر ودون القبائل العمائر واحدتها عمارة بفتح العين وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم ودون العمائر البطون واحدتها بطن وهم كبني غالب ولؤي من قريش ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ وهم كبني هاشم وبني أمية من لؤي ودون الأفخاذ الفصائل واحدتها فصيلة بالصاد المهملة كبني العباس من بني هاشم ثم بعد ذلك العشائر واحدتها عشيرة وليس بعد العشيرة شيء يوصف. وقيل : الشعوب للعجم ، والقبائل : للعرب ، والأسباط : من بني إسرائيل. وقيل : الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد بل ينسبون إلى المدائن والقرى والقبائل الذين ينتسبون إلى آبائهم.

(لِتَعارَفُوا) أي ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده لا للتفاخر بالأنساب ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان على غيره ويكتسب بها الشرف عند الله تعالى فقال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قيل : أكرم الكرم التقوى ، وألأم اللؤم الفجور.

وقال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.

عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحسب المال والكرم التقوى» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (ق). عن أبي هريرة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الناس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» فقهوا بضم القاف على المشهور وحكي كسرها ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال : الحمد لله الذي أذهب عنكم غيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس إن الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» والمحجن عصا محنية الرأس كصولجان وقوله غبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي بظواهركم ويعلم أنسابكم (خَبِيرٌ) أي ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فاجعلوا التقوى زادكم إلى معادكم قيل : التقي هو العالم بالله المواظب على الوقوف ببابه المتقرب إلى جنابه. وقيل : حد التقوى أن يجتنب العبد المناهي ويأتي بالأوامر والفضائل ولا يغتر ولا يأمن فإن اتفق أن يرتكب منهيا لا يأمن ولا يتكل بل يتبعه بحسنة ويظهر عليه توبة وندامة ومن ارتكب منهيا ولم يتب في الحال واتكل على المهلة وغره طول الأمل فليس بمتق لأن المتقي لم يترك ما أمر به ويترك ما نهي عنه وهو مع ذلك خاش لله خائف منه لا يشتغل بغير الله تعالى فإن التفت لحظة إلى نفسه وأهله وولده جعل ذلك ذنبا واستغفر منه وجدد له توبة جعلنا الله وإياكم من المتقين.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ، ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالقذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويقولون : أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا فأنزل الله فيهم هذه الآية.

١٨٤

وقيل : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا يقولون آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا للحديبية تخلفوا عنها فأنزل الله عزوجل قالت الأعراب آمنا أي صدقنا (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لم تصدقوا بقلوبكم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي استسلمنا وانقدنا مخافة القتل والسبي (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أخبر أن حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص. (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال : «أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهطا وأنا جالس فترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا منهم هو أعجبهم إليّ فقلت ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مسلما ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ثم قال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه». زاد في رواية قال الزهري : «فترى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح» لفظ الحميدي اعلم أن الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان لقوله لإبراهيم عليه‌السلام : «أسلم قال أسلمت لرب العالمين» ومنه ما هو انقياد باللسان والقلب وذلك قوله : ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.» وقيل : الإيمان هو التصديق بالقلب مع الثقة وطمأنينة النفس عليه والإسلام هو الدخول في السلم والخروج من أن يكون حربا للمسلمين مع إظهار الشهادتين.

فإن قلت : المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة فكيف يفهم ذلك مع هذا القول.

قلت بين العام والخاص فرق فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعم والإيمان أخص لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص متحدان في الوجود فذلك المؤمن والمسلم.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ظاهرا وباطنا سرا وعلانية وقال ابن عباس تخلصوا له الإيمان (لا يَلِتْكُمْ) أي لا ينقصكم (مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي من ثواب أعمالكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم بين حقيقة الإيمان فقال تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في دينهم (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في إيمانهم ولما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون وعرف الله منهم غير ذلك فأنزل الله عزوجل : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي تخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي لا تخفى عليه خافية (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي لا يحتاج إلى إخباركم (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) هو قولهم أسلمنا ولم نحاربك يمنون بذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبين بذلك أن إسلامهم لم يكن خالصا (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعتدوا عليّ بإسلامكم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي لله المنة عليكم أن أرشدكم وأمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم وهو قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إنكم مؤمنون (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض فكيف يخفى عليه حالكم بل يعلم سركم وعلانيتكم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي بجوارحكم الظاهرة والباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٨٥

سورة ق

(مكية وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤))

قوله عزوجل : (ق) قال ابن عباس : هو قسم وقيل : هو اسم للسورة وقيل اسم من أسماء الله وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل هو مفتاح اسمه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض والقدوس والقيوم. وقيل : معناه قضى الأمر أو قضى ما هو كائن. وقيل : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كتفاها وخضرة السماء منه والعالم داخله ولا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى ويقال هو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي الشريف الكريم على الله الكثير الخير والبركة واختلفوا في وجواب القسم قيل جوابه محذوف تقديره لتبعثن وقيل جوابه بل عجبوا وقيل ما يلفظ من قول وقيل قد علمنا ومعنى (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن يخوفهم رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته وصدقه (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي معجب غريب (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي حين نموت ونبلى نبعث وترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي يبعد أن نبعث بعد الموت قال الله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمنا شيء (وَعِنْدَنا) أي مع علمنا بذلك (كِتابٌ حَفِيظٌ) بمعنى محفوظ أي من التبديل والتغيير وقيل حفيظ بمعنى حافظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ وقد أثبت فيه ما يكون.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) قيل : معناه كذبوا به لما جاءهم. وقيل : كذبوا المنذر لما جاءهم (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مختلط ملتبس قيل معنى اختلاط أمرهم قولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة شاعر ومرة ساحر

١٨٦

ومرة معلم مجنون ويقولون في القرآن مرة سحر ومرة رجز ومرة مفتري فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم وقيل في هذه الآية من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه وقيل ما ترك قوم الحق إلا مرج عليهم أمرهم ؛ ثم دلهم على عظيم قدرته فقال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) أي : بغير عمد (وَزَيَّنَّاها) أي بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي : شقوق وصدوع (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كل صنف حسن كريم يبتهج به أي : يسر به (تَبْصِرَةً) أي جعلنا ذلك تبصرة (وَذِكْرى) أي تذكرة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى الله تعالى والمعنى ليتبصر ويتذكر به من أناب (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي كثير الخير والبركة فيه حياة كل شيء وهو المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ) أي : بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي : طوالا وقيل مستويات (لَها طَلْعٌ) أي : ثمر يطلع ويظهر ويسمى طلعا قبل أن يتشقق (نَضِيدٌ) أي : متراكب بعضه على بعض في أكمامه فإذا تشقق وخرج من أكمامه فليس بنضيد (رِزْقاً) أي : جعلنا ذلك رزقا (لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي : بالمطر (بَلْدَةً مَيْتاً) فأنبتنا فيها الكلأ والعشب (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي : من القبور أحياء بعد الموت. قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قيل : كان لوط مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم ولذلك قال إخوان لوط (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) هو أبو كرب أسعد تبع الحميري وقد تقدم قصص جمعهم قيل ذم الله عزوجل قوم تبع ولم يذمه وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه فلهذا خص بالذكر دونهم (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) أي : كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم فحق وعيدي أي وجب لهم عذابي وقيل فحق وعيدي للرسل بالنصر (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا حين خلقناهم أولا فنعيا بالإعادة ثانيا وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) أي شك (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو البعث.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما يحدث به قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) بيان لكمال علمه أي نحن أعلم به منه والوليد العرق الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلباوين ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم الله شيء. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي يتلقن الملكان الموكلان به وبعمله ومنطقه فيكتبانه ويحفظانه عليه (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) يعني أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات (قَعِيدٌ) أي قاعد وكل واحد منهما قعيد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. وقيل : أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يتكلم من كلام يخرج من فيه (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) أي حافظ (عَتِيدٌ) أي حاضر أينما كان سوى وقت الغائط وعند جماعة فإنهما يتأخران عنه فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه وهو على تلك

١٨٧

الحالة حتى يكتبا ما يتكلم به أنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلم به حتى أتيته في مرضه وقيل لا يكتبان إلا ما له أجر وثواب أو عليه وزر وعقاب. وقيل : إن مجلسهما تحت الشعر على الحنك وكان الحسن البصري يعجبه أن ينظف عنفقته روى البغوي بإسناد الثعلبي. عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر.

قوله تعالى :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤))

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله (بِالْحَقِ) أي بحقيقة الموت وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي يقال لمن جاءته سكرة الموت : ذلك الذي كنت عنه تميل. وقيل : تهرب وقال ابن عباس : تكره (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ذلك اليوم الذي وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه (وَجاءَتْ) أي في ذلك اليوم (كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) أي يسوقها إلى المحشر (وَشَهِيدٌ) أي يشهد عليها بما عملت. قال ابن عباس : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل فيقول الله تعالى لصاحب تلك النفس (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي من هذا اليوم في الدنيا (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي قوي ثابت نافذ تبصر ما كنت تتكلم به في الدنيا. وقيل : ترى ما كان محجوبا عنك وقيل نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك (وَقالَ قَرِينُهُ) يعني الملك الموكل به (هذا ما لَدَيَ) أي عندي (عَتِيدٌ) أي معد محضر. وقيل : يقول الملك هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) أي يقول الله تعالى لقرينه وقيل هذا أمر للسائق والشهيد (كُلَّ كَفَّارٍ) أي شديد الكفر (عَنِيدٍ) أي عاص معرض عن الحق معاند لله فيما أمره به.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله (مُعْتَدٍ) أي ظالم لا يقر بتوحيد الله (مُرِيبٍ) أي : شاكّ في التوحيد (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) يعني النار (قالَ قَرِينُهُ) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) قيل : هذا جواب لكلام مقدر وهو أن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته أي ما أضللته وما أغويته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي عن الحق فيتبرأ منه شيطانه وقال ابن عباس : قرينه يعني الملك يقول الكافر ربّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ولكن كان في ضلال بعيد أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق (قالَ) الله تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي لا تعتذروا عندي بغير عذر وقيل هو

١٨٨

خصامهم مع قرنائهم (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي بالقرآن وأنذرتكم على ألسن الرسل وحذرتكم عذابي في الآخرة لمن كفر (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي لا تبديل لقولي وهو قوله عزوجل : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) وقضيت عليكم ما أنا قاض فلا يغير قولي ولا يبدل وقيل معناه ولا يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه ، لأني علام الغيوب وأعلم كيف ضلوا وهذا القول هو الأولى يدل عليه أنه قال ما يبدل القول لدي ولم يقل ما يبدل قولي (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي : فأعاقبهم بغير جرم. وقيل : معناه فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن.

قوله عزوجل : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) بيان لما سبق لها من وعد الله تعالى إياها أنه يملؤها من الجنة والناس وهذا السؤال من الله تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده (وَتَقُولُ) يعني جهنم (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يعني تقول قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكاري. وقيل : هو بمعنى الاستزادة. وهو رواية عن ابن عباس. فعلى هذا يكون السؤال وهو قوله : هل امتلأت؟ قبل دخول جميع أهلها فيها.

وروي عن ابن عباس : «إن الله تعالى سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت؟ فتقول قط قط قد امتلأت وليس في مزيد» (ق) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش ـ وفي رواية رب العزة ـ فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة. ولأبي هريرة نحوه وزاد «ولا يظلم الله من خلقه أحدا».

(فصل)

هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان :

أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والمذهب الثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث. فقيل : المراد بالقدم المقدم وهو سائغ في اللغة. والمعنى : حتى يضع الله فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل : المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل : إنه يحتمل أن في المخلوقات من تسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض : أظهر التأويل أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها قال المتكلمون : ولا بد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى والله أعلم.

قوله : قط قط أي : حسبي حسبي. قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات : إسكان الطاء ، وكسرها منونة ، وغير منونة. وقوله : ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، يعني : أنه يستحيل الظلم في حق الله تعالى فمن عذبه بذنب أو بغير ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى وقوله تعالى.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤))

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت وأدنيت (لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا الشرك (غَيْرَ بَعِيدٍ) يعني أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها (هذا ما تُوعَدُونَ) أي يقال لهم الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الأنبياء (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة. قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقيل : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقيل : هو التواب ، وقال ابن

١٨٩

عباس : هو المسيح. وقيل : هو المصلي (حَفِيظٍ) قال ابن عباس الحافظ لأمر الله وعنه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل : حفيظ لما استودعه الله من حقه. وقيل : هو المحافظ على نفسه المتعهد لها المراقب لها. وقيل : هو المحافظ على الطاعات والأوامر (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خاف الرّحمن فأطاعه وإن لم يره وقيل : خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد إذا ألقى الستر أغلق الباب (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي مخلص مقبل على طاعة الله (ادْخُلُوها) أي يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوا الجنة (بِسَلامٍ) أي بسلامة من العذاب والهموم. وقيل : بسلام من الله وملائكته عليهم وقيل : بسلامة من زوال النعم (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي في الجنة لأنه لا موت فيها.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩))

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) وذلك أنهم يسألون الله حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا ثم يزيد الله عبيده ما لم يسألوا مما لم يخطر بقلب بشر وهو قوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) وقيل : المزيد ، هو النظر إلى وجهه الكريم قيل : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة في دار كرامته فلهذا هو المزيد.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) يعني سطوة والبطش الأخذ بصولة وعنف (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي ساروا وتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي فلم يجدوا لهم محيصا أي مهربا من أمر الله وقيل : لا يجدون لهم مفرا من الموت بل يموتون فيصيرون إلى عذاب الله وفيه تخويف لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي إن فيما ذكر من إهلاك القرى تذكرة وموعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ). قال ابن عباس : أي عقل. وقيل : له قلب حاضر مع الله واع عن الله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي استمع القرآن واستمع ما يقال له لا يحدث نفسه بغيره (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي إعياء وتعب قال المفسرون نزلت في اليهود حيث قالوا : خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم وتكذيبا لهم في قولهم استراح يوم السبت بقوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ).

قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : والظاهر أن المراد الرد على المشركين والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما فقوله (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانيا كما قال الله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآية وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك أن الأحد والاثنين أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان خلق السموات والأرض ابتدئ يوم الأحد لكان الزمان قبل الأجساد والزمان لا ينفك عن الأجساد فيكون قبل خلق الأجسام أجسام لأن اليوم عبارة عن زمان سير الشمس من الطلوع إلى الغروب وقبل السموات والأرض لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة الزمان أي مدة كانت قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : اصبر يا محمد على ما يقولون أي من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد وهذا قبل

١٩٠

الأمر بقتالهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي صلّ حامدا لله (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) أي صلاة الصبح (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني صلاة المغرب. قال ابن عباس : صلاة الظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١))

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يعني صلاة المغرب والعشاء. وقيل : يعني صلاة الليل أي وقت صلّى (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما : أدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر. وهي رواية عن ابن عباس.

ويروى مرفوعا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر» (م) عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر ، عن ابن مسعود ، قال : «ما أحصى ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر يقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب.

وقيل : في قوله وأدبار السجود : التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات (خ) عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسبح في أدبار الصلوات كلها يعني قوله وأدبار السجود (م). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال : تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر» (خ) عنه «أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا».

قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) يعني استمع يا محمد حديث يوم ينادي المنادي. وقيل : معناه انتظر صيحة القيامة والنشور. قال المفسرون : المنادي هو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول : يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وهو قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قيل : إن صخرة بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقيل : هي في وسط الأرض.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) أي الصيحة الأخيرة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي من القبور (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي) أي في الدنيا (وَنُمِيتُ) يعني عند انقضاء الأجل (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي في الآخرة وقيل : تقديره نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) أي يخرجون سراعا إلى المحشر وهو قوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي هين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) يعني كفار مكة في تكذيبك (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي ما أوعدت به من عصاني من العذاب قال ابن عباس : «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» أي عظ بالقرآن من يخاف وعيدي والله أعلم بمراده.

١٩١

سورة الذاريات

(مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف ومائتان وتسعة وثلاثون حرفا)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤))

قوله عزوجل : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يعني الرياح التي تذر التراب (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) يعني السحاب يحمل ثقلا من الماء (فَالْجارِياتِ يُسْراً) يعني السفن تجري في الماء جريا سهلا (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به وقيل : هم أربعة : جبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء الأمين عليه وصاحب الغلظة ، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة ، وإسرافيل صاحب الصور واللوح ، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح. وقيل : هذه الأوصاف الأربعة في الرياح لأنها تنشئ السحاب وتسيره ثم تحمله وتقله ثم تجري به جريا سهلا ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته. والمعنى : أقسم بالذاريات بهذه الأشياء ، وقيل : فيه مضمر تقديره ورب الذاريات ثم ذكر جواب القسم فقال تعالى :

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ) أي من الثواب والعقاب يوم القيامة (لَصادِقٌ) أي الحق (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الحساب والجزاء (لَواقِعٌ) أي لكائن ثم ابتدأ قسما آخر فقال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس : ذات الخلق الحسن المستوي ، وقيل : ذات الزينة حبكت بالنجوم وقيل : ذات البنيان المتقن وقيل : ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل ولكنها لا ترى لبعدها من الناس وجواب القسم قوله (إِنَّكُمْ) يعني يا أهل مكة (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يعني في القرآن وفي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين وفي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وقيل : لفي قول مختلف أي مصدق ومكذب (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه وهو من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن وقيل : معناه أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون إنه ساحر وشاعر وكان ومجنون فيصرفونه عن الإيمان به (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي : الكذابون وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة واقتسموا القول في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصرفوا الناس عن الإسلام. وقيل : هم الكهنة (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في غفلة وعمى وجهالة (ساهُونَ) أي

١٩٢

لاهون غافلون عن أمر الآخرة والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يقولون يا محمد متى يوم الجزاء يعني يوم القيامة تكذيبا واستهزاء قال الله تعالى : (يَوْمَ هُمْ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يدخلون ويعذبون بها وتقول لهم خزنة النار : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي في الدنيا تكذيبا به.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨))

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يعني في خلال الجنات عيون جارية (آخِذِينَ ما آتاهُمْ) أي ما أعطاهم (رَبُّهُمْ) أي من الخير والكرامة (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي قبل دخولهم الجنة كانوا محسنين في الدنيا ثم وصف إحسانهم فقال تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. وقال ابن عباس : كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أولها أو من أوسطها عن أنس بن مالك في قوله : «كانوا قليلا من الليل ما يهجعون» قال : كانوا بين المغرب والعشاء أخرجه أبو داود.

وقيل : كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة وقيل : قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها ، ووقف بعضهم على قوله : كانوا قليلا ، أي من الناس ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون الليل كله في الصلاة والعبادة (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي ربما مدوا عبادتهم إلى وقت السحر ثم أخذوا في الاستغفار وقيل : معناه يستغفرون من تقصيرهم في العبادة وقيل : يستغفرون من ذلك القدر القليل الذي كانوا ينامونه من الليل وقيل : معناه يصلون بالأسحار لطلب المغفرة (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» ولمسلم قال : «فيقول أنا الملك أنا الملك» وذكر الحديث وفيه «حتى يضيء الفجر» وزاد في رواية «من يقرض غير عديم ولا ظلوم».

(فصل)

هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان :

أحدهما : وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل ويترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب تبارك وتعالى عن صفات الأجسام.

المذهب الثاني : وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أن الصعود والنزول من صفات الأجسام والله تعالى يتقدس عن ذلك. فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من عباده والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل ، لأن ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس عن التعرض لنفحات رحمة الله تعالى وفي ذلك الوقت تكون النية خالصة والرغبة إلى الله تعالى متوفرة فهو مظنة لقبول الإجابة والله تعالى أعلم (ق).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك الحق وقولك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت». زاد في رواية : «وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي : «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

١٩٣

العظيم» (خ) عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي ، أو قال دعا أستجيب له فإن توضأ وصلّى قبلت صلاته» قوله تعار من الليل يقال : تعارّ الرجل من نومه إذا انتبه وله صوت وقوله عزوجل :

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤))

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي نصيب قيل إنه ما يصلون به رحما أو يقرون به ضيفا أو يحملون به كلّا أو يعينون به محروما وليس بالزكاة قاله ابن عباس. وقيل : إنه الزكاة المفروضة (لِلسَّائِلِ) أي الذي يسأل الناس ويطلب منهم (وَالْمَحْرُومِ) قيل هو الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء قال ابن عباس رضي الله عنهما : المحروم الذي ليس له في فيء الإسلام سهم. وقيل : معناه الذي حرم الخير والعطاء ، وقيل : المحروم ، المتعفف الذي لا يسأل. وقيل : هو صاحب الجائحة الذي أصيب زرعه وثمره أو نسل ماشيته وقيل : هو المحارف المحروم في الرزق والتجارة وقيل : هو المملوك وقيل : هو المكاتب ، وأظهر الأقوال ، أنه المتعفف لأنه قرنه بالسائل والمتعفف لا يسأل ولا يكاد الناس يعطون من لا يسأل إنما يفطن له متيقظ (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي عبر من البحار والجبال والأشجار والثمار وأنواع النبات (لِلْمُوقِنِينَ) أي بالله الذي يعرفونه ويستدلون عليه بصنائعه (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي آيات إذ كنتم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن تنفخ الروح.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع وقيل : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين وقيل : يعني تقويم الأدوات السمع والبصر والنطق والعقل إلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يعني كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) قال ابن عباس هو المطر وهو سبب الأرزاق (وَما تُوعَدُونَ) يعني من الثواب والعقاب. وقيل : من الخير والشر. وقيل : الجنة والنار ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) أي ما ذكر من الرزق وغيره (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي بلا إله إلا الله.

وقيل : شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ومعناه إنه لحق كما أنك تتكلم. وقيل : إن معناه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء معناه كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره.

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) يعني هل أتاك يا محمد حديث الذين جاءوا إبراهيم بالبشرى فاستمع نقصصه عليك وقد تقدم ذكر عددهم وقصتهم في سورة هود (الْمُكْرَمِينَ) قيل : سماهم مكرمين لأنهم كانوا ملائكة كراما عند الله. وقيل : لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وهو أكرم الخلق على الله يومئذ وضيف الكريم مكرمون.

وقيل : لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكرمهم بتعجيل قراهم وخدمته إياهم بنفسه وطلاقة وجهه لهم.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سماهم مكرمين لأنهم كانوا غير مدعوين (ق) عن أبي شريح العدوي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ

١٩٤

أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤))

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي غرباء لا نعرفكم.

قال ابن عباس : قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم وقيل : إنما أنكر أمرهم ، لأنهم دخلوا بغير استئذان وقيل : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض (فَراغَ) أي عدل ومال (إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي جيد وكان مشويا. قيل : كان عامة مال إبراهيم البقر فجاء بعجل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) هذا من آداب المضيف أن يقدم الطعام إلى الضيف ولا يحوجهم السعي إليه فلما لم يأكلوا (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) يعني أنه حثهم على الأكل. وقيل : عرض عليهم الأكل من غير أن يأمرهم (فَأَوْجَسَ) أي فأضمر (مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنهم لم يتحرموا بطعامه (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي يبلغ ويعلم وقيل : عليم أي نبي (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان بل كانت في البيت فهو كقول القائل أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه (فِي صَرَّةٍ) أي في صيحة والمعنى أنها أخذت تولول وذلك من عاد النساء إن سمعن شيئا (فَصَكَّتْ وَجْهَها) قال ابن عباس : لطمت وجهها. وقيل : جمعت أصابعها وضربت جبينها تعجبا وذلك من عادة النساء أيضا إذا أنكرن شيئا (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) معناه : أتلد عجوز عقيم وذلك لأن سارة لم تلد قبل ذلك (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما علم حالهم وأنهم من الملائكة (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي فما شأنكم وما طلبكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني قوم لوط (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) قيل هو الآجر (مُسَوَّمَةً) أي معلمة قيل على كل حجر اسم من يهلك به.

وقيل : معلمه بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) قال ابن عباس يعني المشركين لأن الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣))

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ) أي أهل بيت (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعني لوطا وابنتيه وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم. لأن الإسلام أعم من الإيمان. وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلما ، لا يدل على اتحاد مفهوميهما (وَتَرَكْنا فِيها) أي في مدينة قوم لوط (آيَةً) أي عبرة (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) والمعنى تركنا فيها علامة للخائفين تدلهم على أن الله مهلكهم فيخافون مثل عذابهم قوله عزوجل : (وَفِي مُوسى) أي وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة ظاهرة (فَتَوَلَّى) أي أعرض عن الإيمان (بِرُكْنِهِ) أي بجمعه وجنوده الذين كان يتقوى بهم (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فأغرقناهم في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسل (وَفِي

١٩٥

عادٍ) أي وفي إهلاك عاد أيضا آية وعبرة (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) يعني التي لا خير فيها ولا بركة فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي من أنفسهم وأموالهم وأنعامهم (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي وهو ما يبس وديس من نبات الأرض كالشجر والتبن ونحوه وأصله من رم العظم إذا بلي (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) يعني إلى وقت انقضاء آجالهم وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨))

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي تكبروا عن طاعة ربهم (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي بعد مضي ثلاثة أيام من بعد عقر الناقة وهي الموت في قول ابن عباس. وقيل : أخذهم العذاب والصاعقة كل عذاب مهلك (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يرون ذلك العذاب عيانا (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض من تلك الصرعة (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين منا وقيل : ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من أمر الله (وَقَوْمَ نُوحٍ) قرئ بكسر الميم ومعناه وفي يوم نوح وقرئ بنصبها ومعناه : وأغرقنا قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء وهم عاد وثمود وقوم فرعون (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن الطاعة.

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة وقدرة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قيل : هو من السعة : أي أوسعنا السماء بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من السماء والفضاء وبالنسبة إلى سعة السماء كالحلقة الملقاة في الفلاة وقال ابن عباس : معناه قادرون على بنائها كذلك وعنه لموسعون أي الرزق على خلقنا وقيل : معناه وإنا ذوو السعة والغنى (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي بسطناها ومهدناها لكم (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي نحن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والسهل والجبل والصيف والشتاء والجن والإنس والذكر والأنثى والنور والظلمة والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر والحامض (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا نظير له ولا شريك معه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي : قل يا محمد ففروا إلى الله أي فاهربوا من عذابه إلى ثوابه بالإيمان والطاعة وقال ابن عباس ففروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله ففروا مما سوى الله إلى الله (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) أي مخوف (مُبِينٌ) أي بين الرسالة بالحجة الظاهرة والمعجزة الباهرة والباهرة القاطع (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي وحدوده ولا تشركوا به شيئا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قيل : إنما كرر قوله إني لكم منه نذير مبين عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧))

(كَذلِكَ) أي كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل كفار

١٩٦

مكة والأمم الخالية (مِنْ رَسُولٍ) يعني يدعوهم إلى الإيمان والطاعة (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) قال الله تعالى (أَتَواصَوْا بِهِ) أي أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه وفيه توبيخ لهم (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي لم يتواصلوا بهذا القول لأنهم لم يتلاقوا على زمان واحد بل جمعتهم على ذلك علة واحدة وهي الطغيان وهو الحامل لهم على ذلك القول (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وبذلت المجهود وما قصرت فيما أمرت به.

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى عنهم فأنزل الله عزوجل : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فطابت نفوسهم بذلك والمعنى عظ بالقرآن كفار مكة فإن الذكرى تنفع من علم الله أنه يؤمن منهم وقيل : معناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم.

قوله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) أي من المؤمنين (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل هذا خاص بأهل طاعته من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون» وقيل : معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي وهو ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة. وقال علي بن أبي طالب إلا ليعبدون أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي. وقيل : معناه إلا ليعرفوني وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده. وقيل : معناه إلا ليخضعوا لي ويتذللوا لأن معنى العبادة في اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له. وقيل : معناه إلا ليوحدوني فأما المؤمن فيوحده اختيارا في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده اضطرارا في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم لأني أنا الرزاق المتكفل لعبادي بالرزق القائم لكل نفس بما يقيمها من قوتها (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه لما صح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله عزوجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي» أخرجه مسلم ثم بين أن الرزاق هو لا غيره فقال تعالى :

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي لجميع خلقه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) يعني هو القوي الشديد المقتدر البليغ القوة والقدرة الذي لا يلحقه في أفعاله مشقة (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي من أهل مكة (ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي بالعذاب لأنهم أخروا إلى يوم القيامة يدل عليه قوله عزوجل (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة وقيل : يوم بدر والله تعالى أعلم بمراده.

١٩٧

سورة الطور

(مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣))

قوله عزوجل : (وَالطُّورِ) أراد به الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالأرض المقدسة وقيل : بمدين (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب (فِي رَقٍ) يعني الأديم الذي يكتب فيه المصحف (مَنْشُورٍ) أي مبسوط.

واختلفوا في الكتاب ، فقيل : هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير الأقلام. وقيل : هو اللوح المحفوظ. وقيل : هو دواوين الحفظة يخرج إليهم يوم القيامة منشورا فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. وقيل : هو القرآن.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠))

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) يعني بكثرة الغاشية والأهل وهو بيت في السماء السابعة قدام العرش بحيال الكعبة يقال له الصراع حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وصح في حديث المعراج من أفراد مسلم عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى البيت المعمور في السماء السابعة قال : فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه وفي رواية أخرى قال فانتهيت إلى بناء فقلت للملك ما هذا؟ قال بناء بناه الله للملائكة يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون يسبحون الله ويقدسونه.

وفي أفراد البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس. وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو وقال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يركبن رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وقيل : المسجور المملوء وقيل : هو اليابس الذي ذهب ماؤه ونضب. وقيل : هو المختلط العذب بالملح.

وروي عن علي أنه قال البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون من قبورهم أقسم الله

١٩٨

بهذه الأشياء لما فيها من عظيم قدرته وجواب القسم قوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) يعني إنه لحق وكائن ونازل بالمشركين في الآخرة (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي مانع.

قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر فدفعت له وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فكأنما صدع قلبي حين سمعت ولم يكن أسلم يومئذ فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب ثم بين أنه متى يقع فقال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وقيل : تتحرك وتختلف أجزاؤها بعضها من بعض وتضطرب (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا والحكمة في مور السماء وسير الجبال الإنذار والأعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدم بذلك فلما لم يبق لهم عود إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١))

(فَوَيْلٌ) أي شدة عذاب (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي يوم القيامة (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) أي يخوضون في الباطل (يَلْعَبُونَ) أي غافلون لأهون عما يراد بهم (يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي يدفعون (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) يعني دفعا بعنف وجفوة ، وذلك أن خزنة جهنم يغلّون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون بها دفعا إلى النار على وجوههم وزجّا في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار ، فإذا دنوا منها ، قال لهم خزنتها : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي في الدنيا (أَفَسِحْرٌ هذا) ذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السحر وأنه يغطي على الأبصار فوبخوا بذلك وقيل لهم : أفسحر هذا (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها) أي قاسوا شدتها (فَاصْبِرُوا) أي على العذاب (أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي عليه (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الصبر والجزع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي من الكفر والتكذيب في الدنيا.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ) أي معجبين بذلك ناعمين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي من الخير والكرامة (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا) أي يقال لهم كلوا (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من الإيمان والطاعة (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي موضوعة بعضها إلى بعض (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) يعني ألحقنا أولادهم الصغار والكبار بإيمانهم فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) يعني المؤمنين في الجنة بدرجات آبائهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم هذه رواية عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه ، أن معنى الآية والذين آمنوا واتبعناهم ذرياتهم يعني البالغين بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم أخبر الله تعالى أنه

١٩٩

يجمع لعبده المؤمن من ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه فيدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمله من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا وذلك قوله تعالى : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني : وما نقصنا الآباء من أعمالهم شيئا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم إلى آخر الآية.

عن علي قال : «سألت خديجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فولدي منك قال : في الجنة ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم» أخرج هذين الحديثين البغوي بإسناد الثعلبي.

(كُلُّ امْرِئٍ) أي كافر (بِما كَسَبَ) أي عمل من الشرك (رَهِينٌ) أي مرتهن بعمله في النار والمؤمن لا يكون مرتهنا بعمله لقوله «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين» ثم ذكر ما وعدهم به من الخير والنعمة فقال تعالى :

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) يعني زيادة عما كان لهم (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي من أنواع اللحوم (يَتَنازَعُونَ) أي يتعاطون ويتناولون (فِيها) أي في الجنة (كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها) أي لا باطل فيها ولا رفث ولا تخاصم ولا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا (وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يكون فيها ما يؤثمهم ولا يجري بينهم ما فيه لغو وإثم كما يجري بين شربة الخمر في الدنيا. وقيل : لا يأثمون في شربها.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي للخدمة (غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) أي في الحسن والبياض والصفاء (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي مخزون مصون لم تمسه الأيدي وقال عبد الله بن عمرو ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل واحد منهم على عمل غير عمل صاحبه وعن قتادة قال : «ذكر لنا أن رجلا قال يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ قال : فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.

قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يعني يسأل بعضهم بعضا في الجنة قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من الخوف والتعب في الدنيا (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا) أي في الدنيا (مُشْفِقِينَ) أي خائفين من العذاب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بالمغفرة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) يعني عذاب النار وقيل : هو اسم من أسماء جهنم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي نخلص الدعاء والعبادة له (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) قال ابن عباس : اللطيف وقيل : يعني الصادق فيما وعد. وقيل : البر العطوف على عباده المحسن إليهم الذي عم بره جميع خلقه (الرَّحِيمُ) بعبيده.

قوله عزوجل : (فَذَكِّرْ) يعني فعظ يا محمد بالقرآن كفار مكة (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي برحمته وعصمته وقيل : بإنعامه عليك بالنبوة (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) الكاهن هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي والمعنى أنك لست كما يقول كفار مكة إنه كاهن أو مجنون إنما تنطلق بالوحي نزلت في الذين اقتسموا أعقاب مكة يرمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكهانة والسحر والشعر والجنون (أَمْ يَقُولُونَ) يعني هؤلاء المقتسمين

٢٠٠