تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

فقال تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) يعني لوطا وابنتيه (نَجَّيْناهُمْ) يعني من العذاب (بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم (كَذلِكَ نَجْزِي) أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي (مَنْ شَكَرَ) يعني أن من وحد الله لم يعذبه مع المشركين (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ) أي لوط (بَطْشَتَنا) يعني أخذنا إياهم بالعقوبة (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عميا بإذن الله يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون.

ومعنى : فطمسنا أعينهم ، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. وقيل : طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا؟ فلم يروهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) يعني ما أنذركم به لوط من العذاب (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أي جاءهم وقت الصبح (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام. وقيل : النذر ، الآيات التي أنذرهم بها موسى (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) يعني الآيات التسع (فَأَخَذْناهُمْ) يعني بالعذاب (أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة فقال تعالى :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار ، أي ، ليسوا بأقوى منهم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ) يعني من العذاب (فِي الزُّبُرِ) أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية (أَمْ يَقُولُونَ) يعني كفار مكة (نَحْنُ جَمِيعٌ) يعني أمرنا (مُنْتَصِرٌ) يعني من أعدائنا والمعنى : نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا. ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي. وقيل : معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال : كلهم عالم ، يعني : كل واحد منهم عالم. قال الله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) يعني كفار مكة (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي. وقيل في الإفراد ، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فهم في ذلك كرجل واحد (خ).

عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في قبة يوم بدر «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر» (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر.

وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر ، رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في درعه ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) يعني جميعا والساعة أدهى وأمر ، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر.

٢٢١

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) يعني المشركين (فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم.

وقيل : في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة. وقيل : في ضلال ، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) أي يجرون (فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) ويقال لهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مس سقر.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١))

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. وقيل : معناه قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له. وقال ابن عباس : كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك.

(فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه)

(م) «عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» قال وعرشه على الماء (م).

عن أبي هريرة قال : «جاء مشركو قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى قوله (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (م) عن طاوس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : كل شيء بقدر الله تعالى قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز».

عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، وبالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر» أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون وهو منكر الحديث. وفي حديث جبريل المتفق عليه : وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : صدقت ففيه ذم القدرية.

عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال».

أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله «وزاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام».

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية» أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب.

وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء الله فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول الله ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر».

قال ابن الجوزي : وإنما قيل : خصماء الله ، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها. وروي عن الحسن قال : والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل ، وصلّى حتى يصير كالوتر ،

٢٢٢

ثم أخذ ظلما حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه الله على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه‌الله اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها الله تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا. وسميت هذه الفرقة قدرية ، لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين : وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه. وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث ، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين ، أن بعض القدرية قالوا : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر. قال ابن قتيبة وإمام الحرمين : هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح ، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى الله تعالى. ويضيفون القدر والأفعال إلى الله تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه.

قال إمام الحرمين : وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن. ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية. وحديث : القدرية مجوس هذه الأمة ، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين. وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي : إنما جعلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين : النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكساب العباد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها. قال : والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر. ويقال : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي خلقهن. وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل العقد والحل من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقد قرر ذلك أئمة المتكلمين أحسن تقرير بدلائله القطعية السمعية والعقلية والله أعلم.

وأما معاني الأحاديث المتقدمة ، فقوله : جاء مشركو قريش إلى قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله تعالى مراد له ، وكذلك قوله : كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء المراد منه تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل القدر فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله وعرشه على الماء أي قبل أن يخلق السموات والأرض ، وقوله : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو قال : الكيس

٢٢٣

والعجز. العجز : عدم القدرة. وقيل : هو ترك ما يجب فعله بالتسويف به وتأخيره عن وقته. وقيل : يحتمل العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعنى الحديث : أن العاجز قدر عجزه والكيس قدر كيسه.

قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي وما أمرنا إلا مرة واحدة وقيل معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة (كُنْ فَيَكُونُ) لا مراجعة فيه فعلى هذا إذا أراد الله سبحانه وتعالى شيئا قال له كن فيكون فهنا بان فرق بين الإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحدة فيه بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول بل هو إشارة إلى نفاذ الأمر (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) قال ابن عباس : يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وعن ابن عباس أيضا : معناه وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي متعظ بأن ذلك حق فيخاف ويعتبر.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) يعني الأشياع من خير وشر (فِي الزُّبُرِ) أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم (مُسْتَطَرٌ) أي مكتوب.

قوله عزوجل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَنَهَرٍ) أي أنهار وإنما وحّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل.

وقيل : معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن الله صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق (عِنْدَ مَلِيكٍ) قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان (مُقْتَدِرٍ) أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها. قال جعفر الصادق : وصف الله تعالى المكان بالصدق ، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

تم الجزء السادس من تفسير الخازن ويليه الجزء السابع وأوله سورة الرّحمن

٢٢٤

سورة الرّحمن علا ، وعزوجل

(وهي مكية وذكر ابن الجوزي أنها مدنية في قول من قولين عن ابن عباس وهي ست وسبعون آية وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤))

قوله عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قيل لما نزلت اسجدوا للرحمن قال كفار مكة وما الرّحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرّحمن فأنزل الله الرّحمن يعني الذي أنكرتموه هو الذي علم القرآن ، وقيل هذا جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فقال تعالى الرّحمن علم القرآن يعني علّم محمدا القرآن وقيل علّم القرآن يسره للذكر ليحفظ ويتلى وذلك أن الله عزوجل عد نعمه على عباده فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه وأكثره ذكرا وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية (خَلَقَ الْإِنْسانَ) يعني آدم عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) يعني أسماء كل شيء وقيل علّمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية وقيل الإنسان اسم جنس وأراد به جميع الناس ، فعلى هذا يكون معنى علمه البيان أي النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات ، وقيل علمه الكتابة والفهم والإفهام حتى عرف ما يقول وما يقال له وقيل علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقيل أراد بالإنسان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّمه البيان يعني بيان ما يكون وما كان لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينبئ عن خبر الأولين والآخرين وعن يوم الدين ، وقيل علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام والحدود والأحكام.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١))

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) قال ابن عباس يجريان بحساب ومنازل لا يتعديانها وقيل يعني بهما حساب الأوقات والآجال ولو لا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد ، وقيل الحساب هو الفلك تشبيها بحسبان الرحى وهو ما يدور الحجر بدورانه (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قيل النجم ما ليس له ساق من النبات كالبقول والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء وسجودها سجود ظلها وقيل النجم هو الكوكب ، وسجوده طلوعه والقول الأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ولأنهما أرضيان في مقابلة سماءين (وَالسَّماءَ رَفَعَها) أي فوق الأرض (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) قيل أراد بالميزان العدل لأنه آلة العدل والمعنى أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لا تجاوزوا العدل وقيل أراد به الآلة التي يوزن بها للتوصل إلى الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير أن لا تطغوا في الميزان أي لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في

٢٢٥

الميزان (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) يعني بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب (وَلا تُخْسِرُوا) أي لا تنقصوا (الْمِيزانَ) أي لا تطففوا في الكيل والوزن أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) أي خفضها مدحوة على الماء (لِلْأَنامِ) يعني للخلق الذين بثهم فيها وهو كل ما ظهر عليها من دابة وقيل للإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها (فِيها) يعني في الأرض (فاكِهَةٌ) يعني من أنواع الفاكهة وقيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف وهو الطلع ما لم ينشق وكل شيء ستر شيئا فهو كم وقيل أكمامها ليفها واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها وأكثرها بركة.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥))

(وَالْحَبُ) يعني جميع الحبوب التي يقتاب بها كالحنطة والشعير ونحوهما وإنما أخّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل وأعم وجودا في الأماكن (ذُو الْعَصْفِ) قال ابن عباس يعني التبن وعنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه ويبس وقيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه ولا ورق وهو العصف ثم يكون سوقا ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب (وَالرَّيْحانُ) يعني الرزق قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق وقيل هو الريحان الذي يشم ، وقيل : العصف التبن والريحان ثمرته فذكر قوت الناس والأنعام ثم خاطب الجن والإنس فقال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة وكرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم ويقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن حاملا فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريرا وذلك لأن الله تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه وخاطب الجن والإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم. عن جابر رضي الله تعالى عنه قال «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية غيره «كانوا أحسن منكم ردا وفيه ولا بشيء» قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) يعني من طين يابس له صلصلة وهو الصوت منه إذا نقر (كَالْفَخَّارِ) يعني الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف.

فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب وقال من حمإ مسنون وقال من طين لازب وقال من ماء مهين وقال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق وذلك أن الله تعالى خلقه أولا من تراب ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنونا وهو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالا كالفخار (وَخَلَقَ الْجَانَ) وهو أبو الجن. وقيل هو إبليس (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه ، وقيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت.

٢٢٦

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) يعني مشرق الصيف وهو غاية ارتفاع الشمس ومشرق الشتاء وهو غاية انحطاط الشمس. (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يعني مغرب الصيف ومغرب الشتاء ، وقيل يعني مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني أرسل البحرين العذب والملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط وهو قوله : (يَلْتَقِيانِ) لكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ وهو قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز من قدرة الله (لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه وقيل لا يختلطان ولا يتغيران وقيل لا يطغيان على الناس بالغرق وقيل مرج البحرين بحر الروم وبحر الهند وأنتم الحاجز بينهما وقيل بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقيل بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا) قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) وقيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر ولا يخرج من جميع البحر ولكن من بعضه وقيل يخرج من السماء وماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة ، وقوله تعالى : (اللُّؤْلُؤُ) قيل هو ما عظم من الدر (وَالْمَرْجانُ) صغاره وقيل بعكس ذلك وقيل المرجان هو الخرز الأحمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ) يعني السفن الكبار (الْمُنْشَآتُ) أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض وقيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت وقيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قوله عزوجل :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١))

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) أي على الأرض من حيوان وإنما ذكره بلفظة من تغليبا للعقلاء (فانٍ) أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة وصرف الزمن اليسير إلى الطاعة (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) يعني ذاته والوجه يعبر به عن الجملة.

وفي المخاطب وجهان أحدهما أنه كل واحد والمعنى ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع.

والوجه الثاني : أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذُو الْجَلالِ) أي ذو العظمة والكبرياء ومعناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه (وَالْإِكْرامِ) أي المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أخرجه الترمذي وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها.

قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني من ملك وإنس وجن فلا يستغني عن فضله أهل السموات والأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وقيل كل

٢٢٧

أحد يسأل الرحمة وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه وفيه إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى وأن كل مخلوق وإن جل وعظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى الله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا قال المفسرون من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل قوما ويشفي مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويفرج عن مكروب ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلا ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال «إن مما خلق الله عزوجل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال ابن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب ، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه إن الله عزوجل كتب ما يكون في كل يوم وقدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قيل هو وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة وليس هو فراغ عن شغل لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك وما به شغل وهذا قول ابن عباس وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك وقيل معناه أن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك ونفرغ منه فهو على طريق المثل وأراد بالثقلين الإنس والجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتا ، وقيل كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما وقال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس والجن ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) أي تخرجوا (مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي جوانبهما وأطرافهما (فَانْفُذُوا) أي فاخرجوا والمعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة والمعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكي ومن سمائي وأرضي فافعلوا وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ والهرب من الإنس وأقوى على ذلك ثم قال تعالى : (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر وغلبة وأني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني وقال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وفي الخبر «يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادي» (يا مَعْشَرَ

٢٢٨

الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية فذلك قوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه وقيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار (وَنُحاسٌ) وقيل هو الدخان وهو رواية عن ابن عباس وقيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل وقيل يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة وقيل يجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفرجت فصارت أبوابا لنزول الملائكة وقيل المراد منه خراب السماء وذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء وقيل فيه تهويل وتعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن وهو تشقق السماء وذوبانها وهو قوله تعالى : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة وقيل إن السماء تتلون يومئذ ألوانا كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه وقيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألوانا وقيل تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصلها حر جهنم وقيل كالدهان أي كالأديم الأحمر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن الله تعالى علمها منهم وكتبتها الحفظة عليهم وهذه رواية عن ابن بعاس وعنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده وعن ابن عباس أيضا في الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتم كذا وكذا وقيل إنها مواطن فيسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها وعن ابن عباس أيضا قال لا يسألون سؤال شفقة ورحمة إنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وقيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) ، يعني بسواد وجوههم وزرقة عيونهم (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره وقيل تجعل رؤوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة وقيل يسحب بعضهم بالنواصي وبعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ) أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) يعني المشركين (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) يعني قد انتهى حره أي أنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل وقال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما

٢٢٩

تُكَذِّبانِ) فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) إلى هنا ليست نعما فكيف عقبها بقوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ وزواجر وتخويف وكل ذلك نعمة من الله تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعما فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه من عباده المؤمنين فقال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة والمعصية وقيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه وهو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله واطلاعه عليه فيدعها من مخافة الله وقيل لمن راقب الله في السر والعلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته وما عمل من خير أخلصه لله ولا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله مع الإخلاص ودأبوا الليل والنهار (جَنَّتانِ) يعني جنة عدن وجنة نعيم وقيل جنة بخوفه ربه وجنة بتركه شهوته.

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج مخففا سير أول الليل ومثقلا سير آخر الليل والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل وروى البغوي بسنده عن أبي ذر «أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر».

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم وصف الجنتين فقال تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي أغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا وقيل ذواتا ظلال وهو ظل الأغصان على الحيطان ، وقال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) قال ابن عباس بالكرامة والزيادة لأهل الجنة وقيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي صنفان ونوعان وقيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) جمع فراش (بَطائِنُها) جمع بطانة والتي تلي الأرض من تحت الظهارة (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود وأبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ، وعنه أيضا قال بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد وقال ابن عباس وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر وقيل ظواهرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر ، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم والقاعد والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا

٢٣٠

فإنها لا تنال إلا بكدّ وتعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وقيل لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟

قلت إلى الجنتين وإنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن وقصور ومجالس (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) أي لم يجامعهن ولم يفرعهن والمعنى لم يدمهن بالجماع وقيل معناه لم يمسهن ومنه قول الفرزدق :

خرجن إلي لم يطمثن قبل

وهن أصح من بيض النعام

أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) أي قبل أزواجهن من أهل الجنة ، (وَلا جَانٌ) قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم وفي الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وسئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم وقرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع ولم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن وقيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن.

لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد وقيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا ومعنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضا وقيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه وقال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك لأن الله تعالى يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال وقد روي عن ابن مسعود بمعناه ولم يرفعه وهو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا ، وللبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد وزاد فيه ولا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ

٢٣١

دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ، وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية يقول الله عزوجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي ، وقيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن الله وعد المؤمنين بالإحسان وهو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل والعقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان وقال ابن عباس من دونهما في الدرج وقيل في الفضل وقال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين وقال ابن جريج هن أربع جنان : جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان ، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وقال الكناني ومن دونهما جنتان يعني أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والجنتان الأخريان من ياقوت وزبرجد وهما أفضل من الأوليين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم وصف الجنتين فقال تعالى : (مُدْهامَّتانِ) أي سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي فوارتان بالماء لا ينقطعان وقال ابن عباس والضحاك ينضخان بالخير والبركة على أهل الجنة وقال ابن مسعود ينضخان بالمسك والكافور على أولياء الله وقال أنس بن مالك ينضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها وإنما عطف النخل والرمان بالواو وإن كانا من جملة الفواكه تنبيها على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه وعلى هذا القول عامة المفسرين وأهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص والتفضيل فهو كقوله من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال خصهما بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفهما وفضلهما وقيل بعضهم ليس النخل والرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة وطعام وثمرة الرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ولهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث وخالفه صاحباه وهذا القول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية وروى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفا قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم وثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين

٢٣٢

من الزبد ليس له عجم وروي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب وقيل إن نخل أهل الجنة نضيد وثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعا ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَ) أي في الجنان الأربع (خَيْراتٌ حِسانٌ) روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ) أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن وشرفهن روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» وقيل قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا (فِي الْخِيامِ) قيل هي البيوت. قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام ويقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل وخيم بها إذا قام بها وتظلل فيها وقيل كل خيامها من در ولؤلؤ وزبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة. (ق) عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) تقدم تفسيره ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة ويروى هذا عن ابن عباس وقيل إن الرفرف البسط ، وعن ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط منه وقيل هي مجالس خضر فوق الفرش وقيل هي المرافق وقيل الزرابي وقيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قيل هي الزرابي والطنافس الثخان وقيل هي الطنافس الرقاق وقيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري وقال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» وأصل هذا فيما قيل إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب وذلك أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن نسبوا إليها كل شيء عجيب بديع.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله «ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» وفيه إشارة إلى أن الباقي هو الله تعالى وأن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية وهو إشارة إلى تمجيده وتحميده (م) عن ثوبان قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول والله أعلم بمراده.

٢٣٣

سورة الواقعة

(مكية وهي سبع وتسعون آية وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة وألف وسبعمائة وثلاثة أحرف) روى البغوي بسنده عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا».

وكان أبو ظبية لا يدعها أبدا ، وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول لم يعزه ، والله تعالى أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨))

قوله عزوجل : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) يعني إذا قامت القيامة وقيل إذا نزلت صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة وقيل الواقعة اسم للقيامة كالآزفة ، (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) يعني لمجيئها (كاذِبَةٌ) يعني ليس لها كذب والمعنى أنها تقع حقا وصدقا وقيل معناه ليس لوقعتها قصة كاذبة أي كل ما أخبر الله عنها وقص من خبرها قصة صادقة غير كاذبة وقيل معناه ليس لوقعتها نفس كاذبة أي إن كل من يخبر عن وقوعها صادق غير كاذب لم تكذب نفس أخبرت عن وقوعها ، (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة وقال ابن عباس تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع أقواما كانوا في الدنيا مستضعفين وقيل تخفض أقواما بالمعصية وترفع أقواما بالطاعة ، (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا حركت وزلزلت زلزالا وذلك أن الله عزوجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا وخوفا قال المفسرون ترج كما يرج الصبي في المهد حتى ينهدم كل بناء عليها وينكسر كل ما فيها من جبال وغيرها وهو قوله تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتتت حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول وقيل صارت كثيبا مهبلا بعد أن كانت شامخة وقيل معناه قلعت من أصلها وسيرت على وجه الأرض حتى ذهب بها (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء ، (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا (ثَلاثَةً) ثم فسر الأزواج فقال تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يعني أصحاب اليمين.

والميمنة ناحية اليمين وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وقال ابن عباس هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه وقال الله تعالى : «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وقيل هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وقيل هم الذين كانوا ميامين أي مباركين على أنفسهم وكانت أعمالهم صالحة في طاعة الله وهم التابعون بإحسان (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) تعجيب من حالهم في السعادة. والمعنى أي شيء هم.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)

٢٣٤

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) يعني أصحاب الشمال وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار وقال ابن عباس هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية وقال الله تعالى لهم : «هؤلاء إلى النار ولا أبالي» وقيل هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم وقيل هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمالهم في المعاصي لأن العرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) قال ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنة وقيل هم السابقون إلى الإسلام وقيل هم الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار وقيل هم السابقون إلى الصلوات الخمس وقيل إلى الجهاد وقيل هم المسارعون إلى التوبة وإلى ما دعا الله إليه من أعمال البر والخير وقيل هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة.

فإن قلت لم أخر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم عن أصحاب اليمين.

قلت فيه لطيفة وذلك أن الله تعالى ذكر في أول السورة من الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفا لعباده فإما محسن فيزداد رغبة في الثواب وإما مسيء فيرجع عن إساءته خوفا من العقاب فلذلك قدم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجتهد أصحاب اليمين في القرب من جهنم ثم أثنى على السابقين فقال تعالى : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) يعني من الله في جواره وفي ظل عرشه ودار كرامته وهو قوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) قوله تعالى : (ثُلَّةٌ) أي جماعة غير محصورة العدد ، (مِنَ الْأَوَّلِينَ) يعني من الأمم الماضية من لدن آدم إلى زمن نبينا (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يعني من هذه الأمة وذلك لأن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به وقيل إن الأولين هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل من الآخرين أي ممن جاء بعدهم من الصحابة ، (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي منسوجة من الذهب والجوهر وقيل موضونة يعني مصفوفة (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي على السرر (مُتَقابِلِينَ) يعني لا ينظر بعضهم في قفا بعض وصفوا بحسن العشرة في المجالسة وقيل لأنهم صاروا أرواحا نورانية صافية ليس لهم أدبار وظهور.

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣))

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي للخدمة (وِلْدانٌ) أي غلمان (مُخَلَّدُونَ) لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون ولا ينتقلون من حالة إلى حالة وقيل مخلدون مفرطون والخلد القرط وهو الحلقة تعلق في الأذن واختلفوا في هؤلاء الولدان فقيل هم أولاد المؤمنين الذين ماتوا أطفالا وفيه ضعف لأن الله أخبر أنه يلحقهم بآبائهم ولأن من المؤمنين من لا ولد له فلو خدمه ولد غيره كان منقصة بأبي الخادم وقيل هم صغار الكفار الذين ماتوا قبل التكليف وهذا القول أقرب من الأول لأنه قد اختلف في أولاد المشركين على ثلاثة مذاهب فقال الأكثرون هم في النار تبعا لآبائهم وتوقف فيهم طائفة والمذهب الثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ولكل مذهب دليل ليس هذا موضعه ، وقيل هم أطفال ماتوا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ومن قال بهذه الأقوال يعلل بأن الجنة ليس فيها ولادة والقول الصحيح الذي لا معدل عنه إن شاء الله إنهم ولدان خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور وإن لم يولدوا ولم يحصلوا عن ولادة أطلق عليهم اسم الولدان لأن العرب تسمي الغلام وليدا ما لم يحتلم والأمة وليدة وإن أسنت ، (بِأَكْوابٍ) جمع كوب وهي الأقداح المستديرة الأفواه لا آذان لها ولا عرا (وَأَبارِيقَ) جمع إبريق وهي ذوات الخراطيم والعرا سميت أباريق

٢٣٥

لبريق لونها من الصفاء وقيل لأنها يرى باطنها كما يرى ظاهرها ، (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي من خمرة جارية (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي لا تصدع رؤوسهم من شربها وعنها كناية عن الكأس وقيل لا يتفرقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا يغلب على عقولهم ولا يسكرون منها وقرئ بكسر الزاي ومعناه لا ينفد شرابهم ، (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يأخذون خيارها (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيطير ممثلا بين يديه على ما اشتهى وقيل إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير.

فإن قلت هل في تخصيص الفاكهة بالتخير واللحم بالاشتهاء بلاغة؟.

قلت نعم وكيف لا وفي كل حرف من حروف القرآن بلاغة وفصاحة والذي يظهر فيه أن اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة فالجائع مشته والشبعان غير مشته بل هو مختار وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم إلى الفاكهة أكثر فيتخيرنها ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة من القرآن بخلاف اللحم وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل ولهذا قدم الفاكهة على اللحم والله أعلم ، (وَحُورٌ عِينٌ) أي ويطوف عليهم حور عين وقيل لهم حور عين وجاء في تفسير حور أي بيض عين أي ضخام العيون (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء فيكون في نهاية الصفاء روي «أنه سطع نور في الجنة فقيل ما هذا؟ قيل ضوء ثغر حوراء ضحكت» وروي «أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ يصران بالتسبيح».

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١))

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا بطاعتنا (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة ، (لَغْواً) قيل اللغو ما يرغب عنه من الكلام ويستحق أن يلغى وقيل هو القبيح من القول والمعنى ليس فيها لغو فيسمع (وَلا تَأْثِيماً) قيل معناه أن بعضهم لا يقول لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم كما يتكلم به أهل الدنيا وقيل معناه لا يأتون تأثيما أي ما هو سبب التأثيم من قول أو فعل قبيح (إِلَّا قِيلاً) معناه لكن يقولون قيلا أو يسمعون قيلا (سَلاماً سَلاماً) يعني يسلم بعضهم على بعض وقيل تسلم الملائكة عليهم أو يرسل الرب بالسلام إليهم وقيل معناه أن قولهم يسلم في اللغو.

ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) لما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي قطع ونزع منه وهذا قول ابن عباس وقيل هو الموقر حملا قيل ثمرها أعظم من القلال وهو النبق قيل لما نظر المسلمون إلى وج وهو واد مخصب بالطائف فأعجبهم سدره فقالوا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية (وَطَلْحٍ) قيل هو الموز عند أكثر المفسرين وقيل هو شجر له ظل بارد طيب وقيل هو شجر أم غيلان له شوك ونور طيب الرائحة فخوطبوا ووعدوا بمثل ما يحبون ويعرفون إلا أن فضله على شجر الدنيا كفضل الجنة على الدنيا (مَنْضُودٍ) أي متراكم قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ليست له سوق بارزة بل من عروقه إلى أغصانه ثمر وليس شيء من ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلاء والجوز ونحوهما بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه ، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي دائم لا تنسخه الشمس كظل أهل الدنيا وذلك لأن الجنة ظل كلها لا

٢٣٦

شمس فيها. (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرءوا إن شئتم وظل ممدود» وعن ابن عباس في قوله وظل ممدود قال شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها فيشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عزوجل ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي مصبوب يجري دائما في غير أخدود ولا ينقطع.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦))

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) قال ابن عباس لا تنقطع إذا جنيت ولا تمتنع من أحد إذا أراد أخذها وقيل لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء ولا يوصل إليها إلا بالثمن وقيل لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وجاء في الحديث «ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله عزوجل مكانها ضعفين» (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال علي مرفوعة على الأسرة وقيل بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في قوله : وفرش مرفوعة قال ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاعها كما بين السماء والأرض يقول ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات والدرجات ما بين كل درجتين بين السماء والأرض وقيل أراد بالفرش النساء والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة فعلى هذا القول يكون معنى مرفوعة أي رفعن بالفضل والجمال على نساء الدنيا ويدل على هذا التأويل قوله في عقبه ، (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أي خلقناهن خلقا جديدا قال ابن عباس يعني الآدميات العجائز الشمط يقول خلقناهن بعد الكبر والهرم خلقا آخر ، (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) يعني عذارى. عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أنشأناهن إنشاء قال إن من المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وضعف بعض رواته وروى البغوي بسنده عن الحسن قال «أتت عجوز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز قال فولت تبكي قال أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) هذا حديث مرسل وروي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) وقال المسيب بن شريك هن عجائز الدنيا أنشأهن الله بقدرته خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا وقيل إنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا وقيل هن الحور العين أنشأهن الله لم تقع عليهن ولادة فجعلناهن أبكارا عذارى وليس هناك وجع.

(عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

(عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها قاله ابن عباس في رواية عنه وعنه أنها الملقة وقيل الغنجة وعن أسامة بن زيد عن أبيه عربا قال حسان الكلام (أَتْراباً) يعني أمثالا في الخلق وقيل مستويات في السن على سن واحد بنات ثلاث وثلاثين ، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاث وثلاثين سنة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) يعني أنشأهن لأصحاب اليمين وقيل هذا الذي ذكرنا لأصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) يعني من المؤمنين الذين هم قبل هذه الأمة (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) يعني من مؤمني هذه الأمة يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عروة بن رويم قال «لما أنزل الله عزوجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين بكى عمر فقال يا نبي الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منا قليل فأنزل الله عزوجل وثلة من الأولين وثلة من الآخرين فدعا

٢٣٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر فقال قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسودان من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله» ، (ق) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع إلى سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض القوم في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ما الذي تخوضون فيه فأخبروه فقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام رجل آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» الرهيط تصغير رهط وهم دون العشرة وقيل إلى الأربعين. (ق) عن عبد الله بن مسعود قال «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبة نحوا من أربعين فقال أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا نعم قال والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» وعن بريدة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وذهب جماعة إلى أن الثلثين جميعا من هذه الأمة وهو قول أبي العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك قالوا ثلة من الأولين من سابقي هذه الأمة وثلة من الآخرين من هذه الأمة أيضا في آخر الزمان يدل على ذلك ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في هذه الآية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هما جميعا من أمتي» وهذا القول هو اختيار الزجاج قال معناه جماعة ممن تبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به وعاينه وجماعة ممن آمن به وكان بعده ولم يعاينه.

فإن قلت كيف قال في الآية الأولى وقليل من الآخرين وقال في هذه الآية وثلة من الآخرين؟.

قلت : الآية الأولى في السابقين الأولين وقليل ممن يلحق بهم من الآخرين وهذه الآية في أصحاب اليمين وهم كثيرون من الأولين والآخرين وحكي عن بعضهم أن هذه ناسخة للأولى واستدل بحديث عروة بن رويم ونحوه والقول بالنسخ لا يصح لأن الكلام في الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ. قوله تعالى :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُون (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) قد تقدم أنه بمعنى التعجب من حالتهم وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ثم بين منقلبهم وما أعد لهم من العذاب فقال تعالى : (فِي سَمُومٍ) أي في حر النار وقيل في ريح شديد الحرارة (وَحَمِيمٍ) أي ماء حار يغلي ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) يعني في ظل من دخان شديد السواد قيل إن النار

٢٣٨

سواد وأهلها سود وكل شيء فيها أسود وقيل اليحموم اسم من أسماء النار (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) يعني لا بارد المنزل ولا كريم المنظر وذلك لأن فائدة الظل ترجع إلى أمرين أحدهما دفع الحر والثاني حسن المنظر وكون الإنسان فيه مكرما وظل أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار ، ثم بين بما استحقوا ذلك فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) يعني في الدنيا ، (مُتْرَفِينَ) يعني منعمين (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) يعني على الذنب الكبير وهو الشرك وقيل الحنث العظيم اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك يدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى : (وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) فرد الله تعالى عليهم بقوله (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) يعني الآباء والأبناء ، (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعني أنهم يجمعون ويحشرون ليوم الحساب (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) يعني عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) أي بالبعث والخطاب لكفار مكة وقيل إنه عام مع كل ضال مكذب ، (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) تقدم تفسيره (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) يعني الإبل العطاش قيل إن الهيام داء يصيب الإبل فلا تروى معه ولا تزال تشرب حتى تهلك وقيل الهيم الأرض ذات الرمل التي لا تروى بالماء قيل يلقى على أهل النار العطش فيشربون من الحميم شرب الهيم فلا يروون (هذا نُزُلُهُمْ) يعني ما ذكر من الزقوم والحميم أي رزقهم وغذاؤهم وما أعد لهم (يَوْمَ الدِّينِ) يعني يوم يجازون بأعمالهم ثم احتج عليهم في البعث بقوله تعالى :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥))

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) يعني ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك (فَلَوْ لا) أي فهلا (تُصَدِّقُونَ) يعني بالبعث بعد الموت.

قوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) يعني ما تصبون في الأرحام من النطف (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي أنتم تخلقون ما تمنون بشرا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي إنه خلق النطفة وصورها وأحياها فلم لا تصدقون بأنه واحد قادر على أن يعيدكم كما أنشأكم احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق ، (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) يعني الآجال فمنكم من يبلغ الكبر والهرم ومنكم من يموت صبيا وشابا وغير ذلك من الآجال القريبة والبعيدة وقيل معناه إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء شريفهم ووضيعهم فعلى هذا القول يكون معنى قدرنا قضينا ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) يعني لا يفوتني شيء أريده ولا يمتنع مني أحد وقيل معناه وما نحن بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم وهو قوله تعالى : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي نأتي بخلق مثلكم بدلا منكم في أسرع حين (وَنُنْشِئَكُمْ) أي نخلقكم (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي من الصور والمعنى نغير حليتكم إلى ما هو أسمح منها من أي خلق شئنا وقيل نبدل صفاتكم فنجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم أي إن أردنا أن نفعل ذلك بكم ما فاتنا ، وقال سعيد بن المسيب فيما لا تعلمون في حواصل طيور سود كأنها الخطاطيف تكون ببرهوت وهو واد باليمن وهذه الأقوال كلها تدل على المسخ وعلى أنه لو شاء أن يبدلهم بأمثالهم من بني آدم قدر ولو شاء أن يمسخهم في غير صورهم قدر ، وقال بعض أهل المعاني هذا يدل على النشأة الثانية يكونها الله تعالى في وقت لا يعلمه العباد ولا يعلمون كيفيته كما علموا الإنشاء الأول من جهة التناسل ويكون التقدير على هذا وما نحن

٢٣٩

بمسبوقين على أن ننشئكم في وقت لا تعلمونه يعني وقت البعث والقيامة ، وفيه فائدة وهو التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء هو الموت والبعث وإذا كان ذلك واقعا في الأزمان ولا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئا وفيه تقرير للنشأة الثانية يوم القيامة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي بأني قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم أول مرة.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) لما ذكر الله تعالى ابتداء الخلق وما فيه من دلائل الوحدانية ذكر بعده الرزق لأن به البقاء وذكر أمورا ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول والمشروب ورتبه ترتيبا حسنا فذكر المأكول أولا لأنه هو الغذاء وأتبعه المشروب لأن به الاستمراء ثم النار التي بها الإصلاح وذكر من أنواع المأكول الحب لأنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه أيضا هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية ، فقوله أفرأيتم ما تحرثون أي ما تثيرون من الأرض وتلقون فيه البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تنبتونه وتنشئونه حتى يشتد ويقوم على سوقه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) معناه أأنتم فعلتم ذلك أم الله ولا شك في أن إيجاد أحب في السنبل ليس بفعل أحد غير الله تعالى وإن كان إلقاء البذر من فعل الناس ، (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) يعني ما تحرثونه وتلقون فيه من البذر ، (حُطاماً) أي تبنا لا قمح فيه وقيل هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غيره وقيل هو جواب لمعاند يقول نحن نحرثه وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا فرد الله عليّ هذا المعاند بقوله لو نشاء لجعلناه حطاما فهل تقدرون أنتم على حفظه أو هو يدفع عن نفسه بنفسه تلك الآفات التي تصيبه ولا يشك أحد في أن دفع الآفات ليس إلا بإذن الله وحفظه ، (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل تندمون على نفقاتكم وقيل تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة وقيل تتلاومون وقيل تحزنون وقيل هو تلهف على ما فات.

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣))

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي وتقولون فحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض وقيل معناه لموقع بنا وقال ابن عباس رضي الله عنهما لمعذبون يعني أنهم عذبوا بذهاب أموالهم بغير فائدة والمعنى إنا غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي ممنوعون والمعنى حرمنا الذي كنا نطلبه من الريع في الزرع ، (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) ذكرهم الله تعالى نعمه عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه إلا الله عزوجل : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) قال ابن عباس شديد الملوحة وقيل مرا لا يمكن شربه (فَلَوْ لا) أي فلا (تَشْكُرُونَ) يعني نعمة الله عليكم (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) يعني تقدحون من الزند (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) يعني التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار وهما شجرتان تقدح منهما النار وهما رطبتان وقيل أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها) يعني نار الدنيا (تَذْكِرَةً) أي للنار الكبرى إذا رأى الرائي هذه النار ذكر بها نار جهنم فيخشى الله ويخاف عقابه وقيل موعظة يتعظ بها المؤمن. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها» (وَمَتاعاً) أي بلغة ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) يعني للمسافرين والمقوي النازل في الأرض القواء وهي القفر

٢٤٠