تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

والمؤمنين ويأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي من أهل الإيمان (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) يعني المشركين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) جمع بريء (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدناكم وأنكرنا دينكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) والمعنى أن إبراهيم عليه‌السلام وأصحابه تبرؤوا من قومهم وعادوهم لكفرهم فأمر حاطبا والمؤمنين أن يتأسوا بهم (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به وإنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه وكان من دعاء إبراهيم ومن معه من المؤمنين (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق ، وقيل معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨))

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) يعني في إبراهيم ومن معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي اقتداء حسن (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي إن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) أي عن خلقه (الْحَمِيدُ) أي إلى أهل طاعته وأوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة وعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من كفار مكة (مَوَدَّةً) ففعل الله تعالى ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولان لهم أبو سفيان (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي علي جعل المودة بينكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب منهم وأسلم ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين قال ابن عباس نزلت في خزاعة وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخص الله في برهم وقال عبد الله بن الزبير نزلت في أمه وهي أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضبابا وأقطا وسمنا وهي مشركة فقالت أسماء لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليّ بيتا حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخلها منزلها وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها» ، (ق) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قالت «قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدتهم فاستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها قال نعم صليها» ، زاد في رواية قال ابن عيينة فأنزل الله فيها (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ثم ذكر الله الذي نهى عن صلتهم وبرهم فقال تعالى :

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ

٢٨١

فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠))

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) وهم مشركو مكة (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) الآية (خ) عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) ـ إلى ـ (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) ـ إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن؟ قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بايعتك كلاما يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس «أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحبا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال.

واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظا أو عموما فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظا صريحا فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظا صريحا وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم ، (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار (وَآتُوهُمْ) يعني أزواجهن (ما أَنْفَقُوا) أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن ، (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن

٢٨٢

أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين ، (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد : والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما.

قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما.

وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركا ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَسْئَلُوا) أي أيها المؤمنون (ما أَنْفَقْتُمْ) يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم (وَلْيَسْئَلُوا) يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم (ما أَنْفَقُوا) من المهر ممن تزوجها منكم (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال الزهري ولو لا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله عزوجل :

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

(وَإِنْ فاتَكُمْ) أيها المؤمنون (شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أي فلحقن بهم مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) أي إلى الكفار (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة (١) بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجبا أو مندوبا وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعا لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد

__________________

(١) قوله فاطمة ، تقدم أن اسمها قريبة فلعل في اسمها خلافا ، وذكر الخطيب أولا أن اسمها قريبة وثانيا فاطمة كما هنا والله أعلم ا ه.

٢٨٣

النساء منسوخا بقوله تعالى (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فعلى هذا كان رد المهر واجبا. والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوبا.

واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) الآية قال المفسرون لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وفرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا أتته النساء يبلغنه وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبايعهن (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا وما رأيناك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَسْرِقْنَ) فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري يحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال (وَلا يَزْنِينَ) فقالت هند أو تزني الحرة؟ فقال (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) فقالت هند ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) فقالت هند والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة قال ابن الجوزي وجملة من أحصى من المبايعات أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام ، (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئا وما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة لا يملكها» وأما تفسير الآية فقوله تعالى : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أراد به وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا تلحق المرأة بزوجها غير ولده وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فهذا هو البهتان المفتري وليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عنه قد تقدم ذكره ومعنى بين أيديهن وأرجلهن أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن به أو تنهاهن عنه وقيل في كل أمر وافق طاعة الله وكل أمر فيه رشد وقيل هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه وأن لا تحدث المرأة الرجال الأجانب ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر مع غير ذي محرم ، قال ابن عباس في قوله

٢٨٤

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) إنما هو شرط شرطه الله على النساء أخرجه البخاري (ق) عن أم عطية قالت «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئا ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فانطلقت ثم رجعت فبايعها» ، (ق) عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت «كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا» أخرجه أبو داود عن أنس رضي الله عنه «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن فقلن يا رسول الله نساء أسعدننا في الجاهلية فنسعدهن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إسعاد في الإسلام» أخرجه النسائي ، (م) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النائحة والمستمعة» أخرجه أبو داود ، وقوله تعالى : (فَبايِعْهُنَ) يعني إذا بايعنك على هذه الشروط فبايعهن (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عن أميمة بنت رقية قالت «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة فقال لنا فيما استطعتن وأطقتن قلنا الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا قلت يا رسول الله بايعنا قال سفيان يعني صافحنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني من اليهود وذلك أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك» (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) يعني اليهود وذلك أنهم عرفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذبوا به فيئسوا من أن يكون لهم ثواب أو خير في الآخرة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) يعني كما يئس الذين ماتوا على الكفر وصاروا في القبور من أن يكون لهم ثواب في الآخرة وذلك أن الكفار إذا دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله تعالى وقيل معناه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم والمعنى : أن اليهود الذين عاينوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يؤمنوا به قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢٨٥

سورة الصف

وفيها قولان : أحدهما أنها مدنية وهو قول ابن عباس والجمهور.

والثاني أنها مكية وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢))

قوله عزوجل : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) وأنزل الله (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) أي عظم بغضا عند الله (أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئا ولم يفوا به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه

٢٨٦

الحديث «تراصوا في الصف» ومعنى الآية إن الله يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) قيل : إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) يعني تؤذونني وأنتم عالمون علما قطعيا أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي (فَلَمَّا زاغُوا) أي عدلوا ومالوا عن الحق (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي أمالها عن الحق إلى غيره (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعا ممن قد تقدم (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال (اسْمُهُ أَحْمَدُ) عن أبي موسى قال «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن يأتوا النجاشي» وذكر الحديث ، وفيه قال سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر به عيسى ولو لا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه» أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم (١) يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل (ق) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي يوم القيامة وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وقد سماه الله تعالى رؤوفا رحيما» وأحمد يحتمل معنيين أحدهما أنه مبالغة من الفاعل ومعناه أن الأنبياء كلهم حمادون لله عزوجل وهو أكثر حمدا لله من غيره والثاني أنه مبالغة من المفعول ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها من غيره ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) قيل هو عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

__________________

(١) قوله قال نعم إلخ كذلك في نسخة وفي أخرى قال نعم أمة أحمد حكماء ا ه من هامش.

٢٨٧

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي ومن أقبح ظلما ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) معنى الآية أي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عزوجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم ، (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) ، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وكانوا اثني عشر رجلا أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حواري» الزبير (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

٢٨٨

سورة الجمعة

(مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثلاثون كلمة وسبعمائة وعشرون حرفا)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

قوله عزوجل : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه (رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أميا مثلهم وإنما كان أميا لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من دنس الشرك (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن وقيل الفرائض (وَالْحِكْمَةَ) قيل هي السنة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة ، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» أخرجاه في الصحيحين ، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يدركوهم ولكنهم جاءوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي قهر الجبابرة (الْحَكِيمُ) أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا

٢٨٩

يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها ، (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفرا لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرءون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) يعني بئس مثلا مثل القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالما وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه (قُلْ) أي قل يا محمد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي من دون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ادعوا على أنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي لا ينفعكم الفرار منه (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيه وعيد وتهديد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) أي الوقت الصلاة (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء سواه «كان إذا جلس صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر أذن بلال» (خ) عن السائب بن يزيد قال «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء» زاد في رواية «فثبت الأمر على ذلك» ، ولأبي داود قال «كان يؤذن بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد وذكر نحوه» الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعا كالمنارة.

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها

٢٩٠

يوم العروبة ، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرّحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون» أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر أصحاب السير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجدا فجمع فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخطب.

وقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.

وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بقوله فلما مشى معه (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» وفي رواية «فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة» وذكره زاد مسلم «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة» والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام (وَذَرُوا الْبَيْعَ) يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعا وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء (ذلِكُمْ) أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء (خَيْرٌ لَكُمْ) أي من المبايعة في ذلك الوقت (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم.

(فصل : في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها)

وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) : في فضلها (م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها» ، زاد في رواية «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (ق) عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر يوم الجمعة فقال : فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» (ق) عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» ، وفي رواية «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر» قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلا كغسل الجنابة (م) عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٩١

قال «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا» قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو (خ) عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذاك في كل سنة يوما فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني ، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي (خ) عن سلمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة» الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده.

(المسألة الثانية) : في إثم تاركها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على منبره «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من «ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه» أخرجه أبو داود والنسائي وللترمذي نحوه (م) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم».

(المسألة الثالثة) : في تأكيد وجوبها قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» ، أخرجه أبو داود وقال طارق «رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يسمع منه شيئا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الجمعة على من سمع النداء» أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله» ، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم

٢٩٢

نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال ، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال «إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين» ولأبي داود نحوه فيه بجؤاثى قرية من قرى البحرين.

(المسألة الرابعة) : في تركها لعذر كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس «أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم» زاد في رواية «فتمشون في الطين والدحض والزلق» ، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلّى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد.

(المسألة الخامسة) : في العدد الذي تنعقد به الجمعة اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلا وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحرارا بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة ، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب : لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلا ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع.

(المسألة السادسة) : لا يجوز أن يسافر الرجل يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلي الجمعة وجوز أصحاب الرأي أن يسافر بعد الزوال إذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت أما إذا سافر قبل الزوال وبعد طلوع الفجر فإنه يجوز غير أنه يكره إلا أن يكون سفره سفر طاعة كحج أو غزو ، وذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيما فلا يسافر حتى يصلي الجمعة يدل على جوازه ما روي عن ابن عباس قال «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ألحقهم فلما صلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه فقال ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم» أخرجه الترمذي وروى أن عمر رأى رجلا عليه أهبة السفر وسمعه يقول لو لا أن اليوم يوم الجمعة لخرجت فقال له عمر اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر.

وللجمعة شرائط وسنن وآداب مذكورة في كتب الفقه وفي هذا القدر كفاية والله أعلم.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

٢٩٣

قوله عزوجل : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيرا قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيرا حتى تذكره قائما وقاعدا ومضطجعا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) (ق) عن جابر قال «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاما فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إثنا عشر رجلا فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما» وفي رواية «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب قائما فجاءت عير من الشام وذكر نحوه» وفيه «إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر» ولمسلم «كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم» وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلا.

وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» وقال مقاتل «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كم بقي في المسجد؟ فقالوا اثني عشر رجلا وامرأة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية» وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق ، وقوله تعالى انفضوا أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائما اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة «سئل ابن مسعود أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال أما تقرؤون وتركوك قائما» قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائما خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافا لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافا لأبي حنيفة ومالك.

٢٩٤

(ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام)

(ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما» وفي رواية أخرى «كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن» (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» زاد في رواية «فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب» ، (م) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) ، (م) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال «كنت أصلي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا» زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا» وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه «ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله» أخرجه أبو داود (م) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال «كانت خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام يخطب فقد لغوت» عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام «فأما صفة صلاة الجمعة» فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهرا ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهرا ، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلّى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعا وإن انفض من العدد واحدا ، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعا (خ) عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (م) عن عبيد الله بن أبي رافع قال «استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد الحمد سورة الجمعة في الأولى وإذا جاءك المنافقون في الثانية قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك

٢٩٥

قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة» ، (م) عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين» عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» أخرجه أبو داود والنسائي.

وقوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) أي ما عند الله من الثواب والأجر على الصلاة والثبات مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) الذي جاء بهما دحية (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يعني أنه تعالى موجد الأرزاق وأصلها منه فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا ، والله تعالى أعلم.

٢٩٦

سورة المنافقين

مدنية وهي إحدى عشرة آية ومائة وثمانون كلمة وتسعمائة وستة وسبعون حرفا

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

قوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) يعني عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه قالوا (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي هو الذي أرسلك فهو عالم بك (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) يعني في قولهم نشهد إنك لرسول الله لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وذلك لأن حقيقة الإيمان أن يواطئ اللسان القلب وكذلك الكلام فمن أخبر عن شيء واعتقد خلافه أو أضمر خلاف ما أظهر فهو كاذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي سترة يسترون بها من القتل ومعنى أيمانهم ما أخبر الله عنهم من حلفهم إنهم لمنكم وقولهم نشهد إنك لرسول الله (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله وطاعة رسوله وقيل منعوا الناس عن الجهاد وعن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني حيث آثروا الكفر على الإيمان (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) أي في الظاهر وذلك إذا رأوا المؤمنين أقروا بالإيمان (ثُمَّ كَفَرُوا) أي في السر وذلك إذا خلوا مع المشركين وفيه تأكيد لقوله والله يشهد إنهم لكاذبون (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي بالكفر (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي الإيمان وقيل لا يتدبرون القرآن.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) يعني المنافقين مثل عبد الله بن أبي ابن سلول (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) يعني أن لهم أجساما ومناظر حسنة (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي فتحسب أنه صدق قال ابن عباس كان عبد الله بن أبي ابن سلول جسيما فصيحا ذلق اللسان فإذا قال سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي أشباح بلا أرواح وأجسام بلا

٢٩٧

أحلام شبههم بالخشب المسندة إلى جدر وليست بأشجار مثمرة ينتفع بها (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) يعني أنهم لا يسمعون صوتا في العسكر بأن ينادي مناد أو تنفلت دابة أو تنشد ضالة إلا ظنوا من خبثهم وسوء ظنهم أنهم يرادون بذلك وظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب وقيل إنهم على خوف ووجل من أن ينزل فيهم أمر يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وتم الكلام عند قوله عليهم ثم ابتدأ فقال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) أي لا تأمنهم فإنهم وإن كانوا معك ويظهرون تصديقك أعداء لك فاحذرهم ولا تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك من الكفار ينقلون إليهم أسرارك (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي يصرفون عن الحق.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي أمالوها وأعرضوا بوجوههم رغبة عن الاستغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عما دعوا إليه (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي عن استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) أي يا محمد (أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

(ذكر القصة : في سبب نزول هذه الآية)

قال محمد بن إسحاق وغيره من أصحاب السير إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحم الناس واقتتلوا فهزم الله تعالى بني المصطلق وأمكن منهم وقيل من قتل منهم ونقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليهم فبينما الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين وأعان جهجاها رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي الجعال وإنك لهناك فقال جعال وما يمنعني أن أفعل ذلك فغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن أبي افعلوها قد نافرونا وكاثرنا في بلادنا والله ما مثلنا زائدة ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولتحولوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن أرقم أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عز من الرّحمن ومودة من المسلمين فقال عبد الله بن أبي اسكت لقد كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال دعني أضرب عنقه يا رسول الله قال كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال عبد الله بن أبي والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب وكان عبد الله في قومه شريفا عظيما فقال من حضر من الأنصار من أصحابه يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد وهم في حديثه ولم يحفظ ما قاله فعذره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفشت الملامة لزيد في الأنصار وكذبوه وقال له عمه وكان زيد معه ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ومقتوك وكان زيد يساير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستحيا بعد ذلك أن يدنو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما استقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ما بلغك ما قال صاحبك

٢٩٨

عبد الله بن أبي فقال أسيد وما قال؟ قال يزعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد أنت والله يا رسول الله تخرجه هو والله الذليل وأنت والله العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد سلبته ملكا وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أبيه فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي على الأرض فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا قالوا وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومه ذلك حتى أمسى وليلته حتى أصبح وصدر يومه حتى آذتهم الشمس فنزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن حديث عبد الله بن أبي الذي كان منه بالأمس ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال لها نقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها وضلت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بالليل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تخافوا فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار توفي بالمدينة فقيل من هو؟ قال رفاعة بن زيد بن التابوت فقال رجل من المنافقين كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم بمكان ناقته ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بقول المنافق وبمكان ناقته فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وقال ما أزعم أني أعلم الغيب ولا أعلمه ولكن الله أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب وقد تعلق زمامها بشجرة فخرجوا يسعون قبل الشعب فإذا هي كما قال فجاؤوا بها فآمن ذلك المنافق وحسن إيمانه فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات في ذلك اليوم وكان من عظماء اليهود وكهفا للمنافقين فلما وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة قال زيد بن أرقم جلست في البيت لما بي من الهم والحياء فأنزل الله عزوجل سورة المنافقين في تصديق زيد بن أرقم وتكذيب عبد الله بن أبي فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذن زيد وقال يا زيد إن الله قد صدقك وأوفى بإذنك (ق) عن زيد بن أرقم قال «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي لا تنفقوا عليّ من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا كذب زيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى أنزل الله بتصديقي إذا جاءك المنافقون قال ثم دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لهم قال فلووا رؤوسهم وقوله كأنهم خشب مسندة قال كانوا رجالا أجمل شيء» (ق) عن جابر قال «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد بات معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبر بسكعة المهاجري الأنصاري فقال دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر ألا أقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه» ولمسلم رواية «وفيها فقال لا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره» وزاد الترمذي فيه «فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله لا تنقلب حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العزيز ففعل» قال أصحاب السير وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فلما جاء عبد الله بن أبي قال له ابنه وراءك قال ويلك ما لك قال لا والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولتعلمن اليوم من الأعز ومن الأذل فشكا عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما صنع ابنه عبد الله فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن خل عنه يدخل فقال عبد الله أما إذا جاء أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنعم فدخل قالوا فلما نزلت هذه السورة وتبين كذب المنافقين قيل يا أبا حباب إنه

٢٩٩

قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لك فلوى رأسه وقال أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الآية ونزل.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩))

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يتفرقوا عنه (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني بيده مفاتيح الرزق فلا يعطي أحد أحدا شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه إلا بمشيئته (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) يعني أن أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) يعني من غزوة بني المصطلق (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فرد الله عليهم بقوله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فعزة الله تعالى قهره وغلبته على من دونه وعزة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهار دينه على الأديان كلها وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ذلك لو علموا ما قالوا هذه المقالة قال أصحاب السير فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) يعني عن الصلوات الخمس والمعنى لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم كما شغلت المنافقين عن ذكر الله (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي ومن شغله ماله وولده عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي في تجارتهم حيث آثروا الفاني على الباقي.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) قال ابن عباس يريد زكاة الأموال (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي دلائل الموت ومقدماته وعلاماته فيسأل الرجعة (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) أي هلا أمهلتني وقيل لو أخرت أجلي (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ) أي فأزكي مالي (وَأَكُنْ) وقرئ وأكون (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي المؤمنين وقيل نزلت هذه الآية في المنافقين ويدل على هذا أن المؤمن لا يسأل الرجعة وقيل نزلت في المؤمنين والمراد بالصلاح هنا الحج قال ابن عباس : ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤد زكاته أو أطاق الحج ولم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت وقرأ هذه الآية (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي أحج وأزكي (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) يعني أنه تعالى لا يؤخر من حضر أجله وانقضت مدته (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعني أنه لو رد إلى الدنيا وأجيب إلى ما سأل ما حج وما زكى وقيل هو خطاب شائع لكل عامل عملا من خير أو شر ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٠٠