تفسير الخازن - ج ٤

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ٤

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٥١٢

الصواب لأنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه مردودا عليهم بعينه وإذا أثبت الواو وقع الاشتراك معهم لأن الواو تجمع بين الشيئين ، والعنف ضد الرفق واللين ، والفحش الرديء من القول.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) في المخاطبين بهذه الآية قولان أحدهما أنه خطاب للمؤمنين وذلك أنه لما ذم اليهود والمنافقين على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول أتبعه بأن نهى المؤمنين أن يسلكوا مثل طريقهم وأن يفعلوا كفعلهم فقال لا تتناجوا بالإثم وهو ما يقبح من القول والعدوان وهو ما يؤدي إلى الظلم ومعصية الرسول وهو ما يكون خلافا عليه.

والقول الثاني : وهو الأصح أنه خطاب للمنافقين والمعنى. يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وقيل آمنوا بزعمهم كأنه قال لهم لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بالطاعة وترك المعصية (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي من تزيين الشيطان وهو ما يأمرهم به. من الإثم والعدوان ومعصية الرسول (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما يزين ذلك ليحزن المؤمنين (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» زاد ابن مسعود في رواية «فإن ذلك يحزنه» وهذه الزيادة لأبي داود (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) يعني ذلك التناجي وقيل الشيطان ليس بضارهم شيئا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا ما أراد الله تعالى وقيل إلا بإذن الله في الضر (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليكل المؤمنون أمرهم إلى الله تعالى ويستعيذوا به من الشيطان فإن من توكل على الله لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) الآية قيل في سبب نزولها «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس منهم يوما وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلموا عليه فرد عليهم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ثم قاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا وشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس بقدر أولئك النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهية في وجوههم فأنزل الله هذه الآية» وقيل نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تقدمت القصة في سورة الحجرات ، وقيل كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحبون القرب منه فكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا تضاموا في مجلسهم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض وقيل كان ذلك يوم الجمعة في الصفة والمكان ضيق والأقرب أن المراد مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحرصا على استماع كلامه فأمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتساوى الناس في الأخذ بالحظ منه وقرئ في المجلس لأن لكل واحد مجلسا ومعناه ليفسح كل رجل في مجلسه فافسحوا أي فأوسعوا في المجلس أمروا بأن يوسعوا في المجالس لغيرهم ، (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسع الله لكم في الجنة والمجالس فيها (ق) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم

٢٦١

يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم» ، (م) عن جابر بن عبد الله قال «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا» ذكره الحميدي في أفراد مسلم موقوفا على جابر ورفعه غير الحميدي وقيل في معنى الآية إن هذا في مجالس العرب ومقاعد القتال كان الرجل يأتي القوم وهم في الصف فيقول توسعوا فيأبون عليه لحرصهم على القتال ورغبتهم في الشهادة فأمروا بأن يوسعوا لإخوانهم لأن الرجل الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول والحاجة داعية إلى تقدمه فلا بد من التفسح له ثم يقاس على ذلك سائر المجالس كمجالس العلم والقرآن والحديث والذكر ونحو ذلك لأن كل من وسع على عباد الله أنواع الخير والراحة وسع الله عليه خيري الدنيا والآخرة. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا قيل ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقيل كان رجال يتثاقلون عن الصلاة في الجماعة إذا نودي لها فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى إذا نودي إلى الصلاة فانهضوا إليها وقيل إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة وإلى الجهاد وإلى كل خير فانهضوا إليه ولا تقصروا عنه ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي ويرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم (دَرَجاتٍ) أي على من سواهم في الجنة قيل يقال للمؤمن الذي ليس بعالم إذا انتهى إلى باب الجنة أدخل ويقال للعالم قف فاشفع في الناس أخبر الله عزوجل أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصيب فيما أمروا أن أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا وأن النفر من أهل بدر مستحقون لما عوملوا به من الإكرام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) قال الحسن قرأ ابن مسعود هذه الآية وقال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولنرغبنكم في العلم فإن الله تعالى يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات وقيل إن العالم يحصل له بعلمه من المنزلة والرفعة ما لا يحصل لغيره لأنه يقتدي بالعالم في أقواله وفي أفعاله كلها عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي قال حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا قال ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم قال فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر» أخرجه الترمذي ولأبي داود نحوه ، (ق) عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من يريد الله به خيرا يفقهه في الدين» وعن ابن عباس مثله أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون إلى الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه».

أما هؤلاء فيدعون إلى الله ويرغبون إليه وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلما ثم جلس فيهم» قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) يعني إذا أردتم مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا أمام ذلك صدقة وفائدة ذلك إعظام مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الإنسان إذا وجد الشيء بمشقة استعظمه

٢٦٢

وإن وجده بسهولة استحقره ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة قال ابن عباس إن الناس سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثروا حتى شق عليه فأراد الله تعالى أن يخفف على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثبطهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل نزلت في الأغنياء وذلك أنهم كانوا يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فلما أمروا بالصدقة كفوا عن مناجاته فأما الفقراء وأهل العسرة فلم يجدوا شيئا وأما الأغنياء وأهل الميسرة فضنوا واشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الرخصة وقال مجاهد نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب تصدق بدينار وناجاه ثم نزلت الرخصة فكان علي يقول آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية المناجاة. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ترى دينارا قلت لا يطيقونه قال فنصف دينار قلت لا يطيقونه قال فكم قلت شعيرة قال إنك لزهيد قال فنزلت.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦))

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية قال فبي خفف الله عن هذه الأمة أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قوله قلت شعيرة أي وزن شعيرة من ذهب وقوله إنك لزهيد يعني قليل المال قدرت على قدر حالك.

فإن قلت في هذه الآية منقبة عظيمة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يعمل بها أحد غيره.

قلت هو كما قلت وليس فيها طعن على غيره من الصحابة ووجه ذلك أن الوقت لم يتسع ليعملوا بهذه الآية ولو اتسع الوقت لم يتخلفوا عن العمل بها وعلى تقدير اتساع الوقت ولم يفعلوا ذلك إنما هو مراعاة لقلوب الفقراء الذين لم يجدوا ما يتصدقون به لو احتاجوا إلى المناجاة فيكون ذلك سببا لحزن الفقراء إذ لم يجدوا ما يتصدقون به عند مناجاته ووجه آخر وهو أن هذه المناجاة لم تكن من المفروضات ولا من الواجبات ولا من الطاعات المندوب إليها بلى إنما كلفوا هذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة ولما كانت هذه المناجاة أولى بأن تترك لم يعملوا بها وليس فيها طعن على أحد منهم ، وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) يعني تقديم الصدقة على المناجاة لما فيه من طاعة الله وطاعة رسوله (وَأَطْهَرُ) أي لذنوبكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني أنه تعالى رفع عنهم ذلك (أَأَشْفَقْتُمْ) قال ابن عباس أبخلتم والمعنى أخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم وهو قوله (أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أي ما أمرتم به ، (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي تجاوز عنكم ونسخ الصدقة قال مقاتل بن حيان كان ذلك عشر ليال ثم نسخ ، وقال الكلبي ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي المفروضة (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي الواجبة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فيما أمر ونهى (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه محيط بأعمالكم ونيتكم.

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في المنافقين وذلك أنهم تولوا اليهود ونصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم فأراد بقوله قوما غضب الله عليهم اليهود (ما هُمْ) يعني المنافقين (مِنْكُمْ) أي من المؤمنين في الدين والولاء (وَلا مِنْهُمْ) يعني ولا من اليهود (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ

٢٦٣

يَعْلَمُونَ) أي أنهم كذبة «نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق وكان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجرة من حجره إذ قال يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل وجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فأنزل الله هذه الآية» (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) يعني الكاذبة (جُنَّةً) أي يستجنون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يعني أنهم صدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ أموالهم بسبب أيمانهم ، وقيل معناه صدوا الناس عن دين الله الذي هو الإسلام (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يعني في الآخرة.

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) يوم القيامة (مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) يعني كاذبين أنهم ما كانوا مشركين (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي في الدنيا وقيل كان الحلف جنة لهم في الدنيا فظنوا أنه ينفع في الآخرة أيضا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) يعني من أيمانهم الكاذبة (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) يعني في أقوالهم وأيمانهم ، (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب واستولى عليهم وملكهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) يعني في جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة لأن ذل أحد الخصمين على حسب عز الخصم الثاني.

ولما كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى ذلك قضاء ثابتا قيل غلبة الرسل على نوعين فمنهم من يؤمر بالحرب فهو غالب بالحرب ومن لم يؤمر بالحرب فهو غالب بالحجة ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) أي على نصر رسله وأوليائه (عَزِيزٌ) أي غالب على أعدائه.

قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أخبر الله تعالى أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين وأن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر لأن من أحب أحدا امتنع أن يحب عدوه فإن قلت قد أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالفتهم ومعاشرتهم فما هذه المودة المحظورة قلت المودة المحظورة هي مناصحتهم وإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم ، فأما ما سوى ذلك فلا حظر فيه ثم إنه تعالى بالغ في الذكر عن مودتهم بقوله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني أن الميل إلى هؤلاء من أعظم أنواع الميل ومع هذا فيجب أن يطرح الميل إلى هؤلاء والمودة لهم بسبب مخالفة الدين قيل نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة وستأتي قصته في سورة الممتحنة وروي عن عبد الله بن مسعود في

٢٦٤

هذه الآية قال ولو كانوا آباءهم يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم أحد أو أبناءهم يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يوم بدر إلى البراز وقال يا رسول الله دعني أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «متعنا بنفسك يا أبا بكر» أو إخوانهم يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبد الله بن عمير أو عشيرتهم يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وعلي بن أبي طالب وحمزة وأبا عبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر ، (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبت التصديق في قلوبهم فهي مؤمنة موقنة مخلصة وقيل حكم لهم بالإيمان وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي قواهم بنصر منه وإنما سمى نصره إياهم روحا لأن به حيي أمرهم.

وقيل بالإيمان وقيل بالقرآن وقيل بجبريل وقيل برحمته (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) إنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأن أعظم النعم وأجل المراتب ثم لما ذكر هذه النعم أتبعه بما يوجب ترك المودة لأعداء الله سبحانه وتعالى فقال (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والله أعلم بمراده.

٢٦٥

سورة الحشر

قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة الحشر فقال قل سورة النضير وهي مدنية أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١))

قوله عزوجل : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير وهم طائفة من اليهود وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا وظهر على المشركين قال بنو النضير والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة» وقد تقدمت القصة في سورة آل عمران وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحصن فعصمه الله منهم وأخبره بذلك وقد تقدمت القصة في سورة المائدة.

فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية قال نعم فقالوا ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اخرجوا من المدينة فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ثم تنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود حتى كانوا في براز من الأرض فقال بعض اليهود لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلهم يحب الموت قبله ولكن أرسلوا إليه كيف

٢٦٦

نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن آمنوا بك آمنا بك وصدقناك ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كان من الغد صبحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.

وقال ابن عباس : على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي ، وقيل أعطى كل ثلاثة نفر بعيرا وسقاء ففعلوا ذلك وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة ، فذلك قوله عزوجل :

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢))

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني النضير (مِنْ دِيارِهِمْ) يعني التي كانت بالمدينة. قال ابن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال الزهري كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى وكان الله قد كتب عليهم الجلاء ولو لا ذلك لعذبهم في الدنيا قال ابن عباس من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية فكان هذا أول حشر إلى الشام قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر ثم يحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام وقيل إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل كان هذا : أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام في أيام عمر ، وقيل كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم يوم القيامة من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا (ما ظَنَنْتُمْ) يعني أيها المؤمنين (أَنْ يَخْرُجُوا) أي من المدينة لعزتهم ومنعتهم وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخل كثير (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي أتاهم أمر الله وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) وهو أن الله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك ، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف الشديد بقتل سيدهم كعب بن الأشرف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قال الزهري وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صالحهم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا ينظرون إلى الخشب في منازلهم فيهدمونها وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها وقيل كانوا يقلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسدا منهم وبغضا وقيل كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ويخربها اليهود من داخلها وقال ابن عباس كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها لتتسع لهم المقاتل وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارها فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصنون فيها ويكسرون ما يليهم ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَاعْتَبِرُوا) يعني فاتعظوا وانظروا ما نزل بهم (يا أُولِي الْأَبْصارِ) يعني يا ذوي العقول والبصائر.

٢٦٧

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) يعني الخروج من الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) يعني بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ) أي الذي لحقهم ونزل بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوا الله ورسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الآية وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وأحرقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا.

واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم وأن ذلك كان بإذن الله تعالى (ق) عن ابن عمر قال : حرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزل (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) البويرة اسم موضع لبني النضير وفي ذلك يقول حسان بن ثابت :

وهان على سراة بني لؤيّ

حريق بالبويرة مستطير

قال ابن عباس النخل كلها لينة ما خلا العجوة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع نخلهم إلا العجوة ، وأهل المدينة يسمون ما خلا العجوة من التمر الألوان وقيل النخل كلها لينة إلا العجوة والبرنية وقيل اللينة النخل كلها من غير استئناف وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه هي لون من النخل وقيل كرام النخل وقيل هي ضرب من النخل يقال لتمرها اللون وهو شديد الصفرة ويرى نواه من خارج يغيب فيه الضرس وكان من أجود تمرهم وأعجبه إليهم وكانت النخلة الواحدة ثمنها ثمن وصيف وأحب إليهم من وصيف فلما رأوهم يقطعونها شق عليهم ذلك وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون دعوا هذا النخل قائما هو لمن غلب عليه فأخبر الله أن قطعها كان بإذنه ، (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) يعني اليهود والمعنى ولأجل إخزاء اليهود أذن الله في قطعها احتج العلماء بهذه الآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس أن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق وكذلك قطع أشجارهم ونحوها.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

قوله عزوجل : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي ما رد الله على رسوله (مِنْهُمْ) أي من يهود بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) يعني أوضعتم وهو سرعة السير (مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلا ولا ركابا ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على جمل ، (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من أعدائه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم

٢٦٨

أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة (ق) عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرّحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون؟ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلا ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان؟ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره فقال «وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب» الآية قال فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينكم أموال بني النضير فو الله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟ قالوا نعم قال ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك؟ قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قلتم ادفعها إلينا فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهدا لله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت وإلا فلا تكلماني فقلتما ادفعه إلينا بذلك فدفعته إليكما أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنه فادفعاه إليّ فإني أكفيكماه.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) يعني بني هاشم وبني المطلب (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.

واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم من المصالح.

واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن

٢٦٩

الخطاب «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين إلى قوله والذين جاءوا من بعدهم» ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم (كَيْ لا يَكُونَ) الفيء (دُولَةً) والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسمه فيما أمره به (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أي من مال الفيء والغنيمة (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي من الغلول وغيره (فَانْتَهُوا) وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره (ق) عن عبد الله بن مسعود أنه قال «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله عزوجل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» عن أبي رافع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به ونهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» أخرجه أبو داود والترمذي.

وقال هذا حديث حسن الأريكة كل ما أتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة أو نحو ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في أمر الفيء (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي على ترك ما أمركم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نهاكم عنه ثم بين من له الحق في الفيء فقال عزوجل :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي رزقا وقيل ثوابا من الله (وَرِضْواناً) أي أخرجوا من ديارهم طلبا لرضا الله عزوجل : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا» وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

٢٧٠

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكنا (مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي حزازة وغيظا وحسدا (مِمَّا أُوتُوا) أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يضيفه يرحمه‌الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية «فأنزل الله (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ»). (ق) عن أبي هريرة قال «قالت الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا» (خ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» وفي رواية «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النضير للأنصار «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم ولم نقسم لكم شيئا من الغنيمة فقالت الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فأنزل الله عزوجل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» والشح في كلام العرب البخل مع الحرص وقد فرق بعض العلماء بين البخل والشح فقال البخل نفس المنع والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع.

ولما كان الشح من صفات النفس لا جرم قال الله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بما أرادوا وروي أن رجلا قال لابن مسعود إني أخاف أن أكون قد هلكت قال وما ذاك قال إني أسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء فقال عبد الله ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل وقال ابن عمر ليس الشح أن يمنع الرجل ماله إنما الشح أن تطمع عين الرجل فيما ليس له وقيل الشح هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه فقد وقاه شح نفسه (م) عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع» أخرجه أبو داود الهلع

٢٧١

أشد الجزع والمراد منه أن الشحيح يجزع جزعا شديدا ويحزن على شيء يفوته أو يخرج من يده والخالع الذي خلع فؤاده لشدة خوفه وفزعه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» أخرجه النسائي.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم إلى يوم القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أخبر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي غشا وحسدا وبغضا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فكل من كان في قلبه غل أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين وليس له في المسلمين نصيب وقال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرون والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه الثلاث منازل (ق) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (م) عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة «يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبوهم» عن عبد الله بن مغفل قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال مالك بن أنس : من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا هذه الآية (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ـ إلى ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ـ إلى ـ (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال مالك بن مغول قال الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قال حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجمع لهم كلمة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.

وروي عن جابر قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر.

وروي أن ابن عباس سمع رجلا ينال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : من أمن المهاجرين الأولين أنت؟

قال لا قال أفمن الأنصار أنت؟ قال لا قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان. قوله عزوجل :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) يعني أظهروا خلاف ما أضمروا وهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه

٢٧٢

(يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني اليهود من بني قريظة وبني النضير وإنما جعل المنافقين إخوانهم لأنهم كفار مثلهم (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) أي من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) أي منها (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يعني إن سألنا أحد خلافكم وخذلانكم فلا نطيعه فيكم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعيننكم ولنقاتلن معكم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ) يعني المنافقين (لَكاذِبُونَ) أي فيما قالوا ووعدوا ثم أخبر الله عن حال المنافقين فقال تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا ولم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) يعني لو قدروا نصرهم أو لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦))

(لَأَنْتُمْ) يعني يا معشر المسلمين (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله (ذلِكَ) أي الخوف منكم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) يعني عظمة الله تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) وقرئ جدر (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضا شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ثم ضرب لليهود مثلا فقال تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) يعني مشركي مكة (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس «كمثل الذين من قبلهم» يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الآخرة ثم ضرب مثلا آخر للمنافقين واليهود جميعا في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه‌السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله

٢٧٣

سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيبا إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما فلما انفتل بعدها رآه قائما يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولا يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشد اجتهادا مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها ، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها؟ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو؟ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأنا من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحدا فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف

٢٧٤

إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبدا ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك ، (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) قال الله تعالى :

(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

(فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني الشيطان وذلك الإنسان (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلا صالحا عابدا فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم ، فقالت إن شئتم لافتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث ،

٢٧٥

فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها» أخرجه مسلم بتمامه وهذا لفظه وأخرجه البخاري مفرقا حديث جريج تعليقا وحديث المرأة وابنها خاصة.

المومسات الزواني جمع مومسة وهي المرأة الفاجرة والبغيّ الزانية أيضا وقوله يتمثل بحسنها أي يتعجب منه ويضرب به المثل وقوله ذو شارة حسنة أي صاحب جمال ظاهر في الهيئة والملبس والمركب ونحو ذلك والجبار العاتي المتكبر القاهر للناس.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غدا وكل ما هو آت فهو قريب ، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيدا وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي تركوا أمر الله (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيرا ينفعها وعنده (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله «ولتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزا عظيما.

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزا وعقلا كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله ، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها.

وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزا وعقلا يدل على أنه تمثيل.

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم.

٢٧٦

ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحمة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرّحمن أشد مبالغة من الرّحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته (الْقُدُّوسُ) أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته (السَّلامُ) أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق.

فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن.

قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليما ، وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه ، (الْمُؤْمِنُ) قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب (الْمُهَيْمِنُ) قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه :

ألا إن خير الناس بعد نبيه

مهيمنه التاليه في العرب والنكر

أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أبيات منها :

حتى احتوى بينك المهيمن من

خندف عليا زانها النطق

وقيل : المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه :

جل المهيمن عن صفات عبيده

ولقد تعالى عن عقول أولي النهى

راموا بزعمهم صفات مليكهم

والوصف يعجز عن مليك لا يرى

(الْعَزِيزُ) أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر (الْجَبَّارُ) قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد : وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمرا فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس صفة ذم وكذلك (الْمُتَكَبِّرُ) في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذابا في فعله فكان مذموما في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصا في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك

٢٧٧

كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع ، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه وتعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة ، وقيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره (الْبارِئُ) أي المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود (الْمُصَوِّرُ) أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده وقيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض وقيل الخالق المبدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارئ المنشئ لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه وأنشأه على صور مختلفة وأشكال متباينة وقيل معنى التصوير التخطيط والتشكيل فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا وإنما قدم الخالق على البارئ لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارئ على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان كذلك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب والله أعلم.

٢٧٨

سورة الممتحنة

(مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١))

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) الآية (ق) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلته كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) إلى قوله (سَواءَ السَّبِيلِ) روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة وقيل إنه موضع قريب من مكة والأول أصح والظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج والعقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسلمة جئت؟ قالت لا قال أمهاجرة جئت؟ قالت لا قال فما جاء بك؟ قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها وأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل عليه‌السلام فأخبر النبي

٢٧٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فعل فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرسانا فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لها أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب فبحثوا وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع ، فقال علي والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسل السيف وقال أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت؟ فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا منهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يدا وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدريك يا عمل لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء يعني أصدقاء وأنصارا (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي بأسباب المحبة وقيل معناه تلقون إليهم أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم (وَقَدْ كَفَرُوا) أي وحالهم أنهم كفروا (بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) يعني القرآن (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) يعني من مكة (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي لأن آمنتم ، كأنه قال يفعلون ذلك لإيمانكم (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) هذا شرط جوابه متقدم والمعنى إن كنتم خرجتم (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.

وقوله : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي بالنصيحة (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ) أي من المودة للكفار (وَما أَعْلَنْتُمْ) أي أظهرتم بألسنتكم منها (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي الإسرار وإلقاء المودة إليهم فقال : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ طريق الهدى ثم أخبر عن عداوة الكفار فقال تعالى :

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي يظفروا بكم ويروكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي بالضرب والقتل والشم والسب (وَوَدُّوا) أي تمنوا (لَوْ تَكْفُرُونَ) أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله ولا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم ولا توادوهم (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) أي لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين عصيتم الله لأجلهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي يدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) يخاطب حاطبا

٢٨٠