تفسير الإمام الحسين عليه السلام

تفسير الإمام الحسين عليه السلام

المؤلف:


المحقق: السيد محمد علي الحلو
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: قسم الشؤون الفكريّة والثقافيّة في العتبة الحسينيّة المقدّسة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

لدى الإمام الحسين عليه‌السلام ، وهو بالتأكيد دليل إدانة لتلك الأنظمة ـ الأموية والعباسية ـ ومن تابعها أكثر مما هي شبهة أرادها البعض أن تحمّل الشيعة مسؤولية عدم الاعتناء بأحاديث الإمام الحسين عليه‌السلام ونقلها ، أو التشكيك في إظهار الجانب الفكري للإمام الحسين وتغليب جانب الحزن والفجيعة من قبل شيعته ، بل كانت شيعة أهل البيت سباقة في الحفاظ على ما بقي من تراثهم وأحاديثهم ومنها أحاديث الإمام الحسين عليه‌السلام.

التفسير الروائي للإمام الحسين شاهد على ذلك : ولغرض إثبات ما تقدم فإننا حاولنا الوقوف على بعض مرويات الإمام الحسين عليه‌السلام ، ليكون تفسيرا مستقلا بنفسه أطلقنا عليه «تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام» وهي سابقة فريدة توقفنا على ما بذله الإمام الحسين عليه‌السلام من إنعاش الرافد الثقافي والفكري الإسلامي الذي بذل الإمام الحسين عليه‌السلام مهجته من أجل إبقائه ، كما أنها توقفنا على مدى الجهد الذي بذله الأمويون من أجل إخفاء هذا التراث الحسيني ، إذ لا بدّ من أن تتزامن الحرب العسكرية والحرب الفكرية معا من أجل إجهاض حركة الإمام الحسين الإصلاحية ، فهم لم يكتفوا بتصفيته جسديا حتى عمدوا إلى تراثه ليبعدوه عن أعين الأمة التي وعت وعرفت الفرق بين الكفر والإيمان ، والنفاق والإسلام ، والخسة والنبل ، التي تميز بها الفريقان.

فالأمة فرّقت بين إيمان الحسين وأصحابه وبين كفر قاتليه ، وبين نفاق أعدائه وإسلام ناصريه ، وبين خسة أولئك ونبل هؤلاء الطاهرين من أصحاب الحسين وأتباعه.

٢١
٢٢

التفسير المغيّب

وربما يتساءل البعض عن إمكانية تفسير القرآن من الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ بشكله الكامل وإيداعه بعيدا عن مطاردات النظام ، ليحفظه في مستودعه الأمين ، كولده الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، دون أن يتعرض لمساس السلطة وملاحقاتها لفكر أهل البيت عليهم‌السلام وطروحاتهم الإلهية ، ولم بقي تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام تحت الطلب بمقدار ما يتطلبه سؤال الراوي أو ما تفرضه المناسبة عندئذ؟!.

ولغرض الوقوف على حقيقة الأمر فاننا نذعن للسياقات التاريخية التي أوردت أن الإمام عليا عليه‌السلام قد جاء للناس بالقرآن مجموعا بعد تفريقه ، فلما عرضه على القوم أبوا قبوله وردوه كما في تاريخ اليعقوبي بقوله : «أن علي بن أبي طالب كان جمعه ـ (أي القرآن) لما قبض رسول الله وأتى به يحمله على جمل ، فقال : هذا القرآن قد جمعته وكان قد جزّأه سبعة أجزاء ..» (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢٢ ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢٣

ولا بد أن يكون الإمام قد حمل مع هذه الأجزاء تفسيرها ، فالقرآن هاد ومهدي ، ومن كان هذا شأنه فلا بد أن يكون من الوضوح وعدم الالتباس بما لا يمكن أن تتعامى ألفاظه ومعانيه على أحد وإلا كان القرآن فيما إذا عميّت آياته دون بيان وتوضيح ـ مضللا مفرقا للأمة ـ لا سمح الله وبدل أن يكون كتاب هداية سيكون سببا للفرقة والتناحر لاختلاف مفاهيمه والتباس تفسيره ، ألا ترى أن أكثر الفرقة بين المسلمين هو لاختلاف المشارب في الفهم ، واضطراب المذاهب في التفسير؟ وكم كانت للخوارج من حروب ، وكم كان للمرجئة من فتن ، وكم كان للآخرين ممن تذوقوا القرآن على أساس مشتهياتهم من هرج ومرج في الآراء والفرق ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون للتفسير مصدره الواحد ، وللفهم ذوقه النبوي الذي يتلقاه من لدن حكيم خيبر ، وقوله تعالى يشهد على ذلك.

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(١).

وهذه العناية الإلهية بنبيه الأكرم الذي أنزل الذكر ومعه تفسيره وبيانه بما حظيت به الأمة من شرف الرعاية الإلهية والهداية التفسيرية بما لا يبقى لأحد شك ولا ريب في فهم المقصود وتفسير المراد ، وهكذا فالقرآن الذي جمعه الإمام علي عليه‌السلام لا يخلو من تفسيره ، لئلا تختلف الأمة وتتقهقر في مفاهيمها لكن أنى لها ذلك وقد رفضته ولم تقبله ، وأبعدته ولم ترضه فكان عاقبة أمرها خسرا بين

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٣٣.

٢٤

مشتهيات أطاحت بها ، وتذوقات أودت بوحدتها حتى صار الأمر شيعا ، والعاقبة خسرانا ، ومعنى هذا أن القرآن بتفسيره وتوضيحه ورثه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الأحق بالخلافة ، والأولى بالوراثة وينتقل الأمر إلى أبنائه المعصومين الحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين عليهم‌السلام ، فالتفسير بهذا البيان موجود لدى الأئمة عليهم‌السلام يتوارثونه واحدا عن واحد حتى استقر عند خاتمهم واستودع عند وارثهم الإمام المهدي عليه‌السلام ، ولا يعني هذا أن الأئمة عليهم‌السلام لم يبذلوا وسعهم في تفسير كتاب الله وبيان آياته الا أن ذلك موكول إلى عاملين :

أحدهما : مقتضيات الحال وضرورة العصر والزمان في الحاجة إلى بيان بعض آيات القرآن الكريم فتجد الإمام عليه‌السلام يبتدئ في التفسير ويسعى في البيان والتوضيح وهذا لا يتعارض مع التفسير المنزّل من لدن الحكيم الخبير والإمام بدوره يكشف عن ذلك التفسير متى ما اقتضت الضرورة ودعا المقتضى لذلك.

والآخر : أن يكون الإمام مجيبا للسائل عن كل ما يسأله من تفسير القرآن وكل بحسبه ـ أي السائل ـ وليس للإمام أن يجيب عن كل ما يسأله السائل لمقتضيات يعلمها هو عليه‌السلام.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١).

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٣٩.

٢٥

فالإمام يفسر القرآن على أساس طلب المستفهم ودواعي المستعلم وإلا فيمسك عن الجواب فيما إذا وجد عليه‌السلام ضرورة الإمساك. هذا التمهيد يرشدنا إلى الإجابة عن سبب عدم سعي الإمام الحسين عليه‌السلام وغيره من الأئمة الطاهرين إلى وضع تفسير يتداوله الناس ، وقد قدمنا إلى أن التفسير الذي جاء به الإمام علي عليه‌السلام بعيد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقبله أهل السقيفة.

فقد روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام في رواية طويلة ... إلى أن قال : أخرجه ـ أي المصحف ـ إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل كما أنزله الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جمعته بين اللوحين» ، فقالوا : هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه فقال : أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا ، إنما كان عليّ أن أخبركم حيث جمعته لتقرأوه» (١).

وفي رواية سليم بن قيس «... فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه لم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في المصحف والشظاظ والايبار والرقاع ... فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ بعث إليه أبو بكر أن أخرج فبايع ، فبعث إليه علي عليه‌السلام : إني لمشغول وقد آليت يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٦٣٣.

٢٦

فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه ، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنادى علي عليه‌السلام بأعلى صوته : «يا أيها الناس ، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد فلم ينزّل الله تعالى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية الا وقد جمعتها وليست منه آية الا وقد أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلمني تأويلها».

ثم قال لهم علي عليه‌السلام : «لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين».

ثم قال لهم علي عليه‌السلام : «لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته.

فقال عمر : ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه! (١).

فإذا عرفنا رعاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقرآن الكريم ومن بعده الإمام علي عليه‌السلام ولم يتركوه تتقاذفه أهواء المفسرين وآراء المنتحلين علمنا ما للأئمة ـ وهم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من دور للحفاظ على الوحدة التفسيرية للقرآن والقيمة المعرفية لآياته ، وبهذا فان الإشكال ينحل عن سبب عدم عناية الأئمة عليهم‌السلام بتفسير القرآن الكريم ومنهم الإمام الحسين عليه‌السلام.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ج ٢ ، ص ٥٨٢ ، تحقيق الشيخ محمد باقر الأنصاري.

٢٧

التفسير ... وتجليات الصراع

إن التفسير الذي بين أيدينا أطلعنا على حقائق هامة تتجلى فيها حقيقة الصراع بين الإمام علي والإمامين الحسنين من جهة وبين معاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى نوجزه بالنقاط التالية :

أولا : إن الآيات التي فسّرها الإمام زين العابدين عليه‌السلام تفوق بكثير ما هو موجود من روايات الأئمّة الثلاثة عليهم‌السلام ، حيث لم يعاصر الإمام زين العابدين عهد معاوية بن أبي سفيان في حين عاصر الأئمّة الثلاثة عهد معاوية ، فانحسرت رواياتهم تبعا لمطاردات معاوية لأحاديثهم ومروياتهم ، وبعبارة أخرى إن الإمام زين العابدين يأتي تفسيره في كمية الروايات بعد تفسير الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام اللذين حصلا على بحبوحة من حرية الحركة في الفترة الانتقالية بين عهدي بني أمية وبني العباس ، بالرغم من أن الإمام زين العابدين هو ابن الإمام الحسين صاحب المواجهة العسكرية بين الأمويين إلا أن الإمام زين العابدين استغل فترة انتقال السلطة من الأمويين إلى المروانيين وفي ظروف سياسية تنافسية بين الأسرتين تحررت من خلالها روايات الإمام زين العابدين من الملاحقة والمراقبة ، وهذا أمر جدير بالاهتمام يعزز ما ذهبنا إليه من حالات كم أفواه الرواة وخنق الرواية للأئمّة الثلاثة في عهد معاوية بن أبي سفيان.

٢٨

ثانيا : إننا نوعز قلة الروايات التفسيرية للإمام الحسين عليه‌السلام أو أكثر مروياته كذلك إلى كون تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام تفسيرا تطبيقيا واقعيا ، أي اتباع الإمام أسلوب تطبيق الروايات التفسيرية على بني أمية وعلى آل علي ، فما كان من الروايات التي تشير إلى فريق الجنة وأهل الخير وحملة القرآن فتنطبق على آل البيت وشيعتهم ، وما كان من فريق السعير وأهل النفاق فهم بنو أمية وشيعتهم ، أي فرض هذا التقابل الواقعي الموضوعي لروايات الإمام الحسين حالة من التعرية لمدعيات الأمويين. لذا فانك ستجد تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام قد تعرض في تطبيقاته للواقع الخارجي الذي يعيشه المسلمون ، ويمكن أن نطلق على هذا التفسير ب «التفسير الأثري التطبيقي».

ثالثا : يعالج الإمام الحسين عليه‌السلام في تفسيره القرآني كثيرا من الحالات الاجتماعية ، إلا أن تركيزه على الجانب السياسي سيكون أكبر حيث تتعرض أكثر وروايات التفسير إلى معالجة الواقع السياسي الذي أغرق الأمة بالصراعات العقيمة ، وسبّب لها متاهات كثيرة حتى عاشت الأمة الإسلامية آنذاك في تيه فكريّ أربك كثيرا من مسلمات الثقافة والوعي الإسلاميين.

رابعا : لما كان تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام تفسيرا واقعيا ـ سياسيا ، فلا بد أن يتعرض هذا التفسير إلى الإلغاء والتجهيل والتهميش خشية أن يمس صميم السياسة الأموية التي شكّلت عبئا خطيرا لا يطاق.

٢٩

خامسا : إن تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام ينحاز في أكثر رواياته إلى الحديث النبوي الشريف ، وروايات الإمام أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، وعلى ما يبدو أن هذا الأسلوب الذي استخدمه الإمام الحسين عليه‌السلام في مروياته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاول من خلاله إثبات امتداد النبي له وأنه الأحق في هذا الموروث النبوي من غيره لأنه ـ فضلا عن أنه منه وسبطه ـ فهو وريثه الشرعي والناطق باسمه والقائم بأمره.

كما أن رواياته عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هي محاولة أخرى لإظهار شخصية الإمام علي التي حاول معاوية طمسها وإلغاءها ، فبقدر ما يذكر الإمام أمير المؤمنين بالوقيعة والشتيمة من على منابر دمشق ، فانه يذكر على أنه الوصي والوريث والقيم لرسالة السماء وعلى منابر مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال ما يبذله الإمام الحسين عليه‌السلام في الرواية عنه ، أي أن هذا التقابل بين الفريقين والتسابق بين الطعن وذكر الفضائل أوجد لدى المسلمين حالة استشعار بعظم مسؤوليتهم حيال شخصية الإمام علي عليه‌السلام ، وأنه لا يمكن تجاهله فذلك تجاهل لشخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلغاء لجهوده المباركة.

سادسا : إن إدانتنا للنظام الأموي في إلغاء تراثيات الإمام الحسين عليه‌السلام وتهميشها ، لا يعني تحميله المسؤولية وحده ، بل إن النظام العباسي شارك

٣٠

بالقسط الأكبر في ضياع الكثير من هذه الروايات ، فسياسة المطاردة لرموز الشيعة ورواتهم نما بشكل واسع وكبير في هذا العهد الذي رأى خطورة وجود قبر الإمام الحسين شاخصا وزائريه يطوفون حوله ويستزيدون من فيوضات تضحياته وعطاءاته ، مما أشعر العباسيين أن قبر الإمام يشكل تهديدا خطيرا توجسوا منه الشيء الكثير ، فما حال تراثه ومروياته فهي بالأولى أن تكون عرضة للتصفية والمطاردة والإلغاء.

سابعا : تركيز أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على مظلومية الإمام الحسين ، وتصوير مشاهد الفاجعة بشكلها الدامي والعنيف ، والقتل والتنكيل الذي وقع على الإمام الحسين وأهل بيته الطاهرين أحدث حالة من التمييز لقضية الحسين ، وكأن أهل البيت عليهم‌السلام أرادوا إحداث تنبيه للذهنية العامة وعلاقة المظلومية والفاجعة بالإمام الحسين ، وبمعنى آخر أن يكون اسم الحسين مقرونا بعاشوراء الطف ، التضحية ، الدماء ، السبي ، التنكيل إلى آخرها من مفردات الفاجعة ، فالمحافظة على تراجيديا المشاهد المفجعة وعلاقتها بالإمام الحسين أمر مهم ينطلق من خلاله الأئمة إلى بيان مظلوميتهم بل وأحقيتهم كذلك ، فضلا عن ذلك فان مشاهد الفاجعة المتكررة في سيرة الإمام الحسين عليه‌السلام هو مورد إدانة لأنظمة الجور التي مثلها الأمويون والعباسيون ، ووجدوا أن في قضية الإمام الحسين استمرارا لبقاء خطهم الرسالي الأصيل وحيويته.

٣١

ثامنا : أن ما ذكرناه في النقطة السابقة لا يعني إلغاء الموروث الحسيني عن مرويات أهل البيت ، بل إن فاجعة الإمام هي العنوان الأكبر والأهم في منطلقات أهل البيت الفكرية والتثقيفية للأمة ، وتبقى روايات الإمام الحسين بعضها محفوظة من خلال ما يرويه الأئمّة خصوصا ما رواه الإمامين موسى بن جعفر وعلي الرضا عليهما‌السلام.

تاسعا : إن ما ورد عن الأئمّة عليهم‌السلام في ذكر الإمام الحسين كان تهديدا تستشعر الأنظمة بخطورته ، ولذا فإننا نعتقد أن ما روي عن الإمام الحسين وعلى لسان الأئمّة الشيء الكثير ، إلا أن هذه المرويات ألغيت وصودرت بشكل لا يمكن تجاهله.

عاشرا : من خلال متابعتنا لمرويات التفسير الحسيني نجد أن الإمام الرضا عليه‌السلام أكثر إشارة لفاجعة الطف من بقية الأئمّة عليهم‌السلام ، ولعل ذلك نوعزه إلى أن الإمام الرضا عليه‌السلام قد استغل الظرف السياسي المنفرج ليبث من مرويات الإمام الحسين عليه‌السلام ، وذلك إبّان إقامته في خراسان.

ونحن وان لم نذكر أسانيد الروايات بشكلها الكامل الذي يتصل بالأئمّة عليهم‌السلام فان مرويات الإمام الرضا تظهر تعدادا كبيرا بالنسبة لروايات الأئمّة المعصومين عن فاجعة الإمام الحسين عليه‌السلام.

٣٢

حادي عشر : إن كثيرا من الروايات التي وقفنا عليها في التفسير كان الأئمّة عليهم‌السلام لا يوصلون سندها بالإمام الحسين.

فمثلا تجد في السند هكذا : الإمام زين العابدين عن الإمام أمير المؤمنين ، أو قال الإمام زين العابدين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالتأكيد ، إن في طريق هذه الأسانيد ـ على ما يبدو ـ الإمام الحسين ، إذ لم يدرك الإمام زين العابدين جده الإمام عليا أو جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أنها محاولة ذكية من الإمام زين العابدين ، يظهر فيها رواية أبيه الإمام الحسين بأسلوب غير مباشر ، فذكر اسم الإمام الحسين في أكثر الأحيان كان خطوة من خطوات التحدي للنظام الأموي ، فهم يتوجسون من اسم خرجوا توا معه من مواجهة عسكرية دامية أدانتهم بكل تفاصيلها ، وهزمتهم بشكل بائس شعر من خلال ذلك بإدانتهم وانهيارهم وخسرانهم ، بل وهزيمتهم أمام هذا الاسم الذي يشعرهم بتهديد حقيقي ، فالإمام زين العابدين استخدم هذا الأسلوب الرائع من عدم ذكر اسم أبيه الذي تلقى عنه الرواية لتكون رسالة إدانة دائمة لبني أمية وأتباعهم.

وهكذا بقية الأئمّة عليهم‌السلام حيث وقفنا على الكثير من المرويات التي رواها الإمام الحسن العسكري حتى الإمام الباقر وبصيغها السندية المختلفة دون ذكر الإمام الحسين عليه‌السلام مثلا :

٣٣

الإمام الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمّد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أمير المؤمنين ، أو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتجد أكثر هذه الأسانيد خالية من ذكر الإمام الحسين مع أننا نجزم أن بين الإمام زين العابدين وبين الإمام علي أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسطة غير صريحة وهي الإمام الحسين ، وهي أعلى مستويات الإدانة التي استخدمها أهل البيت للأنظمة الحاكمة سواء الأموية أو السياسية ، وفي الوقت نفسه تظهر مظلومية الإمام الحسين الذي بقي اسمه مطاردا وعلى طول الخط السياسي الحاكم.

ثاني عشر : إننا لم ندرج الروايات التي لم تصرّح في أسانيدها بذكر الإمام الحسين وذلك بسبب التزامنا بخطة عمل الكتاب وبشكل فني لم نرغب من خلاله في إثارة تساؤلات الكثير الذين ـ ربما ـ يتساءلون عن صحة نسبة الرواية للإمام الحسين عليه‌السلام حينما لم يرد اسمه الشريف ، بل تركنا كما هائلا من هذه الروايات ونحن جازمون بصدورها عن الإمام الحسين عليه‌السلام.

ولو أدرجت لكان التفسير ضعف ما هو في أيدينا ، مع أن محاولتنا لهذا الاختصار إدانة واضحة لأنظمة الإلغاء والمطاردة والتهميش التي تزعمها بنو أمية وبنو العباس ومن سار على نهجهم.

٣٤

ثالث عشر : من الجدير بالذكر أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام صنفوا رواتهم إلى أصناف تعاطوا على أساس هذا التصنيف في مروياتهم :

الأول : أن المتلقي للرواية يتعاط مع الإمام عليه‌السلام على أنه معصوم له الأحقية في التشريع على أساس أنه الحكم والقول الفصل فيه وبكل تسليم ، وهكذا تجد أن الرواية التي يرويها راو معتقد بإمامة الإمام وعصمته تأتي على لسان الإمام على أنه الحكم الذي لا بد من التسليم به.

الثاني : أن المتلقي في هذا الصنف يتعاط مع الإمام عليه‌السلام على أنه راو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلجأ الإمام عليه‌السلام على أن يروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن ينسب الحكم إلى نفسه الشريفة ، وهذه الحالة نابعة من كون الراوي غير معتقد بعصمة الإمام وحيثيته التشريعية فهو أمام راو يعتقد بعدالته من جهة وكونه أقرب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يرويه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون صحيحا لا شك فيه فاتخاذه نابع عن أعلمية الإمام فيما يرويه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذا نجد أن بعض الروايات التي رواها أهل البيت عليهم‌السلام هي على أساس الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس كونه حكما صادرا عنه عليه‌السلام ، ليكون أبلغ في القبول لدى الراوي ، وأقرب للتلقي فيما إذا كان الراوي لا يرى الإمام إلا راويا من الرواة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٥

الثالث : أن الإمام عليه‌السلام يروي روايته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما إذا كان المتلقي يرتبط بالنظام الحاكم كأن يكون عينا على الإمام عليه‌السلام والإمام لا بد في هذه الحالة أن يتعاطى مع هذا الراوي بحذر شديد فلا ينسب الرواية أو الحكم لنفسه الشريفة بل ينسبها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواية عنه لئلا يعد الإمام مشرعا في نظر النظام مما سيجلب للإمام الكثير من متاعب والمساءلة والملاحقة التي لا بد للإمام أن يدفعها بطريقته الحكيمة هذه الرواية.

الرابع : أن هناك مقتضيا مهما لا يدعه الإمام عليه‌السلام دون مراعاته ، وهو أن روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسعى من خلالها إلى إثبات الارتباط بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكون الإمام له القيمومة على التراث النبوي وحده دون غيره فهو حينما يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشير إلى هذه القضية المهمة ويستشعر الراوي والمتلقي من خلال ذلك القرب النسبي والتراثي للإمام عليه‌السلام من جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو بذلك فقد أثبت فرضية الوصاية والوراثة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا من أهم حكمة الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما نعتقد ـ استعملها الأئمة عليهم‌السلام بشكل وضع معه تخرصات الأنظمة المدعية لقربها بالنبي ووراثتها له.

٣٦

إذا عرفنا أنّ هذه سيرة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في الرواية عرفنا السبب الذي جاءت به روايات تفسير الإمام الحسين عليه‌السلام والتي يرويها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن الإمام علي عليه‌السلام ، كما سيجد ذلك القارئ في بعض روايات التفسير.

هذه بعض النقاط التي أوجزناها وهي إجابات كافية لتساؤلات أثارها البعض حول إمكانية الوقوف على أحاديث الإمام الحسين ، وأنها تعد الأقل إذا ما قورنت بروايات الأئمّة عليهم‌السلام ، كما أن البعض حمّل الشيعة مسؤولية «عدم الاهتمام» بالرواية عن الإمام الحسين وحجتهم أن الكافي وأمثاله لم يذكروا عن الإمام الحسين عليه‌السلام إلا روايات نادرة جدا.

كافي الكليني ... وشبهات السلفيين

أن آلية الشيخ الكليني في الكافي وغيره لا تعني إلغاء روايات الإمام الحسين وإبعاده عن موسوعته ، بقدر ما هي قضية فنية تعتمد على صحة السند أو ضعفه ، على أن هذه التضعيفات السندية لا تعني إلغاء الرواية ، بل هي حالة إخضاع الروايات إلى قانون التوثيق السندي بالرغم من صحة الرواية واقعا إلا أن في بعض رجالها توقفا ، والشيخ الكليني يراعي سلامة السند من الضعف والطعن وليس ذلك طرحا للرواية وردّا لها ، على أننا نجد أن كثيرا من الموسوعات الحديثية أوردت روايات الإمام الحسين عليه‌السلام ، إما غضا عن بعض أسانيدها

٣٧

أو تصحيحا لما ظن أنها سقيمة لا تستقيم ، وبهذا نجد الكثير من الموسوعات وكتب الحديث قد اعتبرت روايات الإمام الحسين وأوردتها في مواردها ، لا كما تشيع بعض الدوائر السلفية إلى أن الشيعة لم يعتنوا بروايات الإمام الحسين في تقولاتهم ، أو توعز بعضها إلى أن الإمام الحسين لم يرو من الروايات إلا القليل.

وبهذا فقد وقفنا على مجمل التحديات التي تواجه روايات الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأوعزناها إلى كثير من التجاذبات السياسية والمضايقات التي اختلقها النظام آنذاك وورثتها الأنظمة التالية بعدها ، مؤكدين أن هذه الروايات لم تكن أقل من روايات الأئمّة عليهم‌السلام لو لا ظروف السياسة القاهرة.

عدم مصداقية الشبهات السلفية

لم تصمد تلك الدوائر السلفية في إثارة شبهاتها حيال الحديث الحسيني ، فإن محاولة التشكيك والزعزعة التي تحاول إحداثها في أوساط الأمة باتت خائبة لا تجد مع وضعها الفكري السلفي المتهرئ منفذا من محنته التي عانى منها الوسط الثقافي خصوصا في المجتمع السلفي من الطبقات الشابة الواعية التي ترى ضرورة إحداث التغيير في بنيتها الثقافية والفكرية ، فعلى المحافل السلفية اليوم أن تنشغل في محاولات الإصلاح والتغيير التي باتت ملحة من أجل الإبقاء على مصداقيتها التي تحاول ادعاءها ، لا أن تنشغل في إثارة شبهات التشكيك والتساؤلات حول أمور هي أوضح من أن تبيّن وتناقش.

٣٨

شبهة واضحة البطلان

لقد حاولت الدوائر السلفية أن تثير شبهة مفادها أن الشيعة انشغلوا بالجانب المأساوي لقضية الحسين عليه‌السلام دون الاهتمام بالجانب الفكري والثقافي ، وهي شبهة واضحة البطلان ، فان استمداد الجانب المأساوي لفاجعة الطف متزامنة مع مدى العطاء الفكري الذي أحدثته هذه الفاجعة في نفوس شيعة أهل البيت ، فهم بقدر هذا الإحساس المأساوي بمصاب الإمام الشهيد فانهم ينطلقون من منهجية فكرية أحدثتها لديهم هذه الثورة المعطاء ، فالمعادلة القائمة لديهم هو استلهام الفكر والثقافة مما تفيده مأساة عاشوراء الحسين عليه‌السلام.

اذن شيعة أهل البيت كما يحملون في عواطفهم ووجدانهم ذكرى فاجعة الطف المؤلمة ، فانهم يجعلون هذه الواقعة منطلقا لبناء شخصيتهم الفكرية والثقافية.

القرآن ... المصدّق والشاهد

من أهم خصائص القرآن الكريم هي ظاهرة الإعجاز ، تلك الظاهرة التي تحدى بها الله عزوجل بلغاء العرب وجهابذة خطبائهم على أن يأتوا بعشر سور أو بسورة مثله بل بسور مفتريات مثله :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١).

__________________

(١) هود : ١٣.

٣٩

وهكذا كان التحدي الإعجازي أساس التنزيل ، وجرت على ذلك دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن الإعجاز القرآني لا يمكن أن يتوقف عند حد معين من حادثة أو آية ما ، بل إن استمرارية التحدي الإعجازي إلى يوم الدين ودعوة الإتيان من مثله ما زالت قائمة كذلك ، ويمكن أن نوجز آليات التحدي الإعجازي بالنقاط التالية :

أولا : الأسلوب القرآني

إذ يحمل هذا الأسلوب مقومات الإبداع الفني الدائم ، بل المعطاء ، وأقصد بالمعطاء ، أنه ملهم للجمالية البلاغية التي تلهم كل من تابع مفاصله الإبداعية ، فضلا عن كون جماليته تحمل معها استمرارية الإبداع ، إذ كلما تقدّم بأهل فن الفصاحة والبلاغة فانهم يجدون أنفسهم عاجزين عن اللحوق بهذا الإبداع الجمالي.

ثانيا : مواكبة الحدث

لم يكن القرآن كتاب مواعظ قصصية ، بقدر ما هو يختزل الحدث ثم يقدمه في حينه ، وبمعنى آخر إن حضور الحدث في الآية القرآنية الواحدة من أهم خصائصها ، أي أن الحدث القرآني ثلاثي الزمان بما تحمل أبعاد الزمان من معنى لماضيه ، وحاضره ، ومستقبله ، أي تبقى الصورة القرآنية تمتلك الحيوية الدائمة والحركة الدؤوبة في خضم البعد الزماني ، فهي حركة تاريخ كما هي تصوير حاضر بكل تفاصيله فضلا عن استشراف المستقبل بدقائقه الآتية.

٤٠